الفينومينولوجيا … والهيرمنيوطيقا
إذا تركنا إنجلترا، إلى القارة الأوروبية، نجد الشعب الألماني ينفرد بعطائه العقلي الرصين للحضارة الإنسانية، في المنطق والرياضيات والعلم والمذاهب الفلسفية الكبرى.
وقد رأينا الفلسفة الألمانية تقوم بدورها في بناء الأنساق الشامخة والمذاهب المثالية الكبرى، حتى أن المثالية قد حكمت القرن التاسع عشر بفضل يعود أساسًا إلى المثالية الألمانية، كما رأينا فيما سبق.
ومع هذا فإن ما شهده القرن العشرون من طغيان المعالم التجريبية والواقعية، وبالتالي الانشقاق على المثالية الخالصة، قد امتد إلى ألمانيا نفسها.
ونذكر من الأعمال المبكرة للرائد إدموند هوسرل كتابه «الفلسفة بما هي علم دقيق» (١٩١٠م)، فقد كانت الفينومينولوجيا حريصة على تمثيل ما لروح العلم، وفعلت هذا بطريقتها المتميزة والخاصة جدًّا التي ترفض الاستنباط الرياضي والاستقراء التجريبي على السواء. لقد انصبت على عالم الظواهر كما يفعل العلم، وشقت لهذا طريقًا مختلفًا — كما صادرت منذ البداية — بما أسمته التجربة الحية المعاشة وتحليل ماهية الظواهر المعطاة للوعي. وبهذه الطريقة افترقت الفينومينولوجيا عن التيار المثالي في القرن التاسع عشر، واقتبست — بأسلوبها الخاص — الروح التجريبية للقرن العشرين.
وعلى أية حال فإن الفينومينولوجيا بتفرُّعاتها وامتداداتها وتطبيقاتها من التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي تساهم في التعبير عن روحه العامة، خصوصًا وأن الفينومينولوجيا منهاج للبحث وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق الأولية المثالية أو الميتافيزيقية المطلقة.
وعلى هذا الأساس عملت الفينومينولوجيا على أن تشق طريقًا جديدًا مختلفًا للعلوم الإنسانية يقيلها من عثرتها ويحقق تقدمها المأمول ويبطل ردها إلى العلوم الطبيعية أو اتباع طريقها. إنه طريق يختلف — كما ذكرنا — عن منهج الاستقراء السائد في العلوم الطبيعية الصاعد من الوقائع الإمبيريقية إلى القانون العلم، بقدر ما يختلف عن منهج الاستنباط السائد في العلوم الرياضية الهابط من مقدمات كبرى إلى نتائج تلزم عنها.
وعن طريق القصدية والإحالة المتبادلة بين الوعي وموضوعه تنهار القسمة المصطنعة بين الذات والموضوع التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية والتقابل الشهير فيها بين المثالية والمادية. بالمنهج الفينومينولوجي لا يبقى إلا التجارب الشعورية الحية التي تحمل الطابع الخاص لما هو إنساني، إنها معطيات واقعية، فتظهر الحقيقة بوصفها تيارًا من الخبرات، الخبرات باعتبارها أفعالًا خاصة بالوعي، ومن حيث هي بنيات وتراكيب وليست مجرد تجارب شخصية، لا بد إذن من وصف المضامين الخالصة لما هو حاضر في الوعي، في الخبرة أو الشعور، وتأويل الظواهر بحيث تعرض نفسها للتحليل في شكل خالص لتكشف لنا عن الأشياء نفسها، عن الماهيات.
ومن ثَم يقوم المنهج الفينومينولوجي على تعليق الظاهرة في حد ذاتها أو وضعها بين قوسين، ثم إعادة بنائها عن طريق تحليلها كما هي معطاة للوعي، أي من حيث هي خبرة شعورية مندرجة في تيار الزمان.
وقد كان الهم الأساسي للفينومينولوجيا — كما ذكرنا — هو العلوم الإنسانية وتقدمها، ومع هذا لم تساهم كثيرًا في هذا الصدد، وأسفرت عن مدارس محدودة التأثير في علم النفس وعلم الاجتماع. ولم تأبه بالفينومينولوجيا تلك المدارس الكبرى التي أحرزت حصادًا علميًّا هائلًا كالسلوكية المعدَّلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيومترية في علم الاجتماع والاقتصاد التحليلي … إلخ، وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم السيكولوجي وأيضًا لم يكن للفينومينولوجيا تأثير على فلسفة العلم، ولم تتلاقَ معها إلا فيما نَدَر.
•••
وبخلاف ميدان العلوم التجريبية التخصصية الطبيعية أو الإنسانية، فقد تطورت الفينومينولوجيا وكان لها حضور قوي جدًّا في فلسفة القرن العشرين، وعدت من أهم الاتجاهات الفكرية المعاصرة.
والهيرمنيوطيقا في أصوله القديمة هو علم تأويل الكتب المقدسة، لكنه قفز قفزة هائلة عبر الفينومينولوجيا، وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الواقعية الحية باللغة/النص. إنه علم قراءة وفهم النصوص على إطلاقها، سواء دينية أو فلسفية أو أدبية أو قانونية … إلخ. ويكتسب أهمية خاصة في النصوص التراثية؛ لأن القراءة الهيرمنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معًا … الماضي والحاضر في علاقة تبادلية وتكاملية، إنها تحاوُر مستمر مع النص، يجعله مفتوحًا دائمًا لفهم جديد وتأويل جديد، وبالتالي تغدو النصوص التراثية معاصرة دومًا، معاصرة لكل من يقرؤها مجددًا، كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته، النص مادة خام، قالب يتسع لمضامين عديدة، فلا يكون له معنى دون أن يتحدث القارئ/المؤول نيابة عنه. إنه يتحدث بلغته، لغة الحاضر، ودون مشاركة الحاضر يختفي النص، يتصلد ويتجمد ويفقد علاقته بالواقع.
إن الهيرومنيوطيقا منهاج ذو قدرة منفردة على بث الحياة مجددًا ودائمًا في النص، من حيث يلقي الحياة والمسئولية على عملية القراءة، هو في كلمة واحدة: انصهار النص والقارئ معًا، النص مادة خام، القارئ يشكلها ويعيد تشكيلها في كل عصر تبعًا للأفق الثقافي المُعطى، القراءة مهمة مستمرة، والتأويل إمكانية مفتوحة متجددة دائمًا.
من هنا تحولت فينومينولوجيا أو ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدة ويفيدها، وعلى اتصال وثيق بنظرية المعرفة.