النسوية١
وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية. وكما تقول لوريان كود: الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين.
وتعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا. أمعنت الفلسفة النسوية في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها وعنونة مقولات لا عناوين لها.
كان الهدف آنذاك هو نيل المرأة حقوقًا مهدرة، وتحقيق شيء من المساواة بينها وبين الرجل. ومن ثَم دأبت النسوية في موجتها الأولى تلك إلى إلغاء أو تهميش الخصائص المميزة للأنثى، أو الزعم بأنها ثانوية فلا تعوق حصول المرأة على حقوق وواجبات الرجل. ولم يكن لها أطر فكرية تتجاوز حجج المطالبة بحقوق النساء ومساواتهن.
وما دام الزخم المعرفي النسوي بكل هذا البذخ كان لا بد أن يواصل مساره ليصل إلى أصول النظرة الشاملة، إلى الفلسفة الصريحة، وأول مرة في التاريخ يُسمع فيها عن شيء اسمه الفلسفة النسوية العام ١٩٧٠م. ومنذ السبعينيات وهي تتدفق مبشرة واعدة. لقد ظهرت الفلسفة النسوية، كمنهاج لإعادة تأريخ الفلسفة، وللبحث في الفلسفة القديمة والوسيطة من منظورات مستجدة وللإجابة عن تساؤلات لم تطرح فيما سبق، ثم تقديم رؤًى أنثوية متكاملة. إنها حرث للأرضية العقلية، واستنبات لبذور لم تبُذر من قبل.
ولئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازًا لافتًا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقًّا أحرزت أكثر من سواها أهدافًا للحركة النسوية والفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية وأكثر عمقًا للموقف الحضاري الراهن.
هكذا، تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيمًا أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجًا، أكثر دفئًا ومواءمة إنسانية، مستجيبًا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري؛ وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
بدأت الفلسفة النسوية في السبعينيات بداية واعدة متقدة وشهد ذلك العقد فيضًا من الإنتاج النسوي في سائر فروع الفلسفة، يتحدى أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية ويقدم بدائل شديدة التفصيل. بدأت بما يسمى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال. ومع الثمانينيات كانت الفلسفة النسوية قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرقت إلى ما يسمى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.
هكذا نجد أن ما ينبغي أن يستوقفنا بإزاء الفلسفة النسوية هو أولًا وقبل كل شيء هو موقفها النقدي الرافض للاستعمار الغربي ومقاومتها النبيلة والشرسة للإمبريالية. وكيف لا يستوقفنا هذا، وتاريخنا العربي الحديث قد غلب عليه أن يكون تاريخ الغزو والاستعمار والمقاومة. والحق أنه لا الفقر ولا الجهل ولا المرض، بل الاستعمار هو شد ما منيت به البشرية.
ونعود إلى الشغل الشاغل للفلسفة النسوية، أي العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية. لقد تجسد وتبلور نهائيًّا في العقل التنويري الحداثي الذي يرابط في سويدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته.
مثلت قيم التنوير في الفلسفة الغربية منذ القرن الثامن عشر صلب قيم الحداثة وخلاصة تجربة الحداثة، وهي في الآن نفسه الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية. فقيم التنوير هي طريق التقدم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعًا أو كرهًا، ليغدو الاستعمار حقًّا للرجل الأبيض، وواجبًا عليه.
سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف: قهرت المرأة وقهرت الطبيعة لتخلق مشكلة البيئة الملحة، وقهرت شعوب العالم الثالث. وجاءت الفلسفة النسوية لترفض التراتب الهرمي أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعة إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرًا للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريرًا للبيئة. ثم تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية.
لقد وجدت الفلسفة النسوية طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية. وهي في كل هذا فلسفة بعد حداثية رافضة لقيم الحداثة والتنوير — التي رأيناها قيمًا استعمارية — من حيث إن الفلسفة النسوية هي فلسفة بعد استعمارية.
لقد نشأت الموجة النسوية الثانية التي تمخضت عن «الفلسفة النسوية» في أوان انتهاء الاستعمار البائد الذي يمثل أقوى تجسيد للفلسفة الذكورية. ما بعد الاستعمارية لحظة فارقة في تاريخ النسوية لتتسلح بمناهج لمراجعة الأبنية الغربية في المعرفة والإنتاج، ومزيد من الكشف عما فيها من مركزية جائرة وتراتبية هرمية أدت أيضًا إلى العنصرية والاستعمارية في سجل الجرائم الغربية الحافل.
اشتبكت النسوية الجديدة وفلسفتها للعلم بالقضايا الشائكة المتعلقة بالهوية واللغة والقومية. في مرحلة سابقة، قالت الأديبة المجددة فرجينيا ولف إنها ضد القوميات، وبوصفها امرأة فهذا العالم كله هو بلدها، وبحثت النسويات الاشتراكيات — وسواهن — عن التكتل في مواجهة القوميات. ولكن فيما بعد تسلحت النسوية بالتحليل العابر للثقافات، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور مع بعضها، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي كما اتفقنا.
وفي إطار حرص النسوية على تحرر الثقافات والقوميات، تتقدم آن ماك كلينتوك التي عنيت بدراسة حركات المد القومي ومدى نجاحها في قهر الاستعمارية وكيف كانت مدفوعة بالرغبة الصادقة في التقدم والاستنارة، وتلتهب بالرموز القومية كالعروض العسكرية والأعلام والأناشيد وأصناف الطعام والانتصار في مباريات كرة القدم. وكم هو ممتع كتاب ماك كلينتوك الذي يعالج قضايا التفرقة في السياق الاستعماري من منظور الجنس والجنوَسة، حيث توضح أن الجنوسة ليست سؤالًا عن جنس العامل بل عن القهر والنهب الإمبريالي، وسؤال العرق ليس سؤالًا عن لون البشرة، بل عن قوة العمل المسلوبة بفعل الإمبريالية.
فيما بعد الاستعمارية يجب أن ينتهي عصر المركز والأطراف، قهر الآخر وتوجيهه وفرض الوصاية عليه ليسير وفقًا لرؤى ومصالح الأقوى أو السيد. لا بد من ظهور فلسفة جديدة تنقض تلك المركزية الجائرة وتقر بقيمة وحقوق تلك الأطراف؛ وبالتالي تصون الحقوق التي أهدرت للمرأة وللطبيعة ولشعوب العالم الثالث. وكانت الفلسفة النسوية محاولة جادة للسير في هذا الاتجاه وهي تبحث عن ديمقراطية العلم والتعددية الثقافية فيه والاعتراف بالآخر، فيكون العلم إنجازًا إنسانيًّا مشتركًا مفتوحًا أمام أي حضارة؛ غربيةً كانت أم شرقيةً، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأة. وفي نقدها للموضوعية التقليدية ومزاعم تحرر العلم من القيمة، كانت تكشف عما يكمن خلف تلك المزاعم من مركزية الرجل الأبيض والحضارة الغربية، وإلغاء الثقافات والأعراق والأجناس الأخرى.
شنت الرائدة الكبرى ساندرا هاردنج حملة شرسة على المركزية الغربية والمعقبات الإبستمولوجية للإمبريالية. رأت الحرب العالمية الثانية بما حملته من كوارث هيروشيما وموت ودمار رهيب قد كشفت عن زيف التسليم الوضعي بالعلم والفصل بينه وبين التكنولوجيا والعوامل الاجتماعية، مثلما كانت هذه الحرب هي نهاية مشروع إقامة مستعمرات غربية. إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن علم هو نتاج لثقافات متعددة، وذلك عن طريق تنضيد المعقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرر والتطور في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم عالمية العلم. وأخرجت هاردنج كتابيها الرائعين: «هل العلم متعدد الثقافات: ما بعد الاستعمارية والنسوية والإبستمولوجيا – ١٩٩٨م»، و«نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي – ٢٠٠٠م». وصادرت منذ البداية في كتابها الرائد «سؤال العلم في النسوية» على أن استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والرأسمالية، وإذا كان الكفاح ضد هذا بدا أهم من الكفاح النسوي ضد السيطرة الذكورية، فإن قضية المرأة لا تنفصل عن كل هذا. وحق قول ساندرا هاردنج إن الفلسفة النسوية منزع نقدي «مثلها في هذا مثل كل حركة نقد لوضع قائم ينطوي على أشكال للظلم والغبن، مثل كل أشكال الكفاح ضد العنصرية والاستعمارية والرأسمالية، ومثل الحركات الثقافية المضادة وثورة الشباب في الستينيات، وحركات الدفاع عن البيئة ومناهضة الجهود العسكرية … كل هذه الاتجاهات النقدية توقفت عند مثالب استغلال العلم. لكن النقد النسوي يلامس عصبًا عاريًا.»
وأخيرًا لا نملك بإزاء هذه الفلسفة الرائعة النبيلة أو بالتعبير النسوي الفلسفة الجميلة، إلا القول بأنها كانت تملك حيثياتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين ما دام الاستعمار بدا آنذاك وكأنه ملف أغلق نهائيًّا شأنه شأن العبودية ووباء الطاعون وما إليه. والموجع حقًّا أن عاد الاستعمار العسكري السافر مجددًا مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، في العراق وأفغانستان، فضلًا عن الهم المقيم والحزن القديم في فلسطين. ولا عزاء للفلسفات بعد الاستعمارية وسيدات النسوية الغربية. أما في المشرق العربي فلا عزاء للسيدات ولا للرجال. انتهى الاستعمار الأوروبي ليصعد الاستعمار الأمريكي، مصداقًا لقول شاعر القوم أمل دنقل: لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت … قيصر جديد.