محمد حافظ إبراهيم
نشرت بالسياسة الأسبوعية في ٢٧ / ٨ / ١٩٣٢.
رثاءً للشاعر الكبير محمد حافظ إبراهيم بك.
***
دنا الطيف يا ليلى وما زال ساريًا
خذي لي من الطيف الأمين أمانيا
فعهدي بطيفي مثل طبعي عازفًا
وعهدي بطيفي مثل عهدي وافيا
أحنُّ إذا شط الخيال وإن دنا
فَرِقْتُ وطارت شعبة من فؤاديا
وإني لصبَّار على كل غمرة
فما بال أنفاسي صَدَعْنَ التراقيا
كأن فؤادي يوم قيل: محمد
جناحُ عتيق، بات في الفخ هافيا
•••
تجرَّعت فيك الكأس حتى ثمالة
أغص بما فيها فيزداد ما بيا
بِنَا منك ما لو كان بالناس بعضه
لَجَزُّوا رقابًا أو لشقوا نواصيا
ولما رأيت الصبر عَزَّ طِلابه
زجرت لساني فيك ثم بدا ليا
فناديت حلمي أن يثوب فلم يطق
فؤاد به من جذوة النار ما بيا
سميَّاك شوقي والخليل تَهَيَّبَا
أعذت الوفا لما اتهمت بيانيا
فأعذرت وحدي ليس للشعر حيلة
وأسرف في اللوم العذول تماديا
وكرَّت عليك الأربعون فهل نوى
خليلك مطران وصان رجائيا؟
وعهدي بشوقي كالخضم تدفقًا
فما بال شوقي اليوم أطرق ساهيا؟!
وشوقي الذي يرثي الشموس إذا هوت
فيبعثها بعد المغيب كما هيا
•••
أهبت بهذا الشرق دهرًا ولو صحا
لهوَّم من نوم وحُمَّى لياليا
وناديت قومًا في حما النيل نُوَّمًا
فرجَّع واديه الصدى متناديا
ولو نفخ الصورَ الملائك فيهمُ
وحمحم جوف الأرض بالنار راغيا
ولو أرسل الروح الأمين أذانه
فكبر حتى الجن والوحش عاويا
لقالوا: صحونا طال والله نومنا
وكان عميقًا ذلك النوم هانيا
عتبت على قومي وفيهم ملالة
ولو شغفوني ما ادخرت عتابيا
عتبت على قومي وحسبي ناصح
ولو شاء قومي بلَّغوني مراديا
عتبت على قومي وما زلت عاتبًا
وعهدي بقومي يؤثرون المحابيا
إذا دُوهنوا قالوا: حبيب ملاطف!
وإن جوبهوا وَلَّوْا غضابًا نواعيا
فلست إذا شئتم حبيبًا وإنما
أنا الجاهليُّ الجلف طبعي حلا ليا
•••
تعض عليك اليوم مصر بنانها
وفي الشرق أصداء تجيب النواعيا
وما أنت إلا في الجوانح والحشا
إذا اقتسم الدود العظام البواليا
وإنك ميراث يورِّثه غدًا
بَنونا بَنِيهم والبنون الذراريا
كأني بقوم ألبسوا المجد زينةً
فما أحسنوا عند الحساب التقاضيا
فلا يخدعنْك المجد ظاهره فقد
يُرى المرء في ثوب من المجد عاريا
وأنت الذي لو مَنَّ مَجدٌ لَعِفْتَه
ولو قال حكم ما استرد العواريا
ألست العصاميَّ الذي انتعل الدما
وما آب إلا من وَحَا السير حافيا
تروم القوافي وهي جِدُّ عصيَّة
فتنظمها عقدًا على الدهر باقيا
وتودعها المعنى البعيد ولفظه
إذا رامه المطبوع ألفاه نائيا
وأقرب من حبل الوريد عصيُّه
إليك إذا ما رُمْتَه جاء ساعيا
لآلئ لم تثقب وذلك عيبها
فما تخرج الأصداف إلا عذاريا
•••
خلا ذلك الوادي وقد كنت أُنْسَه
وقُمْرِيَّه الشادي فأصبح خاويا
وصوَّح هذا الروض بعد بشاشة
وأقفر مغنًى كان بالأمس حاليا
كأن لم يكن بين المصب ومنبع
«غريض» إذا غنى أثار العناديا
كأن لم يكن أنس وحلو دعابة
وما شئت من ظَرف يجوب النواديا
•••
كأني بهذا الأيك بعدك نائح
وقد كان ما في الأيك من قبلُ شاديا
لك الله ماذا بعد ستين حجةً
شغلت بها جيلًا وغنيت واديا
أما لك في الدنيا خصيم فيشتفي
وقد قام من في القطر بعدك ناعيا!
فحسبي من الدنيا إذا جاء غاسلي
ذهابي عنها لا عليَّ ولا ليا
مزامير داوود وأخلاق يوسف
وحكمة لقمان ففيمَ رثائيا؟
سقاك وإن لم يبرد الغيث غلةً
من الرعد حمحام يحث الغواديا
وعهدي بشعري مُعْقبًا لي سلوةً
فما بال هذا الخطب أعيا المداويا؟
كأني من الرمضاء بالنار لائذ
فإن شئت يا قلبي فزدني تماديا
تساجلت والدهر العناد فراضني
ومن صاول الأيام أدبر صاليا
وما راضني إلا على السهد والأسى
وإن كنت في اللأواء كالطود راسيا
وقائلة: ما بال طرفك واثبًا
يشق إلى النجم البعيد الدياجيا؟
ففيمَ تناجي النجم بالله جاهدًا
أأنت لديغ يبتغي النجم راقيا؟
فما هكذا يستطلع الغيب كاهن
ولا هكذا يستعبد النجم صابيا!
هو الركب يا ليلى تتابع قافلًا
وخلَّى غريبًا يخرق الليل حاديا
وما اعتسفت بي العير يا ليل صبوة
إلى بدويَّات سَلَبْنَ فؤاديا
وأعلاق وجد ما يشب ضرامها
بصدري إلا خلتُ قلبي حابيا
لي الله … أما ما مضى فشبيبتي
فماذا إذا خَبَّ المطيُّ لياليا
قوارع أيام عقرن شكيمتي
وما زلن بي حتى عَرقن عظاميا
وما زال يصمينا الزمان بنبله
ويجلو علينا كلَّ يوم عواديا
ومَن عَجَمَ الأيامَ ألقى جرانه
عليها ولو ألقت عليه المراسيا
أنا ذلك الألوى الغشمشم فاعلمي
إذا رشن لي سهمًا تلقفت ثانيا
دعيني يا ليلَى وليلِي وأنجمي
فما أنت يا ليلى لهذا ولا ليا!
ولو أن آمالي دنت لي قطوفها
لقلتُ اغْربي إني مللت مقاميا
فقامت وقد أزجى الصباح طليعةً
فطار دليلًا أورقًا كان داجيا
تردد: يا ويلي عليك! وعينها
تعنفني شَكْرَى فقلت: هيا ليا
خذي لي من الطيف الأمان وعجلي
دنا الطيف يا ليلى وما زال ساريا