قطرة في بحر
نشرت بمجلة الرسالة بالعدد رقم ٥٠٨ من السنة الحادية عشرة في ٢٩ / ٣ / ١٩٤٣.
***
تعاليت يا بحر هذا جلالـ
ـك سرُّ الزمان ولغز الحقب
تصاحب هذا الزمان وتسخـ
ـر منه وتطويه طيَّ الكتب
تنادم حانُك منه القرون
ويمضي الندامى مضاء الحبب
فيا لك قبرًا وسعت الزمان
ولاذ الزمان بذيل الهرب
•••
ويا بحر كم فيك من آية
تساءلت عنها ولم تستجب
تهم بأمر وترتد عنه
وتطمع فيه ولا تقترب
ففيمَ اندفاعك كالمستعدِّ
وفيمَ ارتدادك كالمضطرب؟!
ويا بحر ماذا يراقص مَوْجـ
ـك منك وماذا وراء الحجب؟
تلين وتسكن عند الليان
وطبع الحليم بطيء الغضب
وتشرس حتى تئن الصخور
ويطفو من الرمل ما قد رسب
وتجمع بين النقيضين جمعـ
ـك بين اللآلئ والمخشلب
يشابهك الآدمي الغموض
وتنتسبان بحبل النسب
ولن يسبر الغورَ منك الرجال
ولن يكشف النفسَ علمٌ وطب
•••
تعاليت يا بحر هذا جمالـ
ـك ثغر الطبيعة وهيَ الغبب
تعربد نشوان حتى المجون
وتمجن سكران حتى الصخب
تغازلك الشمس عند الغروب
فأنت اللجين وفيك الذهب
وتشرق منك على صفحة
ترقرق بين سناها اللهب
وتضفي عليك أكاليلها
دماءً وتنشق منك القضب
ويجمعك الأفْق بالنيرات
فأنت السماء وفيك الشهب
يسامرك البدر من شرفة
تَبرَّجُ فيها ذوات الذنب
فتعكسهن على ضوئه
ويلحظك البدر كالمرتقب
•••
دعاني حنين خفي إليك
فلبيت يا بحر لما غلب
ويا بحر جئتك أفضي بنفسي
وأشكو الزمان وماذا جلب
لعلَّ صخورك أنفذ من
قلوب غلاظ صلاد صلب!
وأُغرق فيك همومي وأنقـ
ـع يا بحر جرحًا … وثب
ومن شاغب الدهر مثلي فما
له الدهر إن زل يا بحر حب
وغدر الزمان كختل الرجال
ووقع السهام كلسع الرقب
•••
حنانيك يا بحر يشكو إليك
غريب تشرد حين اقترب
غريب تشرد في داره
وضاقت به الأرض لما اغترب
•••
تعاليت يا بحر هذا الجلال
وهذا الجمال وهذا العجب
وهذا نشيدك لحن الحياة
فغنِّ الحياةَ ونُحْ وانتحب