أيا جارة السين
نشرت بجريدة الأهرام عدد ٢١٤٢٢ ص٣ بتاريخ ٢٥ / ٨ / ١٩٤٤.
تلقى الشاعر دروسه في باريس ونال شهاداته العالية في الآداب والحقوق من جامعتها الكبرى، وكان لا يزال في العاصمة الفرنسية يوم دخلها الجيش الألماني منذ أربع سنوات، وهذا ما وصفه في هذه القصيدة الرائعة.
***
هوى النسر وارتدت إليه مخالبه
وضاقت به الأجواء إذ هيض جانبه
ترنَّح مطويَّ الجناحين قابضًا
من الذعر أنفاسًا دِراكًا تجاذبه
تأمَّلْ! فهذا النِّضو أشلاء كاسر
تحدَّى بساط الريح والسحب واثبه
رأى «الرين» أدنى من مسارح طرفه
وأيسر مما تشتهيه رغائبه
فخفَّ إلى «السين» القريب كدأبه
وهيهاتَ أن تُقضى بِرِيٍّ مآربه
وطار إلى «المانش» البعيد مخلفًا
على «التبر» أجنادًا وحِلفًا يراقبه
وودَّ لو اجتاح الشمال مجازفًا
إلى القطب أو يعنو الشمال وصاحبه
وأوغل في روسيا وروَّع دُبَّها
فما راعه إلا هِزَبْرٌ يغالبه
وطوَّف حتى شارف النيل لاهثًا
ولولا عيون الله حلَّت مصائبه
ولو عبَّ أمواه المجرة ما ارتوى
وأنَّى له الإشباع والداء كالبه؟!
أدل على السامي بجنس وسحنة
ولم يرَ في الآري جنسًا يقاربه
ولم أرَ كالنَّسر اعتزازًا بجنسه
وإن كنت لا أدري لماذا أعاتبه؟!
فخرنا بميراث وفضلِ حضارة
وباهى بجيش لا تُفَلُّ قواضبه
فيا ليت شعري! كيف بات مجندلًا
وكيف أصابت مقلتيه مضاربه؟
وسبحان من لو شاء راش جناحه
ولو شاءَ جاب الشرق والغرب جائبه
وسبحان من أملى وأرداه عاثرًا
ولو شاء ما أعيت عليه مذاهبه
•••
وقائع أيام شهدت صروفها
نزيلًا بغابٍ قد تجاسر غاصبه
أباحت له الأقدار يومًا عرينه
بليلٍ أَهْيَم أبطأته ثواقبه
فإن أنسَ لن أنسى حياتي جحفلًا
تهجَّم كالمحموم والجوع كاربه
رأيت بعيني ما يكذب خاطري
كأني أرى وحشًا تدلَّت غباغبه
فلم يبقَ في باريس إلا مشتت
يبيت على الغبراء والليل ناكبه
ولم يبقَ إلا جائع جفَّ حلقه
وآخر تبدو من نحولٍ ترائبه
أرامل يرصدن السماء على الطوى
ويرعشن في ليل توالت سحائبه
إذا هن أرضعن الوليد تحلَّبت
من الثدي أمشاج وبات يداعبه
عصارة جسم شفَّه الجوع والضنى
وسؤر ومما قد يلين حلائبه
وما راعني إلا نحيب يتيمة
تصيح: أبي! ويلاه والدم خاضبه
يمد إليها ساعدين تعوَّدا
حمايتها والجرح ينزف ساكبه
عشية طافوا فيلقًا بعد فيلق
بساحة قوس النصر والذلُّ ضاربه
ورفَّ على قوس الشهيد صليبهم
يشير إلى نصر … وهذي كتائبه
وضج شهيد في ثراه مغيب
ومادت بقبر الأنفليد جوانبه
كأني بنابليون يَصْعَقُ سمعَه
زئيرُ شهيد والشهيد معاتبه
هو الفاتح الغازي وشعبك حاشد
يزمجر من غيظ ويغضي محاربه
فلله يومٌ جلَّ عن وصف ناظر
وقصَّر شعري والبيان وطالبه
وبشراك يا باريس بشرى مهنِّئ
يشاطرك الأفراح والشوق غالبه
يزف عذارى الشعر ما دف موكب
بعرس وما حنَّت إليك ركائبه
أهنيك والجار الشقيق مصافح
ورب غريم عاد خِلًّا وصاحبه
عتبت وجاري منك أولى بشفعة
ومن عاتب المحبوب راح يغاضبه
•••
أيا جارة السين ادَّكرت شبيبتي
وشُبِّه لي أمس فجئت أخاطبه
وأيكًا نعمنا حول وارف ظله
زمانًا ولا عين هناك تشاغبه
ويوم تلاقينا على غير موعد
بِبُولونَ في ليلٍ تهاوى كواكبه
ومنا نشاوى من رحيق مراشف
يناوبني كأسًا وكأسًا أناوبه
فيا أيها الطيف الحبيب ألا اتئد
مكانَك لا تبرح فإني مجاوبه
أعندك أن الشوق جاوز حدَّه
فعاد جحيمًا لا تطاق نوائبه؟
حنانك لا تبرح مكانك واتئد
فعندك قلبي والشباب وسالبه
أعيدك يا باريس أم عيد عالم
يلوح له فجر تلوح عواقبه
ذكرنا بهذا النور فجرًا مماثلًا
تبلَّج في كون تموج غياهبه
ذكرنا به الباستيل يوم حطمته
فَدُكَّ من الظلم الأساسُ وناصبه
وكنت منارًا للشعوب وهاديًا
أمينًا تجوب العالمين جوائبه
فكيف أديل الملك وانهار ركنه
وناحت على الصرح الأشم نوادبه
سلي «الدوتش» عن روما وأطراف ملكها
وهل قُضيت «للدوتش» فيك مطالبُه
قصاص من الأقدار حلَّ بغادر
وبئس مصيرٌ ذَلَّ بالغدر كاسبه
أعيدك هذا أم بشير وفرحة
وفجر على الدنيا تطل مواكبه؟