شريد
نشرت بجريدة الرسالة عدد ٦٠٤ بتاريخ ٢٩ / ١ / ١٩٤٥.
***
مرَّ بي كالخيال في أسماله
واهيًا كالخيال عند زواله
حائر الطرف والخُطا كطريد
ذاهلًا عن يمينه وشماله
راعشًا والسماء تمطر سيلًا
ينذر الرعد صاخبًا بانهياله
يهرأ البَردُ ما يواريه بُرْدٌ
وصرير الرياح دون سعاله
أيها العابر المُجِدُّ تَمهَّلْ
أنت أحرى بأن ترقَّ لحاله
صحت: يا طفل! لم يكد يتنبَّه
فتبعت الشريد والقلبُ وَالِه
حيث أنوي بمسجد غير ناءٍ
مطرقًا من حيائه وسؤاله
والمصلون مَن يُسبِّح منهم
عازف عن فضوله وابتذاله
حرمًا يا أخي ويا صاح جمعًا …
أين من وقعها ذليل مقاله؟
لم يجد راحمًا ولا مستجيبًا
بعدما بَحَّ صوته من كلاله
فانثنى عائدًا بِخُفَّيْ حُنين
كاسف البال مشفقًا من مآله
ثم ولَّى إلى الكنيسة وجهًا
واستجار الفتى بعيسى وآله
رده سادن الكنيسة ركلًا
ليت مَن ردَّه استحى من جلاله!
ما على الدَّير لو أقام نهارًا
أو أطال الوقوف فوق احتماله
فمضى هائمًا على غير وجه
ليس يلوي على هدًى في ضلاله
وإذا بي أرى فتًى أريحيًّا
هزَّه النبل لا يضن بماله
يترك الحانَ والندامى ويعدو
كالذي فرَّ ناشطًا من عِقاله
صاح بالطفل يا بُنيَّ انتظرني
لحظةً فالطريق في أوحاله
وانتضى ثوبه وقال: تدثَّر!
وأضاف الجوادُ بعضَ نواله
فتأملت ما رأيت مليًّا
ذلك الدرسَ فاعتبرْ بمثاله
أيُّهم عند ربه مُتَّقيه
ليت شعري! وأيُّهم غير آلِه
ليتهم إذْ صغَوا بخدٍ ومالوا
عنه أصغوا إليه عند ابتهاله
من لهذا الشريد إن جنَّه الليـ
ـل وأرخى عليه من أسداله؟!
قابع عند دِمنة تحت جُبٍّ
يحسب الغول زاحفًا لاغتياله
قد تعرَّى إلى الثرى غير فضل
من قميص مهلهل كَرِماله
من لهذا اليتيم أمسى وحيدًا
مشفقًا من غول الدجى وخياله؟
بين فكين من طَوًى وعراء
يدفع الصوت وهو بين نصاله
عالق بالحياة يبغي خلاصًا
ويدب الفناء في أوصاله
يتلوَّى كما تلوَّت قطاةٌ
عزَّها الفخُّ وهي بين حباله
أيها المانعون عنه زكاةً
فرضَ اللهُ بذلَها لعياله
لا تصوموا ولا تقيموا صلاةً
إن ضننتم بها على أمثاله
يعلم الله ما غنمتم جزاءً
أيها الممعنون في إذلاله
أحسنوا البرَّ إن أردتم ثوابًا
وتواصَوا بعتقه وانتشاله