نذرت نفسيَ قربانا لفاديها
كتبها وهو في سجن الأجانب في يونيو سنة ١٩٤٦.
***
شكت إلى الله من عدوان أهليها
وعاث غاصبُها في أرض راعيها
وا حرَّ قلباه من يأسٍ يصارعها!
يكاد لولا بقايا الصبر يرديها
فزعت من غدها علمًا بحاضرها
ورضت نفسي على نسيان ماضيها
وقَفْتُ قلبي عليها في شبيبته
فشاب منها ومن عدوان ساليها
لما أفقت من الماضي بلا أمل
نذرت نفسيَ قربانًا لفاديها
•••
ذكرت مصر فهاجتني مواجعها
وعزَّني الدمع حتى كدت أبكيها
يا لائمي وأنا الجاني على كبدي
دع عنك لومي فإن اللوم يفريها!
كلٌّ يغني ليشجي سامرًا وهوًى
وقد يغني لأوطار يُرجِّيها
وليس لي سامر فيها ولا وطر
ولا زعمت جوادي من مذاكيها
وإنما هي آلامي أُكتِّمها
حتى يضيق بها صدري فأحكيها
•••
نزحت عنها فلم أعدل بها وطنًا
وبات قلبي أسيرًا في مغانيها
وصنت شعري إلا عن مفاتنها
وهِمت في الأرض مسحورًا بواديها
ورقَّ شعري كما رقَّت جداولها
وراق وصفي كما راقت مجاليها
وما رأيت كِناسًا فيه جؤذره
إلا ذكرت غزالًا في مراعيها
وما شربت على صحوٍ ولا كدر
إلا ذكرت نديمًا في نواديها
•••
لمَّا رُدِدتُ إليها رُدَّ لي أملي
عند اللقاء وأحياني تدانيها
وقد طويت إليها اليمَّ واقتربت
بيَ السفينة من أولى موانيها
فكاد يطِفر قلبي من توثُّبه
وقد تنسَّم ريحًا من نواحيها!
وحال قلبي دموعًا عندما اتَّأدَت
فرُحت أنثر دمعي في ضواحيها
سجدت لله عرفانًا لنعمته
لما حللت رفيفًا من روابيها
فكيف حالت حياتي عندها سقرًا
وكيف أُصليت نارًا من سواقيها؟!
•••
جارت عليها صروف الدهر واختلفت
أيدي الرماة، فآهًا من أعاديها!
راشوا لها السهم مسمومًا فشتتها
وكاد لولا يد الرحمن يصميها
وأثخنوها جراحًا في مقاتلها
يا للجريحة من عدوان آسيها!
لولا الخوارج والأحزاب ما انتكست
في فجر نهضتها والوفد هاديها
إن كان دستورها حبرًا على ورق
ففيمَ مجلس شوراها وناديها؟!
•••
فزعتُ من شَرَكٍ يلقيه غاصبها
قبل الجلاء لعلَّ «الوعد» يغريها
وما الجلاء إذا شُدَّت بسلسلة
من القيود و«شرط الحلف» يمليها
تشعَّب الرأي والأحزاب سادرة
ومصر صابرة والصبر يضنيها
وكيف تنهض من أسرٍ يكبِّلها
والقيد آمرها والقيد ناهيها
•••
تلفَّتت مصر حيرى واستبد بها
في ليل محنتها مَن لا يصافيها
وقد أهاب بها حامي قضيتها
إلى الكفاح ولبَّاه ضواريها
والوفد رُبَّانُها في كل عاصفة
والوفد منقذها والله حاميها
ومصطفى درعها الواقي وساعدها
ومصطفى سيفها الماضي وفاديها