الفصل الحادي عشر
لم يكن الصبح قد تبسم حينما أخذت عائشة تستعد لسفرها الطويل. هل يبتسم الصبح حقًّا؟ إن كان كذلك فهو إنما يبتسم لغرور الإنسان وجهله وافتنانه في الكيد لأخيه الإنسان. إنه يبتسم سخرية من هؤلاء الذين إذا هبُّوا من نومهم، لم يفكروا في جمال النهار المشرق، والزهر الضاحك، والطير المغرّد، والنسيم الذي يعبَث بالغصون، ولم يصرفوا لحظة في الاستمتاع بما وهب الله لهم من نعم، وما أجزل من خيرات حسان. الموسيقى عندهم صخب ونقيق، والجمال طلاء كاذب لا يدوم، والفضيلة أسطورة كتبها فلاسفة لا يفهمون. يهبون من نومهم في الصباح على غِلّ لازم وسادتهم، وحقد اختلطت به أحلامهم، وتدبير شيطاني تفتحت عنه قرائحهم بعد طول الكد وبعد التفكير. إن للحيوان الأعجم سلاحًا يذود به عن نفسه، ويحافظ على بقائه، فله مرة ناب، ومرة حُمَة، ومرة فنون في الفرار، ومرة درقة تحميه الغوائل. وهو لا يلجأ إلى هذا السلاح إلا مدافعًا أو جائعًا. أما الكثير من بني الإنسان فقد اتخذوا من ذكائهم سلاحًا هو أوحى سمًّا من لعاب الأفعى، وأمضى فتكًا من ناب الليث، وقد جرّدوا هذا السلاح، وافتنُّوا فيه، ووثبوا به على الناس والحيوان جميعًا في حمق وجنون، لا يريدون إلا شفاء شهوة تغلي في الصدور. هؤلاء يقولون: إن الحلم للذلة إذعان، وإن الرحمة خور في العزيمة، وإن التسامح جبن وخذلان، ويزعمون أن الكذب دهاء وكياسة، وأن الخدع مهارة وسياسة وأن في نصب الحبائل ذكاء وعبقرية، وفي بثّ الفتن حذقًا ولقانة، وقد يخدعون أنفسهم، أو تخدعهم أنفسهم بأنهم بذلك إنما يذودون عنهم الشرّ، والشرّ بالشرّ يدفع، أو ينالون حقهم، ولا ينال الحق إلا بشيء من الباطل، أو يزاحمون في سباق الحياة، فيصرعون من يقفون في وجوههم، فهم من أجل ذلك دائمًا بين صارع ومصروع، وسالب ومسلوب، وحاسد ومحسود، وباك وشامت. لهذا يسخر الصبح منهم، ولهذا تسخر الطبيعة الفاتنة منهم، ولهذا صاح المعري الفيلسوف الساخط يقول:
ولهذا قال المتنبي قبله:
ظهرت عائشة في زي امرأة ريفية تحمل فوق رأسها جَرّة قديمة طال عليها الزمان، فلما رأت ما بدا على وجوه الجند من حيرة ابتسمت وقالت: هكذا يجب أن يتنكر من يخاطر بحياته في مدينة الأعداء. أترونني أحسنت التخفي حقًّا؟
فصاح كبيرهم وكان داهية في الملق: لقد كدت يا مولاتي أجرد سيفي وأسألك عما صنعت بسيدتنا. فهزّت عائشة رأسها في حزن وقالت: لا، إنني لن أموت بسيف أسباني.
– كلنا فداؤك يا سيدتي!
– باركتكم العذراء؛ عودوا الآن إلى قشتالة واتركوني، فإني سأخوض حربًا لا تعرفونها، ولي من الحيل سلاح تكلّ دونه أسلحتكم. إننا جميعًا جنود لنصرة راية الأسبان واستعادة ما كان لها من ملك وسلطان، ولكن أسلحتنا تختلف، وقد ينال بالدهاء ما لا ينال بالسيف البتار. إنني أيها الأبطال من جنود الطليعة الذين يمهِّدون لكم الطريق، ويثبطون العزائم، ويبثون الفتن، فإذا جئتم بعدنا فحسبكم جولة صادقة لتكون البلاد تحت أقدامكم. اذهبوا وسوف نلتقي جميعًا في قرطبة لنصلي صلاة الظفر والانتصار.
ثم انطلقت نحو المدينة في مِشْية متعثرة مكدودة، شأن القرويات اللائي آلمهن طول المشي ووعورة الطريق.
دخلت عائشة قرطبة تحمل جرتها، وما كادت تبلغ «حي المضرية» حتى رأت هرجًا وسمعت صياحًا، وشاهدت الناس يتسابقون نحو ميدان الفتح، كأن حادثًا جللا هالهم، أو مشهدًا رائعًا اجتذبهم، فاقتربت من شيخ أثقلته السنون، يتزيَّا بزي العلماء، ويرتسم على وجهه التزمّت والعبوس، وسألته في لهجة ريفية ساذجة: ماذا حدث يا مولانا؟
فهز الشيخ رأسه في حزن الساخط على الحياة وقال: نحن يا ابنتي في اضطراب لا ينتهي، وفتن لا تخمُد نارها، ففي كل يوم ثائر، وفي كل يوم جاسوس، وفي كل يوم لصوص يغيرون، أما المنكر والافتنان في العبث والمجون فقد جاوز الحد، وتحدى ملائكة السماء. ويل لقرطبة من بنيها! ثم ويل لها من أعدائها! إن هذا من غضب الله على الناس. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فتنهدت عائشة وقالت: الإسلام بخير يا مولانا.
– الإسلام بخير يا فتاة، ولكن أهله ليسوا بخير. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
– ولكن ما أسباب هذا الفزع وهذه الضجة يا مولانا؟
– هذا ابن المرتضى يا بنية، وهو بقية من ولد الناصر، عاد إلى قرطبة مستخفيًا، والتفت حوله دعاة وأشياع يمهّدون له سبيل الخلافة، فعقد ناصيته بالثريا، وأصبح من طماح همته في جهد، وقد اهتدى إلى مكانه جواسيس ابن جهور، فانقض عليه صاحب المدينة بجنده وأعوانه في داره بربض البرج، وهو الآن يقاد إلى عميد الجماعة بالسلاسل، أو يقاد إلى الموت بالسلاسل، فكلاهما عندي وعنده سواء.
ذهلت عائشة لهول الخبر حتى لكأن صاعقة انقضت عليها، أو كأن عاصفة اجترفتها وتركتها معلقة بين الأرض والسماء. وقفت ولم تدر أين وقفت. واضطربت ميزانها فسقطت الجرة وتناثر ما بها من ماء فأفاقت من غشيتها، ونظر إليها الشيخ في عجب وقال مترفقًا: ماذا أصابك يا فتاة؟
– آلمني يا سيدي ما نحن فيه دائمًا من شَغْب وانقسام.
– إن قرطبة لا ترضى عن حاكم ولا يرضى حاكم عنها، وهذا أصل الشر ومنبت البلاء، وإني لا أخشى على المسلمين من عدو مفاجئ بقدر خشيتي عليهم من أنفسهم. اذهبي إلى قريتك يا فتاة، وعيشي آمنة في سِرْبك، فلن تري في هذه المدينة إلا صراعًا وخصامًا.
ثم أخذت سمتها نحو دار راميرز، فأنكرها أول ما رآها، فلما عرّفته بنفسها، وثب نحوها يعانقها في محبة وشوق ويقول في صوت خافت:
– كيف جازفت بنفسك يا سيدتي عائشة؟
– اسمي روزالي.
– روزالي؟ مرحبًا بروزالي، وهناء لدولة الأسبان بأمثالها. كيف خاطرت بالمجيء إلى قرطبة يا روزالي، وأعداؤك هنا لا يحصون عددًا؟
– إن روزالي ليس لها أعداء، وقد ذهبت عائشة بنت غالب إلى غير رجعة، ولن تستطيع العين الطُّلعَة أن تنفذ إلى عائشة بعد أن سترتها روزالي بحجاب من التنكر كثيف. أسمعت بالحادث المحزن الجديد؟ فارتاع راميرز وارتجف وقال في تلعثم.
– أيّ حادث يا سيدتي؟
– قبض ابن جهور على ابن المرتضى.
فقهقه راميرز وصاح: لقد رعبتني يا سيدتي روزالي، وأيّ حزن، وأيّ أسىً في هذا الحادث؟ إنني أنا الذي وشى به إلى ابن جهور، وأنا الذي أرشده إلى مكان اختفائه.
– سمعته يقول ذلك يا غبي؟
– نعم سمعته، وأنا ألقن الناس بما يريد.
– اجلس. قاتل الله الجهل! وقاتل الله الغرور! أتدري أيها المفتون بذكائه أنك بفعلتك هذه لم تهدم البناء، ولكنك وطَّدت أركانه، وشددت أواسيه، ليبقى أعوامًا وأعوامًا حصينًا ممنَّعًا؟ فبهت راميرز وقال متخاذلا: كيف يا سيدتي؟
– كان تدبير مولاي الملك أن يظاهر ابن المرتضى على ابن جهور، ويجلسه بقوة جنده وسلاحه على عرش قرطبة، ثم يتخذه وسيلة لغزو الولايات الأخرى، ويجعل منه طُعمًا لصيد دويلات العرب واحدة تلو واحدة. وكانت رسالتي من قشتالة إلى قرطبة لإنفاذ هذه الخطة. أفهمت أيها العبقري المأفون؟ أفهمت أنك بذكائك الخارق ولوذعيتك التي لا تُدرك أضعت على الأسبان جميعًا فرصة سانحة لن يجود الزمان بمثلها؟
فاصفر وجه راميرز وأكثر من بلع ريقه وقال في توسل: لم أكن أعرف كل هذا يا سيدتي، وإنما فعلت مجتهدًا ما ظننت فيه الخير لدولة الأسبان، وإني لأخشى أن يصل خبر فعلتي هذه إلى مولاي الملك فأكون من الهالكين.
– لا عليك يا ابن بترو فلن يعرف الخبر إلا أنا وأنت. والمثل الأسباني يقول: ما أضيع الحزن على زجاج تحطم. أعندك خبر عن ابن زيدون؟
– لا يزال سجينًا يقاسي مرّ العذاب.
– ليتني أستطيع زيارته.
– هذا ممكن، فكبير السجانين صديقي، وهو يزور حانتي بين الفينة والفينة.
– نترك هذا إلى حين.