الفصل الثاني عشر
كان ابن زيدون لا يزال في سجنه يقاسي ألم الوحدة وذل الإسار، ويبكي بُعْدَه عن ولادة، ويندب آماله التي طارت مع الرياح. فقضى في السجن أكثر من عام يخاطب الجدران، وينادم القضبان، ويشكو بثَّه إلى نفسه، وينتظر الفرج في كل لحظة، فيخيب أمله في كل لحظة، ويستقبل النهار المشرق بمثل ما يستقبل به الليل العابس. وإذا أظلمت نفس المرء فماذا يفيد الضياء؟ وسعادة الإنسان وشقاؤه من نفسه التي بين جنبيه، فقد تريه الأمن خوفًا، وقد تريه البؤس نعيمًا.
كان يوالي إرسال قصائد الاعتذار إلى ابن جهور فما أجدى، وكان يكرّر الاستنجاد بابنه أبي الوليد فلا يجد مجيبًا، فالتجأ آخر الأمر إلى صديقه الوزير أبي حفص بن بُرد، وكانت له منزلة أثيرة عند ابن جهور فكتب إليه:
يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به، وامتدادي منه، ومن أبقاه الله ماضي حدِّ العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة. إن سلبتني أعزك الله لباس نعمائك، وعطَّلتني من حُلي إيناسك، وأظمأتني إلى برود إسعافك، ونفضت بي كفّ حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصُّم ثنائي عليك، وأحس الجماد باستحمادي إليك، فلا غرو قد يغصُّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذِر من مأمنه، وتكون منيَّة المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص.
هذا العتب محمودٌ عواقبه، وهذه النبوة غمرة تنجلي، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشَّع. ولن يريبُني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غَناؤه، فأبطأ الدلاء فيضًا أملؤها، وأثقل السحائب مشيًا أحفلها، وألذ الشراب ما أصاب غليلا، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب.
ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك؟ والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك؟ والتطاول الذي لم يستغرقه تطوّلك؟ والتحامل الذي لم يف به احتمالك؟ ولا أخلو من أن أكون بريئًا فأين العدل؟ أو مسيئًا فأين الفضل؟
حنانيك قد بلغ السيل الزُّبى، ونالني ما حسبي به وكفى.
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح؟ ونبأ جاء به فاسق؟ وهم الهمَّازون المشاءون بنميم، والواشون الذين لا يلبثون أن يصدَعوا العصا، والغُواة الذين لا يتركون أديمًا صحيحًا.
ويقول:
وهل لبس الصباح إلا بُردًا طرّزته بفضائلك؟ وتقلَّدت الجوزاء إلا عقدًا فصّلته بمآثرك؟ واستملى الربيع إلا ثناء ملأته بمحاسنك؟ وبثّ المسك إلا حديثًا أذعته في محامدك؟
أعيذك ونفسي من أن أشيم خلّبًا، وأستمطر جَهاما، وأكدِم في غير مكدَم، وأشكو شكوى الجريح إلى العِقْبان والرخَم
لعلي ألقى العصا بذراك، وتستقر بي النوى في ظلك، وأستأنف التأدب بأدبك، حسبما أنت خليق له وأنا منك حريٌّ به.
يصوّر ابن زيدون لعميد الجماعة في هذه الرسالة أشتات نفسه الحائرة، ونوازعه الثائرة، فهو يعتذر حينًا، ويعتب حينًا، ثم يعترف بذنبه في ذل واستخذاء، ويعود فيغالي بنفسه فيرفعها في ثقة واعتداد عن دنس الإثم واقتراف الذنوب، ثم يثور ثورة جائحة فيمنّ على العميد سابق فضله عليه، ثم تهزه عاطفة الشاعر ويرى أن النثر قد يعيا عن التأثير الذي يريد، فيصحبَ الرسالة بقصيدة يقول فيها:
وتصل الرسالة والقصيدة إلى ابن جهور فلا تتركا في نفسه من الأثر إلا ما يتركه دبيب النمال في الجبال، أو مناجاة الشعر للأطلال في الأطلال.
وبقي ابن زيدون كما هو في أسره وذله حزين النفس، واجف القلب، بعد أن تقطَّعت به الأسباب، وجفاه الصحاب. وكانت نائلة تزوره، وكانت ولادة لا تنقطع عنه، فبينما كانتا عنده في أحد الأيام راعهما ما بدا عليه من شحوب وذبول وقنوط من الحياة، وحنين إلى الموت. وكان يقول ويكرر؛ أما لهذا الليل من آخر؟ أما آن للطائر السجين أن يرفّ بجناحيه في الفضاء الطليق؟ ألم يأن للمقبور أن يبعث فيحاسب حسابًا يسيرًا أو عسيرًا؟
فقالت ولادة: لا ينطلق الطائر إلا إذا حطم القفص. فنظرت إليها نائلة في استنكار وقالت: ما هذا يا ولادة؟ إن مما يؤلم اليائس أن يُلوّح له بأمل لا يتحقق
– لماذا لا يتحقق؟
– لأن هذا السجن ليس قفصًا يحطم، لأن حراس الطائر غلاظ شداد.
– إن من الحيلة ما يُعجز القوة. فعجِل ابن زيدون وقال: وأين الحيلة يا سيدتي؟
– هينة يسيرة، وطالما فكرت فيها، وأقلقت وسادي في تصويرها.
– وما هي؟
– إننا نبعث إليك بالطعام في كل يوم، وسيكون بين ألوانه في الغد طبق من الفالوذج خلط به عُقار مخدّر، فإذا حمله إليك السجان فأظهر الرضا عنه، وكافئه بطبق الفالوذج فيلتهمه، وعليك الباقي.
فوثب ابن زيدون نحو ولادة يقبِّلها من جبينها ويصيح: أنت ملك كريم يا سيدتي! عجبًا كيف غاب عنا مثل هذه الحيلة!
وجاء الغد، وجاء السجان بالعشاء، وكان خبيثًا لئيم الطبع، استعار قلبه صلابته من قضبان السجن وأغلاله، فلما رآه ابن زيدون بسط له وجهه وقال: ألا تزال كعهدي بك عابسًا يا مخلف؟
– وما عليك من عبوسي إذا كنت منشرح الصدر مسرورًا؟!
– لقد وطنت نفسي على الآلام ورضيت السجن منزلا، وأنزل الله عليّ سكينة غسلت همومي، وعادت بي إلى الإيمان الحق والخضوع لأحكام القدر.
– كلهم عندنا يعودون إلى ما عدت إليه، فهم أول الأمر ينوحون ويصخَبون ويسخطون على الأرض والسماء، حتى إذا عركهم السجن وأذل نفوسهم، عادوا إلى التسليم بأحكام القدر، ورأوا أن لا بد مما ليس منه بد.
– إن به ألوانًا يسيل لها اللعاب.
– هذا ديك مشوي، وهذا لحم متبَّل بالأفاويه، وهذا رقاق محشوّ بالجوز، وهذا تين ما لقيّ، وهذا فالوذج بالفستق. ما أحبه إلى نفسي! ثم ابتسم وقال: ولكنني أراك تكثر من النظر إليه يا مخلف، فخذه بارك الله لك فيه! فليس أشهى إليّ من أن أشهد رجلًا يأكل ما اشتهى. خذه يا مخلف ومتعني برؤيتك وأنت تأكله. التهمه يا مخلف فلم يوضع من قبله طعام في بطن من هو أحقّ به منك.
فنتر ابن زيدون ذراعه نحوه كالمغضب، فقهقه الحارس وقال: هكذا أنت دائمًا ساخط على الدنيا.
وكان ابن زيدون قد جاوزه بعيدًا فعاد الاطمئنان إلى نفسه، وسار في سرعة يخترق دروب قرطبة وأزقتها، حتى بلغ دار حمدانة ابنة خال نائلة فطرق الباب في وجل ورعب، ففتحت العجوز الباب وصاحت مذعورة: اللص! اللص! فدفعها ابن زيدون بيده في رفق، ودخل وأغلق الباب دونه، وقدمت حمدانة ضاحكة من بلاهة خادمتها، ولكنها حينما رأت زي ابن زيدون لعب برأسها الشك، ولمح ابن زيدون ذلك في وجهها، فهمس: أنا يا سيدتي ضيف نائلة، فشدت حمدانة على يده في بشر وترحيب، ثم جذبته إلى حجرة من الدار منعزلة أعدّت له فيها طعامًا شهيًّا. ودار الحديث طويلا حول قصة سجنه وما لاقى من عنت وآلام، ثم في طريقة خلاصه وما فيها من مغامرة وإقدام. وقضى ابن زيدون ليله قلقًا ينفس عن نفسه بالشعر ويقول:
وشاع في الصباح خبر فرار ابن زيدون، وقام له ابن جهور وقعد، واجتمع الوزراء والقواد لهذا الحادث الجلل، وجمع كبير الشرطة أعوانه وأمرهم أن ينبثوا في المدينة وأرباضها، وأن يطلقوا عيونهم في كل مكان للوقوف على موضع اختفائه. ولم يكن للناس حديث في مجالسهم وندواتهم إلا في فرار ابن زيدون وما صحبه من إحكام الحيلة وإجادة التدبير، وقهقه العامة كعادتهم من غفلة المشرفين على المدينة مع ما يتبجحون به من صرامة وحزم وحذر. وانتقل الخبر من فم إلى فم، وذعر ابن عبدوس وجماعة الناقمين من ابن زيدون للحادث. ووصل النبأ إلى عائشة فتلقته في حيرة ووجوم. أتحزن أم تسر؟ لا تدري. تحزن، لأن عدوها الذي عملت على سجنه وتعذيبه أصبح حرًّا طليقًا، وتسر، لأن أملا خافقًا يخدعها بأن فراره قد يمهد لها السبيل إلى لقائه، وأن لقاءه قد يدفعه طوعًا أو كرهًا إلى الرجوع إليها وإضفاء محبته عليها. فقابلت راميرز وقالت له: إن ابن زيدون فرّ من سجنه.
فأجابها مسرعًا: حسنًا فعل. وهو سيكون شجًا في حلق ابن جهور، والعرب تقول: الكلابَ على البقر!
– أيّ كلاب؟ وأيّ بقر يا راميرز؟
– ماذا تريدين؟
– أريد أن أعرف مكانه دون أن أقبض عليه.
– وهل تطلبين معونتي؟
– لا. ثم ابتسمت وقالت: لا أدري لم أحدثك في هذا؟ ولكنه ضعف النساء الذي ينتابني بين الحين والحين.
ومضت أشهر على اختفاء ابن زيدون كانت فيها عائشة تفكر في وسائل العثور على مخبئه، وما كاد يلتمع لها قبس من الرأي حتى قصدت في إحدى الليالي إلى دار خادمها بلال، فلما رآها ولم يكن متوقعًا أدركه البُهْر وأخذ لسانه يتلجلج بكلمات كان منها: سيدتي عائشة؟ … ماذا أرى؟ … نعم … أهلا بسيدتي … كيف بلغت بك الطريق إلى داري؟ ألا تخافين عيون ابن جهور؟ … ما كان أسعد أيامي بك وبأمك يرحمها الله! إنها ماتت حزنًا عليك يا سيدتي.
– علمت بموتها يا بلال منذ عدت إلى قرطبة. اسمع — ووضعت في يديه كيسًا من الدنانير — أريد أن أعرف مكان اختفاء ابن زيدون.
– ابن زيدون؟ وأين نجده وقد عجز عن العثور به الشرَط وجميع جواسيس الدولة؟
اسمع يا بلال، إنه في المدينة من غير شك، ولن يستطيع مغادرتها وإلا قبض عليه حراس التخوم.
– نعم في المدينة. نعم صحيح. ثم جرؤ على الابتسام وقال: ولكن المدينة يا سيدتي ليست جحرًا أو دارًا أو زقاقًا أو محلة، وإنما هي بحر زاخر بأمم من أقطار الشرق والغرب. إن الذي يبحث عن مختف في هذه المدينة كمن يبحث عن دينار سقط في الوادي الكبير.
– ليس الأمر كما تظن يا بلال. وقد توفق إذا حصرنا البحث عنه في دائرة أصدقائه.
– أصدقاؤه لا يشون بصاحبهم.
– يا بلال، تأن قليلا، وألصق هؤلاء الأصدقاء بابن زيدون امرأتان: ولادة ونائلة الدمشقية.
– هذا صحيح يا سيدتي.
– ولا بد أن يتردد على داريهما كيفما بالغ في الاختفاء، وأغلب الظن أن يكثر من زيارة ولادة. فهل تستطيع أن تتحسَّس منه في دارها؟
فصاح بلال قائلا: أستطيع وأستطيع! إن جاريتها عتبة لي صديق، وهي تطمع في أن أكون لها بعلا.
– حسن جدًّا. كرر زيارتها وتلطف ولا تشعرنَّ بك أحدًا، حتى تحصل منها على ما تريد دون أن تعرف من الأمر شيئًا، وسأزورك أو ستزورك دنانيري مضاعفة بعد أيام، ثم مدت إليه يدها واندسَّت في الظلام كأنها طيف خيال.
وسعى بلال جاهدًا ليعرف مخبأ ابن زيدون، فتردد على عتبة وأكثر من التودد إليها، وبذل لها الوعود البراقة الخاتلة، حتى بلغ منها بعض ما يريد، ثم طفق ينتظر وعد عائشة بزيارته، حتى إذا كانت ليلة حالكة السواد، مريضة النجوم، سمع طرقًا على بابه فأسرع للقاء عائشة محتفلا فرحًا بما سينال من أجر، ولكنه ما كاد يفتح الباب حتى بُهِت وذعر وكاد يسقط على الأرض مما أصابه من الهول، فإنه ما كان يظن أن يرى عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة بين جنده وأعوانه، وهؤلاء لا يزورون رجلا في جنح الظلام للسؤال عن غالي صحته، أو للتمتع بحسن حديثه.
وقف بلال مبهورًا، وصاح به صاحب المدينة: أين كنت بالأمس بعد العشاء الآخرة؟ فتلعثم بلال وأرتج عليه باب الكلام فوقف مشدوهًا.
– أين كنت بالأمس يا رجل؟ قل ولا تُخفِ عني شيئًا، فإن جواسيسي يقرءون ما في الصدور ويعرفون ما تخفيه السرائر.
– كنت يا سيدي.. عند عتبة … عند عتبة.
– جارية ولادة بنت المستكفي؟ وماذا كنت تصنع في دار ولادة؟
– أزور عتبة يا سيدي.
– تزورها في كل ليلة؟!
– حقًّا لقد أخطأت وجاوزت الحدّ. هل شكت سيدتي ولادة من زيارتي لدارها؟ إني سأتزوج عتبة يا سيدي، وقد تواثقنا على الزواج، وإذا كان أحد لا يحب أن أزورها قبل الزواج فإني أعاهدك ألا أطرق لها بابًا.
– ليس هذا ما أقصد يا رجل. ألم تقابل ولادة في إحدى زياراتك؟
– لا يا سيدي، وأنَّى لمثلي أن يقابل مثلها؟
– ألم تحمل منها رسالة إلى صديق أو تحضر إليها رسالة من صديق؟
– أيُّ صديق يا سيدي؟
– لا شأن لك بهذا يا رجل، وإياك أن تتباله فإننا لسنا من الغفلة بحيث نصدق ما تقول؟
– أقسم بالله يا سيدي إني لا صلة لي بسيدتي ولادة، وإني لا أعرف من أمر الرسائل التي تذكرها شيئًا.
– اعلم يا رجل أنك إذا خطوت مرة أخرى نحو دار ولادة كان دمك مهدرًا.
– عهد الله يا سيدي ألا يراني أحد من رجالك مارًّا بدارها!
فأطال إليه صاحب المدينة النظر في شك وتردد، وبين تصديق وتكذيب، ثم انصرف، وبقي بلال خافق القلب مرتعد الأوصال، يلعن الشرطة ورجالها، واللحظة التي زارته فيها عائشة فنصبته هدفًا للشكوك، وجعلت داره مغدًى ومراحًا لأعوان السلطان كلما حلا لهم أن يخلعوا قلبه من مكانه.
لم تمس يده في هذه الليلة طعامًا، وأخذ يبسط فراشه في تكاسل ورعب، وهو على يقين من أن النوم لن يطرق له جفنًا. وبينما هو يتقلب على الفراش، والوهم يرسم له من التهاويل ما يزلزل فؤاد الشجاع، إذا طرق خفيف على الباب فأنصت مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم، ومن شرّ رجال الشرطة، وقام وهو يقول لنفسه: عادوا ثانية للقبض علي وإلقائي في غيابات السجون، لأني رأيت في عين كبيرهم كأنه في شك من أمري، ولن أملك إلا التسليم، فإن ظلم هؤلاء ليس له من مردّ.
وفتح الباب فإذا عائشة بوجهها المؤتلق، وثغرها الباسم، تحيِّيه، وتمدّ إليه يدًا كانت في يده الجافية السوداء كقطعة من الزبد في جفْنة من القار. همس بلال قائلا والرعب لم يفارقه: أهلا بسيدتي عائشة! هل قابلت صاحب المدينة بالطريق؟
– من صاحب المدينة؟ أنت تحلُم يا بلال؟
– لا يا سيدتي. إني يقظان، هذه يدي أهزّها، وهذا جسمي لا أزال أراه مرتعدًا.
– ماذا بك يا بلال؟
– الذي بي يا سيدتي أن صاحب المدينة زارني منذ ساعة.
– وهل هذا كل ما يهولك؟ إن صاحب المدينة لا يزور الناس دائمًا ليقتلهم، وقد يكون من متممات بحثه أن يهتدي بسؤال هذا أو ذاك.
– إن نظراته مخيفة يا سيدتي، وإني لا أحب مقابلة أحد من هؤلاء ولو سألني عن الطريق.
– هون عليك يا بلال. عمّ سألك؟
– سألني عن أسباب ترددي على دار سيدتي ولادة.
– آه فهمت. إنهم يرقبون دارها لعلهم يصلون إلى موطن اختفاء ابن زيدون؛ وهم يسلكون الطريق التي أسلكها، ولكني سأبلغ الغاية قبلهم. ماذا وراءك من أخبار عتبة؟
ولمح بلال أنها تحمل في يدها كيسين فأطال النظر إليهما وقال: من أخبار عتبة؟
– نعم يا بلال من أخبار عتبة. وألقت في يده الكيسين فسمع إلهما وسوسة ورنينًا طار لهما لبه فقال: علمت من عتبة أن الوزير أبا حفص بن برد يزور ولادة في كل خميس بعد الهزيع الأول من الليل ومعه رجل ملثم، وأنهم يختلون في غرفة بعيدة عن الخدم، وأن الرجلين ينصرفان قبل انبثاق الفجر.
– حسن يا بلال، ثم أسرعت وقالت: وماذا فعلت بعد ذلك يا بلال؟
– كمنت وراء جدار، حتى إذا غادر الرجلان الدار تبعتهما من بعيد في حيطة وحذر، فلما فصل ابن برد ليذهب إلى داره واصل الرجل الملثم السير حتى بلغ خطة جند الشام فدخل دارًا تقرب من مسجد الشهداء.
– مرحى يا بلال! لقد عثرنا على الدينار الضائع في الوادي الكبير. إن الرجل الملثم هو ابن زيدون من غير شك، وسينالك مني أضعاف ما نالك من مال عندما أقتنص هذا الطائر النفور. عم مساء يا بلال. ثم انفلتت نحو الباب مرحة جذلى، كأنها سيقت إليها الدنيا بحذافيرها.
ثم طرقت الباب ففتحت لها العجوز مرتاعة، ووثبت عائشة إلى فناء الدار وقالت: أريد لقاء السيد الذي يقيم عندكم.
وتنبهت حمدانة من نومها فذهبت لتستجلي الخبر، واستيقظ ابن زيدون على أصوات مختلطة فيها غضب، وفيها استنكار وفيها سخرية، ففتح باب حجرته قليلا، ولمحته عائشة فصاحت به.
– قضي الأمر يا أبا الوليد، وبلغ الكتاب أجله، وأخذت الطرق على الفريسة، ووقع البلبل الغرّيد في الفخ، وليس لك إلا أن تلقي السلاح عاجزًا مستنيبًا. ثم وثبت نحو حجرته فدخلتها وأغلقت الباب، وقالت في هدوء كأن الموقف وما حوله من أحداث وخطوب لم يترك في أعصابها أثرًا: اجلس يا أبا الوليد، فإننا قد نتحدث طويلا، وقد تحتاج إلى كل ما منحك الله من عقل وحكمة وصدق أناة، لتخرج من هذا الأمر الجلل كريمًا سليمًا دون أن يصيبك من أوضاره رشاش، أو يمسك خطر. أنصت إليّ أبا الوليد، فقد كنت منذ أزمان تحن إلى حديثي، وترتاح إلى أنغام صوتي، كنت في ذلك الحين شابًّا مكتمل الرجولة، وافر العقل، سديد الرأي، لم تلعب بفؤادك الحسان، ولم يخدعك الطلاء الكاذب، والجمال المصنوع، والكلام المتكسر الممضوغ، ولم تقتنصك الحبائل المدفونة في التراب، ولم تلعب بك الآمال المضللة التي أسخطتك على حياتك الهادئة الناعمة، لتدفعك إلى حياة موهومة فيها مناصب، وفيها جاه وصولة، وفيها عز وسلطان، والتي لم تفتأ أن أردتك في الهاوية، وأوردتك ظلمات السجون.
كنت تحبني يا أبا الوليد، وتريد أن تكون لي بعلا، وكنت ولا أزال بك مفتونة، وبحبك ضنينة، وعليك غيورًا، وكنا نعيش في دوحة هذا الحب طائرين غردين، تنبسط أمامهما الحياة بحدائقها الغُلْب، ومروجها الخضر، وأزهارها الباسمات، وأنهارها الجاريات، لتصوِّر ما في نفسيهما من قناعة ورضا ولذة نعيم، ولكن بومة شريرة تزيت بزي الطاووس، وتصنعت صوت العندليب، حامت حول عشنا يومًا، فأفسدت كل شيء، وجرّتك بخيط كاذب من الأمل، ولون خدّاع من الجمال إلى تدمير سعادتك وهلاك نفسك.
أنصت إليّ يا أبا الوليد، إني لن أسلوك إذا سلوتني، ولن أهجرك إذا هجرتني، وسأعمل وأعمل حتى نصبح زوجين سعيدين، فلا تظن أنك تستطيع الخلاص من يدي. إنك لي، وإنني لك وليس في الأرض من قوة تحول بيني وبينك. وإذا حاول الموت أن يفرقنا فسأموت معك، وسأرى في الموت هناء وراحة.
أنصت إليّ يا أبا الوليد وكن عاقلا، لقد جرّبت الناس والأيام، فهل رأيت أوفى مني عهدًا، أو أصدق حبًّا؟ نعم إني كدت لك عند ابن جهور، وطوّحت بك في غيابة السجن، ولكني أقسم إني فعلت ما فعلت وأنت أعز الناس عليّ، وأحبهم إلى نفسي. إن الحب مجنون يا أبا الوليد، وإذا اشتد لم يعرف ماذا يأتي وماذا يدع، والغيرة نار مشتعلة الأوار تلتهم كل شيء ألم تسمع بذلك الشاعر المشرقي الذي قتل حبيبته لولهه بها وشدة غيرته عليها من أن تنالها عين ناظر، أو يصل إلى أذنها حديث عاشق.
كنت أحبك يا أبا الوليد حبًّا عاصفًًا، وكنت أغار عليك في الصباح من الضياء، وفي المساء من الظلام، فاعذرني يا أبا الوليد واغفر لي.
كان الغيظ يحتدم في صدر ابن زيدون، والخوف من العودة إلى السجن يزيده ارتباكًا، وكانت لتلك المفاجأة صرعة بددت نفسه وأطارت صوابه فقال في صوت أجش حزين: أما الغفران فقد غفرت لك، ولن أحمل لك في نفسي ضغنًا أو حفيظة، وإذا كان لنا صلة وداد في الماضي فإني سأحرص على ذكراها، ولكن الأحوال تتبدل والقلب يتقلب
وخير لنا يا سيدتي وقد طار من بيننا الحب، أن نضع مكانه صداقة نقية كريمة، هي بنا أليق، وبذكرياتنا القديمة أجدر.
إن حبنا لم يطر يا أحمد.
– قولي ما شئت يا سيدتي.
– لا تقل «يا سيدتي» قل «يا عائشة».
– قولي ما شئت يا عائشة، فإن قلبي إذا انصرف عن شيء عجز أهل الأرض عن إكراهه عليه.
– دعه لي يا أحمد وأنا أعرف كيف أروضه، وكيف أعيده إلى سالف عهده، دعه لي يا أحمد، وهلمّ بنا نفِرّ من هذا البلد المشئوم لنعيش في أي بلد آخر زوجين سعيدين.
– إن قلبي ليس بين جنبيّ.
– آه إنه عند ولادة أيها الأحمق! لقد كنت أريد لك الخير كله، كنت أريد أن أنقذك من ابن جهور، وكنت أريد أن أنقذك من ولادة، ولكنك كالفراشة الخرقاء تسقط على النار فلا تفارقها حتى تحترق. إن صيحة مني الآن تجمع عليك العسس ورجال الشرطة، وتزجّ بك في ظلمات السجون. فقلها كلمة واحدة أتريد أن تكون لي زوجًا؟
– لا.
وما كاد ابن زيدون يسمع الدعاء حتى صاح بالجند: أدركوا المرأة الأسبانية، أدركوا جاسوسة الإفرنجة. ثم جذب رئيسهم من ذراعه، وأشار بيده إلى المرأة وكانت قد ابتعدت عن الدار، فكرّ نحوها الجنود، وقبضوا عليها، ثم اتجه ابن زيدون إلى رئيس الجند وقال: والآن تستطيع أن تشد وثاقي إذا أردت.
فقال الجندي متهكمًا: وإذا لم أرد؟
– كان ذلك خيرًا لك وأدعى إلى مكافأتك.
– كيف؟
لأني كنت طريد ابن جهور، وهو قد لاقى ربه كما سمعت من نداء المؤذن. أما خليفته أبو الوليد فأحبُّ الناس لي، وأعطفهم عليّ، وقد بذل جهد طاقته لتخليصي من السجن أيام أبيه فلم يستطع.
– عذرًا يا سيدي فإني لا أعرف ذلك، ولكني أمام شخص يقال إنه فر من سجنه، ولا أملك إلا أن أذهب به إلى صاحب المدينة ليرى فيه رأيه.
– افعل ما شئت أيها الجندي الشجاع، ولكن حذار من أن تُفلت من يدك هذه المرأة، فإنها أضرّ على الدولة من جميع الأسبان في الشمال. ثم انطلقوا جميعًا إلى دار عميد الجماعة الجديد.
وكان ابن زيدون وهو في الطريق يغمغم بأبيات من الشعر ازدحمت بصدره تطلب متنفَّسًا، فلما مثل أمام أبي الوليد ابن جهور، قام له وأخذ يعانقه مداولا بين الترحيب والاعتذار له عما ناله من ضر أيام أبيه، ثم شدّ على يديه وهو يقول: لقد عفا عنك أبي قبل موته، دخلت عليه في مرضه فأحسنت فيك القول، وذكرت ما أصابك من ضعف النفس والجسد، وألححت عليه في ألا يجعل إهدار حياتك آخر ما يتقدم به إلى ربه. فقال في صوت خافت: إن ابن زيدون كوكب الأندلس، والكواكب لا تطفأ بالأفواه، وقد تمر السحب فتحجب من ضيائها، ثم تنقشع. فأسرعت أقول: أعفوت عنه يا أبي؟ فهز رأسه فيما يشبه الرضا وقال: ومن أنا يا ولدي حتى أعفو عنه؟ الله يعفو عنه ويعفو عنا جميعًا. ولم أرد أن أثقل عليه بعد أن عرفت حسن رأيه فيك. ورجوت أن يُبلّ من مرضه بعد أيام، وأن يطلق سراحك بنفسه، ولكن المنية فاجأتنا فيه يا أبا الوليد.
فاتجه ابن زيدون إلى السماء يستمطر الرحمات على الكريم الراحل، ويعتذر عنه بأنه لم يعمل إلا ما كان يراه حقًّا وصوابًا، وبأنه أنصت إلى الوشاة فزينوا له الباطل، وأدخلوا عليه من زخارف القول ما لم يستطع له تكذيبًا. ثم هنَّأ الحاكم الجديد ودعا له بالتوفيق والسداد، ومدّ يده فأخرج من كمه رقعة ثم أنشد:
فطرب أبو الوليد للمديح، وقام فأجلس الشاعر إلى جانبه، وبذل له من صنوف التكريم ما ملأ نفسه ثقة وسرورًا.
وهنا اتجه ابن زيدون نحو عائشة وقال: هذه — يا مولاي — عائشة بنت غالب جاسوسة ملك الأسبان التي وصمها أبوك بالنار ونفاها إلى الشمال، وعادت اليوم إلى قرطبة لتتجسس للأسبان، ولتبث الفتنة في صفوف المسلمين.
فاتجه أبو الوليد إليها وقال غاضبًا: متى وصلت إلى قرطبة أيتها المرأة؟
– منذ شهور.
– ولم جئت؟
– لا أدري.
– ومن الذي ينفق عليك؟
– أهل الخير والإحسان.
فغضب أبو الوليد ودعا عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة وقال: اسجن هذه المرأة في المكان الذي كان يسجن فيه أبو الوليد بن زيدون جزاء وفاقًا لكل ما اقترفت من إثم وخيانة.
وابتسم ابن زيدون لصاحب المدينة وهمس في أذنه: قل لمخلف السجان أن يحذر هذه المرأة فإنها عظيمة الدهاء، لها في الختل أفانين لم يهتد لمثلها إبليس اللعين، وقل له إن ابن زيدون يقرئك السلام ويوصيك أن تبتعد عن أكل الفالوذج ولو خلط بفستق من الجنة!