الفصل الثالث عشر
كان لقاء عجيبًا لو حاول القلم وصفه لعجز القلم. نعم إنهما كانا يلتقيان، ولم يغلق باب السجن يومًا في وجه ولادة، ولكن لقاء السجن خير من الافتراق. لقاء أوله أسف، وآخره ألم. لقاء تحيط به القضبان، وتطل عليه أعين الجواسيس. إنه في الحق لم يكن لقاء ولكنه كان إثارة للأشجان، وتنبيهًا لراقد الهموم.
تكلم الشوق في هذا اللقاء صامتًا فأطال وأسهب، وطافت الذكريات عزيزة محبوبة رائعة الألوان ذهبية الحواشي، ولمعت الآمال برّاقة فتفتحت لها النفوس، وانبسطت الوجوه، ثم أخذ ابن زيدون يصف حفاوة أبي الوليد بن جهور به، واحتفاظه بمودته. وإلحاحه عليه في أن يبقى في خدمته عزيز الجانب ملحوظ المكانة.
فأطرقت ولادة كالمفكرة، وقالت: كل هذا حسن يا أحمد. ولكن احذره فإن الولد صورة من الوالد. وأبو الوليد ورث أباه في كل شيء. وزاده عنفوان الشباب غرورًا لم يكن بين صفات أبيه. إن أعداءك لم يناموا عنك طرفة عين يا أبا الوليد، وكأني بابن عبدوس وابن المكري يجمعان اليوم رأسيهما في دسيسة تعود بك إلى السجن. أو تلقي بك في مهاوي الحتوف، فليس من الهين عليهما أن تبعث من القبر المظلم الذي قذفاك فيه سليمًا ناشطًا، تنفض عن أثوابك التراب في مرح وغبطة. وليس من الهين عليهما أن يرياك وقد عدت إلى مكانتك عند الأمير تأمر وتنهي، وتقاد إليك النجائب، وتسير بك المواكب. وليس من الهين عليهما أن تتألق عبقريتك بدار الحكم فيفضح ضوؤها تلك القناديل المريضة، والسرج الخافتة. ثم ابتسمت في استحياء وقالت: ثم إنه ليس من الهين عليهما أن ينتصر الحبّ على الدسائس، وأن يجمع الله شتيتين لم يكن لهما في الحياة من مأرب إلا أن يفرّقاهما. لقد انتهينا من عائشة بنت غالب، وطواها السجن كما يطوي الخضم أشلاء الغريق، وكانت خصمًا لدودًا، وعدوًّا مثابرًا، وكان لها من الدهاء ما لا تنفع معه الرقى، ولا يفيد الحذر، ولكن لا يزال لك بين جنبات قرطبة أعداء وحساد لا يقلون عن عائشة مكرًا ومحالا. ولقد كنت فيما مضى يا أبا الوليد جريئًا غير هيَّاب، سريعًا إلى الثقة بمن حولك، قليل الاعتداد بما يكون وراء الكلام من عواقب، فكبا بك الجواد دون الشوط، ووقفت بك العجلة إلى المجد دون الغاية، وهوت بك التمائم إلى هاوية بعيدة القرار، وأريدك اليوم أن تكون أشدّ حذرًا، وأكثر صمتًا، وأبعد عن قُرناء السوء، وأقوى على الأيام تجربة ومراسًا.
إن الفتن في قرطبة في تأجج واضطرام، فدعنا نكن حولها من المشاهدين دون أن نكون لها حطبًا، وإذا كان لك رأي فيما يجب أن يكون عليه الحكم فبالله عليك دعه الآن، وهلمّ بنا إلى حياة هادئة حلوة المجتنى، يرِفّ فوقها جناحان من أمن وسكينة.
فنظر إليها ابن زيدون نظرة ساهمة حزينة وقال: ومن الذي يراك يا سيدتي ولا يختطفك ليفرّ بك إلى قمة جبل بعيد عن دسائس البشر ونمائمهم؟ إن للعيش في ظلالك معنى ليس في جنات النعيم، ولكن ماذا أفعل يا سيدتي في نفس جموح طموح لا يلين لها زمام، ولا تذلّ لقائد؟ لقد خلقت للمجد ولعظائم الأمور، فإذا ثارت نفسي إلى مطلب ركبت إليه أسنة الرماح، ولم أبال بما يملأ طريقي من أشراك وحبائل، وسخرت من الكاشحين، وغبَّرت في وجوه الحاسدين، وإن شيئًا واحدًا هو الذي يغض من جِماحي، ويخفف من غُلوَائي. أتعرفين ما هو؟
فابتسمت ولادة وقالت: أعرف. وإني أستحلفك بحق هذا الحب أن تطامن من نفسك قليلا، وأن تتركنا نعيش في سلامة وهدوء بال زوجين سعيدين. اهجر هذه المطامح البعيدة أبا الوليد التي ستوردنا موارد التلف.
– إلاّ مطمحي الأسمى، فإني سأعمل له أو أموت دونه، ولن أستحق أن أكون بعلا لأكرم نساء قرطبة إلا إذا ظفرت به يدي.
– أي مطمح؟
– أن أعيد الدولة العربية بالأندلس إلى سالف مجدها أيام عبد الرحمن الداخل والناصر والمنصور بن أبي عامر. يجب أن يتحد العرب، ويجب أن تجمعهم عروة لا تنفصم، ويجب أن تتجمع دويلات الأندلس في دولة عربية موحدة يخفق فوقها علم واحد يصور وحدة الكلمة، ووحدة القوة، ووحدة الغاية. فلقد قالوا قديمًا، وكان قولهم حقًّا: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. أتعرفين يا سيدتي أننا لم ينفعنا إلا تفرّق كلمة ملوك الإفرنجة، وهم ولله الحمد على نعمائه دائمًا في شجار وشقاق وتنافس، ولولا ذلك ما كنت بجانبك اليوم في مدينة قرطبة، وربما كنا نكون تائهين في صحراء مراكش، نحسد رعاة الإبل على ما منحهم الله من دار ووطن. ولكن عراك الإفرنجة لن يطول، وسوف يدفعهم حب الغلب، ويحفزهم طلب الثأر إلى توحيد الكلمة ونسيان الأحقاد والوثوب على العرب من كل مكان، فإذا لم نأخذ الأهبة للهجمة الكبرى، ونعد العدة للداهية العظمى، ذهب كل شيء من أيدينا. فتنهدت ولادة وقالت: لن تجد اليوم من أبناء الخلائف من أمية من يعيد لك أيام الناصر، ولن تجد بين الأمراء من يعيد لك أيام الناصر، وهذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، ذلك بأن ينبعَ من أرض الأندلس رجل له عزيمة عبد الرحمن الداخل وصرامته وعبقريته، فيجمع الأواصر، ويوحد الكلمة، ويستميل القلوب، ويردّ الدعاة المتهافتين على الحكم إلى أجحارهم. ولكن أين هذا الرجل الآن يا أبا الوليد بعد أن أقفرت الأندلس من الرجال؟
فأطرق ابن زيدون ثم رفع رأسه وقال: بعد أن مات ابن المرتضى فليس لي أمل إلا في رجل واحد، ولكنه أمل ضعيف خائر.
– من هو؟
– إني أنظر إلى أشبيلية.
– إلى بني عباد؟
– ربما.
– إنهم طبل أجوف.
– ولكنهم خير الشر.
– أفي الشر خيار؟
– نعم إذا أجدب الزمان، وقلت الأعوان. وبينما هما في الحديث إذ دخلت نائلة فقبلت ابن زيدون في جبينه فعل الأم الرءوم، وانطلقت على طريقتها في سيل من الحديث لم يترك كلمة لقائل. ثم صاحت: أسمعتما بالنبأ العجيب؟ فقالت ولادة: هاتي يا جهينة الأخبار هاتي.
– لقد ولى أبو الوليد بن جهور صفيه وخليله ابن السقاء الإشراف على شئون الدولة، وجمع في يديه كل أزِمَّة المملكة، يصرفها كيف شاء.
فصاح ابن زيدون: هذا أول البلاء ونذير الزوال، إن ابن السقاء رجل واسع مدى العقل، كبير الآمال، ولكن كبار العقول بعيدي الآمال كثيرًا ما يكونون خطرًا على الدولة. إنه رجل متسلق هجّام بعيد الحيلة، لا يتعفف عن جريمة إذا كان يصل بها إلى غايته. إنه يقطع اليد التي امتدت لمعونته بعد أن ينال منها مأربه.
فقالت نائلة: لا تبالغ يا أبا الوليد.
– ستعلمين نبأه بعد حين.
– إنه أرسله اليوم للسفارة بينه وبين ابن عباد.
– ثعلب يلتقي بذئب!
– ومن الفريسة؟
– قرطبة المسكينة.
– لا تكن متطِّيرًا، فالدنيا لا تزال بخير. ثم هرولت إلى الباب وهي تتجه نحو ولادة وتقول: الدنيا بخير مادام فيها حبّ وأمل.
وعاش ابن زيدون في كنف أبي الوليد بن جهور أول الأمر هانئًا سعيدًا، وعاد إليه ما كان من نفوذ وعلو مكانة، وكان يجمعهما المساء في ندوة ولادة بين أخدان من الشعراء والأدباء، فيطوون الليل بين سمر وطرب وفكاهة.
وترامت الأيام، وكرّت الليالي، وأخذ شغف ابن جهور بابن زيدون يهدأ قليلا ويعدو عليه السأم ويصيبه الملال. واستمر أعداء ابن زيدون يرسلون الأخلوقة إثر الأخلوقة، والنمَّة وراء النمَّة، وكانوا من اللباقة في الكذب والبراعة في الدّس بحيث ينقلون الخطا فيما هموا به من الفساد وئيدة وئيدة، حتى لا يشعر من يسعون عنده بأنهم يتغفلونه أو يستغلون ثقته.
بعث ابن جهور ابن زيدون للسفارة بينه وبين إدريس الحسني بمالقة، فأحتفى به الحسني مقدرًا عظيم منزلته ورفيع أدبه، وأنزله خير منزل، وأجزل له الصلات، وأجرى عليه من الخدمة ما لم يجره قبله على عظيم. ثم أنس بمجلسه، وشغف بالاستماع إلى أدبه، وفتن بروائع أخباره وبدائع نوادره، وألحّ في أن يطيل ثواءه عنده، وتمنى لو جعل مالقة دار إقامته، واختار من مناصبها أعلاها قدرًا وأبعدها نفوذًا، فمالت نفس ابن زيدون إليه، وهفت إلى كريم وعوده، وذكر أعداءه بقرطبة، وذكر دالة ابن جهور عليه، وذكر أنه يعيش في كنفه كما يعيش راكب البحر، لا يفتأ في خوف وحذر وإن سكنت الريح وصحَّت السماء. ولكنه ذكر أيضًا ولادة، وذكر أن العيش بدونها لا يطيب، فنفض عنه الرغبة في البقاء، ورأى أن قرطبة جنة نعيمة وإن حُفَّت بالنار من كل جانب.
ولما طالت إقامته بمالقة دخل ابن عبدوس وابن المكري على ابن جهور ذات صباح، فقال ابن عبدوس: هل وصل إلى سمع مولاي أن ابن زيدون عزم آخر الأمر على الإقامة بمالقة؟
– لا. وكيف يتاح لوزير في دولة أن يكون في خدمة دولة أخرى تنافسها وتضمر لها العداء؟
فقال ابن المكري: إنه يا مولاي قد يُسدي إلى قرطبة من الخدم وهو بمالقة ما لا يستطيعه هنا.
– إن القائد الحذِر لا يبتعد عن ميدانه. ولقد سقطت علينا أخبار من مالقة تدل على أن الرجل ألقى زمامه للحسني يصرفه كيف يشاء.
فقال ابن عبدوس: علمت أنه يعمل معه على إعادة قرطبة لبني الحسن بن علي.
فظهر الغضب على وجه ابن جهور وقال: لا يا أبا عامر إنه لن يتدلى إلى هذا الدرك، ولن يستطيع أعدى أعدائه أن يقول إنه يفرّط مثقال خردلة في وطنه الذي يفديه بروحه. إن ابن زيدون إذا جُرّد من كل صفة من صفات الرجولة والكرامة، فلن يستطيع أحد أن يرميه بخيانة وطنه. ثم إنه لا يجهل ما أصاب قرطبة على أيدي الحسنيين من كوارث وفتن حاطمة، ولن ينسى أهل قرطبة تلك السنين السبع الشداد التي دمر فيها الحسنيون قصور الزهراء، وفتكوا بالناس، ونهبوا كل شيء، وسلطوا البربر فانبسطوا في قرطبة يقتلون ويأسرون، إلى أن أنقذ أبي البلاد من شرهم، ورد الأمر إلى بني أمية. لا يا ابن عبدوس، إن أبا الوليد لا يبيع بلاده لأحد، فكيف يبيعها لهؤلاء المردة الطغاة؟
فقال ابن المكري: كنت أعتقد كل هذا يا سيدي، ولكن الأخبار التي تحملها إلينا ريح مالقة زلزلت يقيني، ووضعت مكانه حيرة وشكوكًا. وإني أرى أن يتحصن مولاي بسوء الظن، فإنه أسلم عاقبة وأدنى إلى الحيطة والحذر.
– أيُّ حيطة وأيُّ حذر؟ إن الرجل من هذه الناحية فوق مطار الظنون.
وأسرع ابن المكري فقال: لقد علمت أنه بعث برسالة إلى خادمه عليّ أمره فيها أن يلحق به بمالقة مع عبيدة وأهل بيته، ولكني غير واثق بهذا الخبر.
فتحرك ابن جهور في مجلسه، وقد بدا على وجهه القلق، وطلب من رئيس كتَّابه أن يبعث رسالة إلى ابن زيدون يستعجل قفوله، ويصرفه عن السفارة.
وقفل ابن زيدون إلى قرطبة حزينًا كاسف البال، لأنه علم أن الحيَّات بقرطبة عادت تهزّ رءوسها، وأن عناصر الشر التي خمدت حينًا أخذت تتجمّع من جديد لتفعل أفاعيلها، وأنه أصبح بقرطبة بين فكّي أسد لا يبعد أن يحلو له يومًا أن يحرّك ماضغيه.
عاد ابن زيدون إلى قرطبة، وقابل ابن جهور فعتب عليه عتبًا خفيف المس خفي الإشارة، تتخلّله الأفاكيه، وتخفف من وقعه البسمات، فخرج من لدنه وهو يعلم أن ابتساماته أشبه بالبروق التي تسبق الصواعق، وأن وراء هذا اللطف أحابيل تنصب، وقضاء يدبر. وقابل ولادة ونائلة ونفض إليهما جلية أمره، وما يجيش بصدره من مخاوف، ثم أخرج من جيبه رسالة بعث بها إليه المعتضد بن عبَّاد يدعوه فيها إلى حضرته بإشبيلية، ويعده بأرفع المناصب وأسمى المراتب.
فقالت نائلة: إن ابن عباد داهية ماكر، وأخشى أن يتخذ منك أحبولة لمآربه.
فقالت ولادة: وما مآربه يا ترى؟
– أن ينال قرطبة. إنه مجنون بشيء يسمّى قرطبة. أتعلمين أنه قتل بيديه ابنه إسماعيل، لأنه دعاه إلى غزو قرطبة فتردّد واعتذر لقلة الرجال والعتاد؟
– إنه قتله حينما قبض عليه وهو يتآمر مع طائفة من الجند على قتله.
– ولم تآمر على قتله يا فتاة؟ تآمر على قتله لأنه عرف أنه بعد أن أبى أن يغزو له قرطبة مقتول لا محالة.
وقال ابن زيدون: وما عيب الرجل إذا أراد امتلاك قرطبة؟ إنه أقوى أمراء الأندلس وهو قمين بأن يملك جميع ولاياتها ويجعل منها دولة تهابها الإفرنجة ويخشى بأسها شذّاذ العرب والبربر. إن هذا الرجل لا يبرح من بالي كلما خطرت به فكرة جمع كلمة العرب.
فجعلت نائلة تقول: لا تبثَّ هذا السر لأحد، وإلا عدنا إلى مصائب الأغلال والسجون. ثم ضحكت وقالت: ولسنا نستطيع أن نغري مخلفًا بأكل الفالوذج في كل مرة!
وانفض المجلس، وأقام ابن زيدون شهرًا يهيئ فيه لفراره، وعزمت ولادة ونائلة أن تلحقا به بإشبيلية.
وفي إحدى الليالي انطلق ابن زيدون نحو إشبيلية بجواده في خوف وتوجس كما ينطلق السهم، ولفه الليل كأنه طيف نائم، أو خيال شاعر.
وأصبحت المدينة ولا حديث لها إلا فرار ابن زيدون، والتقى ابن عبدوس بابن المكري آسفين فرحين، لأنهما كانا يريدان القضاء عليه والتنكيل به، ولكنهما رضيا آخر الأمر بأن انفسح أمامهما الطريق وخلا لهما الميدان. وأرسل ابن جهور جنوده حول قرطبة للبحث عنه والقبض عليه ولو غاص في الماء، أو طار في الهواء، ولكنهم لم يجدوا له أثرًا بعد أن سلكوا كل مسلك، وقلبوا للبحث عنه كل حجر.
ومضت أشهر أوشك فيها الناس أن ينسوا فرار ابن زيدون، فأزمعت ولادة ونائلة الرحيل إلى إشبيلية، ولكن جواسيس ابن عبدوس أوصلوا إليه الخبر فنقله إلى ابن جهور وأغراه بمنعهما من السفر، فأرسل إليهما صاحب المدينة ينذرهما بسوء العاقبة إذا غادرتا قرطبة، ووضع حول داريهما الأرصاد والعيون.