الفصل الثاني
يمتد «طريق الخلفاء» على شاطئ الوادي الكبير بالجهة الجنوبية من قرطبة، وهو طريق طويل عظيم الاتساع، قامت على جانبيه الأشجار، واتَّسقت به دور الأمراء والوزراء والعظماء وكبار رجال الدولة، فبدت ضخمة سامقة، وغُرست أمامها الحدائق مبتسمة ناضرة فيَّاحة تُزْهَى بما حوت من أزهار غريبة النوع رائعة الألوان.
كانت الشمس لا تزال تتثاءب في خدرها بعد ضجعة ليل طويل، وكانت أشعتها تتكسَّر على صفحة النهر الكبير كأنها كانت تُقبّله قبلة الصباح، وكان الطريق هادئًا خاليًا من السابلة إلا قليلا، فلم تكن تسمع به إلا أصوات الملاحين من بعيد، وهم منحدرون إلى إشبيلية، أو صوت خادم طروب هزَّتها الأريحيّة وهي تنظف بعض الحُجَر، فانطلقت في نَغم خافت تعيد الأغنية التي سمعتها بالأمس من بعض القِيان اللاتي كن يغنين لسيدها في مجلس أنسه وشرابه. ومجالس الأنس والشراب بقرطبة لا تكاد تخلو منها ليلة في بيت عظيم أو أمير. إن الأندلسيين خُلقوا للطرب، وعاشوا على الطرب، ولو فجأهم الموت ما لَقِيهم إلا بين زِقّ وعود.
تيقظت ولادة بنت المستكفي في هذا الصباح كما يتفتح الزهر الوسنان بلَّله الندى، وداعب أوراقه النسيم، فأسرعت إليها وصيفتها مهجة القرطبية تحيّيها وتدلّلها في محبة وشغف، كما تدلّل الأم طفلتها اللعوب.
وولادة — إلى كل هذا — أديبة شاعرة، يغَشى ندوتها كبار الأدباء والشعراء فيرون أجمَل ما يُرى، ويسمعون أحسن ما يُسمع.
قامت ولادة من سريرها فنالت ما تحب من طعام، وبعد لأي همَّت بارتداء ثيابها، فأعدَّت لها مهجة ثوبًا من الحرير البنفسجي الموشَّى بالذهب، أتقن نسجه، وأحكم تفصيله، فوقفت أمام مرآتها، وقد لاح في وجهها شيء من الدهَش، كأنها كانت تبحث لها عن مثيلة بقرطبة فوجدتها في المرآة! وهنا قالت مهجة وهي تنظر إلى صاحبتها في إعجاب وزهو: لو علم ابن جهور بأن مناسج الحرير بالمرية ستخرج مثل هذا الثوب في فتنته وإغرائه، لمنع ورود كل ثوب مثله إلى قرطبة.
فتهانفت ولادة وقالت: إن هذا الرجل عبقريّ في الرياء يا مهجة، وهو لا يُظهر التحرّج والزهد إلا تملّقًا للفقهاء الذين لو أرادوا لأطاحوه عن عرشه في لمحة عين.
– إنه يا سيدتي أمر بمنع شرب الخمر، وكان الاحتفاء بكسر دِنانها عظيمًا في ميدان الجامع الكبير، وقد مدحه شاعر قرطبة أحمد ابن زيدون بقصيدة رائعة جاء فيها:
فرفعت ولادة رأسها كالمفكرة وقالت: ابن زيدون؟! هذا فتى يزاحم حول سلَّم المجد، ولكنه يلاقي أقدامًا أثبت من قدمه، وسواعد أشدَّ من ساعده. وهو يبيع نفسه رخيصة في سوق الحسان. والمجد وعبث الشباب لا يجتمعان!
– إنه يا سيدتي فتنة أهل قرطبة، وبطل أحلام كل فتاة، وقد أصبح شعره أنشودة في كل فم، وقٌرْطًا في كل أذن. غنى به المغنون، وأنشده المنشدون، ولا يكاد يخلو مجلس في قرطبة من إنشاد أبيات له تهتزُّ لها الأعطاف، وتطرب النفوس.
ذهبتُ يوم الثلاثاء الفائت على عادتي إلى دار مريم العَروضية، لأحضُر بعض دروسها، لأنها تعقِد في دارها مجالس لتهذيب بنات العظماء والأشراف في اللغة والأدب.
– أعرفها وأعرف أن كثيرًا من أدباء قرطبة يأخذون عنها، وأنها تحفظ «الكامل» للمبرد و «النوادر» لأبي علي القالي.
– نعم يا سيدتي. جلسنا في بهو فسيح في دارها، وكان هناك بعض الفتيات الجميلات اللاتي تظهر عليهن آثار النعمة، ودلائل الثراء، وأخذت مريم تتحدث عن الشعر في إشبيلية، وما يبدو من الفروق بينه وبين شعر قرطبة، ثم أنشأت تشيد بشاعر إشبيليّ سمّته أبا بكر، زعمت أن له غزلا رقيقًا، وأسلوبًا ناعمًا، وخيالا لطيفًا، وأنشدت له:
وما كادت تنشد البيتين يا سيدتي حتى انبرت لها فتاة طلقة اللسان، حاضرة الخاطر قويَّة العارضة تقول: إنني لا أريد أن أباهي بمدينتي يا سيدتي، فكل ما يشرّف بقعة من الأندلس يشرفني، والشعر والأدب ليس لهما وطن، ونحن نعتز بأشعار المشارقة كما نعتز بأشعارنا، ولكن الشاعر الإشبيليّ الذي أطنبت في الثناء عليه لا يصل إلى مواطئ أقدام شاعرنا ابن زيدون. أما بيته الأول فهُراء مكرر لم يُرد به إلا الدخول على البيت الثاني، وكلمة «بلا مرية» حشو سخيف. على أني لا أرى في البيت الثاني إلا معنى مبذولا ملقًى على الطرق، فتشبيه الخد بالورد والياسمين تشبيه قديم، سئم منه الشعر، ومجّه الشعراء. فأسرعت مريم تقول: نعم يا فتاتي، إن تشبيه الخد بالورد والياسمين قديم، ولكن الشاعر كوّن من هذا التشبيه صورة جديدة، هي صورة ما يدرك الحبيب من الخجل عند ملاقاة حبيبه فجأة، فتطغى حمرة خديه على بياضهما.
فهزت الفتاة رأسها في عناد وقالت: وتعجبك «لا سيما» هذه التي جاءت في أول البيت فكانت أشبه بعبارات الفقاء؟ أين ذلك يا سيدتي من قول ابن زيدون؟
هذا شعر لو نسب إلى ابن المعتز لأنساه نكبته، ولأسلاه عن زوال ملكه.
وهنا صاحت فتاة عصبية المزاج تقول: نعم إنه الشعر الذي يُغنى وحدَه بغير موسيقى. والمؤلم أن يشبَّه دعاة الأدب شاعرنا بالبحتري، وهل يستطيع البحتري أن يقول؟
فقالت مريم: هذا كرم لا مراء في حسنه، وفضل شاعرنا ابن زيدون لا يجحده جاحد، حتى لقد قال بعض أدبائنا: من لبس البياض، وتختَّم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظَّرْف كله.
وهنا تحركت ولادة في مجلسها متأففة وقد بدا على وجهها السأم وقالت: أنت متعصّبة لهذا الرجل يا مهجة.
– لست متعصبة، ولكني أحسُّ لشعره حلاوة لا أجدها في سواه، ولا أعيب على الرجل إلا شيئًا واحدًا: هو صداقته لعائشة بنت غالب! أتعرفينها يا سيدتي؟
– أعرفها، وأعرف أنها فتاة غيور، تُظهر للناس غير ما تبطن، وأن لها نفس نمِرة في جسم امرأة وأن صاحبك ابن زيدون صبّ بها مفتون.
– من أخبرك بهذا يا سيدتي؟
– أخبرتني امرأة تعرف كل شيء في هذه المدينة، فلو غاب دلو في الوادي الكبير لعرفت مستقرّه ومستودعه. ولكنها غِرْبال أسرار. تقول لك الخبر في صوت خافت. وتستحلفك بأغلظ الأيمان ألا تبوحي به لإنسان. فإذا تجاوزتك إلى الباب أخبرت خادمتك نفس الخبر. وكرّرت عليها نفس الأيمان. وهي من الخيَّرات الكريمات. تفنى في محبة أصدقائها، ولا تأخذها رحمة في البطش بأعدائها.
– من هذه بالله عليك يا سيدتي؟
– كنت أظنك أذكى من ذلك وأفطن.
– إن اسمها يجري على لساني. ولكني أبغض الرجم بالظنون. أليست هي نائلة الدمَشْقية؟
– هي هي يا حبيبتي بعينها تحفة قرطبة. وعجوزها المدللة. وهل يخفى القمر؟
– إنها امرأة بارعة أديبة. لها أسلوب عجيب في اجتذاب الرجال. والتسلط عليهم وإخضاعهم لأمرها، لا يوصد في وجهها باب، ولا تخلو منها ندوة، ولا تُحجب دونها أسرار القصور. ودارها ملتقَى شباب قرطبة، حتى لكأنها حينما يئست من بشاشات الشباب، أرادت أن تراها في سواها. والغريزة إذا عجزت قنعت بالنظر، واكتفت بالخيال.
وبينما هي منهمرة في الحديث، إذ دخلت عُتبة جارية ولادة تقول: إن سيدتي نائلة الدمشقية حضرت الساعة، وهي تنتظر في بهو الورد. فنظرت ولادة إلى مهجة في ابتسام وعجب وقالت: لو ذكرنا الشيطان ما جاءنا هكذا وثبًا! ما سبب هذه الزيارة في تلك الساعة يا تُرَى؟ فهزّت مهجة كتفيها، ومطَّت فمها تقول: أغلب الظن أنها جاءت للحديث وإطلاق عنان اللسان، وذكر أخبار المدينة وما يجري فيها من خير وشر.
كانت نائلة طويلة بادنة مترهلة اللحم، سطت على وجهها التجاعيد، وعلى جلدها آثار السنين، فعجزت التطرية، ولم تُجد الأدهان والأصباغ في إصلاح ما أفسد الدهر إلا قليلا، واستبدّت الطبيعة فأبت إلا أن تظهر آثارها، على الرغم مما يبذل في سبيل إخفائها من صنعة وفنون. كانت شاهدًا صادقًا على جريمة السنين، ومثلا قائمًا لمن يترك خلفه أجيالا ليدخل في جيل جديد. ومن العجيب أن الدهر مع عبثه بجمالها، لم يستطع أن ينال من سحر عينيها وحسن صوتها، فقد كان للمحاتها بريق ولألاء لا تعتزّ بهما فتاة في العشرين وكان لصوتها رنين ونغم لم تظفر بمثلهما أفنان الخمائل.
فابتسمت ولادة ابتسامة مشرقة وقالت: إن هذه الفتاة يا سيدتي تُكنُّ لك أخلص الحب وأصدق الوفاء، ولولا وعكة أصابتني ما حجبني عن زيارتك حاجب.
– إنه البرد يا سيدتي! حاذريه ولا تستهيني به، فإنه كالحب يبدأ خفيف الوقع ضعيف الأثر، ثم يعظم ويستشري حتى يصبح داء عضالا. ثم اعتدلت في جلستها وقالت: أتخرجين في المساء يا بنيَّتي؟ نزهة مثلا في قارب في ليالي البدر، أو قضاء ليلة في مُنية الرَّصافة، أو تسلية مع بعض الصديقات في حانة «راميرز» فإن بهذه الحانة فتيات أسبانيات لهن رقص عجيب.
– أحيانًا قليلة يا سيدتي.
فتنهدت ولادة وقالت: عجيب أمر هؤلاء القوم يضيقون من فضل الله ما اتسع وعظُم.
فصاح الشيخ من الطرب، وصفق بيديه في مرح خرج به عن وقاره، فلما عاد إلى نفسه قال: اعذرني يا بنيّ فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: الصوت الحسن، والشعر المطبوع الرقيق.
وسمعت أن محمد بن عبد الله قاضي الجماعة في عهد الناصر خرج يومًا لحضور جِنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بالقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل، وأحضر له طعامًا، ودعا جارية له فغنَّت:
فطرب القاضي، وكتب الأبيات على يده، ثم خرج للصلاة على الميت فرأى الناس الأبيات على ظهر يده، وهو يكبر على الجنازة. وقد كان هذا القاضي من أزهد الناس وأعدلهم حكمًا. والحقيقة يا فتاتي أن الإنسان إذا خشِيَ ربه في السر والعلانية، واجتنب كبائر الإثم والعدوان، فله أن ينعم بكل ما خلق الله من متاع حلال. ثم حدَّقت في وجه ولادة كأنها تريد أن تستكشف ما وراءه من أسرار وقالت في دُعابة: ومن الفائز الأول الآن في خِطبة سيدة الحسن والجمال؟
– أيُّ فوز وأي حسن وجمال يا نائلة؟ فتكلفت نائلة العبوس وقالت: أنت لا تكتمين عني شيئًا يا بنيتي، وما فائدة الكتمان وقد أصبح الأمر حديث الناس، ومدار سمرهم؟ حتى كاد كل غصن من حدائق قرطبة ينادي صاحبه هامسًا: ولادة وابن عبدوس، ولادة وابن عبدوس!
– إن ابن عبدوس يزور ندوتي كل ليلة، وهو فتى أديب شاعر عذب الحديث حلو النادرة.
– آه من عذوبة الحديث وحلاوة النادرة؛ إنهما يا فتاتي أول ما ينصبه الرجل لنا من حبائل. سليني يا ولادة عن شئون الحياة قبل أن تفقديني. إنني سجلُّها الجامع الذي يجد فيه كل جائر ما يهديه ويسدّد خُطاه. ابن عبدوس رجل عظيم متألّق، ابن عبدوس شاعر مجيد وكاتب فذ. ابن عبدوس وزير له جاه ومكانة، غير أنه ذئب لا يؤمن جانبه، ولا تُرجى عواقبه، وكفاه وصمة اسمه الأسبانيّ الذي يدل على سوء أصله، والذي يجب أن يقصيه عن أن يأمُل في الاتصال ببنات الخلفاء، هذا أسقطه من حسابي، وأحسب أنك تسقطينه من حسابك أيضًا، وبين شباب قرطبة من ذوي الحسب والمجد من يهبون حياتهم ليشرفُوا بالتزوج بك، ولكن الذي آخذه عليك يا بنيتي أنك طير لا يستقر على غصن، ولا يطمئن إلى ركن. أنت شديدة الطموح يا فتاتي، وكلما ظفِرت بشيء هان عندك، لأنك ظفرت به، فطلبت غيره مما يصعب مناله، أنت تائهة في بحر الحياة المائج، والسفن تمرُّ بك، فإذا تشبَّثت بسفينة ظهرت لك في الأفق أخرى، فغادرت الأولى وألقيت بنفسك إلى الثانية. إن مجلسك يحوي أكرم فتيان قرطبة أرومة، وأشرفهم منبتًا، وأنت تُلهين هذا بابتسامة، وهذا بهزّة رأس، وهذا بكلمة طيبة، وذاك بوعد كاذب، لا لأنك لا تحبينهم جميعًا، بل لأنك ترغبين في مهلة حتى يهتدي قلبك الحائر، أو عقلك المملوء بالمطامح إلى من يحسُن اختياره، ومن تتحقق به الغاية التي ترمين إليها. أنت يا سيدتي كالبخيل الذي حبس ماله فلا يبيع ولا يشتري مخافة أن يُغبن في درهم أو درهمين. أسرعي الاختيار يا فتاتي، فإن للشباب أوانًا، وإن الورد إذا ذبل لم يبق منه غير أشواكه! أسرعي الاختيار يا ولادة، وابتعدي عن كل ما يمت إلى أصل قوطيّ أو بربري، فإني لا أحب البربر. إنهم يُدلُّون علينا بطارق بن زياد، وأنا لا أحب طارقهم هذا. وأين هو من موسى بن نصير أو من ابنه عبد العزيز الذي قتله البربر؟
– دعينا بالله يا نائلة من ذكر البربر ومن ذكر الزواج، وخذي في الحديث عن المدينة وما فيها من أخبار وأسرار.
– المدينة هادئة، ولكني أظنه هدوءًا لا يدوم، إنه يا سيدتي هدوء الطفل الغضبان، الذي طلب لعبة فلم يظفر بها، فطفِق يبربر ويهمهم، حتى ملّ البربرة والهمهمة فسكت على دخَل، وتربص لفرصة الوثوب. إن القرطبيين يا ولادة لا يرضوْن بغير الخلفاء بديلا. إنهم يحبون الخلافة، ويعشَقون مظاهرها، ويحنون إلى مراسمها. هاتي لهم خليفة من فَخَّار ثم انظري كيف يجلّونه ويبجِّلونه؛ إنهم رضوا حينًا بحكم المنصور عن ابن أبي عامر الحاجب، لأنه بهرهم بتوالي فتوحه وانتصاره، ولولا ذلك ما صَبروا عليه يومًا أو بعض يوم. وهذا الحكم الذي ابتدعه لنا ابن جهور — ثقي يا فتاتي أني أحب الرجل وأكبر فيه الإخلاص والنزاهة — هذا الحكم الذي يشترك فيه جماعة لسياسة الدولة وحياطتها لا أستطيع استساغته.
– إنهم يقولون إن ابن جهور نقله عن قدماء الإغريق والرومان.
– لا إغريق ولا رومان يا ولادة. وإنما الرجل رأى رءوس من استبدّوا بالحكم قبله تتدحرج من عروشهم، فاحتاط لحياته، واختبأ وراء جماعة ليحكم من غير أن يكون له اسم حاكم أو تبعته.
– إنك تعرفين كل شيء يا نائلة!
– إنني أعرف سرَّ كل رجل وسرَّ كل امرأة في هذه المدينة، ولولا ذلك ما لقيت منهم كل هذا التبجيل. إن الإنسان يخضعه الخوف، ولا يخضعه بذل المعروف.
وما كاد ابن زيدون يسمع مني هذا الخبر حتى ذُعر واصفر لونه، وهاله الأمر، وأكثرُ ظني أنه سينفلت منها قبل أن تُحكم انطباق الشبكة. إن ابن زيدون يا ولادة أبرع كاتب، وأصدح شاعر في جزيرة الأندلس جميعها، وسيكون له شأن أي شأن، وأولى بك أن تجتذبيه إلى ندوتك التي تزخر بأدباء قرطبة وعظمائها.
فتململت ولادة في مجلسها قلقة مضطربة، وطاف برأسها أنها لم تسمع منذ الصباح إلا حديثًا عن ابن زيدون، ومواهب ابن زيدون، وفتنة الناس جميعًا بابن زيدون. وهي ترى في الرجل وفي أدبه ما تحنُّ إليه نفسها الطموح، ولكنها كانت تخاف إن هي وصلت به حبالها، واتخذته لها زوجًا، أن يبقى كما هو أديبًا شاعرًا، دون أن يكون له من صفات الرياسة وعلو المكانة ما يحقّق آمالها.
أذهلتها هذه الأفكار عن جليستها وقتًا قصيرًا، ثم سمعت نفسها تقول:
– إن ندوتي يا نائلة لا تتسع لصغار الكتَّاب. وما كادت تتمُّ عبارتها حتى ملأت نائلة فضاء البهو قهقهة، وصاحت في عجب ودهشة:
– ابن زيدون من صغار الكتَّاب؟! أتعيشين يا ابنة الخليفة في قرطبة، أم فوق السحاب، أم وراء سدّ يأجوج ومأجوج؟ أسرعي يا سيدتي فقد فاتك الركب، ثم هاتي أذنك أحَدِّثك بسرّ أقسمت على أن أكتمه وألاَّ أبوح به لأحد. ثم قالت في صوت خافت: إن ابن جهور يضع عليه عينه ليوليه منصب الوزارة بعد وقت قصير.
فظهرت الدهشة على وجه ولادة، وأحسَّت نائلة أنها تشك في صلتها بابن جهور، وفي أنه يتخذ منها موضعًا لسرّه، فقالت في هدوء: إن ابن جهور رجل داهية قناص للفرص، يعرف أين يجد ما يطلبه، ويعرف كيف يستعين لما يطلبه، وقد عرَف صلتي بالوزارء وكبار الدول ورؤساء الجماعة، وعرَف أن أخبار قرطبة تتزاحم على بابي كما يتزاحم الموج على ساحل البحر الأخضر، فليس بعجيب يا سيدتي أن يزورني بين الحين والحين، وليس بعجيب أن يتحدث إليّ في شئون الدولة. وقد جرى ذكر ابن زيدون على لساني عندما زارني آخر مرة ورأيت وجهه ينقبض وينبسط هكذا كما تنقبض وتنبسط يدي هذه. فقلت له: ألا يعجبك الرجل؟ فابتسم وقال: يعجبني، ولكن الذي أخشاه أن يجني عليه ذكاؤه، وتتعثر به مطامحه. هذه كانت عبارة الرجل كما قالها. فقلت له: إنه خير ألف مرة من وزرائك المهازيل عبيد الحسان، الذين هم دائمًا زينة المحافل، وهزيمة الجحافل، والذين لا يحبون أن يروا كأسًا فارغة أو مملوءة: فإن كانت فارغة ملئوها، وإن كانت مملوءة أفرغوها في بطونهم، فابتسم ابن جهور متألمًا وقال: وابن زيدون صاحبك أسبقُهم في هذا الميدان، وأخبرهم بقلوب الحسان، وقد سمعت أخيرًا بصلته بعائشة بنت غالب، وأنت تعلمين من أمرها أكثر مما أعلم. فاجترأت على الكذب وصحت في وجهه: إنه تركها وقطع صلته بها. فأجاب: هذا حسن، هذا حسن. ثم هزّ كتفي بيده مازحًا وقال: إن ابن زيدون رجل ستطلبه المناصب قبل أن يطلبها، وثقي أنه سيكون وزيرًا بعد أيام. فقلت له: إن الدولة في أشد الحاجة إلى رأيه وإلى قلمه وإلى دهائه، وإن حبّ القرطبيين له سيجمع حول دولتك الكلمة، ويحول دون الثوارت التي هزّت عروش من سبقوك، فهل أسمع غدًا أنك اخترته وزيرًا؟
ثم اتجهت إلى ولادة وقالت: أتعجبك هذه الصراحة يا فتاتي؟ فتكلفت ولادة الابتسام وقالت:
– وبم أجابك؟
– لم يقل شيئًا، غير أنه حينما همّ بالقيام همس في أذني قائلا: لقد تبسَّطنا الليلة في الحديث فوق ما كنت أريد يا نائلة، فاكتمي هذا السر واجعليه بيني وبينك، ولا تشركي فيه ثالثًا.
ثم قهقهت وغمزت بعينها وقالت: أرأيت كيف أني حفظت السر ولم أشرك فيه ثالثًا؟
– وعلى هذا سيصل ابن زيدون إلى منصب الوزارة غدًا أو بعد غد؟
– بعد ثلاثة أيام، ودعيني الآن أذكر لك ما قدمت لأجله، إني سأدعو ابن زيدون وأصحابه من كبار الكتاب والشعراء والوزراء، وسأدعو أجمل فتيات قرطبة وأشرف أسرها، وستكون ليلة مشرقة ضاحكة قلّ أن يجود بمثلها الزمان. وقد جئت لأدعوك، فإن ندوة لا تكون بها ولادة بنت المستكفي تفقد روح المرح والجمال والبهجة والسرور. أرجو يا سيدتي أن تشرفيني بقبول هذه الدعوة.
ففكرت ولادة قليلا، ومرّ بخيالها أن القَدَر يريد أن يجمعها بابن زيدون، وأنها كيفما حاولت لا تستطيع الفِكاك من أيدي القدر، فأجابت: إني أقبل هذه الدعوة مسرورة مغتبطة، وأشكرك أجزل الشكر على هذه العناية.
وتحركت نائلة للقيام، وتكررت القُبُلات للوداع، وغادرت البهو بعد أن ملأته حديثًا مختلف الفنون، كثير الشجون.
فضحكت نائلة وقالت: أهذا ما يقلق بالك، ويكدر صفاء وجهك الوسيم؟ اكتب إليها الآن رسالة موجزة فاصلة تقطع كل ما بينكما من صداقة، ولا تبال ولا تأبه لما تجرّ من عواقب.
– لا أستطيع يا نائلة وأخاف …
هذه آخر رسالة إليك، فلا تطمعي بعدها في لقاء، وحصّني نفسك باليأس، فإن نفسي إذا انصرفت عن الشيء فلن تعود إليه.
ونادى خادمه عليًّا وأمره أن يسرع بالرسالة إلى دار عائشة. ثم اتجه إلى نائلة يقول: أسمعت بقصة طارق بن زياد حين أحرق سفنه على شاطئ بحر الزقاق؟ أنا اليوم أحرقت سفني، ولله الأمر من قبل ومن بعد!