الفصل الثالث
عرضنا على القارئ صورة لنائلة الدمشقية بقدر ما يستطيع القلم أن يصّور، وتركناه يستشفّ صفاتها وطبائعها وأسلوب حياتها من حديثها الفياض الطويل الذيول، الحائر المذاهب، الذي يطرُق كل باب، ويسلك كل سبيل. ولا نريد أن نتبرع للقارئ بذكر ما نعلم من حقيقة مِزاجها وفلسفتها في الحياة، حتى لا نفسد عليه نهج تفكيره. على أنه قد يصل بنفسه وبالقليل مما مرّ ويمر عليه من أحوالها إلى أكثر مما نعلمه، أو إلى أدقّ مما نزعم أننا نعلمه. وأعظم ما يفسد على المرء تفكيره أو يشوّه خياله، أن تخبره بكل شيء فلا تدع لتفكيره أو خياله مجالا يجول فيه، ويخلُق من الصور ما تطمئن إليه نفسه.
كانت أسرة نائلة من الأسر الطارئة على الأندلس، استدعى عبد الرحمن الناصر لدين الله جدّها من الشام سنة ثلاثين وثلاثمائة، وكان ذا معرفة بزراعة الأرض وطرق استنبات الفاكهة، فوكل إليه شئون ضياعه الواسعة، فقام عليها أحسن قيام، وأشرف أدق إشراف، وبذل فيها من جهده وفنه خير ما يبذُل العامل القويّ الأمين، حتى أصبحت بعد سنوات جنات وافرة الثمار، كثيرة الغلَّة، فمنحه الخليفة جزاء إخلاصه أرضًا تقرب من قرطبة تمتدّ على شاطئ الوادي الكبير إلى مسافة بعيدة، فعمل فيها الدمشقي جادًّا، ونقل إليها من الشام كثيرًا من أشجار الفاكهة مما جعلها مضرِب المثل في النماء والازدهار، وأخرجت من أنواع الثمار ما يندر أن يكون له مثيل في المشرق، فزاد دخْله، وعظمت ثروته وأصبح من كبار أثرياء المدينة، ولما أدركته المنيَّة، ترك ثروته لابنه الذي لم يرزق سواه. وكان ابنه قد تزوج فتاة جميلة لها مجد ومكانة وثروة، فولدت له نائلة. ثم مرت سنون مات في غضونها أبو نائلة وترك لها مالا وجاهًا. وتزوجت بعد وفاته أحد أبناء عمومتها فسعِدت بزواجها، غير أن سعادتها لم تدم طويلا فمات لها ولد في ريعانه، ثم قُتل زوجها في أعوام الفتنة، قتله البربر فيمن قتلوا في ذلك اليوم العصيب حين دخلوا قرطبة عَنوة لإعادة المستعين بالله إلى عرش ملكه. وقد حزِنت نائلة لفقد زوجها، غير أن الحزن ككل شيء في هذا الوجود قلِق ملول، لا يلازم أصحابه طويلا. فما كاد يمرّ عام أو بعض عام حتى عادت إلى مرحها وما فطرت عليه من لهو وإسراف. كان لها مال وجمال وفراغ، وكانت لها ثروة من أدب وتثقيف ولطف حديث ودُعابة حلوة، وكان أظهر ما تمتاز به بين أترابها إجادتها اللغة الأسبانية، شُغفت بها منذ نشأتها، وتلقتها عن أساتذة من اليهود والقساوسة الأسبان. كانت امرأة ضحوكًا تحب الحياة وتعشق كلّ ما فيها من بهجة ونعيم، فأصبحت ندوتها حافلة بوزراء قرطبة وعظمائها وأدبائها.
جلست نائلة في سريرها تتثاءب في تكاسل. ثم دعت إليها سُعْدى قَهْرَمانة القصر فاتجهت إليها وقالت: أريد أن تبذُلي كل فنونك في أن تكون حفلة الليلة من أروع ما صُنع بقرطبة من حفلات، لا تدّخري مالا، ولا تتحرّجي من لوم المتزمَّتين، وقد أعلمتك أمس بضيوفي، ولكل منهم ميل، ولكل منهم نزعة، فأعدّي لكل واحد ما ترتاح إليه نفسه، ثم أعدّي لهم جميعًا ما يبعث المرح ويطلق النفوس المكبوتة، أريد أن تتحدث قرطبة كلها بما يكون في هذه الليلة من مبتدعات السرور أريد أن أعيد بها عظمة الأندلس، ومرح الأندلس، وعبث الأندلس، فماذا تقولين؟
– فأطرقت سعدى كالمفكرة، وأخذت تمر بسبابتها فوق جبهتها ثم قالت: أما أنواع الطعام وألوانها فقد دوّنتها في صحيفة بالأمس، وهي تجمع كل ما يخطر وما لا يخطر ببال من لذائذ الطعام، وبقبو القصر كلّ صنوف الشراب، وكل رحيق مختوم مزاجه من تسنيم. أما ضروب اللهو الأخرى فإني أنتظر أمرك فيها.
– أرسلي إلى «غاية المنى» المغنية، وإلى «جُمانة» الراقصة، ثم إلى الراقصات الأسبانيات «بحانة راميرز»، وادعي «الزرافة» المضحك الممخرق، ولا تنسي يا سعدى شيئًا مما يبهج النفس ويثير الطرب. وهذا مفتاح خزانتي فخذي منها من المال ما شئت.
وما كادت سعدى تغادر الغرفة حتى دخلت إحدى جواريها لتنبئها بأن امرأة محجَّبة الوجه تلح في لقائها، وتأبى أن تبوح باسمها، أو تذكر حاجتها. فأطرقت نائلة طويلا، ثم رفعت رأسها وقد طافت بوجهها ابتسامة طائرة، وقالت: دعيها تدخل يا نشوة. فدخلت بعد قليل امرأة ملففة بخمارها، كأنها قطعة من الليل، فلما جاوزت باب الغرفة، رفعت قناعها فإذا هي «غالية» جارية عائشة بنت غالب. وبعد أن حيَّت نائلة قالت: إن الحرب يا سيدتي في دارنا قد صُفَّت جنودها، وأرهفت سيوفها، ولن تمضي أيام حتى يندلع لهيبها في أرجاء قرطبة.
– أعرف يا غالية أن عائشة ممن يحرق مدينة بأسرها ليقتل فيها عدوًّا واحدًا، وأعرف أنها لن تترك لعدوها فرصًا ليُعدّ عدته أو يأخذ حِذره، ولذلك سبقت للاستعانة بك لتكوني ناقوس الخطر بيننا وبينها حتى نستطيع إحباط كل شرّ تدبّره، وإخماد كل نار تشعلها. ماذا فعلت حينما وصلت إليها رسالة ابن زيدون؟
– أرأيت جبال النار يا سيدتي؟ كانت جبل نار. أرأيت البحر الثائر حينما يشتد النوء، وتعصف الزعازع. كانت البحر الثائر. أرأيت ….
– كفى يا غالية! أعرف كل هذا وأكثر من هذا، ولكني أريد أن أعرف ما اعتزمته، أريد أن أعرف السلاح الأول الذي اختارته، ثم ناحية الهجوم التي تصوّب إليها سهامها.
– إن سلاحها الأول مسموم قاتل يا سيدتي، وهو أحطّ سلاح وأحقره، وقد تبيَّنت من حديثها أن سيدي ابن زيدون أيام تدلهه في هواها، لم يحترس ولم يحترز، فكان يبعث إليها برسائل فيها سخرية وتندّر واستخفاف بعميد الجماعة ابن جهور ورجال دولته. وقد حفظِت الملعونة هذه الرسائل في خزانتها لتشهرَها في وجهه إذا حدثته نفسه بالانفلات من يديها. وأعلنت بالأمس في صراحة أنها ستضع هذه الرسائل في يد ابن جهور.
– ويل للفاجرة! إن لها شيطانًا عبقريًّا. أهكذا ونحن على أبواب الوزارة تنقضّ علينا هذه الحية الرقطاء لتفسد كل شيء؟ ثم صمتت طويلا وقالت: سأزورها غدًا يا غالية ثم يكون ما يكون. أين تضع هذه الرسائل؟
– في خزانة بجانب مرآتها بالغرفة الغربية.
– وأين تحفظ مفتاح الخزانة؟
– إنها لا تتركه يا سيدتي في يقظة أو في منام، فهو دائمًا معلّق بخيط من حرير في عنقها.
– حسن يا غالية، حسن جدًّا. وهنا عادت إلى وجه نائلة ابتسامته، ومدّت يدها تحت وسادتها، فأخرجت قبضة من دنانير ألقتها في يد غالية وهي تقول: شكرًا يا فتاة. إن خبرك هذا يساوي أضعاف هذه الدنانير. ثم سألت كأن خاطرًا جديدًا عرض لها:
– ألا يزال ذلك الأسباني الطالب بجامعة قرطبة يزورها؟
– يزورها الآن قليلا يا سيدتي.
– هل بينها وبينه صلة غرام؟
فابتسمت غالية وقالت: لا يا سيدتي، إنه شاب دميم سقيم الجسم، لا يتحدث إلا عن دروسه بالجامعة، وأساتذته بالجامعة.
– لعل وراء الأكمة ما وراءها يا غالية!
– يجوز يا سيدتي، ولكن لا يظهر لي إلى الآن من زيارته شيء إلا أن عائشة تعطف عليه لأنه أسباني، ولأنه طالب علم فقير.
– ما اسمه؟
– أسبيوتو. وهو يدرس الطب على ابن زُهر.
– أسبيوتو! يدرس الطب على ابن زُهر! ثم تنهدت وقالت: ندع هذا الرجل الآن. ولكن افتحي عينيك يا غالية والله معك ومعنا. فشكرتها الفتاة وخرجت محجَّبة كما دخلت.
وجاء المساء، وتوافد على القصر وزراء قرطبة وعظماؤها وشعراؤها، وأديبات قرطبة وكرائم أسرها. وكان بين الجمع من كبار المدعوّين أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأبو حفص بن بُرد، وأبو مروان بن حيان المؤرّخ، وابن زيدون، وابن عبدوس، وابن الحنَّاط الكفيف الشاعر الطبيب. وكان بين المدعوات أم العلاء الحِجازية الأديبة الشاعرة، ومريم العَروضية مولاة ابن غَلْبون، وقد ازدان الجمع بكثير من الفتيات اللاتي نشأن في النعيم، ودرجن في باحة العز والثراء، وصوّرهن الله فتنة لخلق الله في هذه الأرض. والجمال العربي الأسبانيّ مزيج عجيب من سحر الشرق وقسامة الغرب، وصورة رائعة لما تستطيع أن تُبدعه الصحراء الجافية إذا نعِمت بالظل والماء، ونفحها بَرد الشمال. وإذا أضيف إلى هذا الجمال لطف الحديث وأدب الطبع ونزاهة الخُلق، كان فتنة العيون، وشرك الألباب.
وبعد قليل وصلت محفة ولادة ومهجة القرطبية إلى القصر، فهرعت نائلة للقائهما، وأقبل الضيوف إليهما يحيّونهما في حفاوة وتكريم. وحينما تقدم ابن زيدون لتحيَّة ولادة، قالت نائلة: هذا يا ابنة الخليفة شاعر قرطبة أحمد بن زيدون الذي جعل شعره مرايا للحسان، فمدت ولادة يدها إليه في ابتسامة زهراء وقالت: أرجو أن تكون مراياك صادقة يا سيدي، فبُهِر ابن زيدون وتلعثم لسانه، ثم قال: إنني يا سيدتي سأحطم مرايا شعري كلَّها، لأنها أصبحت لا تعجبني، وسأصطنع مرآة جديدة لأجمل فتاة في أرجاء الأندلس.
فأرسلت ولادة ضحكة هادئة، ثم قالت في صوت ساحر، ودهشة مصنوعة: أجمل فتاة في أرجاء الأندلس؟ من هي؟ ليتني كنت أعرفها!
– قرأت في بعض أساطير قُدامى الأسبان يا سيدتي: أن الله حينما خلق الجمال وسوّاه على أبدع صورة وأحسن تقويم، انطلق مع الناس في الأرض يضطرب فيما هم فيه يضطربون ويعيش كما يعيشون لا يمتاز عنهم بميزة، ولا يختص بكرامة.
وبينما كان يشرب من غدير ساكن، إذ رأى خيال وجهه في الماء، فبُهر لما راعه من قسامة وجهه، ووسامة طلعته، وإبداع الخالق العظيم في تكوينه، وسخط على الناس لأن لهم عيونًا لا ترى، وقلوبًا لا تنبِض بعاطفة. ثم أخذ طريقه إلى مأواه حزينًا كاسف البال، فلما طال حزنه، هبط عليه ملَك من السماء فبثَّه الجمال آلامه، وشكا إليه إهمال الناس إياه، وأن الله وهب له نعمة ولم يخلق من يقدُرها ويعرف لها قيمتها. فرقّ الملك لشكواه، واستجاب الله بعد قليل لدعائه، وخلق في الناس الحب، فتهافتوا على الجمال، وتراموا نحوه، وأخذوا يصيحون حوله بكلام مختلط مضطرب، حتى كادوا يُصمون أذنيه. ففر الجمال منهم إلى الغابة فزِعًا مكدودًا، برِمًا بما سمع من صيحات جافية، وأصوات نابية، قد تدل على حبّ، ولكنه حبٌّ عنيف قاس، خلا من الحنان، وأجدب من رقَّة العاطفة. عاد الجمال يبكي، فهبط عليه الملك غاضبًا في هذه المرة وقال: مم تبكي أيها الجمال؟ فأجابه: إنني أبكي لأن الله أنعم عليّ بنعمة عادت نقمة وشرًا مستطيرًا، حتى أصبحت أوثر عليها الموت، ليتني كنت دميما، فإني أرى كل دميم يعيش في أمن وعافية. أما أنا فمن الصباح إلى المساء يحيط بي قوم غلاظ عابسو الوجوه، يدقون صدروهم، ويعوون في وجهي عُواء الذئاب الجائعة، إن كان هذا هو الحبّ، وإن كان هذا الصياح اليابس في لغة البشر تقديرًا للجمال، فإني في غنى عن هذا الحب، وفي غنى عن هذا التقدير، وأتمنى لو عدت كأول عهدي بين قوم لا قلوب لهم، فقد كنت — على تَعس ما كنت فيه — قرير النفس هادئًا مطمئنًّا.
فأشفق عليه الملك، وسأل الله أن يمنح الناس الشعر، فأجاب الله سؤاله، وخلق فيهم الشعر، وخلق معه الغناء والموسيقى، فاتجهت هذه الفنون إلى الجمال في أدب المتوسل، وذلة المستعطف، وأرسلت أصواتها رخيمة صدّاحة، تصوّر خوالج النفس ولواعجها في نغم تقف له الطيور في سمائها، وتهتزّ الغصون في أدواحها. وما كاد الجمال يُلقي نحوها سمعه، حتى أسكرته رنّاتها، وأطربته ألحانها. ومرّ به الملك وهو مضطجع في ظلّ زيتونة مهدَّلة الأفنان، يجري من تحتها غدير هادئ الخطا، يتعثر فوقه النسيم، والشعراء ينشدون، وآلات الطرب تعزف، فقرب من الجمال وقال: لم لا تناديني اليوم؟ فظهرت الحيرة على وجه الجمال وقال: لقد ناديتك يا أخي مرتين، فلم أرد أن أزعجك بعدهما، فاذهب إلى السماء موفَّقًا، فالأرض بخير ما لقيت حبًا شريفًا، وجمالا عفيفًا.
– هذا عجيب. وقد رأيت في إقليم طالَقة، وهو من أقاليم إشبيلية، تمثالا من المرمر لجارية لم تقع العين على أجمل منها، وعلمت أن الأقدمين كانوا يدعونها إلهة الجمال. أمَّا أسطورتك هذه فلم أسمع بها، ثم حدقت فيه النظر وقالت: وأخشى يا أبا الوليد أن تكون من أساطير خيالك، فأسرع ابن زيدون قائلا: لا يا سيدتي، إن بيننا من اليهود من يتقنون الأسبانية، وقد عثروا على آثار كثيرة للقوط في بيت الحكمة بطليطلة بعد هزيمة «لُذريق» ومن هذه الآثار كتب في العلوم والشعر والأدب ترجمها اليهود وأذاعوا أسرارها. وبينما هم في الحديث إذ أقبل عليهما الوزير ابن عبدوس، وأخذ بيد ولادة قائلا: ألا تحب سيدتي أن تخرج إلى الحديقة قليلا لتتمتع بأنفاس النسيم في هذه الليلة المقمرة قبل موعد العَشاء؟ أنا واثق أنك لا تملّين حديث شاعرها أبي الوليد، ولكننا نترك في الكأس بقية إلى ما بعد العشاء.
وقامت معه ولادة وهي تنظر إلى ابن زيدون نظرة مبهمة، فيها اعتذار، وفيها ألم وإشفاق.
ثم بدا على وجهه العبوس، وطافت بوجهه غمامة همّ ذهبت بنضارته، وأخذ يعضّ سبابته يقول: عائشة بنت غالب، هذه المصيبة التي قُذفت عليّ من الجحيم، ورماني بها إبليس اللعين ليفسد حياتي، ويبدد شبابي، ويقضي على آمالي. عائشة بنت غالب! إنها شرُّ بنات حواء إنها امرأة فاتكة هبَّاشة، إذا ظفرت مخالبها بفتى فعليه الرحمة، وأحسن الله فيه العزاء! إنها العنكبوت ذو الأيدي الطِّوال، والمخالب الحِداد. إنها الذئبة الجائعة التي لا تترك فريسَتها وفيها دماء. ويل لي منها وويل لمقتبل أيامي، وما كنت أرتجيه من هناء وسعادة! ليت شعري ما الذي ستصبّه علي من صواعق بعد أن وصلت إليها رسالتي؟ إنها لن تتركني بعد هذه الرسالة لأهنأ بزواج ولادة، إنها ستعمل كل شيء لتُفسد ما بيني وبينها، إنها ستهجم عليها في دارها، وتملأ الدنيا ضجيجًا بثلب عرضها وعرضي، وستنشر في المحافل والمجامع من التهم ما يتعفف عن سماعه غلمان الحانات، إنها ستذهب إلى أبي الحزم بن جهور في دموع البائسة المخدوعة، فتملأ صدره عليّ غلاًّ وغيظًا، ثم؟ ثم إن عندها رسائل مني كنت أبعث بها إليها أيام جهلي وجنوني، وأتندّر فيها بعظماء الدولة، وأتبسط فيها بالطعن في ابن جهور ووصفه بالرياء والنفاق وسُخف الرأي والتدبير. وامصيبتاه! إنها ستجمع كل هذه الرسائل في أمانة وصيانة، وستُطلع كلَّ وزير على ما يخصه منها، وهكذا أراني سقطت حينما ارتفعت، وطفوت كما يطفو الغريق ليغطس في الماء إلى غير رجعة! ما الذي دفعني إلى هذه الحيَّة الرقطاء؟ وما الذي أوقعني في حبالها؟ الجهل والشباب العربيد والتظرُّف الممقوت! خسِئ أبو الوليد! ولعن الله لحظات مرّت به تحت سقف هذه الهرة الشكسة النهوس!
وبينما هو يتعثَّر في هذه الخواطر السود وتتعثر به، إذ سمع نائلة تصيح بالعبيد والغلمان قائلة: ادعوا الضيوف إلى العَشاء فقد أعدّ الطعام. فأفاق من سَبَحاته كما يفيق المحموم من نوم مضطرب كريه، وهزَّ رأسه في عنف، كأنه يريد أن يُميط عنه مخيفات الهواجس، وقال لنفسه أو قالت له نفسه، إن من الخير ألاّ أسبق الأيام، ومن الخير ألاّ أفترض الكوارث، وعليّ أن أتمتع بالساعة التي أنا فيها، وأن أترك ما لغد لغد، ولله أمر هو فاعله، وحكم هو قاضيه، لا راد لقضائه، ولا معقِّب لحكمِه.
ثم تقدّم إلى نائلة باسمًا وهو يقول: لقد أحسنت بي يا سيدتي إذ مهدت لي سبيل الوصول إلى ذلك الملك السماوي الذي كانت تعجز عن بلوغه الأسباب، وتتعثر الأوهام. فأجابته نائلة وهي تهزّ كتفه في حنّو.
– اصبر يا فتى، فإنك لا تدري ما تدبره لك نائلة من رفيع الشأن وبعيد المنزلة. ثم تنهدت وقالت: والله ما أدري سرّ ذلك الحافز العنيف الذي يدفعني إلى الاهتمام بأمرك، والكدح في الوصول بك إلى أسمى الغايات، وبذل الجهد في حياطتك من كل يد تمتد إليك بأذى. لعلي أحببتك يا أبا الوليد لأني بعد أن فقدت ابني منذ حين بعيد بقي حنان الأمومة فيّ كمينًا حائرًا متطلعًا، فلم يجد بين شباب قرطبة إلا إياك، لقد مرّ بحياتي كثير وكثير ممن تزدان بهم المحافل، ولكن قلبي لم يهتف إلا بك، ولم يرفّ جناحاه إلا لك، و«لهوى النفس سريرة لا تعلم» كما يقول متنبي المشرق. على أنك مع هذا سيد الفتيان وسامة وقسامة وجُرأة وبطولة وأدبًا — لست أراك إلا ابنًا لي يا أبا الوليد، وسأكون ملَكك الحافظ، ومجنَّك الوافي في جو قرطبة المضطرب بالفتن والدسائس والأحقاد. هلم إلى العشاء يا بني.
ومُدّت المائدة، ووضعت عليها غرائب الألوان، ونفائس الأطعمة وأحاط الخدم والعبيد بالضيوف في أدب واحتفاء، يفهمون الإشارة ويكتفون بالإيماء، وجلست ولادة وإلى يمينها ابن زيدون، وإلى يسارها أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأخذ الضيوف يتنقلون بين الطعام والشراب بطرائف الأحاديث، ومدّ ابن زيدون يده بطبق من الطعام نحو ابن الحناط الكفيف وهو يقول: بدَع قصيدتك التي تقول في أولها:
فقال أبو حفص بن بُرد، وكان يحقد على ابن الحناط: شعر حسن، ولكنه يحتاج إلى صقلة الفن.
فرفع الكفيف رأسه في غضب، وكان شيخًا في الثمانين. وقال في سخرية: ما الذي يحتاج فيه إلى صقلة الفن يا مولاي الوزير؟!
– يحتاج إلى كثير يا سيدي: إنك تقول «راحت تذكر بالنسيم الرحا» ثم تصف ليلة مُظلمة مُبرقة مُرعدة، فأين مكان النسيم هنا؟ إن هذه الليلة يجب أن تكون فيما يقتضي التصور ذات ريح عاصفة. أما كلمة «كي تهتدي» فحشو ثقيل أفسد عليك البيت كلَّه، وكان يجب أن تفتح آخرها، لأن المضارع اليائيّ يظهر عليه النصب، والعجيب أنك تصف سحابة وطفاء من أول بيت في القصيدة ثم تقول: «وكأن صوت الرعد خلف سحابها» والضمير في «سحابها» يعود إلى السحابة، فيكون مُحصل الكلام: وكأن صوت الرعد خلف سحاب السحابة، وهذا تهافت لا يستطاع الفرار منه، وبعد أن شبّهت الرعد بالحادي قلت: «إذا ونت السحائب صاحا» والشعر يتطلب أن تقول: «إذا ونت الركائب صاحا» حتى يجيء للحادي ما يلائمه. فاكفهرّ وجه الكفيف، وانتفخت أوداجه من الغضب، وصاح: هذا هُراء! ولكنّ الحق الذي لا مرية فيه أنك أردت أن تسرق مني هذه المقطوعة، فأسأت الصناعة، ولم تتقن السرقة حين تقول:
فقولك: «وجاءت مواقيته بالعجب» كلام لم يأت إلا لتكملة البيت، ثم ما هذه البدعة في «قد اسقى» فإن العرب حقَّقوا الهمزة في «أسقى» وأنت تأبى إلا أن تسهِّلها، قد تقول إن هذه ضرورة، فأجيبك بأن الضرورة لا يلتجئ إليها شاعر يتحدّى كبار الشعراء. والبيت الثالث ألفاظ كثيرة متزاحمة ليس فيها إلا أن البرق كالنار. ثم تقول: «وقد قرعت بسياط الذهب» والقرع يكون بالعصا لا بالسوط يا سيدي! أما سياط الذهب هذه، فهي أدهى وأشنع من «ماء الملام» التي عابوها على أبي تمام.
وأراد ابن زيدون أن يحول دون الجدل والخلاف، فقهقه وقال: إن الشعر لا يبحث فيه على هذا النحو، ولو تعمَّدنا النقد، وتكلَّفنا التدقيق، لم يسلم بيت لشاعر من المتقدمين أو المتأخرين. فصاح ابن الحناط قائلا: لا يا سيدي، إن آفة الشعر أن ينقُده من لا يفهمه.
فأسرع شاب في العشرين قدم من «المرِيَّة» منذ أيام وقال: إذا أذن لناشئ مثلي في الكلام، فإني أقول: إن الأندلس جميعها تدين في الشعر لثلاثة، هم ابن برد وابن الحناط وابن زيدون.
فضحك القوم، ومال ابن الحناط على من بجانبه سائلا: من هذا الفتى؟
– هذا عبد الله بن الحداد شاعر موسيقيّ مبدع، وله فن في الغزل عجيب.
وقالت نائلة: إنه يتغزل في الأسبانيات يا مولانا الشيخ، يتغزل في «نورا» الأسبانية التي فتنته. فهمست ولادة في أذن ابن زيدون ترجوه في أن يطلب إليه أن ينشدهن شيئًا من هذا الغزل. فصاح ابن زيدون: أنشدنا يا عبد الله بعض نُورِيَّاتك. فتردد قليلا ثم أنشد:
ثم أنشد:
فطربت ولادة وقالت: يعجبني الشعر الواقعيّ. فقال أبو الوليد محمد في شيء من الدعابة: إن شعر صديقنا ابن زيدون كله واقعي، وأبياته الجديدة تُغنَى الآن في كل مكان. ثم انطلق ينشد:
– عثرت من أيام على نسخة من تاريخك يا مولانا، فأعجبت به، غير أنه عيبة عيواب، فقد ملأته بمثالب الناس، ولم تعفُ لأحد فيه عن زلة.
فاتجه إليه ابن حيان وقال: وماذا أعمل يا فتى الأسبان، والدنيا خُلقت هكذا؟ وتاريخي صورة للدنيا التي أعيش فيها، فأحسنوا أعمالكم أحسِن كتابتي.
– ألم تقل عن أبي عامر بن شهيْد مفخرة الأندلس جميعها في أدبه وظَرفه وحلو فكاهته: «كان بقرطبة في رقته وبراعته وظرفه، خليعَها المنهمكَ في بطالته، وأعجب الناس تفاوتًا بين قوله وفعله، وأحطهم في هوى نفسه، وأهتكهم لعرضه، وأجرأهم على خالقه؟» فأسرع ابن زيدون وقال: وهكذا والله كان أبو عامر ما ظلمه الرجل فتيلا.
وهنا نظرت ولادة إلى ابن حيان وقالت: لو بدا لك أن تترجم لي في تاريخك، فبحقي عليك ماذا كنت تقول؟
فابتسم ابن حيان وقال: كنت أقول: «إنها في زمانها واحدة أقرانها: حضورَ شاهد، وحرارةَ أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر» ثم سكت فصاح ابن برد: أتمم يا أبا مروان، فإن الحية لا بد أن تمُج لعابها: فقال ابن حيان: لا. إني لا أقول في ابنة المستكفي إلا هذا أو مثله، وإذا أردت أن أمسها مسًّا خفيفًا قلت: «على أنها — سمح الله لها، وتغمَّد زللها — اطَّرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل». فضحك القوم وتصايحوا. قال ابن زيدون؛ وماذا كنت تقول فيّ؟ فزفر ابن حيان وقال:
– كنت أقول: «فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف، ذو الأبوّة النبيهة بقرطبة، والوسامة والدراية وقوة العارضة، غير أنه سليط اللسان، جرئ الجنان، يذهب به طموحه كلّ مذهب، ويهّون عليه كل مطلب».
وأسرع ابن عبدوس وقدّم له طبقًا من القطائف في أدب وملَق، وقال في صوت المستعطف: ماذا كنت تقول فيّ يا سيدي؟
فاتجه إليه أبو مروان وقال: أعفني بالله فإني لا أحب أن أجبهَك بما لا تحب! فألحّ ابن عبدوس وألحّ القوم فقال: أديب بلغ به أدبه أبعد ما يبلغه سواه، وقذفت به حيلته إلى ما فوق مرتقاه، يزاحم العرب بدهائه، ويستر نسبه بجوده وذكائه، دّنُّ شراب، وزير كواعب أتراب، يعادي كل سبَّاق سبَوح، ويحسد كل مجدّ طموح».
فوقف ابن عبدوس غاضبًا وقال: وهذا سبّ صريح، وقذف أملاه حقد كمين، وإني أرفع مكانةً من أن آبه لمثل هذا الهُراء.
فأسرع ابن برد وقال: إن الشيخ لم يكن يريد أن يقول عنك شيئًا، ولكنك ألححت وألححت. بعد أن ألمع لك برأيه فيك.
وهنا صاحت نائلة: إننا لا نغضب لما يكتبه أبو مروان، والمؤرخ يجب أن يكون حرّا فيما يكتب، وإلاّ فسد التاريخ، وضاعت ثقة الناس بالمؤرخين، ومما يهون الأمر أنه لا يحابي صديقًا لصداقته، ولا يشهّر بعدو لعداوته. أنا أعرف ما كتبه عني وأستحلفه بالله ورسله وأنبيائه ألاّ يذكر منه الآن حرفًا. هلمّ إلى قاعة الشراب.
فانطلق القوم يتزاحمون، ودار عليهم السقاة، وفاحت روائح النّدّ والعود، وجلست «غاية المنى» المغنية بين جَوْقتها، وأخذت بعد أن أصلحت عودها تغني بصوت كأنه همسات الأمل في نفس اليائس الحزين، وكانت تردد من شعر ابن زيدون:
فاملئوا عيونكم مني جميعًا وتبينوا في وجهي: أكان أبو نواس صادقًا؟ ثم نهق حتى لم يشك من يسمعه من بعيد أنه يسمع حمارًا، ووثب وهو يصيح: لقد كان اللئيم صادقًا فاشربوا واطربوا!!
وجاء دور الراقصات الأسبانيات فبهرن العقول بفنهن ورنين صنُوجهن، وانقضى الليل في مرح وبهجة، حتى كاد يبدو عمود الصباح، فأخذ القوم في الانصراف آسفين على ساعات حلوة اختطفوها من يد الزمان.
وعندما هم ابن زيدون بشكر نائلة وتوديعها همس في أذنها قائلا: إني أخشى عاقبة الرسالة التي بعثت بها إلى عائشة يا خالتي، فخلَّصيني بالله منها، فإنها المِعول الذي سيهدم كلّ ما بنيت. فأجابته باسمة: طب نفسًا أبا الوليد فسوف أزورها، وسوف أستلّ ذنابي العقرب فلا تعود لها صولة.
وأقبلت ولادة عليهما متألقة باسمة، فودعته وشكرت نائلة على كريم ضيافتها، وجميل ما أعدّت من أسباب السرور.