الفصل الرابع
مَن عائشة بنت غالب؟ ومن أي أرومة نبتت؟ فقد ترامت حولها تهم وخُلعت عليها صفات تغري المتطلع إلى تطلب المزيد. فمن عائشة؟ ومن أبوها؟ ومن أمها؟ ومن أيّ عُش درجت، وفي أي الأجواء نشأت؟
كانت «فلورندا» أمُّ عائشة تقيم بمدينة «شنت ياقب» أو القديس يعقوب، في أسرة رقيقة الحال. وكان أبوها «جارسيا» يخدُم في الكنيسة نهارًا، ويرتزق من اللصوصية وقطع الطريق ليلا، وكانت كنيسة شنت ياقب أعظم كنيسة بأسبانيا، وأكبر مشهد فيها، يحج إليها الناس من بلاد القِبط والنوبة، ومن أقصى بلاد رومة وما وراءها، فكان جارسيا ينال بالنهار من بعض صدقات الحجاج، ويسطو بالليل على بعض أمتعتهم.
وفي صبيحة يوم من أيام شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، شمل الذعر مدينة شنت ياقب، واستولى الهلع على أهلها، ودقت أجراس الكنيسة الكبرى، وتصايح الناس في أصوات مرتعدة واجفة قائلين: لقد قرب جيش المنصور بن أبي عامر من المدينة!!
إنهم كانوا في أمن آمن، وكانوا يظنون أن بعد مدينتهم ووعورة المسالك بينها وبين قرطبة تجعلهم في حِرْز من غزوات العرب، ولكن أصحاب الأخبار حملوا إليهم أن المنصور بلغ بجيوشه مدينة «قورية»، ثم قطع المفاوز حتى بلغ مدينة «البرتقال» على نهر «دُوَيْرة» وهناك أنشأ على النهر جسرًا من السفن فعبره جنوده، وانطلقوا كأنهم شياطين الجن إلى السهول والقيعان، وما زالوا يقطعون أنهارًا، ويخترقون جبالا، حتى بلغوا جبلا شامخ الذُّرا وعر الشِّعاب، فأمر المنصور الفَعلة بتمهيد طريق فيه يتسع للجيش، فأخذوا يشقونه بالحديد حتى بلغوا أقصاه، وانهمر سيلهم منه إلى أن وصلوا إلى نهر «أبله» ولم يصبح بينهم وبين شنت ياقب إلا أيام قصار.
خرج جارسيا وزوجه «مارايا» وابنته فلورندا مع الفارّين الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان الرجل فارع القامة، قوي البناء، موثَّق العضل، فحمل على ظهره ما لا يسعهم تركه من خفيف المتاع وكانت زوجه ناحلة سقيمة الجسم، تنظر في سهوم واضطراب إلى ما يمتد إليه طرفها من المفاوز والجبال، ثم تهز رأسها في حسرة ويأس، وتدعو جميع القديسين والقديسات لإنقاذها مما هي مقبلة عليه من موت محتوم. وكانت فلورندا في نحو الخامسة عشرة من سنيها، وقد خلع عليها الشباب والجمال أغلى ما يخلعه الشباب والجمال على فتاة من حُليًّ وحلل.
سارت الأسرة في صمت حزين، وكمد دفين، وهي لا تدري: أيَّ مكان تريد؟ ولا أيَّ طريق تقصد؟ ولكنها كانت تريد أن تفارق المدينة، تريد أن تفرّ من ذلك السيل العربي الجارف الذي يوشك أن يبتلعها، تريد أن تحيد عن طريق ذلك الضرغام الذي سمعت زئيره عن بعد يُصم آذان السهول والآكام.
ولكنّ ابنته، وقد ضاق به ذرعها، التفتت إليه وقالت؛ إنها لا تستطيع المشي يا أبي. إن يديها قطعتان من جليد، وقد لمستُ رأسها فإذا هو يتَّقد من الحمى. ثم أرسلت دمعتين يائستين وصاحت: إن أمي مريضة يا أبي. انظر إلى عينيها، إنك لا تجد بهما بريقًا. ثم احتضنتها إلى صدرها لتُعيرها قليلا من دفء شبابها، ولكنَّ مارايا كانت في غير حاجة إلى دفء، لأنها خرجت من دنيا العواصف والأنواء، وتركت شِعاب أسبانيا الوعرة القاسية، إلى شعاب محجَّبة عن العيون!
صرخت فلورندا حينما رأت أمها جثة فارقتها الحياة، ونظر جارسيا في ذهول ووَهل إلى امرأته وقد أحاطت بها رهبة الموت، ودارت حولها هالة من ذلك الجلال الذي لا يعرفه الأحياء إلا في لحظات الوداع. ومن العجب أن هذه اللحظات قلبت طبائع الرجل، أو أظهرت الجانب الخفيّ المكبوت من طبائعه على الأصح، فما كاد يستيقن موت زوجه حتى انكب عليها يقبِّلها وهو يبكي بكاء الأطفال، ويندب ندبَ الثكالى، ويناجيها في لوعة وحسرة بأرق ما يناجي به حبيب حبيبًا. وكأنه كان يلمح ماضي قسوته وجفائه، وسابق تفريطه في حبها، فيزيده كلّ ذلك بكاء وألمًا وإفراطًا في الحزن والأسى. وحينما عاد إليه بعض صوابه شقّ لها قبرًا تحت شجرة تين، وعمد على غصنين فصنع منهما صليبًا أقامه عند رأسها، ثم حمل متاعه، وأخذ بيد ابنته، فسارا مطرقين كأنهما لا يزالان يحسَّان رفيف أجنحة الموت. وقالت البنت في صوت خافت: إلى أين يا أبي؟
– لا أدري وحق العذراء يا فلورندا.
– أرى أن نعود إلى مدينتنا، فإن العرب لن يكونوا أقسى مما نحن فيه من هول وعذاب.
– نعود إلى مدينتنا؟ هذا لن يكون يا فتاة. ثم مدّ شفتيه في سخرية وألم وقال: ماذا فعلنا أو فعل بنا القدّر؟ أخرجنا لنفقد أعزَّ امرأة في هذا الوجود، ثم نعود أدراجنا كأننا أدَّينا واجبًا مقدسًا؟ لا يا فتاة. لن نعود إلى شنت ياقب بغير أمك. إن كل شيء فيها سيذكرني بها، وسيهمس في أذني بأني لم أكن لها زوجًا صالحًا، ولكنني كنت كلبًا عقورًا. خير لي أن أموت وأن تموت معي هذه الذكريات.
– وأين نذهب يا أبي؟
– إلى قرطبة.
– إلى قرطبة قصبة الإسلام، وعرين الضواري، ووكر النسور الكواسر، الذين فرَرنا من بطشهم، وخاطرنا بالحياة للنجاة من شرّهم؟ لِمَ لا نذهب إلى الشمال، ونلجأ إلى «ليون» أو «نافار» أو «قشتالة» حيث نجد في ممالك النصارى الأمن والسلامة، وحيث نعيش مع قوم ديننا دينهم، وبلادنا بلادهم؟
– نعيش بينهم شهرًا أو شهرين، ثم تقع الواقعة، فنعود إلى الفِرار واقتحام الأخطار، والتعرض لموت محقق!
– كيف يا أبي؟
– إن هذا الخليفة العربيّ الذي يسمونه المنصور لن يستقرّ له قرار حتى يُخضع جميع بلاد أسبانيا، وحتى يزحف سيله إلى الأرض الكبيرة، على أنه استولى على ليون، وأذلّ نافار، وإذا لم يملك قشتالة اليوم فسيملكها غدًا. أتعرفين أن غزوته لشنت ياقب إنما هي الغزوة السادسة والأربعون. وأنها ستتلوها غزوات وغزوات. إن من الخير لنا أن نلجأ إلى قرطبة عاصمة الإسلام لنأمن شرَّ الغزو إلى الأبد، ونعيش بين المسلمين أنفسهم، لأنهم لا يُؤذون ذِميَّا ولا مستأمِنًا، وكلُّ ما يطلبونه من مثلي جزية لا تزيد على اثني عشر درهمًا في العام. هلمّ إلى قرطبة يا بنيَّتي، فإن المثل الأسباني يقول: إن صديق الأسد لا يخاف وثبته.
انطلق جارسيا وابنته نحو قرطبة، وقد فرغ زادهما، فكانا إذا نزلا قرية استطعما أهلها، وكانت فلورندا تحسن الرقص والغناء، فكانت تنتقل مع أبيها من باب إلى باب ترقص وتغني، حتى ينالا من صدقات المحسنين ما يكفيهما، وما زالت هذه حالهما حتى بلغا قرطبة، فنزلا منها بالرَّبَض الجنوبي، حيث يقيم أكثر النصارى والأسبان المتسلَّمَين، ولم يجد الرجل من وسيلة للرزق إلا أن يبيع الفاكهة متنقلا بها طِيلة النهار وطرفًا من الليل بين قرطبة وأزقتها، وأبت فلورندا إلا أن تُعين أباها، فكانت تجمع كل يوم بعض دريهمات من الرقص والغناء، وكانت هذه الدريهمات تزيد في كل يوم كلما زاد الإعجاب بها والإقبال عليها.
كان بترو الأسباني صاحب أكبر حانة بالمدينة، وكانت له عين بصيرة بالجمال، وأذن موسيقيَّة تُدرك أدقّ الفروق، وتحسُّ بأخفى درجات النشوز. وكان يجلب إلى حانته أبرع الفاتنات الأسبانيات وأجملهن، وامتدّت تجارته إلى ما وراء الأندلس، فكان سماسرته في الغرب والشرق يبعثون إليه أجمل بضائعهم من فرنسا ومراكش ومصر والشام وبغداد، وكانت حانته مثابةً لفتيان قرطبة المترفين الذين أطغاهم الفراغ والشباب وأفسدتهم الجِدة.
رأى بترو فلورندا فملكه الدَّهش، وعزّ عليه أن يرى تلك اللؤلؤة اللامعة، وتلك الثروة الفنيَّة الغالية، تتقاذف بها طرقات قرطبة، هذا يرمي لها بدرهم، وهذا يلوي وجهه عنها كلما مدت إليه يدها بدفِّها.
دَهِش بترو وعجب، فمد يده إلى جيبه وأخرج دينارًا، فلما مرّت الفتاة تستجدي بدفِّها، رمى فيه الدينار. فنظرت إليه مبهورة وقالت: هذا دينار يا سيدي!
فأظهر بترو الحيرة والتردد وقال: أصحيح هو دينار؟ لقد أخطأت يا فتاة، فقد أردتُ درهمًا وأراد جمالك وفنُّك دينارًا خذيه باركت العذراء لك فيه؛ فأخذته فلورندا وهي لا تكاد تصدق أن أصابعها تنطبق على دينار. وطافت برأسها أمانيُّ وأحلام، وأخذت تفكِّر في خير الطرق التي تفجأ بها أباها لتطلعه على ذلك الكنز الثمين. ثم سارت لتعقد حلْقة أخرى بسوق الصيارف، ولكنها رأت بترو يتبع خُطُواتها، فلما دنا منها قال: ما اسمك يا فتاة؟
– فلورندا.
ما أجمل الاسم، لولا أنه يُثير في نفس الأسبانيّ ذكريات لا تطفئ نيرانها الدموع!
– ذكريات؟ أنا لا أفهم ما تقول.
– عجيب. ألا تعرفين شيئًا من تاريخ أسبانيا يا فتاتي؟ ألم تحدثك العجائز بتلك الداهية الدهياء التي حلَّت بأسبانيا بنزول العرب فيها؟
فظهرت سذاجة الجهل واضحة على وجه فلورندا الجميل وقالت وهي تهز رأسها: لا. لم يحدثني أحد.
– إن فلورندا بنت يوليان هي التي أضاعت مُلك أسبانيا، ووضعته لقمة سائغة في فم العرب.
– امرأة فعلت هذا؟!
– امرأة ورجل، وقديمًا أخرجت الجنة من ظلالها رجلًا وامرأة. فثارت رغبة فلورندا لمعرفة ما يقصد، لأنها في الحق لم تفهم إلا قليلا فقالت: حدثني بحق «جوليوس» كيف أضاعت فلورندا جنة الأندلس؟
– فلورندا يا فتاتي كانت في بلاط لِذُريق ملك أسبانيا، فوصل إلى علم أبيها عن الملك ما يمسّ شرفه، فغضب، ودفعه حبُّ الانتقام إلى أن يذهب إلى موسى بن نصير قائد العرب بإفريقيَّة، ويمُدَّه بالسفن، ويُرشده إلى مواطن الضعف في الدولة، ويذلل له السبيل لفتحها.
– لعن الله لذريق، ولعن الله فلورندا هذه؛ لن أتسمَّى بهذا الاسم بعد اليوم. آه يا سيدي … فأسرع بترو يلقِّنها اسمه: بترو.
– آه يا سيدي بترو لو رأيت ما فعله العرب بولايتنا لرأيت ما تشيب له النواصي، إنهم شياطين مَرَدة، ينسفون الجبال، ويثبون فوق الأنهار، كأنهم أسود لها أجنحة النسور. وهنا طفرت الدموع من عينيها فلم تستطع لها دفعًا وقالت: بهؤلاء العرب فقدت أمي يا سيدي بترو، لقد وثبوا على شنت ياقب كأنهم العاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، فخرجنا من المدينة ليقتلنا البرد والجوع والكَلال.
– أنت من شنت ياقب إذًا؟
– نعم.
– مع من تعيشين يا فتاتي؟
– مع أبي جارسيا.
– وأين تسكنين؟
– في قاعة بزقاق الصيادين.
– سأزور أباك الليلة، ثم مد إليها يده فحيَّاها وانصرف وهو يحدث نفسه ويغمغم: إنها كنز ثمين. إنها بوق الساحر الذي إذا نفخت فيه ألقى إليّ فتيان قرطبة ما في جيوبهم ذاهلين مأخوذين. عجيب أمر هذه المصادفات، تُلقي بين يديك في سهولة ويسر ما لو ضربت في الأرض إليه أعوامًا لم تجده! وكثيرًا ما تضع هذه المصادفات التبر في الأرض الجرداء، وكثيرًا ما تقذف باللآلئ بين القُمامات، والناس يمرون بها، وقد نهكهم الفقر، ونالت منهم البأساء، وهي على قيد نظرة منهم. فلورندا؛ لو بعثتُ إلى أقصى بلاد الروم، وأبعد مطارح التركستان لم أجد لها مثيلا!
والتقت فلورندا بأبيها في حجرتهما المظلمة بعد أن أجهدهما كدُّ النهار، فرأته عابسًا منهوكًا، فإنه لم يترك بقرطبة وأرباضها سوقًا أو طريقًا إلا سلكه صائحًا مرغبًا في اقتناء فاكهته، واصفًا جمالها ولذة مذاقها، ولكنّ الناس كانوا في هذا اليوم في صمم عنه وعن فاكهته، كأنهم أقسموا يمينًا مؤكدة ألا يذوقوا للفاكهة طعمًا، أو كأنهم رأوا في الفاكهة سمًّا زعافًا فخافوا أن تمسها أيديهم.
قالت فلورندا بعد أن قبَّلت أباها: كيف الحال يا أبتِ اليوم؟ فابتسم جارسيا ابتسامة اليائس وقال: أحسن حال يا حبيبتي؛ حملت الفاكهة في الصباح، وجئت بها كاملة في المساء، بعد أن تمتع التفاح بمشاهدة كل ما في المدينة من أسواق وميادين ثم عاد سالمًا إلى مقرّه، ولكنّ الخبيث كان يلحّ عليّ قبل أن تدخلي في أن أريه المدينة غدًا وبعد غد، فقبلت غير أني اشترطت عليه ألاّ أحمل الميزان، فقد أصبحت في غير حاجة إليه!
– ما الخبر؟
– عظيم! نبيت على الطوى يا حبيبتي، وندعو للمنصور بن أبي عامر بدوام النصر والتأييد؟ أتعرفين لم حُرمنا الرزق هذا اليوم يا فلورندا؟ حرمنا لأنه يوم أحد، وهو يوم الراحة منذ خلق الله السموات والأرض.
– نعم إنه يوم الأحد. ثم هزت ثوبها فسقط منه شيء لامع التَقَى بأشعة المصباح الواهنة، فأرسل شعاعًا وهَّاجًا أسر عيني جارسيا فصاح: ما هذا؟ ثم مدّ إليه كفه فالتقطه، وقد انتابه ما يشبه الجنون، وأخذ يتمتم: دينار! دينار! هذا دينار يا فلورندا! أنَّى لك هذا؟ وكيف ظفرت به؟
فابتسمت في وجهه وقالت في خبث: ببركة يوم الأحد.
– قولي بحقّ المسيح كيف حصلت عليه؟ فهزّت كتفه في حنان وقالت: اجلس يا أبي فإنها قصة عجيبة حقًّا، ثم أخذت تنبئه بمقابلة بترو وبما دار بينهما من حديث، وما كادت تتمّ قصّتها حتى سمِعا قرعًا على الباب، فوضعت إصبعها على فمها إشارة لأبيها بالسكوت، ثم أسرعت فقامت تصلح ما في الحجرة من اضطراب، وتستر منها مواطن الفاقة، وبعد قليل أقبلت نحو الباب ففتحته فإذا صوت خشن أصحل يقول: سعِد مساؤك يا فلورندا. فمدّت يدها وهي تبتسم وتقول: أهلا بسيدي بترو. مساء جميل وضيف كريم لولا أن حجرتنا الحقيرة لا تليق بمثله.
– الغنى؟ أنت تحلُم يا سيدي! هلمّ إلى أبي، ثم صاحت: يا أبي هذا السيد بترو الذي كنا نتحدث بشأنه.
فوقف جارسيا ومدّ يده إلى الضيف مرحبًا وهو يقول: خادمك جارسيا فرانسكوس يا سيدي. ثم نشر حصيرًا إلى جانب الحائط، وأومأ إليه بالجلوس، وأخذ ثلاثتهم يتداولون الأحاديث حول قرطبة وما فيها من ثروة واستبحار في العمران، ثم ما فيها إزاء ذلك من فقر مدقع ومتْرَبَة، فقال بترو:
– إن العاقل من يعرف كيف يقتنص الفرص. وأسرع جارسيا قائلا: أيُّ فرص يا سيدي؟ إن لي خمسة أشهر أدور في شوارع هذه المدينة الملعونة وطرقها، وأتطلَّع إلى كل حجر في أبنيتها فلم أجد يومّا لهذه الفرص ظلا!
– لأنك تبحث عنها وهي في يديك.
– في يديّ؟!
– نعم في يديك، وما مثَلك، إلا كمثل من ينام فوق فراش وهو يتضوّر جوعًا، ولو مدّ عينيه إلى ما تحت الفراش لرأى من الذهب ما يغني دول الأرض. أنت يا سيدي جارسيا وجّهت كل عقلك إلى العنب والتفاح، وإلى أنك قد تكسب من هذا درهمًا وقد تكسب من هذا نصف درهم، ثم نظر إلى فلورندا واستمر يقول: ولو أنك نظرت في غرفتك الحقيرة الآن لرأيت كنزًا ثمينًا.
– كنزًا ثمينًا؟
– نعم. إن أمامك كنزًا ينقُلك من سكنَى القبور، إلى سكنى القصور، ويجعل الذهب يسيل من بين أصابعك كما يسيل الماء من أفواه الأسود في حدائق الزهراء.
– ما هذا يا رجل؟ أنت تعابثني، وقد جرّأك على هذا فقري وسوء حالي، ثم قام في غضب: ولكني أعلمك يا سيد بترو أنني على فاقتي لا أقبل مِزاحًا مهينًا ولو جاء من أمير الأندلس. لا يا سيدي، نحن سكان الجبال نرضى بالشظف، ولا نرضى بالمهانة.
– أيُّ مهانة يا سيدي جارسيا؟ إن كنزك الثمين هو فلورندا.
– كنزي فلورندا؟
– نعم. إن لها من الجمال ما لم تَظفر بمثله قصور الملوك، ومن سحر الصوت ما تحسُدها عليه العنادل، ومن الرشاقة ما تتقطِّع دونه رشاقة الغصون. إن هذا الحسن الرائع، وذلك الفنّ الموهوب، لم يُخْلقا ليطرحا في هذه الحجرة المظلمة التي تفرُّ منها الخفافيش.
فأسرعت فلورندا تقول: وماذا ترى أن أصنع؟
– تأتين عندي. فظهر السخط على وجه فلورندا، ووثبت إلى أبيها تعانقه وتدﻟﻠﻪ وهي تقول: لا يا سيد بترو. إنني لن أترك أبي ولو وازنت لي الأرض ذهبًا. هل أتركك يا أبي؟ إنني إذًا لعقوق. لا تصدّق يا أبي أن ابنتك فلورندا تفارقك لحظة عين. إنها تجد لذة للجوع والفاقة في جوارك. لقد فررنا من بلدنا معًا، وقاسينا شَظَف العيش معًا، وفقدت أمي بين العواصف والزعازع، ولستُ أريد أن أمنَى بفقد جديد. ففكّ أبوها عنه ذراعيها، ثم أسكتها بقبلة، والتفت إلى بترو وقال:
– ماذا تقصد يا سيدي من أخذ فلورندا عندك؟ فتمكَّن بترو في مجلسه، وأخذ يذود عن وجهه بعوضة أكثرت حوله الكرّ والفرّ وقال: أنا يا سيدي أملك أعظم حانة بالمدينة، وهي على الشاطئ الأيمن من الوادي الكبير، تحيط بها الحدائق الفيح، والمروج الخضر، وبها أجمل ما خلق الله من قيان، وأمهر من دقَّت بدَف، أو عزفت على مِزهر، أو صفرت بناي، أو ضربت على جَنْك.
– عرفتها، وطالما ذهبت إليها ليلا لأبيع التفاح عند بابها. أنت تملك هذه الحانة؟ إنك لرجل عظيم، فلوى بترو عنه وجهه ليَّةً كان معناها لو تُرجمت: ومن أنت أيها الأحمق حتى تشهد لي بالعظم أو لا تشهد؟ ثم عاد إليه يقول: إن فلورندا بعد أن تُثَقَّف وتهذب ستكون كوكب هذه الحانة الذي يتهافت الشبان على شُعاعه تهافت الفراش، فإذا وكلت إليّ أمرها فإنه لا يمضي شهر أو شهران حتى يكون راتبها في كل شهر خمسمائة دينار.
ففغر جارسيا فمه وصاح: وَيْ وي! ماذا تقول؟ خمسمائة دينار!
– وأكثر.
– وما شروطك يا سيدي؟
– إني لا أشترط شيئًا، كل ما في الأمر أن تقبل أن آخذ فلورندا إلى بيتي لأعدَّها للمجد العظيم الذي هي مقبلة عليه، ولن يمرَّ زمن طويل حتى تكون ماسة لمَّاعة أزيلت عنها قشرتها، وحينئذ تظهر في الحانة، للغناء والرقص بأجر لا يقلّ عن خمسمائة دينار كل شهر.
فقهقه جارسيا قهقهة طويلة ظهرت فيها أسنانه القارحة كأنها المسامير الصدِئة، ثم أتبع ذلك ببكاء وشهيق عصبيّ وقف عنده على قدميه وهو يصيح: لا يا سيدي. بالله عليك لا تغريني بالمال، فإنني لا أفارق ابنتي ولو سففت التراب.
– ومن قال إنك ستفارق ابنتك؟
– سأكون عندك إلى جانبها؟
– نعم. ولن تبيع تفاحًا بعد اليوم، فمدّ إليه جارسيا يده وهو يقول في لعثمة الفرح: أسرع بيدك يا سيدي، فإنا كنا نتحدث الآن في الفرص وكيف تقتنص. فمد إليه بترو يده قائلا: اتفقنا. ثم نظر إلى فلورندا كالمتسائل فأطرقت ثم قالت: مادام أبي معي فأني راضية مسرورة. فقال بترو: هلم إلى داري من الآن. فقبل جارسيا، وهمَّت فلورندا لتجمع بعض متاعها، وكان قليلا تافهًا، ولكن بترو جذب ذراعها في لطف قائلا: لا حاجة لك ولا لأبيك بشيء من هذه الغرفة، اتركي كلّ شيء. ثم خرج ثلاثتهم، ومالت فلورندا لتُغلق الباب فصاح بها أبوها: ماذا تفعلين يا ابنتي؟ دعي الباب كما هو، فإن كل ما في الحجرة من متاع ليس إلا درسًا يعلِّم الناس الأمانة …
وانطلقوا إلى دار بترو، فذهِل جارسيا وذهلت فلورندا لعظمتها وفخامتها وما فيها من فراش ورياش، وما يجول في أنحائها من عبيد وخدم. وفي الصباح أحضرت الملابس لفلورندا، وأحاط بها جمع من الخياطات والماشطات والجواري، فبرز جمالها، وتميزت مواطن الحسن فيها، وأصبحت فتنة المجتلي، وتردّد عليها كبار الموسيقيين والراقصين ليلقنوها دقائق الفن، فبرعت حتى بذت معلميها، ورأى بترو أن الوقت قد حان لظهورها في الحانة.
وفي إحدى ليالي الربيع بقرطبة، ظهرت فلورندا في الحانة، فبعثت فيها حياة لم يكن للناس بها عهد، وأرسلت صوتها حلوًا ناعمًا، كأنه خرير أمواه الجنة، وأطلقت العنان لفنونها فأظهرت من الرشاقة ودقة الأداء والإيقاع ما يسحر الألباب. جمال وفن وابتسامات وروح أخفّ من ريش النعام، فإذا لم تلعب كلّ هذه بالعقول فلا لِعب بها لاعب! جُنَّ النظارة ونبذوا وقارهم، وخيل إليهم أن أرواحهم تسبح في بحر كله طرب وألحان، فصاحوا مأخوذين، وكلما كلّت حناجرهم صاحوا ثانية وثالثة، وكان بين الجمع الحاشد شاعر ناشئ ملكته أريحية الطرب فصاح:
ثم توقف قليلا، ففتح عليه شاعر من مكان بعيد يقول:
فقال الأول:
فأسرع الثاني يقول:
فقال الأول:
فأجاب الثاني:
فضج الناس وصفقوا من الطرب.
وسار ذكر فلورندا في شرق قرطبة وغربها. وأصبح جمالها وفنها حديث كل دار، وسمر كل مجلس، وانهمر الذهب على بترو انهمارًا. أما السيد جارسيا فقد صار من أثرياء قرطبة وظرفائها، يسكن قصرًا فخمًا، ويلبَس الأقبية والبرانس الحريرية من خير ما تخرجه مناسج المرية، ويعيش عيشة الترف والنعيم، ويتسابق الناس إلى معرفته والتقرب إليه، وأصبح حديثه ظريفًا رائعًا، ونكتته بارعة الخيال، ولكنته في العربية جميلة رشيقة زادت العربية جمالا!
وكان يغشَى حانة بترو زمرة من أبناء الوزراء والقضاة وكبار تجار المدينة، منهم غالب بن محمد بن أبي حفص، كان أبوه من وزراء المنصور المقربين عنده، الذين جمع لهم جاههم ومنصبهم ثروة تتحلَّب لمثلها أشداق اليهود.
وطال الأمد على هذا الحب، وغالبٌ مثابر، ينعشه بصيص من أمل، وفلورندا جادة في التيه المتقطع الذي تذهب به بسمة مشرقة، وتعود به تعبيسة غائمة. فلما ناء صدره بما يحمل، وضاق ذرعه بما يلاقي، ذهب صبيحة يوم إلى جارسيا، وأطلعه على أمره، وأنه لا يُطيق الحياة بغير فلورندا، وأنه يطلبها له زوجًا، وأنه يبذل فيها كل ما أرادت وأراد أبوها من مال. فأطرق الأب وعبِث بلحيته طويلا، وأحبّ العرض، لأنه لم يكن يحلَم يومًا أن تصبح ابنته في يوم من الأيام زوجًا لابن وزير المنصور، وإذا كان ينعم الآن بالمال الذي يغرقه فيه بترو، فإنه سوف ينعم بالمال الذي يفيض عليه من غالب، والمال الأول يأتي من ابنته وهي راقصة متبذِّلة، والمال الثاني يأتي من ابنته وهي زوج مصونة تعيش في كنف وزير. ما أبعد البون، وما أعظم الفرق بين الحالين! وهنا رفع رأسه وقال: ولكن ماذا نفعل ببترو؟ إنه لن يفرِّط في فلورندا.
– هل اشتراها بالمال؟ أهي إحدى جواريه فهو يحوزها بملك اليمين؟
– لا. ولكنه هو الذي نشّأها، وهو الذي صنعها، فلو أخذت منه الآن لأصبحت حانته أخلى من شنت ياقب حينما دخلها المنصور.
– إنه كسب من ورائها مالا كثيرًا.
– نعم يا سيدي، ولكنني أصر على مقابلته وإرضائه.
ورأى غالب أنه لو عرض على بترو الأمر في رجاء واستعطاف لفسد كل شيء، لأنه رجل جشع نهم، لا يرضَى بانتزاع فلورندا منه في سهولة ولين، لذلك اتجه إلى جارسيا وقال: أواثق أن فلورندا سترضاني زوجًا؟
– أنا رضيتك زوجًا لابنتي يا سيدي، وهي لا تعصى لي أمرًا.
– عظيم! نجتمع هنا الليلة مع بعض أصدقائي لنعقد الزواج.
– كيف يا سيدي؟ وماذا نعمل لبترو؟
– هذا ما ستعلم نبأه بعد حين، غير أني أرجوك ألا تخبر أحدًا بما دار بيننا إلا فلورندا.
وانطلق غالب فجمع بعض جند أبيه وأعوانه، وأمرهم أن يذهبوا جميعًا إلى دار بترو، وأن يحضروه إليه في عنف وقسوة، كأنه اقترف أشنع الجرائم. وجاء بترو خائفًا مرتعدًا، فلما مثل بين يدي غالب صاح في وجهه: أنت بترو بن برفكيوس؟
فعجب بترو أن يسأله غالب عن اسمه، وهو من روّاد حانته في كل ليلة، وأعرف الناس به من أمه وأبيه، ولكنه أطرق خائفًا مستحذيا وقال: نعم يا سيدي.
فنظر غالب في أوراق أمامه وأخذ يقلبها ثم رفع رأسه وقال: جاءت هذه الأوراق إلى أبي في الصباح، وكان على وشك أن يبعث بها إلى عبد الرحمن بن الفطيس صاحب الشرطة.
– وماذا فيها يا سيدي؟
– فيها المصائب، وفيها ضياع مالك ودمك، فيها يا سيد بترو أنك أفسدت المدينة، وعبثت بأخلاق شبَّانها، وأبحت الخمر تجري أنهارًا في حانتك بعد أن حرّمها الخليفة المنصور. إن هذه الشكاة لو وصلت إلى صاحب الشرطة لأغلق حانتك وصادر أموالك ونفاك إلى الشمال.
فاصفر وجه بترو وقال واجفًا: أشكر لك يا سيدي هذه الصنيعة، ولا بد أن تكون هذه الشكاة من أحد أعدائي.
– نعم هي من أحد أعدائك، وأعتقد أن سبب العداوة إنما جاء من ظهور تلك الفتاة المسماة بفلورندا بحانتك: ورأيي أنهم لا يسكتون عنك إلا إذا صرفتها بأية سبيل.
– إنها حياة الحانة وجمالها ورونقها.
– وكنزها الذي لا يفنى أيضًا. ولكن ما رأيك يا سيد بترو في أن هذا الكنز الثمين سيجرّ عليك الفقر والوبال والنفي؟ أليس من الخير أن تعيش هادئ النفس كما كنت تعيش، وألا تتشبث بمطمع في هلاكك وذهاب مالك؟
– إنني لا أستطيع أن أستغني عن فلورندا.
– حسن جدًّا، ولكنك سترى حانتك الليلة مغلقة الأبواب إلى الأبد. ثم التفت إلى الأعوان وقال في صرامة: خذوه عني.
فتوقف بترو قليلا مستعطفًا وطفق يقول: وكيف أطرد فتاة يا سيدي بلغت قمة الفن والجمال؟ إنني إن طردتها أسرع إليها غيري من أصحاب الحانات بقرطبة.
– لا. لن ينالها أحد بعدك، ولن تغني بعد اليوم في حانة.
– كيف يا سيدي؟
– لأنها ستعتزل الرقص والغناء بتاتًا.
– هذا يخِّفف المصيبة قليلًا، هل تنوي أن تعيش مع أبيها؟
– لا. فظهرت ابتسامة خبيثة على وجه بترو وقال: إن أباها مدين لي بألف دينار.
– ستنالها منجَّزة. ثم التفت إلى أحد الحراس وقال: اذهب معه يا أبا عوف إلى دار جارسيا وأبلغني ما سيقوله له، لا تخرم منه حرفًا. إنه سيقول له: إنه نزل عن حقه في فلورندا، وأصبح لا يد له عليها. ثم نظر إلى بترو نظرة غاضبة وقال: اذهبا.
وفي المساء ذهب غالب بن أبي حفص مع ثُلَّة من أصحابه إلى دار جارسيا، فتلقَّاهم بترحيب وبشاشة، وأقبلت فلورندا في جمالها الفردوسي فحيَّت غالبًا تحية فيها أدب، وفيها حب، وفيها أمل خبئ. وكان جارسيا قد صنع صنيعًا احتفل له، وبذل فيه عن سخاء، فأعدت الموائد للطعام والشراب، وعليها أنواع الورود والرياحين وكل ما أخرجت أرض الأندلس الخصيبة من فاكهة ونَقْل، وكان بين ضيوف غالب أبو العلاء صاعد اللغوي، وهو أديب أخباري لغوي شاعر، قدم على المنصور من ديار الموصل فأكرمه وأحسن وفادته، وثابت بن قاسم وهو من أكبر محدّثي الأندلس، وفاتن الصقلبي مملوك المنصور.
وملأ أحد السقاة كأسًا فلما ملأها بقيت نقطة في فم الإبريق، فلحظها فاتن، وكان يميل إلى معابثة صاعد، ويزعم أنه ينقُل الشعر من كتب مجهولة ثم يدّعيه، وأنه يبتدع في اللغة كلمات ليست منها، ليُظهر لسائله أنه عالم بكل ما غاب عن الناس. فالتفت إليه وقال: هل لك يا أبا العلاء أن تصف لنا تلك النقطة الحائرة في فم الإبريق؟
فنظر إليه صاعد في تحد واستخفاف وقال: وما الذي أعجبك فيها؟
– الذي اعجبني فيها أن تكون خلت من وصفها كتب المشرق!
فقال صاعد في خبث متعمَّد: لعلَّها وصفت في كتب الصقالبة! خذ وصفها يا فتى ثم قال:
فصاح القوم: لله أبوك يا أبا العلاء! لقد جبهت فتانا وألقمته حجرًا!
وبعد أن قضى القوم وقتًا في الحديث تقدم غالب في أدب وإكبار نحو القاضي ثابت بن قاسم، وطلب منه أن يعقد له على فلورندا، فعقد له عليها ثم انصرف القوم جذلين يكررون التهنئات للعروسين.
ونشأت عائشة في كنف أمها مدلَّلة لعوبًا، تعمل ما تشاء، وتجري مع شيطان غيّها كما تريد، واندمجت في المجتمع القرطبي، يذلّل المال لها كل طريق، ويفتح الجمال أمامها كل باب.
كانت عائشة في بدء قصتنا هذه في الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت ذات جمال وملاحة ووجه نضير مشرق، إذا تأملته جزءًا جزءًا كان أنيقًا جميلا، وإذا نظرت إليه جملة كان آنق وأجمل. وجه تنافست فيه العروبة السمحة والأسبانية الفاتنة، فجاء كل جنس منهما بأبدع ما فيه وأروع. هكذا كانت عائشة بنت غالب فيما ترى العين، وفيما يبدو منها من جمال باهر. أمَّا روحها وأما أخلاقها وأما فلسفتها في الحياة، فكانت على النقيض المخالف من ذلك المظهر الخلاّب ولو أن هذه الروح صُوِّرت، أو لو أن العلم استطاع أن يرسم الصفات والمعاني، لرسم لها مخلوقًا بشعًا لم يصوّر الله أدمّ منه فيما صوّر. وكما خلق الله للأفاعي أوعية تُخفي سمومها، خلق لهذه المرأة خلقًا واحدًا يستر كل هذه المثالب وتحجبها عن أعين الناظرين. ذلك هو خلق الرياء، فقد بلغت فيه الذروة، ووصلت إلى القمة كان في مكنتها أن تظهر طيبة القلب، رقيقة العاطفة، تمزج دموعها بدموع البائسين وكان في مكنتها أن تبدو خجولا خفِرة تطرق حياء من تطفل الناظرين. وكانت تستطيع أن تستر في مهارة وحذق كل رذيلة فيها بنقيضها، حتى يعود الجهل علمًا، والحقد عطفًا، والبغض حبًّا، والشره زهدًا. ولقد رمتها الوراثة بنفس حقود وشغف بالانتقام وكراهة متأصّلة للعرب، ولكنها كانت تخفي كل ذلك وراء ستار كثيف من الدهاء والملَق والظهور بالغيرة على العرب، وكلّ ما يتصل بالعرب.
فُتنت بابن زيدون وفتن بها إلى أن أيقظه صائح الرشد فقطع حبالها، وكتب إليها الرسالة التي أملتها عليه نائلة. كتبها خائفًا مترددًا، لأنه كان يعلم أن وراءها حربًا حامية الوطيس، ولأنه كان يعلم أن عائشة ليست من النوع الذي يُصرف بالرسائل، ولا من الصنف الأبيّ الذي يقابل هجرانًا بهجران، ولكنها من الطراز الذي لا ينهزم، من الطراز الذي يحب كثيرًا، فإذا أبغَض أبغَض كثيرًا. وهي إذا مُسّت عاطفتها، أو طعنت كبرياؤها، انقلبت وحشًا لا تُرويه الدماء، وأفعوانًا لا تنفع في سمّه رُقية ولا يجدي دواء.
بلغت رسالة ابن زيدون عائشة فأصابها وجوم عجيب، وذهول مُريب، وأخذت تهتز هزّة المذبوح، وتقهقه قهقهة مجنونة خيرٌ منها العويل والنواح، فأسرعت إليها جاريتها غالية في شماتة مكتومة، ودهِشت أمها فأقبلت نحوها في ذعر وهي تقول: ما الخبر يا عائشة؟
ولكنها دفنت وجهها بين كفيها، وأخذتها نوبة بكاء ونشيج، يقطَع نياط القلوب، فانكبت فلورندا على رأسها تقبّله في حنان وتحاول أن تنزع إحدى كفيها عن وجهها في دُعابة مصنوعة، واستهانة بالأمر متكلفة، وشرعت تقول: إن ابنتي أشجع من أن يدفعها إلى البكاء خطب وإن جلّ، إنها مُصاص الدم الأسباني الذي لا يعرف الخوف، ولا يأبه للكوارث، إنني أزهى بك يا عائشة على جميع بنات قرطبة الضعيفات النفوس المنحلاّت العزائم، فيك عزم جدك جارسيا، وفيك مضاؤه وفتكه بالأعداء. لقد رأيته في أشدّ نوازله فما رأيت دمعة تطفِر من عينيه. وكان يقول حينما يراك وأنت تضربين الصبيان، وتأخذين بشعر نواصيهم: «هذه ابنتي يا فلورندا حقًّا، وقد كنت أخاف أن يطغى عليها الدم العربي» ثم يُطرق مبتسمًا ويقول في صوت خافت: «إنها ستنتقم لنا من العرب». فماذا جرى يا عائشة؟ أضاعت فيك فراسة جدّك أم عاودك عرق من لين أبيك ورخاوة طبعه؟ وماذا في هذه الورقة؟ ثم جذبتها بعيدًا في إحدى زوايا الغرفة وهمست في أذنها قائلة:
– هل قال فيها إنه مات بعد كتابتها؟
– لو مات لكان الخطب أهون وأيسر.
– ماذا قال في رسالته؟
– لطمني لطمة سأترنّح لها إلى الأبد، وداس على حبي بقدميه، ومرّغ كبريائي في التراب، وركل برجله عاطفة كنت أعتزّ بها، وصوّرني سائلة مستجدية ممزّقة الثياب تمد يدها إليه للإحسان فيبصُق على اليد الممتدة إليه ويوسعها زجرًا ونهرًا.
– كانت عقيدتي فيه دائمًا أنه شاب ماجن دوّار، كالطائر الذي يغرّد في كل روض، ويأكل من كل ثمر. دعيه يا عائشة فإن ألف شاب في قرطبة يرى من أكبر نعم الحياة أن يكون لك زوجًا.
– سُحْقًا للخائن! إنه سيلقى عقابه جزاء وفاقًا. والمثل الأسباني يقول: إذا قذفت الزجاج بحجر قذفك بشظاياه.
أما غالية فقد جعلت بين قلبها ووجهها حجابًا لا ينفُذ منه شعاع، والنساء أقدر خلق الله على إسدال هذا الحجاب. ثم أمرت عينيها أن تصبَّا شيئًا من الدمع لإكمال صورة الحزن والأسف وقالت: إن هذا المأفون لم يكن شيئًا ولم تسمع به قرطبة إلا بعد أن اتصل بسيدتي، فرفعت قدره، وأعلت مكانته، وأرغمت الناس على التحدث بأدبه والتغنّي بشعره. وإني أعرف من مباذل هذا المائق ما لا تستطيع غسله أمواج البحار.
فنظرت إليها عائشة نظرة شكر وارتياح وقالت: لا يا غالية. دعيه لي. فإنه لُعبة صغيرة سأروّح بها عن نفسي، فإذا فرغت منها فرّجت همومي بتحطيمها، وسيعلم الوغد أن حفيدة جارسيا إذا عزمت صممت، وإذا رمت أصمت.