الفصل الخامس
استيقظ ابن زيدون من نومه بعد أن قضى أول ليلة في وليمة نائلة في لهو وطرب، وبعد أن قضى آخره في همّ ونصب وأرق. فإن الماضي الدميم لا يزور أصحابه إلا إذا أوَوْا إلى مضاجعهم، وانفردوا بأنفسهم، وبعدوا عن ضجيج الحياة وصَخبها. فما كاد رأس ابن زيدون يمسّ الوسادة، حتى أطلَّت عليه الذكريات برءوسها بشعة منكَرة، كأنها رءوس الشياطين. وهذه الذكريات تظهر أول الأمر في هيئة أشعة ملوّنة مبهمة، ثم تتجمع وتتناسق لتُبْرز صورة واضحة لشخص أو لحادثة، لا يجد المرء عنها محيدًا، ولا دونها منصَرفًا. وكلما زاحمها بالتفكير في شيء يسرُّه ويشرح صدره، ويجذب إليه النوم الهادئ الهنيء، طردته في عنف وجَبَرية، وأخذت مكانه شامتة ساخرة. وكلما حاول أن يجعل بينه وبين التفكير المطلق سدًّا، وأن يحملق في الظلام كما يحملق المعتوه، أبى الدماغ أن يبقى فارغًا، وأسرعت إليه الصورة كأول ما كانت قوة وظهورًا.. وقد يرى أن يفرّ من الوَحدة بالقراءة، فيوقد المصباح ويختار أجلب كتاب في خِزانته للتسلية والتفريج، ويطلُّ على السطور، فإذا هي تتراقص أمامه مخرجة له لسانها في تحد وعبث، وإذا الصورة السمجة تزاحم الكلمات وتحجُب عنه السطور.
يا سيدي الشاعر المبدع، سمعتك تقول:
فأحببت غزلك العفيف، وأكبرت أدبك وفنك، فاصدح في أفق الأندلس بلبلا غِرّيدًا، وعش للمعجبة بك عائشة بنت غالب.
يذهل ابن زيدون عند قراءة الرسالة، ويخالط نفسه سرور مبهم، ثم يتخيل عائشة التي رآها في دار ابن عبدوس وفي السفينة، فيراها صورة من النبل وكرم الخلال، ويرى أنها كما يبدو من رسالتها أديبة تقدرُ شعره، وتتابع منه ما يذيع بين الناس، والشاعر أفتن الناس بشعره، والإشادة بما يقول أضعفُ مدخل يلج منه الخبثاء إلى نفسه. سُرّ ابن زيدون بالرسالة فأسرع يشكرها عليها، ويثني على أدبها وحسن تقديرها.
وتتجمع أشعة جديدة: فيرى دارًا رفيعة البناء، يدل مظهرها على العظمة والغنى والجاه العريض، وتُقبل عائشة في تؤدة وبطء، تتألق البشاشة في وجهها كما يتألق نور اليقين بين ظلام الشكوك، وتمدّ يدها إليه مرحِّبة مؤهلة فيحييها في لطف وأدب. ويجلس الثلاثة في بهو رحْب، ويدور حديث رقيق الحواشي في الأدب والسياسة، وتزول الهيبة عن عائشة رويدًا رويدًا، ويتفتَّح طبعها كما تتفتح الوردة لأضواء الصباح، وتذهب الكُلفة، ويحل المرح محل الحياء، وتُنثر الفكاهات والملح، ثم تأمر عائشة جاريتها غالية أن تُحضر أقلامًا وأوراقًا، وتجلس جِلْسة التلميذة المطيعة في تصنُّع محبَّب وتقول: أملِ علي يا سيدي رائعتك الأخيرة في ابن جهور. فيرى نفسه وهو يملي عليها:
ثم يتخيل نفسه وهو يقرُب منها ليرى أين انتهت في الكتابة، فيفعَمه من شعرها طيبٌ فِردوسي الشذا سماوي النفحات. وتنتهي القصيدة ويحييها وينصرف وهو أشغف الناس بها.
ثم تتجمَّع الأشعة وتتكون الصور في سرعة وتعاقب: فيرى أنه أصبح لعائشة عبدًا، وأن إرادته سُلبت منه سلبًا، وأنه صار شبحًا يروح ويجيء كما تريد هي أن يروح ويجيء، وقد انطفأ في نفسه كل أمل، ومات كل طموح، وخمدت كل عزيمة. ثم تطير كل هذه الصور، وتتجمع أشعة جديدة تُبرز صورة صارخة الألوان، هي صورة الرسائل التي كان يبعث بها إليها أيام جنونه بغرامها، فيئن أنين المجروح، ويُطبق عينيه في ألم مُمضّ قاتل.
استيقظ ابن زيدون من نومه في رائعة الضحا فدخلت إحدى جواريه وهي تقول: هذه رسالة يا سيدي جاء بها بلال عبد سيدتي عائشة ولم ينتظر. فيأخذ ابن زيدون الرسالة بيد ترتعد، ثم يفضّ غلافها ويقرأ:
فيقذف بها غاضبًا، وينهض من سريره كأنه يريد أن يفرّ مما حوله من نُذُر الشر والدمار، ولا يمضي قليل حتى تعود الجارية فتقول: إن أعوان ابن جهور حضروا الساعة يطلبون من سيدي أن يذهب على الفور معهم لمقابلة عميد الجماعة.
كاد ابن زيدون يسقط على الأرض حينما فجأته الجارية بهذا الخبر، وحاول أن يشدّ من ساقيه فلم يستطع، فألقى نفسه على كرسيّ كان بجانبه وقال وهو يلهث: أعوان ابن جهور؟
– نعم يا سيدي.
– ما عددهم؟
– أربعة يا سيدي.
– هل يبدو على وجوههم العبوس؟
– هم دائمًا عابسون يا سيدي!
– حينما تحدّثوا إليك هل كان في كلامهم غلظة وخشونة؟
– كانوا أشدّ غلظة من زبانية الجحيم.
يقوم ابن زيدون فيرتدي ثيابه، ويأمر خادمه أن يعدّ له بغلته، ثم يخرج وهو يتكلف الابتسام، فيرى أعوان ابن جهور فيحييهم بإيماءة العظيم المحسّ بجلال منصبه، ولكنه يلمح من طرف خفي أنهم لم يطأطئوا له رءوسهم، ولم يُظهروا الخضوع الذي يصطنعونه لكبار الساسة فيغوص قلبه بين جنبيه، ويؤكد له الخوف أنهم لو جاءوا لخير أو لغير شرّ لتكلَّفوا الأدب والملَق.
ويمتطي ابن زيدون بغلته ويحيط به الأعوان فيسألهم: مَن عند مولاي أبي الحزم؟ فيجيب أحدهم؟
– إنه منذ باكورة الصباح في مجلس حافل بوزراء الدولة وعظمائها.
– هل سمعته يضحك؟ فيدهَش العوْن ويخالجه شكّ في عقل من يخاطبه ويقول: يضحك؟ ماذا يريد سيدي بهذا؟
– يضحك يعني يضحك. الضحك يا شيخ ألا تعرفه؟
– أعرفه، ولكن مولانا أبا الحزم قليل الابتسام بله الضحك، وهو في هذا اليوم أشدُّ خلق الله جُهومة.
– هل زارته امرأة بالأمس في دار الرياسة؟ فتزيد دهشة العون ويقول: ماذا يقصد سيدي؟
– امرأة … امرأة … هل جاءت بالأمس امرأة وطلبت مقابلة ابن جهور في شكاية أو رفع مظلمة؟
– نعم، وهذا يحصل كثيرًا يا سيدي.
وبلغ ابن زيدون دار الرياسة، وكان أول من قابله ابن عبدوس فحيَّاه ضاحكًا وهو يقول: إن لهذا اليوم ما بعده يا أبا الوليد! ثم رأى محمد بن عباس يمر به مقطبًا لا يخاطبه بكلمة. وقد كان في هذه اللحظات القليلة هدفًا للهواجس، فكان يؤوِّل الابتسامة بالسخرية والشماتة، والعبوس بالاشمئزاز والإهانة، ويفسر كل كلمة تُلقى إليه بما يملأ نفسه من خوف وإحساس بالخطر، وأخيرًا جاءه الإذن بالمثول أمام ابن جهور.
دخل ابن زيدون فحيا عميد الجماعة وجِلًا مهولا، فمدّ إليه ابن جهور يده قائلا: كانت ليلتك بالأمس في دار نائلة الدمشقية ليلة ماجنة!
فانحلَّت أوصال ابن زيدون، وعلم أن الزوبعة تتجمع لتثور، وأن الصاعقة توشك أن تنقضّ فقال: إنها جمعت يا سيدي أدباء قرطبة وشعراءها، وكان السمر فيها عفًّا لا يخمِش وجه الأدب.
– وكانت الألحان! وكان الرقص! وكانت الخمر! فقال ابن زيدون في نفسه: هذه بداية الشرّ. إنه سيخرج من هذا إلى مسألة الرسائل.
فجمع قوة جأشه المبدّدة وقال: ولكني كنت أقول يا مولانا كما قال الرسول الكريم: «اللهم حَوَالينا ولا علينا».
فنظر إليه ابن جهور نظرة حائرة وقال: أخشى أنك تخدعني يا فتى.
فلما أتم الأبيات تحرك ابن جهور في مجلسه وقال: لقد اجتمع الوزراء في هذا الصباح وأسندوا إليك منصب الوزارة، ورأيت إلى ذلك أن تلقب بذي الوزارتين، لأنك ستكون وزيري وسفيري إلى أمراء الأندلس. ولن أنسى لك يا أبا الوليد عظيم جهادك وكريم بلائك في كبح جماح البربر.
أرأيت الغريق ولم يبق منه إلا الذّ ماء يرى يدًا تمتدّ إليه بين الأمواج فتقذف به إلى الشاطئ الأمين؟! أرأيت ميتًا مُسجّى جلس حوله أهله يبكونه، فإذا الغطاء ينكشف، وإذا الميت يثب كأحسنِ ما يكون صحة وعنفوانًا؟ تلك كانت حال ابن زيدون. فإنه ما كاد يسمع كلمات ابن جهور حتى طافت بعينيه غشية، وأخذ لسانه يتلعثم بكلمات كان فيها الخفاء إفصاحًا، والإبهام بيانًا. ثم عاد فملك زمام نفسه فشكر ابن جهور على عظيم ثقته وجميل رأيه، وخرج من لدنه مزهوًّا كأن مُلك الأرض جُمع له في مِنديل، وكأن الشمس توّجته بالأكاليل.
وفي نفس هذا الصباح قبل أن يستيقظ ابن زيدون من نومه، ارتدت نائلة خير ثيابها، وأخذت مِقصًّا صغيرًا أخفته في جيبها، ثم قابلت عبيدها الذين أعدوا محفَّتها فسألتهم: هل أحضرتم قوارير النفْط وأعواد الثقاب؟
فأجاب كبيرهم: نعم يا سيدتي. أعددنا خمس قوارير أخفيناها تحت ثيابنا.
– حسن. سنذهب الآن إلى دار عائشة بنت غالب، فإذا صعِدت إليها فاجلسوا أنتم إلى عبيدها، وخذوا معهم في الأحاديث، ثم اطلبوا منهم أن يُعدوا لكم شرابًا ساخنًا، فإذا أوقدوا النار فغافلوهم، وليسكب كل منكم ما في قارورته على النار، وأحدثوا نوعًا من الهَرْج تتمكنون فيه من إلقاء بعض المتاع على النار لتزيد اشتعالا، وإياكم أن يراكم من العبيد أحد، أو يدرك حيلتكم أحد، ثم ارفعوا أصواتكم في هلع وذعر صائحين: النار! النار! هذا ما أريد منكم أن تعملوه في هذا الصباح، ولا بد من إتقانه على أحسن وجه، كما يجب ألا تحوم حولكم شبهة.
وركبت نائلة المحفَّة، وانطلق العبيد حتى بلغوا الدار، فصعِدت الدرَج وقابلتها عائشة في فتور وكبرياء ولكن نائلة الداهية لم تحفِل بما رأت في سبيل غايتها، ففتحت ذراعيها لعائشة في شغف ووله، وأخذت تُمطر خديها قُبلا، وتناجيها بأصدق ما يناجي الحب، وألطف ما يُكنُّ الوداد، ثم صاحت: ما هذا يا عائشة؟ في كل يوم تزيدين نضارة وإشراقًا؟ لقد حبَّبت إليّ الشباب يا ساحرة، ولكن أين الشباب؟ أتعلمين أنني بعد أن حُرمتُه أشعر بلذة عجيبة حينما أراه في فتاة مثلك لم تشرق على مثلها شمس قرطبة؟
فأجابت عائشة: هذا إطراء يا سيدتي يزيدني زهوًا وغرورًا. أرأيت ابن زيدون منذ قريب؟
– كيف أراه يا حبيبتي، وهو لا يفارق دارك؟ ولكني في الحق أعذره وأعذر كل فتى يُفتن بهذا الجمال الرائع. ثم لا أخفي عليك أن من أسباب زيارتي لك في هذا الصباح أن أراك وأن أراه، فإن هذا الملعون هجر داري منذ عهد بعيد، حتى كدت أنسى ملامح وجهه. ثم ألقت بنظرة خفيَّة فرأت الغرفة الغربية، ورأت بابها مفتوحًا، ثم أرسلت نظرة أخرى فرأت مفتاح خِزانة الرسائل وقد شُدّ بخيط إلى عنق عائشة. وهنا تنهدت عائشة وقالت: إنه هجر داري أيضًا.
– هجر دارك؟! هذا مستحيل.
– هجرني فعلا، ولكنه سيندم حين لا يجديه الندم.
– لا تقولي هذا يا بُنية، واتركي الأمر لي، فلن يأتي المساء إلا وخطيبك في دارك.
وأمرتهم نائلة أن يذهبوا إلى دار ابن زيدون، وما كادوا يصلون إليها حتى أشرف عليهم فوق بغلته، وحين رأى نائلة نزل ليحيِّيها وهو يصيح في فرح وصوت متقطّع: تقلدت الوزارة! جئت الآن من دار الرياسة. قابلت ابن جهور. إنه رجل عظيم. من أين جئت يا خالتي؟
– من دار عائشة.
– عائشة! عائشة! قاتل الله عائشة! ماذا كنت تصنعين في دارها؟
فضحكت وقالت: كنت أطفئ نارًا بنار. ثم ألقت في يده الرسائل وهي تقول: خذ رسائلك أيها الوزير العظيم، واحذر أن تكتب غيرها. فصاح ابن زيدون في فرح يشبه الجنون.
– الرسائل! الرسائل! ورمى بنفسه يقبِّلها ويعانقها، ويحجِل بإحدى قدميه كما يحجل الصبيان، ثم أخذ يهب نحو الباب قائلا: كيف حصلتِ عليها يا خالة؟ فقصّت عليه الخبر، فقام إليها يكرر عناقها وتقبيلها وهو يغمغم: أنت ملكي الحارس! أنت نبراس حياتي ومنقذ آمالي؛ ثم ودّعته وانصرفت بعد أن كررّت تهنئته بالوزارة.
رأيت محمد بن عباس بالأمس، فرأيت الجهل في ثياب، والوقاحة في جلباب، نظر إليّ نظرة البطرة الأشِر، كأنه يظن الشمس تُشرق بأمره، وأن الألسنة تسبح بحمده، غني المال، فقير العرض، دنِس الذيل هزيل المروءة.
فاضطرب وقال: وهذه ثالثة الأثافي. ثم صاح: يا عليّ هات موقد النار. فلما حمله إليه قذف فيه بالرسائل، ولم تهدأ له نفسه حتى رآها رمادًا.