الفصل السادس
ولما عظم إقبال الدنيا عليه كثر حاسدوه والناقمون منه، فهو يقول لابن جهور في قصيدة:
وكان أبو عامر بن عبدوس أشد الناس له حسدًا، ذلك لأن ابن زيدون كان يزاحمه بجانبين: جانب حبه لولادة، وجانب قربه من ابن جهور حتى أصبح لا يكاد يُبرم أمرًا دون مشُورته.
كان ابن زيدون يقضي طليعة الليل في ندوة ولادة بين طرب وإيناس ولهو ومرَح، ولطالما هزّه الوجد وأثار الحب في نفسه كامن الشعر فقال:
نعم كانت الحياة في أعينهما جنة وارفة الظلال، وفي سمعيهما أنشودة رائعة الألحان. كانا عصفورين غردين يتنقلان في خفّة ومرح من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، تبتسم لهما كل روضة، ويصفِّق كل غدير، وقد أمِنا عواصف الرياح ومكايد الفخاخ. هكذا كان يعيش ابن زيدون في كنف ولادة، وهكذا كانت تعيش ولادة تحت جناح ابن زيدون، فهما في ليلة في قارب في النهر يتهادَى بين الضفتين، يعبث بشراعه النسيم، وتنبعث منه ألحان القِيان، وضحكات الندامى في الليل الساجي، فتملؤه حياة ومرحًا. وهما في ليلة في دار القاضي ابن ذكوان صديق ابن زيدون وحبيبه؛ بين ضحك ومزاح. وهما في ليلة في مرج الخزّ، أو القصر الفارسي أو عين شُهدة يناغيان البدر ويسامران النجوم.
عاش ابن زيدون بعد خطبته لولادة سعيدًا، فنسي أيام شدّته، وغفر للزمان زلته ولم يفكر في عائشة بنت غالب وكاد يغفر لها كل ذنوبها. غير أنه كان يحسُّ بأن شيئًا يلاحقه، ويعترض طريقه، ويكدّر عليه صفوه، ذلك هو حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ولكنه كان كلما مر به هذا الخاطر هزّ له كتفيه، ومطّ شفتيه، وأراد أن يعيش في الساعة التي هو فيها.
ظفِر جاسوس ابن عبدوس بكل هذا، ودوّن كلماته التي كان ينثرها جزافًا في مجالس المظفر، ولوّنها بما شاء له فنه واقتضته صناعته، وذهب به إلى صاحبه فزاد فيه ابن عبدوس ما أراد — وما آفة الأخبار إلا رُواتها — وملأ به صدر ابن جهور، وكان رجلا أذُنًا يُلقي السمع لكل واش، ويُنصت إلى كل نمَّام. وعاد ابن زيدون بعد شهرين فلحظ في ابن جهور انصرافًا عنه، وفتورًا عند لقائه، ورأى أن الابتسام أصبح جُهومة، والثقة أضحت شكًّا، والميل صار مللا. فبعث إليه بقصيدة فيها استعطاف، وفيها تهديد، وفيها شمم وإباء. منها:
ولكن ابن جهور استمرّ في تيهه وانحرافه عنه، غير أن ابن زيدون كان قويّ الصلة بابنه أبي الوليد محمد بن جهور، وكان يظن ألا يناله من الوالد مكروه، مادام يحظى بمحبة الولد.
ذهب بعد عودته من بطليوس إلى دار ولادة، فقابلته بوجه بشّ، وأشواق كادت تملأ جوانب الدار، ثم قالت في غضب مصطنع: لا يا أحمد! لقد أطلت عليّ الغيبة، وأنساك جاهك وعظيم مكانك بين أمراء الأندلس فتاتك المزهوّة بك. ثم رفعت رأسها في اعتداد وقالت: لست أنت وحدك الشاعر الذي هزّ أعطاف قرطبة، فإن نفسي تحدثني أن أنظم في تيهك وجفوتك قصيدة يتناقلها الرواة، وتخلُد على الزمان.
– لا لا يا سيدتي. شعر وجمال لا يجتمعان! فأجابت في دُعابة: يجتمعان يا مولانا الوزير، فليس الشعر إلا جمالا، وليس الجمال إلا شعرًا.
ثم جذبته من ذراعه إلى البهو، حتى إذا جلس أخذت تقول: ألا من سبيل إلى إنقاذي من ابن عبدوس؟! إنه يا أبا الوليد يلاحقني كما يطارد الصائد فريسته، إنه يفرض عليّ حبَّه فرضًا كما يفرض ابن جهور الجزية على كل ذِميّ، إنه من الصِّنف الذي لا يرده الإعراض، ولا يكفكف من غربة الملال. إنه وقح مغرور يظن أن قلوب الحسان ملك يمينه، وأن له وحدَه أن يختار منها ما يشاء. والأدهى والأمرّ أنه يرى أنه أجمل شاب بقرطبة، وأن الأندلس لم تحو جنباتها من يساويه في جاهه وأدبه وثروته. كان ينكبُني بزيارته كل يوم وأنت غائب، ويصارحني بحبه في سماجة وإلحاح، فلما سددت الطريق في وجهه، وأخبرته أنني أصبحت لك خطيبة، بعث إلي بالأمس امرأة من صويحباته، تُشيد بمحاسنه، وتجتذب مودتي له، فرددتها أقبح ردّ، ورجعتها إليه حُنينًا بلا خفين؛ وهناك رجل آخر أشد منه بلاهة وأكثر جهلا، ذلك هو أبو عبد الله بن القلاَّس البطليوسي. ظن هذا المغرور أن المال الذي جمعه أيام الفتن والكوارث يُنيله كل شيء، فراح يتابعني بنظراته، ويضايقني بزياراته. لقد ضقت بهما ذرعًا يا أبا الوليد، والذي أرجوه أن تكتب إلى ابن عبدوس رسالة عني تردّه إلى صوابه، وتذوده عن بابي.
فتأوّه ابن زيدون واضطرب في مجلسه وقال: إن ابن عبدوس كان فيما يزعم لي صديقًا، ولكني أقرأ في عينيه الآن الحقد والبغضاء، وأكبر ظني أنه يدُسّ لي عند ابن جهور.
– كيف يا أبا الوليد؟
– لا أدري. ولكني منذ عودتي من بطليوس لم أجد ابن جهور كعهدي به.
– هذه دسائس الأندلس! فانظر هل عصف بمجدنا، وقطَّع مملكتنا أجزاء، وأغرى بنا ملوك الإفرنجية إلا التحاسد والتباغض والأثرة؟ لا تبال يا سيدي، إنهم ذباب لا يملك إلا الطنين. ثم أسرعت إلى ورقة كانت فوق خوان وقالت في إصرار: بحقي عليك يا أبا الوليد إلاّ ما كتبت إلى ابن عبدوس حتى تستريح داري من شؤم طلعته.
أما بعد. أيها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البيِّن سقطَه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى في شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب.
فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظَفر، والجنة معك سقر. كيف رأيت لؤمك لكرمي كِفاء؟ وضَعتك لشرفي وفاء؟ وأنَّى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها؟ والطير إنما تقع على ألاّفها؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان.
وهنا قالت ولادة: لقد قتلت الرجل. وإن من السهام كلامًا، ومن البيان موتًا زؤاما. ثم مالت عليه وقالت: بالله عليك إلاّ قلت فيه شعرًا، حتى لا ينبض بعد له عرق، ولا يطَّرد نفس! فجذب ابن زيدون ورقة وأخذ يفكر ساعة، ثم كتب:
فقهقهت ولادة وقالت: حتى والله ولا الدهليز! قل بالله عليك يا أحمد:
وجمعت الرسائل، ودعت عبدها رابحًا وأمرته أن يسرع بكل رسالة إلى صاحبها.
وبعد قليل أقبل أبو بكر بن ذكوان، وعمَّار الباجيّ، وعبد الله بن المكري، فاتسع نطاق الحديث وتعددت طوائفه، فقال ابن ذكوان: لقد تناثر اليوم في قرطبة خبر يهمس به الناس في سخط واستنكار، هو يدور حول المأمون بن ذي النون أمير طليطلة وما تسوّل له نفسه من الهجوم على قرطبة والاستيلاء عليها.
فقال الباجي: إن القرطبيين لا يبغضون شيئًا في الدنيا كما يبغضون البربر، بعد أن شهدوا حكمهم، وولعهم بالتخريب والتدمير. وهذا المأمون ليس إلا عصارة السلالة البربرية، وهو لا يُدل علينا بشيء إلا أنه حبيب الأذفونش.
فتململ ابن زيدون وقال: إنه لو خدعته نفسه، وزيَّن له الغرور غزو قرطبة، لرأى حولها أسوارًا من سيوف وقلوب، فخير له أن يقبع في داره، وأن يتخلَّى عن الهوى ويعمل على جمع الكلمة ونبذ الفرقة. إن عرب الأندلس لن يعود إليهم مجدهم حتى تعود إليهم وحدتهم، وتتألف قلوبهم.. ثم زفر زفرة طويلة وقال: لقد ضاعت الأندلس، وتبدّد بها ملك كان بهجة الدنيا، وزينة الدهور، وانفصمت تلك العروة العربية التي جمعت الآراء على رأي، وجعلت من الزنود المفتولة زندًا، ومن السيوف الصارمة سيفًا، فأصبح العرب بعد انحلالهم في هذه الجزيرة النائية بدَدًا كالشياه فتك الذئاب برُعاتها، فهامت في بيداء الخوف والجوع لا تسكن إلى ظل ولا تأوي إلى سياج.
أين أيام عبد الرحمن الداخل؟ ذلك الفتى الشمَّري الأحوذي الذي قدم الأندلس وحيدًا، فلم تمر به سنة حتى كانت جميعها في قبضته. وأين منا عهد الناصر لدين الله، والناس ناس، والزمان زمان، حين كان ملوك الإفرنجة يستجدون رضاه ويتسابقون إلى طاعته؟ بعث إليه صاحب القسطنطينية العظمى سفراءه ومعهم أشرف الهدايا وأنبلها، فتلقتهم قرطبة في يوم مشهود، وأقبلوا في خضوع نحو قصر الزهراء يقدمون للناصر إخلاص سيدهم وصادق مودته. ثم أين منا أيام ابنه الحكمَ المستنصر بالله حين اعتزم غزو بلاد الملك أردون؟ ذُعر الملك فسار إلى الحكم في عشرين رجلا من أصحابه راجيًا منه أمانًا واعتصامًا بذمته، فلما دخل قرطبة سأل أول ما سأل عن قبر الناصر لدين الله، فلما أرشد إليه وقف أمامه في صمت وخشوع خالعًا قلنسوته حانيًا ظهره، وأمر الحكم بإنزاله بدار الناعورة فأقام بها يومين، ثم استدعاه إليه وكان قد أعد لليوم عُدته من الزينة ومظاهر القوة، وجاء محمد بن القاسم بأردون وأصحابه فدخلوا بين صفوف الجند، والملك ذاهل يقلِّب الطرف ويجيل الفكر في كثرتهم وكمال عدتهم، حتى وصل هو وصحبه إلى أول باب للزهراء فترجَّل وترجلوا، فلما بلغوا البهو جاء الإذن للملك بالدخول فتقدم وأصحابه وراءه، حتى قابل مجلس المستنصر بالله، فوقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرًا إعظامًا، فلما قابل سرير المُلك خرّ ساجدًا سويعة ثم استوى قائمًا وأهوى على يد الخليفة يقبلها ويبتهل داعيًا شاكرًا، وقد علاه البُهْر من هول ما باشره، وجلالة ما عاينه من فخامة وعظمة ومُلك وسلطان. وكان يومًا حافلا، وكان للخطباء والشعراء فيه مقامات حسان.
هكذا كانت صولتنا، وهكذا كان سلطاننا، فأين منا ذلك المجد الضائع، وذلك السلطان الذي احتسبته أسفار التاريخ حتى لا يظهر للعِيان؟
فأسرع ابن المكري يقول: الله الله! إن من البيان لسحرًا!
وقال ابن ذكوان: حقًّا إنك لخطيب يا أبا الوليد؟
فصاح ابن المكري: ابن جهور أقدر الناس على حمل هذا العبء العظيم بذكائه ودهائه وبعد رأيه، ولا يقف في طريقه إلا أنه ليس من سلالة الملوك. والقرطبيون خُلقوا وفي دمائهم حب الملوك، فهم لا يبذلون أرواحهم رخيصة، ولا يجبهون الموت، إلا إذا قادهم ملك أو خليفة.
فهز ابن زيدون رأسه في حزن وقال: هذا صحيح يا أبا يزيد. فأسرع الخبيث يقول: لم يبق بقرطبة اليوم أحد يصلح لمقاومة الإفرنجة. وكان الناس منذ حين يلتفون حول فتى من أبناء الناصر لدين الله يسمى ابن المرتضى، ولكنه لا يُعلم له الآن مكان، وأظنه قضى نحبه.
فتحرك الباجي في مجلسه وهو يقول في صوت خافت: أخشى يا ابن أخي ألا تكون محيطًا بالخفيِّ من الأمور، فإن بعض الناس يظن أن ابن المرتضى عاد إلى قرطبة منذ شهر، وأنه في مكان لا يعرفه إلا خاصة أتباعه. فانقبض وجه ابن زيدون، وقال في صوت مختلج.
– من أخبرك بهذا؟
– لم يخبرني أحد، ولعله ظن يا أخي، وإن بعض الظن إثم.
– هذه أباطيل يصطنعها مختلقو الأكاذيب، ويرجف بها المرجفون ثم تحفَّز القوم للقيام فودعوا ولادة وانصرفوا.
ولما بلغ ابن زيدون داره التفت خلفه فرأى رجلا كان يتبع خطواته، يسرع ثم يختفي وراء جدار، فسهم وجهه وقال متأففًا: سُحقًا لجواسيس قرطبة؟