طبيعة الخلايا
(١) طبيعة الخلايا
الخلية هي أصغر وحدة في الحياة، ومنها تتكون جميع الأحياء، بدءًا من الكائنات وحيدة الخلية المعروفة لدينا باسم البكتيريا، ووصولًا إلى أكثر الكائنات تعقيدًا؛ مثل الإنسان الذي يضم أعدادًا هائلة جدًّا من الخلايا، لكن تلك الأعداد تتضاءل أمام عدد الخلايا في حوت أزرق يبلغ وزنه مائتي طن. ويمكن النظر إلى الخلية في أدائها دورَها كاللَّبِنة الأساسية للحياة، على أنها مجموعة بسيطة نسبيًّا من المكونات التي تعمل في تُؤَدَةٍ بَالِغة؛ كي تحافظ على وجودها، وتنقسم من آن لآخر لتكوين خلية جديدة. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فكل الخلايا، بدءًا من أبسطها وحتى أكثرها تعقيدًا، هي مصنع جزيئي متكامل يعمل بكل همَّة في كل دقيقة من دورة حياته، سواء في نصف الساعة الذي يمثل عمر أغلب أنواع البكتيريا قبل أن تنقسم، أو في الصيانة الذاتية والنشاط اليومي لخلايانا العصبية التي تعيش عدة عقود. إن تصوير الخلية كمصنع يُعد ناقصًا بعض الشيء؛ فحتى يجاري ذلك المصنع النشاطَ الخلوي، يجب أن يُفكَّك ويعاد بناؤه هو وغالبية آلاته يوميًّا، دون أن تنخفض مستويات الإنتاج به. وجدير بالذكر أن عدد الخلايا النباتية والحيوانية أكبر ألف مرة من البكتيريا فضلًا عن أن تنظيمها الداخلي أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
ما نوع الآلية الداخلية التي يمكن أن تدعم المستويات الهائلة من التخليق التي تسمح للخلايا الأبسط بمضاعفة نفسها في دقائق، والخلايا الأكثر تعقيدًا في يوم واحد؟ بشكل أساسي، تعتمد الحياة على ذرَّاتِ ستةِ عناصرَ فقط من ١١٧ عنصرًا معروفًا لنا، وهي: الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأكسجين والفوسفور والكبريت. يشكِّل الهيدروجين والأكسجين — وهما متحدان معًا لتكوين جزيئات الماء — ٩٩ من كل ١٠٠ جزيء في الخلية، وهو ما قد يجعل الحياة تبدو وكأنها كيان مائع للغاية، لكنَّ الحقيقة أن بعض هذا الماء مرتبط بإحكام ببنية الجزيئات الأكبر حجمًا، ولا يكون في شكل سائل فعلي. تعتمد الحياة عند مستوى الجزيئات على مجموعة محدودة من جزيئاتٍ صغيرةٍ أساسُها الكربون شائعةٍ في كل الخلايا، وتتضمن السكرياتِ (التي توفِّر الطاقة الكيميائية)، والأحماضَ الدهنية (التي تكوِّن أغشية الخلايا)، والأحماضَ الأمينية (الوحدات المكوِّنة لكل البروتينات)، والنيوكليوتيدات (الوحدات الفرعية للجزيئات الحاملة للمعلومات الوراثية؛ مثل الحامض النووي الريبي منقوص الأكسجين «دي إن إيه»، والحامض النووي الريبي «آر إن إيه»). تتكون كل البروتينات من ٢٠ نوعًا مختلفًا فحسب من الأحماض الأمينية المنتشرة في كل الكائنات الحية. تجتمع هذه «الأبجدية» من الأحماض الأمينية في مجموعة من الأشكال المختلفة والمشابِهة لاستخدام الحروف في تكوين الكلمات؛ وذلك لتكوين «مفردات» هائلة العدد من البروتينات. توجد البروتينات في مجموعة من الأشكال ذات التنوع الهائل؛ مما يوفر المواد البنائية، والمحفِّزات الكيميائية، والمحركات الجزيئية التي تدعم وتدفع العمليات التي تقوم عليها الحياة. تُخزَّن شفرة كل بروتين في شفرة أخرى مكوَّنة من أربعة أحرف تكوِّن الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» وتُورَّث من الخلية الأم إلى الخلية الوليدة مع كل عملية انقسام. يختص كل جين من الجينات الفردية التي يبلغ عددها نحو ٢٤ ألف جين في اﻟ «دي إن إيه» ببروتين معين، لكن قد تحتوي أجسادنا على أضعاف هذا العدد من البروتينات التي تتكون من خلال تعديل الرسالة الوراثية الأصلية. تتجمع البروتينات لتكوِّن مركباتٍ متعددةَ البروتيناتِ تؤدي وظيفة التُّروس والمحامل التي تدفع محركاتِ الإنتاجِ والصيانة داخل الخلية. يعمل هذا المستوى من التعقيد بشكل مثالي في الخلايا الأبسط مثل البكتيريا. لكنْ في الخلايا الأكبر حجمًا والأكثر تعقيدًا، مثل خلايا جسم الإنسان، هناك مهامُّ معيَّنةٌ تُنفَّذ في مواقع معينة في الخلية تسمى العضيات، التي تَكون منفصلة عن المكونات الأخرى داخل الخلية بواسطة أغشيتها. ومما يزيد هذه الدرجة من التعقيد، أن أجسادنا تحتوي على ما يقرب من ٢٠٠ نوع مختلف من الخلايا.
يحاول هذا الكتاب تقديم نبذة موجزة عن التنوع الهائل الذي تستعين به الخلايا في أداء وظائفها، وعن السبب في أن أي خلل «خلوي» يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بالمرض.
(٢) الخصائص الأساسية للخلية
إن أيَّ شيء يعيش على سطح الأرض بطبيعته مكوَّنٌ من خلايا. عند هذه النقطة، يجب أن نستبعد الفيروسات؛ حيث إنها غيرُ قادرة على التكاثر دون الانقضاض على العمليات التخليقية للخلية التي تصيبها. إن طبيعتها غيرَ الحيوية تتأكد من خلال القدرة على تكوين بلورات من الفيروسات المنقَّاة في محلول. تُعَدُّ الخليةُ الوَحدةَ الأساسية للحياة، وبالتالي، يجب أن تتوافر فيها المتطلبات الآتية: (١) أن تكون كيانًا منفصلًا يتطلب غشاءً سطحيًّا. (٢) أن تتفاعل مع البيئة المحيطة لاستخلاص طاقة بشكل ما من أجل البقاء والنمو. (٣) أن تتكاثر. وهذه المتطلبات واحدة في كل الكائنات الحية، بدءًا من أصغر بكتيريا وحتى أي نوع من الخلايا التي يبلغ عددها ٢٠٠ نوع مختلف يتكون منها الإنسان. تعيش العديد من الكائنات الحية في صورة خلية وحيدة، في حين يحتوي جسم الإنسان على نحو ١٠٠ تريليون خلية إجمالًا. يمكن تشبيه هذا العدد بالعدد الإجمالي للبشر على الأرض اليوم (من ٦ إلى ٨ مليارات شخص)، أو حتى بالعدد الإجمالي للبشر الذين يُعتقد أنهم عاشوا على سطح الأرض (١٠٦ مليارات). كي نساعدك على إدراك هذه الأعداد الهائلة، ربما يمكننا استخدام تشبيه معتمد على الوقت. فإن تريليون ثانيةٍ ماضية تعادل نحو ٣٠ ألف عام؛ وقت أنْ كان النياندرتال يجوبون أنحاء أوروبا.
يمكن أن تعمل الخلية بشكل مثالي ككيان واحد، أو بشكل بديل قد تكون جزءًا صغيرًا متناهي الدقة من مجموعة هائلة من الخلايا التي تعمل معًا لتكوِّن أحدَ الكائنات؛ مثل الإنسان. في الكائنات متعددة الخلايا، تكوِّن مجموعاتٌ من الخلايا الأنسجةَ، وتتجمع الأنسجةُ معًا لتكوِّن الأعضاءَ. إن تعددية الخلايا تتطلب خلايا ذات بِنية داخلية معقدة (كما سنرى في الفصل الثاني)، في حين أن الكيان الأحادي الخلية للبكتيريا يسمح ببنية بسيطة نسبيًّا (بشكل أساسي، حاوية غشائية تحتوي على المزيج الكيميائي الضروري للحفاظ على الحياة). عندما بدأت الحياة منذ نحو أربعة مليارات عام، كانت الخلايا الأولى شبيهة بالبكتيريا اليوم. لكن لا تشير البساطة بالضرورة إلى البدائية أو عدم الكفاءة؛ فالبكتيريا هي أكثر الخلايا عددًا وانتشارًا، ويمكن لإحدى شُعَب العائلة البكتيرية، التي تُسمى العتائق، أن تنمو في أكثر البيئات تطرفًا على الأرض؛ حيث لا يمكن لأي كائن آخر أن يعيش. في أفضل الظروف يمكن أن تتكاثر بعض أنواع البكتيريا كل ٢٠ دقيقة — وهو معدل سيُنتج ٥ مليارات بكتيريا في ١١ ساعة؛ أي ما يعادل إجمالي عدد البشر في العالم. إننا مستعمَرون من قِبَل البكتيريا، لدرجة أن عدد البكتيريا التي نُؤْوِيهَا في أجسامنا (معظمها في الأمعاء، وتزن نحو كيلوجرام) يبلغ عشرة أضعاف عدد الخلايا الفعلية في أجسامنا.
(٣) الأغشية وجدران الخلايا
نظرًا لأن الخلية هي الوحدة الأساسية للحياة، فإنها لا بد أن تكون كِيانًا منفصلًا، ومن ثم تحتاج لأن تَكون لها حدودها المستقلة. هذه الحدود شائعة في كل أشكال الحياة، وتتكون من غشاء رفيع مكوَّن من طبقتين من الجزيْئات الدهنية (الليبيدات)، ومغطًّى بالبروتينات التي تتحكم في حركة الجزيئات بين الخلية وما يحيط بها. تتجمع الخلايا الحيوانية عادةً لتكوين الأنسجة — الجلد على سبيل المثال — التي تحتوي على أعداد كبيرة من أنواع الخلايا المختلفة. تتصل أغشية هذه الخلايا — التي تتَّحِد في نقاط اتصال محددة — اتصالًا مباشرًا بمناطق أغشية أخرى متحوِّرة بحيث تسمح بالتواصل بين الخلايا المتجاورة. أما عن الكائنات أحادية الخلية مثل البكتيريا، فعادةً ما يكون لها «جِدارُ خليةٍ» إضافيٌّ خارج الغشاء، وعادةً ما يشتمل على مواد دِبْقَة «تُلصقها» بخلايا أخرى أو بأسطُح معينة (مثل أسناننا). وتحتوي الخلايا النباتية على جدارِ خلية صلبٍ مكوَّن من جزيئات طويلة من السليلوز. وهذا الاختلاف الأساسي بين بِنية خلايا النباتات والحيوانات هو السبب غالبًا وراء قدرة الحيوانات على الحركة مقارنةً بالنباتات (بشكل عام).
توفر جدران الخلية النباتية إطارًا ميكانيكيًّا قويًّا، وكذلك وقايةً ضد مسببات المرض والجفاف. ترتبط جدران الخلايا بعضها ببعض بواسطة مادة دبقة مصنوعة من البكتين عديد السكاريدات (المادة الكيميائية التي تستخدم في حفظ الفاكهة)، وتزداد متانة هذه الجدران بفعل ترسُّب جزيئات طويلة وقوية من السليلوز والليجنين، وهي المواد الأساسية لصناعات الورق والأخشاب. تسمح صلابة هذه البنية بالنمو الهائل المتواصل (على سبيل المثال، شجر السيكويا العملاق في كاليفورنيا) أو بالبقاء آلاف الأعوام (مثل شجر الصنوبر المعمَّر)، لكنها في الوقت نفسه تقيد النباتات التي تكون راسخة الجذور مع أن أوراقها تستطيع تغيير موضعها حتى يمكنها التعرض لضوء الشمس أفضل ما يكون.
(٤) الخلية من الداخل
الشكل ١-٢
في البكتيريا، يكون الحمض النووي «دي إن إيه» دائريًّا، ويبقى مكشوفًا داخل محتويات الخلية؛ أما في الخلايا النباتية والحيوانية، فيوجد داخل عضيَّة خلوية تسمى النواة؛ حيث تكون منظمة في كروموسومات. يُطلق على الخلايا ذات الأنوية اسم «حقيقيات النواة»، في حين تتميز محتويات «بدائيات النواة» مثل البكتيريا بدرجة ضئيلة نسبيًّا من التخصص في عضيات خلوية داخلية منفصلة.
تتكاثر كل الخلايا بالانقسام إلى نصفين. وتستطيع بعض أنواع البكتيريا زيادة محتوياتها بسرعة تكفي لحدوث الانقسام من خلال عملية تعرف بالانقسام الثنائي في فترة لا تتجاوز ٢٠ دقيقة. أما حقيقيات النواة الأكبر حجمًا، فتستغرق جزءًا كبيرًا من اليوم حتى تُضاعف حجمها قبل الانقسام. تتسم الخلايا بوصفها آلات بتنوع في المكونات وكفاءة في الأداء لا نظير لهما. والوحدات البنائية الأساسية للخلية هي الجزيئات البروتينية، وتحتوي كل خلية على عشرات الآلاف من البروتينات المختلفة في صورة ملايين من النسخ. يصعب تقدير الأعداد الفعلية للجزيئات المتنوعة في واحدة من حقيقيات النواة، لكن هناك تقديرات خاصة بالبكتيريا التي يتكون ٤٠٪ من حجمها من نحو مليون جُزَيء من البروتينات القابلة للذوبان. يكوِّن نحو ٥ ملايين جزيء صغير ٣٪ منها، ويمثل الحمض النووي «دي إن إيه» ٢٪. أما الغشاء الخلوي وجدار الخلية البكتيرية الخارجي، فيمثلان نحو ٢٠٪ من حجمها، وتتكون باقي المكونات من جزيئات مطلوبة لتخليق البروتينات تتضمن ٢٠٠٠ ريبوسوم. يمكن أن تزيد تلك الأرقام ألف مرة مع الزيادة في الحجم في الخلايا النباتية والحيوانية، التي قد تحتوي على مئات العضيات الخلوية الفردية مثل الميتوكوندريا ونحو ١٠ ملايين ريبوسوم. والريبوسومات آلات جزيئية صغيرة تعمل على تجميع البروتينات الجديدة، وهو عامل مهم في بقاء الخلايا وتوفير بروتينات جديدة قبل انقسامها.
من الصعب إيجاد آلية من صنع البشر تضاهي في عملها نشاط الخلية العادية. ربما يكون أكبر جهاز كمبيوتر فائق على وجه الأرض هو الأقرب، لكن ستنقصه القدرة على مضاعفة نفسه فعليًّا بواسطة معالجات أسرع. ربما يبدو هذا غريبًا، لكنه قد يكون معقولًا أكثر عندما تعرف أن الخلايا قد استغرقت نحو ٤ مليارات عام لتنظيم أنشطتها، مدفوعةً في ذلك دائمًا بالضغوط المتواصلة التي يفرضها الانتخاب الطبيعي. بعبارة أبسط، يعني الانتخابُ الطبيعي أنه إذا تكيفت الخلية مع بيئتها وتغذَّت وتكاثرت، فإنها ستبقى، أما عجزها عن ذلك فيعني موتَها. أسفرت هذه العملية عن نظام إصلاح ذاتي التكاثر وذاتي الاكتفاء، يعمل بدرجة عالية من الكفاءة نادرًا ما يقترب منها أي نظام بشري. تهدف تكنولوجيا النانو — هندسة النظم الوظيفية على مستوى الجزيئات — في أغلبها إلى استنساخ التفاعلات الجزيئية بمعدلات الكفاءة الموجودة في الخلايا الحية. فإلى جانب عملية الأيض (النشاط الكيميائي اللازم للحياة) ذات الكفاءة العالية، فإن الخلايا قادرة أيضًا على إنتاج صلابة بنيوية لا نظير لها، كما هو الحال في الخلايا التي تعطي الأخشابَ والخيزرانَ والنخيلَ معدلاتِ أداءٍ ميكانيكيٍّ استثنائيةً، مقارَنةً بنظائرها مما هو من صنع البشر (عادةً ما تستخدِم ناطحات السحاب في الشرق الأقصى الخيزرانَ المحلِّي بدلًا من السقالات المصنوعة من الصلب).
(٥) الأنسجة والتمايز
الخاصية الأساسية التي تُميز حقيقيات النواة هي قدرتها على تغيير شكلها ومكوناتها وأيضها لأداء مهمة معينة هي التمايز؛ وهي مهارة تتيح لها التجمُّعَ معًا وتكوينَ أنسجة متعددة الخلايا وتجميعَ هذه الأنسجة معًا في صورة أعضاء، ثم تكوين كائن حي كامل مثل الإنسان. يتكون جسم الإنسان من نحو ٢٠٠ نوع مختلف من الخلايا تشكل الأنسجة الأربعة الأساسية، وهي: النسيج الطلائي (الظهارة؛ وهو النسيج الذي يكسو الأسطح)، والنسيج الضام (الدم والعظم والغضروف)، والنسيج العضلي، والنسيج العصبي. تُنتَج الخلايا بمعدلات مختلفة إلى حد كبير، بدايةً من الحيوان المنوي (بمعدل ألف في الوقت الذي تستغرقه نبضة القلب)، وحتى الخلية العصبية التي قد تبقى عمرًا كاملًا. تبقى بعض خلايا الدم لدى الإنسان نحو ٨ ساعات فقط، في حين تعيش كرات الدم الحمراء في الجسم نحو ١٢٠ يومًا.
إذا ضربنا مثالًا على التمايز، يمكن أن نلقي نظرة سريعة على الخلايا التي تكوِّن الحاجز بيننا وبين البيئة المحيطة. تعرضتْ الخلايا الموجودة على سطح الجلد لعملية «إعادة تشكُّل» (تمايز) كبرى حتى تصبح خلايا قرنية، وهي صفائح مستوية متعددة الأضلاع مكوَّنة في الغالب من الكيراتين (نفس البروتين الذي تتكون منه الأظفار والشعر وأيضًا ريش الطيور). تقضي الخلية القرنية يومًا أو نحو ذلك على السطح قبل أن تُبعَد وتُستبدَل بها خليةٌ من الأسفل، بحيث تتكون طبقة جديدة من الخلايا الجلدية كل يوم طوال حياتنا. تُستبدَل تلك الخلايا المبعَدة بواسطة عملية انقسام خلايا غير معدَّلة تتمايز وهي تمر لأعلى عبر طبقات الخلايا التي يبلغ عددها ٢٤ طبقة تُشَكِّل السُّمْك الإجمالي للجلد البشري. إن التخلص من الطبقة العليا للخلايا القرنية يزيل بكفاءة بقايا الجلد المتراكمة، إلى جانب ٧٫٥ ملايين بكتيريا لكل سنتيمتر مربع والزوائد الفطرية المتعددة التي تحاول باستمرار استيطان السطح الخارجي للبشرة. هناك ألف خلية قرنية لكل ملِّيمتر مربع، ومساحة سطح الجلد الكلية تساوي أقل من مترين مربعين؛ مما يؤدي إلى حدوث فقدانٍ (واستبدال) يوميٍّ لنحو ألفي مليون خلية.
تشكل الخلايا الجلدية التي يتخلص منها جسم الإنسان نحو ٦٠٪ من الغبار المنزلي، وتلك التي نفقدها في الفراش هي الغذاء اليومي لنحو مليون من عث الغبار الذي يعيش في مراتب الأسرَّة. لا تُستبدل كلُّ أجزاء أجسامنا بهذا المعدل، لكن الجلد — أكبر أعضاء الجسم — هو مثالٌ جيد للخصائص الأساسية للخلايا؛ ألا وهي التناسخ والانقسام والتمايز والوقت المنقضي كجزء وظيفي من أحد الأنسجة وأخيرًا الموت.
(٦) هل الكائنات وحيدة الخلية بسيطة؟
على الرغم من أن الأوليات (والنباتات وحيدة الخلية) لا بد أن تتفاعل مع البيئة المحيطة حتى تتمكن من البقاء على قيد الحياة، فإن إدراكها مقصور في الأغلب على التفاعلات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث في أغشيتها، لكن مع بعض السمات المثيرة للدهشة. ففي النباتات وحيدة الخلية مثل الطحالب الخضراء «كلاميدوموناس»، هناك «بقعة عينية» داخل البلاستيدة الخضراء تظهر تحت الميكروسكوب الضوئي. والبقعة العينية هي كتلة متشابكة من الأغشية بها صفوف من الحبيبات تحتوي على نحو ٢٠٠ نوع مختلف من البروتينات، بما في ذلك الرودوبسين الموجود في شبكية العين لدى البشر. والإشارات الصادرة من البقعة العينية الحساسة للضوء تجعل السياط الموجودة على سطح الطحالب تتحرك في أشكال مختلفة، بحيث تسبح الطحالب تجاه الضوء الأكثر سطوعًا، ولكن بعيدًا عن الضوء شديد السطوع. وعلى الرغم من أنه قد يُنظر إلى البقعة العينية على أنها عين بدائية، فلا توجد آلية لتكوين الصور، وليست هناك حاجة لذلك؛ حيث إن البقعة العينية توفر كل المعلومات المطلوبة لاحتياجات الكائن؛ مما يساعده على تمييز إيقاع الليل والنهار والقيام بالنشاط الخاص بالتمثيل الضوئي على أفضل نحو ممكن.
(٧) زراعة الأنسجة
(٧-١) خلايا «هيلا»: أول خط خلايا بشرية دائم
على الرغم من أن خطوط الخلايا البشرية الدائمة المأخوذة من البشر تؤخَذ عادةً من الأورام، فإن خزعات الأورام معروفة بصعوبة تثبيتها في مزرعة خلايا؛ حيث تنجح محاولة واحدة من بين كل مائة محاولة. المرة الأولى التي استُنبتتْ فيها خلايا بشرية في مزرعة كخطِّ خلايا دائمٍ كانت عام ١٩٥١، على يد جورج جاي في بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية. سُميت هذه الخلايا باسم خلايا «هيلا»؛ نسبةً لمصدرها، وهو خزعة من ورم في عنق الرحم من سيدة تدعى هينرييتا لاكس. شُخِّصت حالة هينرييتا في مستشفى جونز هوبكينز، وهو واحد من المستشفيات القليلة جدًّا في أمريكا عام ١٩٥١ التي يمكن أن تعالج السود دون تأمين صحي. في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن الخلايا المأخوذة من خزعات الأورام على مستوى العالم كانت توضع باستمرار تحت ظروف استنبات، فإنها لم تكن تبقى على قيد الحياة سوى بضعة أيام. لكن خلايا هينرييتا بدأت تتضاعف خلال أيام، للأسف، تزامنًا مع انتشار الورم بسرعةٍ وقوةٍ في جسدها؛ وهو ما أدى لموتها في خلال شهور. سرعان ما انتشرت أخبار خلايا هينرييتا في أوساط علم الأحياء الخلوي. واستجابةً للطلب العالمي على أول خط خلايا بشرية دائم، بدأ معهد توسكيجي في إنتاج الخلايا على نطاق واسع؛ فكان يشحن كل أسبوع ٢٠ ألف أنبوبة أو ٦ تريليونات خلية. وهذا يعني أنه كل بضعة أشهر كان عدد من الخلايا التي تكفي لتكوين جسم هينرييتا نفسه يغادر خط الإنتاج. وقد خضعت خلايا هيلا لكل أشكال الاختبار الممكنة التي لم يكن أيٌّ منها سينجح بالاستعانة بجسم بشري سليم. عُرِّضت الخلايا لكل العقاقير التي ربما تكون مدمرة للأورام، وكل أنواع الإشعاع الممكنة ومجموعة متنوعة من السموم والفيروسات. في الغالب لم تستجِبْ تلك الخلايا استجابة مميزة على وجه الخصوص مقارنةً بالفصائل المختلفة لخلايا الثدييات، لكن كان من المهم إثبات أن خلايا المزرعة النسيجية البشرية لا تسلك سلوكًا فريدًا من أي نوع. مع استنبات خلايا هينرييتا الآن على مستوى العالم وعلى مدار أكثر من نصف قرن، هناك ما يكفي من هذه السيدة (في شكل خلايا فردية) حول العالم لكي يعمِّر مدينتها بالسكان. الواقع أن إحدى بناتها قد اقتنعت بعد مشاهدة فيلم «الحديقة الجوراسية» أن هناك «نسخًا» من أمها في لندن؛ حيث قرأت أن الكثير من الأبحاث التي أُجريت على خلايا هيلا قد تمَّت هناك. على الأرجح لم يكن أبناء هينرييتا ليعرفوا أي شيء عن خلايا أمهم ما لم يتتبعها باحثو مستشفى جونز هوبكينز، الذين أرادوا مقارنة الحمض النووي «دي إن إيه» المأخوذ من تلك الخلايا مع أقرب نظير بشري لها. وقد نبَّههم هذا إلى صناعةٍ تدرُّ ملايين الدولارات وَضَعَ بذرتها الورمُ الذي أصيبت به أمهم، وهو ما جعلهم (هم ومحاميهم) — في غير تعقل منهم — يحاولون الحصول على بعض المال من هذا الأمر. لكن لسوء حظهم، لم تكن هناك حقوق لعيِّنات المرضى عام ١٩٥١، وحَكمت ولاية كاليفورنيا بعد ذلك بأن «الأنسجة المأخوذة من الشخص ليست مِلكه ولا يمكن الاتجار فيها.» وحتى الآن، لا يزال أبناء هينرييتا عاجزين عن تحمل مصاريف التأمين الصحي في أمريكا. وبالرغم من مرور ٦٠ عامًا من البحث الدقيق، بما في ذلك تحليل الحمض النووي «دي إن إيه» الذي أجري مؤخرًا، فما زالت الأسباب الحقيقية وراء الطبيعة التكاثرية لنمو خلايا «هيلا» غير معروفة. ويمكن أن نَعُدَّ هذه الخلايا «أعشابًا ضارة» للمزرعة النسيجية؛ حيث تستحوذ على العديد من خطوط الخلايا الأخرى بتلويثها تلويثًا عرَضيًا، وهي حقيقة اتضحت فقط عندما بدأ تمييز الخلايا المستنبتة في المختبر من خلال حمضها النووي «دي إن إيه» منذ نحو ٢٠ عامًا.
على مدى عقود، حامت الشكوك حول الأبحاث المعملية التي أجريت على الخلايا فيما يتعلق بمدى تمثيلها لهذه الخلايا؛ لأن الخلايا تنمو طبيعيًّا في بيئة ثلاثية الأبعاد في كائن متحرك، وهي معرضة لمجموعة متنوعة من الضغوط والعوامل لا تتعرض لها طبقة واحدة من الخلايا التي تنمو في طبق بلاستيكي. لكن ما يلفت النظر أنه على مدى أكثر من نصف قرن من البحث المكثف، أسفرت الخلايا المستنبتة في المزارع عن أقل القليل من المعلومات المضللة، ومن دون تلك المعرفة المتراكمة، فمن المستبعد وجود الإمكانية الحالية لاستخدام الخلايا الجذعية في علاج الإنسان من الأساس.