حياة الخلايا
(١) دورة حياة الخلية
تتطلب الآليات الفعلية لانقسام الخلية، وفقًا لما يراه ديك ماكينتوش الأستاذ بجامعة دينفر، تعليماتٍ أكبر بكثير مما هو مطلوب لتصميم صاروخ للسفر إلى القمر أو كمبيوتر فائق. بدايةً تحتاج الخلية لمضاعفة كل جزيئاتها؛ أي «دي إن إيه» و«آر إن إيه» والبروتينات والدهون وغير ذلك. على مستوى العضيات، هناك حاجة لمضاعفة عدة مئات من الميتوكوندريا ومساحات كبيرة من الشبكة الإندوبلازمية وأجسام جولجي جديدة وتراكيب الهيكل الخلوي وملايين الريبوسومات، بحيث تكون لدى الخلايا الوليدة المصادر الكافية كي تنمو ثم تنقسم. تمثل كل تلك العمليات «دورة حياة الخلية». تنقسم بعض الخلايا بشكل يومي، في حين تعيش أخرى لعقود دون أن تنقسم. وتنقسم دورة حياة الخلية إلى أطوار؛ بدءًا بالطور البيني، وهي الفترة بين انقسامات الخلية (التي تستغرق حوالي ٢٣ ساعة)، والطور الخيطي (الانقسام الخيطي)، وهي العملية الفعلية لانقسام الخلية الأصلية إلى خليتين وليدتين (وتستغرق نحو ساعة). ينقسم الطور البيني إلى ثلاثة أطوار متمايزة، وهي: طور النمو الأول (يستغرق من ٤ إلى ٦ ساعات)، وطور البناء (يستغرق ١٢ ساعة)، وطور النمو الثاني (يستغرق من ٤ إلى ٦ ساعات). وبشكل عام، تستمر الخلايا في النمو عبر الطور البيني، لكنَّ تناسُخ اﻟ «دي إن إيه» يكون مقصورًا على طور البناء. وفي نهاية طور النمو الأول توجد نقطة تحقق. إذا كانت مستويات الطاقة والمواد الغذائية غير كافية لتكوين اﻟ «دي إن إيه»، تتحول الخلية إلى طور يسمى طور الراحة. وفي عام ٢٠٠١، نال تيم هانت وبول نيرس وليلاند هارتويل جائزة نوبل لعملهم على اكتشاف كيفية التحكم في دورة حياة الخلية. وقد اكتشف تيم هانت مجموعة من البروتينات تسمى السيكلينات، وهي تتراكم أثناء أطوار محددة في دورة حياة الخلية. وبمجرد الوصول للمستوى الصحيح، «يُسمح» للخلية بالتقدم إلى الطور التالي، ويتم التخلص من السيكلينات. تبدأ السيكلينات في التراكم ثانيةً، وتتقدم لمستويات معينة عند كل نقطة في الدورة، وتسمح بالتقدم للطور التالي فقط إذا تم الوصول لمستوى السيكلينات الصحيح.
(٢) الانقسام الخيطي
(٣) الانقسام الاختزالي
الانقسام الاختزالي (الميوزي) هو انقسام يُختزَل فيه عدد الكروموسومات إلى النصف، وهي عملية تستخدمها الكائنات متعددة الخلايا لإنتاج خلايا خاصة (الخلايا التكاثرية) بها نسخة واحدة من اﻟ «دي إن إيه» (أحادية الصبغ)، وتكون على استعداد للاندماج مع خلية تكاثرية أخرى لإنتاج خلية (لاقحة) مكونة من نسختين طبيعيتين من اﻟ «دي إن إيه» (ثنائية الصبغيات)، التي سينمو منها الجنين ويصبح كائنًا جديدًا. ويمكن أن تكوِّن الخلايا الجنسية حيوانات منوية أو بويضات كما في معظم الحيوانات، أو حبوب لقاح وبويضات كما في النباتات، أو الأبواغ كما في أشكال الحياة الأخرى؛ مثل الفطريات. يُعرَف خلْق كائن جديد باندماج خليتين جنسيتين من كائنين مختلفين بالتكاثر الجنسي. والنباتات بطبيعة الحال لا تعتمد على هذه العملية مثل غالبية الحيوانات؛ حيث تتاح لها طرق للتكاثر اللاجنسي. ويخرج عن نطاق هذا الكتاب التناول المستفيض للعواقب الوراثية للتكاثر الجنسي، لكن يكفي القول إن المزج المستمر للجينات الذي يحدث بهذه الطريقة يوفر التنوع الذي تدفع به ضغوط الانتخاب الطبيعي عملية التطور.
آليات الانقسام الاختزالي بسيطة نسبيًّا: يتم إتمام دورتين من الانقسام الكروموسومي دون وجود دورة من نسْخ اﻟ «دي إن إيه» فيما بينهما. وبانقسام خلية ثنائية الصبغيات مرتين، تُنتج أربع خلايا تكاثرية أحادية الصبغ. ويبدأ الانقسام الاختزالي باقتراب الكروموسومين المتشابهين (المتماثلين) — واحد من الأم والآخر من الأب — في الخلية ثنائية الصبغيات أحدهما من الآخر؛ حيث يمكن أن يحدث «تبادل» اﻟ «دي إن إيه»، وذلك في عملية تسمى العبور. يفصل الانقسام الأول أحد زوجي الكروموسومات إلى خليتين وليدتين جديدتين تنقسمان بشكل مباشر؛ مما يؤدي إلى إنتاج أربع خلايا تكاثرية تشتمل على نصف مكون اﻟ «دي إن إيه» الأصلي (الخلية أحادية الصبغ). والآليات الجزيئية للانفصال الكروموسومي من خلال الأنيبيبات الدقيقة للمغزل في الانقسام الاختزالي تكاد تكون هي نفسها المستخدمة في الانقسام الخيطي. ومن الناحية العددية، يفوق إنتاج الحيوانات المنوية كثيرًا إنتاج البويضات؛ حيث ينتج الذكر صاحب القدرة على الإخصاب ١٠٠٠ حيوان منوي في الوقت الذي تستغرقه ضربة قلب واحدة، في حين تولَد الأنثى بنحو ٥٠٠ بويضة تستمر معها على مدار الحياة.
(٤) تناسخ اﻟ «دي إن إيه»
(٥) النسخ
بشكل مماثل لما يحدث في عملية التناسخ، يجمَّع اﻟ «آر إن إيه» على طول قالب اﻟ «دي إن إيه» من خلال إنزيم بلمرة اﻟ «آر إن إيه» بدلًا من إنزيم بلمرة اﻟ «دي إن إيه». ويَستخدم اﻟ «آر إن إيه» الرسول أيضًا قاعدة نيوكليوتيدية مختلفة هي اليوراسيل بدلًا من الثيمين في حالة اﻟ «دي إن إيه». وقبل أن يخرج اﻟ «آر إن إيه» المنسوخ حديثًا خارج النواة، يغطَّى طرفه الأمامي ويثبَّت ذيل بطرفه الخلفي. تُزال أجزاء تسلسل اﻟ «دي إن إيه» المنسوخ غير المشفِّرة، وذلك في عملية تسمى تضفير اﻟ «آر إن إيه». يوسَم اﻟ «آر إن إيه» الرسول الجديد بالبروتينات التي ستنقله إلى مسام نووية قبل تمريره إلى السيتوبلازم؛ حيث سيرتبط بريبوسوم لتكوين الآلية الخاصة بتكوين بروتين جديد.
مع وضوح آليات عملية النسخ، فإن كيفية اختيار الجينات عملية أقل وضوحًا. فقد شغلت ظاهرة «التعبير الجيني» أذهان عدد كبير من علماء الأحياء الجزيئية عدة عقود. فغالبًا ما يُعبَّر عن الجينات الأساسية المطلوبة للحفاظ على الخلية في ترتيب عامل جيد (جينات التدبير المنزلي)، لكن العديد من الجينات الأخرى ستكون مطلوبة فقط في أوقات معينة أثناء حياة الكائن. بعض الجينات، مثل جزيئي بروتين الجلوبين المطلوبينِ لتكوين الهيموجلوبين، تكون مطلوبة بكميات كبيرة بحيث تتحول كرات الدم الحمراء لإنتاج ٩٠٪ من بروتينات الجلوبين. ويمكن أيضًا للخلية أن تُشغِّل أو تُعطِّل الجينات بشكل معقَّد جدًّا، كما أن إنتاج أو عدم إنتاج البروتينات والإنزيمات هو طريقة الخلية الوحيدة للاستجابة لأي تغيير في الظروف. لدينا نحو ٢٠٠ نوع مختلف من الخلايا في أجسامنا، كلها لها وظائف متخصصة. تنتج تلك الخلايا المتمايزة من جينات مختلفة تم تشغيلها أو تعطيلها في أنسجة مختلفة. والخلايا أيضًا يجب أن تكون قادرة على الاستجابة بشكل سريع للتغيرات الخارجية، وذلك بتشغيل جينات أو تعطيلها. وهذه العملية يتم التحكم فيها من خلال مجموعة مكونة من نحو ٣٠٠٠ بروتين مختلف تسمى عوامل النسخ. وتحتاج بعض الجينات إلى العديد من تلك العوامل، في حين تحتاج أخرى إلى القليل منها. توجد عوامل النسخ في السيتوبلازم، ويجب أن تدخل النواة للوصول لجيناتها. وعوامل النسخ المطلوبة للاستجابات السريعة تدخل وتخرج من المسام النووية؛ مما يبقي على وجود حالة دائمة من الجاهزية والاستعداد.
(٦) حركة الخلايا
(٧) هل الحركة خاصية منبثقة؟
في عام ١٨٢٤ لاحظ رينيه دوترشت، أحد رواد علم الأحياء الخلوي، أن «الحياة، فيما يتعلق بالنظام الفيزيائي، ليست أكثر من حركة، والموت ببساطة هو توقف هذه الحركة.» بعد نحو ٢٠٠ عام، ما زال الغموض يعتري الكيفية التي تضم بها الخلايا مكونات الهيكل الخلوي المختلفة بحيث تعمل ككيان متحرك واحد. تتطلب حركة الخلية مؤشرات كيميائية حيوية (إشارات) وإمدادًا بالطاقة وإعادة تنظيم للعناصر البنائية. وتحتاج عناصر الهيكل الخلوي للتمدد والتقلص ولتنظيم نفسها للعمل، لكن متى وبأي قدر من الطاقة، ومتى تتوقف عن ذلك؟ طبقًا لجونتر ألبرخت-بوهلر، أستاذ علم الأحياء الخلوي بجامعة نورث ويسترن في شيكاجو الذي يدرس سلوك الخلايا في المزارع، فإن «وظائف الكائن تعطي إشارة البدء للتفاعلات بين جزيئاته وتتحكم فيها»، وهي طريقة أخرى للقول إن الكل أكبر من مجموع أجزائه. والشيء الذي يحدث نتيجةً لتفاعل نظم عديدة معقدة يسمى الخاصية المنبثقة. في الطبيعة، تأتي الأمثلة الكلاسيكية على ذلك من الحشرات الاجتماعية، مثل الهياكل الهائلة التي تشبه الكاتدرائيات التي تكونها مستعمرات النمل الأبيض، أو حتى إنتاج أقراص العسل لدى النحل. يمكن اعتبار حركة أي خلية خاصيةً منبثقةً عن جزيئات الهيكل الخلوي يدعمها إنتاج الطاقة من قبل الميتوكوندريات والمعلومات المخزنة في الحمض النووي «دي إن إيه». بالتالي يبدو من الممكن أن تنتج ملايين الخلايا الموجودة في أحد الأنسجة خصائص منبثقة للقيام بوظيفة النسيج، ثم تضيف طبقة أخرى عند تكوين الأنسجة للأعضاء، وطبقة ثالثة عند تكوين الأعضاء للكائن بأكمله. ذلك الرأي ربما يعلِّل (وإن لم يكن يَشْرَحُ) بصورةٍ ما تعقيداتِ وجودنا.
(٨) هل حركة الخلية عشوائية بالكامل؟
بعد ثلاثين عامًا من فحص سلوك الخلايا الفردية في المزارع، وتسجيل قدر كبير من المشاهد بتقنية الفاصل الزمني، رصدت الدراسات التي أجراها العالم ألبرخت-بوهلر العديد من الملاحظات المدهشة التي تشير إلى أن الخلايا تحتاج إلى «ذكاء»، وتمتلكه بالفعل كي تتحكم في البيئة التي تحيط بها وتقوم بوظائفها. وفكرة أن الخلية «تعرف» المكان الذي تذهب إليه مدعمة بسلوكها عندما تتلاقى مع خلايا أخرى، ثم بعد الالتقاء تتحرك في اتجاهات مختلفة. وهذا يوضح وجود «اختيار» داخل الخلية كاستجابة لأي حدث غير متوقع أثناء عملية هجرتها.
إن الملاحظات المنشورة التي رصدها ألبرخت-بوهلر فيما يتعلق بسلوك الخلايا في طبق مزرعة، يبدو أنها تشير إلى وجود حركة موجهة وتقدير ظاهري لوجود خلايا أخرى على مسافة عديد من أقطار الخلايا. ويطلق ألبرخت-بوهلر على ذلك «ذكاء الخلية»، ويشير إلى أن هذا السلوك يتطلب معلومات، ويرى أنها عملية قد تتطلب أشعة تحت حمراء. وهو يرى أن الخلايا يمكن أن تصدر إشارات بعضها لبعض على مسافة عديد من أقطار الخلايا، وذلك بإصدار واستقبال أشعة تحت حمراء. وفي غياب أي دراسات كبيرة في هذا المجال البحثي، من الصعب تقييم الدلالة الحقيقية لتلك الدراسات التي أجراها ألبرخت-بوهلر، لكنها مثيرة للاهتمام إلى حد كبير. بعبارة أخرى، يرى ألبرخت-بوهلر أن «سلوك الخلية يتم التحكم فيه من قِبَل نظم تكامل بيانات معقدة للغاية، وهي غير معروفة — حتى الآن — لعلماء الأحياء.»
إذا كان النظام الذي يتحكم في حركة الخلية في البيئة البسيطة نسبيًّا لطبق المزرعة البلاستيكي معقدًا، إذن فالأمر نفسه ينطبق على حركة الخلية داخل الجسم البشري. تُضَخ خلايا الدم عبر الدورة الدموية لإمداد الأنسجة بالأكسجين بواسطة كرات الدم الحمراء، وللإبقاء على نظم الدفاع المناعي بواسطة مجموعة من خلايا الدم البيضاء التي تسمى كرات الدم البيضاء. وللوصول لأماكن الجرح أو العَدْوَى، يجب أن تترك كرات الدم البيضاء مجرى الدم. ويتم ذلك بأن تُلحِق نفسها بجدار الأوعية الدموية الصغيرة؛ أولًا ترتبط بالجدار من خلال جزيئات رابطة تسمى اللكتينات التي تشبه إلى حدٍّ ما مرساة حديدية، ثم تثبت عمليات الارتباط باستخدام بروتينات رابطة أقوى تسمى بروتينات الإنتجرين. عند هذه النقطة، تتحرك كرات الدم البيضاء بين الخلايا البطانية التي تبطن الأوعية الدموية (تمامًا مثل شق الطريق عبر حشد من الناس)، كي تكون مستعدة لمواجهة البكتيريا المهاجمة، وربما تنتحر الخلايا بأن تفجر نفسها لإخراج محتوياتها المقاومة للبكتيريا (سنعرض لهذا الأمر بتفصيل أكبر في الفصل السادس). وما إن تستسلم البكتيريا حتى تُبتلَع أجسامها بفعل الخلايا البالعة التي تنتقل أيضًا إلى المكان. إن سرعة ودقة هذه الاستجابة مثار للدهشة، على الرغم من وجود خلايا «حراسة» تدور باستمرار في مجرى الدم بالكامل. هناك أيضًا حركة موجهة منتظمة عند إنتاج فئة أخرى من كرات الدم البيضاء (الخلايا التائية)، التي تترك النخاع العظمي كخلايا طليعية غير ناضجة، وتكمل تطورها في الغدة الزعترية من خلال جزيئات ارتباط وتوجيه مماثلة. وعلى الرغم من وجود أفكار عامة عن آليات حركة الخلايا في الجسم، فنحن بعيدون جدًّا عن فهم الصورة الكلية.
(٩) كم عمر خلايانا؟
إن تأكيد بنجامين فرانكلين على أن اليقينين الوحيدين في الحياة هما الموت والضرائب فحسب؛ ينطبق جزئيًّا على الخلايا. فخيارات «النهاية» فيما يتعلق بالخلايا تتمثل في الانقسام أو الموت. والخلية «تتجنب» الموت بالانقسام، لكنها مع ذلك تضحي بوجودها الفريد بأن تصبح خليتين وليدتين. وأغلب الخلايا الوليدة متماثلة، ولها مصائر واحدة، وهي أن تتمايز لتؤدي وظيفة معينة، وأخيرًا تموت وتُستبدَل. وربما يتم هذا على مدار حياتها التي قد تستغرق بضع ساعات — كما هو الحال مع بعض كرات الدم البيضاء (الخلايا المتعادلة) — أو ١٢٠ يومًا بحدٍّ أقصى، كما هو الحال مع كرات الدم الحمراء. وأغلب الخلايا في أجسامنا تُستبدَل طوال دورة حياتها، بمتوسط من ٧ إلى ١٠ أعوام، وذلك تبعًا لما ذكره جوناس فريسن الأستاذ بمعهد كارولينسكا باستوكهولم. مع ذلك، فهناك ثلاثة أنواع من الخلايا التي نحملها منذ ولادتنا وحتى موتنا؛ وهي: الخلايا العصبية للقشرة الدماغية، والخلايا الموجودة في الجزء الداخلي لعدسات العين، وأيضًا — وهو ما يثير الدهشة — خلايا عضلة القلب، التي من المفترض أنها تنقبض أكثر من ٣ مليارات مرة في أي شخص بلغ من العمر ١٠٠ عام. إن الخلايا الموجودة في الجزء الداخلي من العدسات مماثلة جدًّا من الناحية البنائية لخلايا الجلد القرنية، من حيث إنها مملوءة بدرجة كبيرة بألياف الكيراتين، ولكنها موضوعة في ترتيب كريستالي عالي التنظيم يسمح لمرور أقصى قدر من الضوء عبرها. وفي الوقت المناسب قد يتفكك هذا التنظيم الكريستالي وتصبح خلايا عدسات العين مُعتِمَة؛ مما ينتج عنه مرض المياه البيضاء.
(١٠) موت الخلية
كما رأينا، قد تتراوح مدة حياة الخلايا داخل الجسم البشري بين ساعات وعقود. وقد تحدث عملية الموت الفعلية بأشكال مختلفة وبأسباب مختلفة؛ فقد تنتج عن صدمة مباشرة؛ مثل إصابة ميكانيكية أو تعرُّض لحرارة أو برودة شديدتين، أو تأثيرات مباشرة وفورية؛ مثل تمزق في غشاء الخلية أو تدمير فوري للبروتينات. وهذا يُنتج توازنًا يحافظ على وضع الخلايا في الأنسجة، وهكذا تموت الخلية، تمامًا مثل موت الإنسان المفاجئ وأحيانًا العنيف، ربما في حادثة طريق أو أثناء الحرب. في الخلايا، يسمى هذا النوع من الموت بالنخر.
ما إن عُرف أن الاستماتة ظاهرة عامة تؤدي إلى موت الخلايا، حتى بدأت عمليات البحث الجِدِّيِّ لتحديد كيفية بدء عملية «انتحار الخلية» هذه. ظهر مساران اعتمادًا على كون السبب فيها خارجيًّا أو داخليًّا. تنتج الاستماتة الخارجية عن إشارات تُستقبَل في الغشاء الخلوي، وترتبط ﺑ «مستقبلات الموت» على سطح الخلية، وهي التي تبدأ بعد ذلك عملية انتحار الخلية. عادةً ما يحدث هذا النوع من الاستماتة كطريقة لقتل الخلايا في التفاعلات المناعية. أما عن الاستماتة الداخلية، فتحدث أثناء تطور الجنين؛ حيث تكون مبرمَجة على مرحلة معينة، أو تبدأ نتيجةً لحدوث ضرر كبير في الحمض النووي «دي إن إيه»، كالذي يحدث بسبب الإشعاع المؤيَّن. تحدث عملية الاستماتة أيضًا عندما يكون تناسخ الحمض النووي «دي إن إيه» منقوصًا، ومع وجود آليات إصلاح تجد نظم التحقق من مراقبة الجودة أخطاءً قد تؤدي إلى إنتاج بروتينات بها طفرات.
(١٠-١) آليات انتحار الخلايا
وحيث إن موت الخلايا الداخلي يحدث كجزء من برنامج خاص بالنمو، فيبدو من المحتمل أنه كانت هناك بالفعل جينات للاستماتة. بدراسة دودة كينورهابدايتس إيليجانس (وهي دودة خيطية خضعت لدراسات كثيرة)، التي من المعروف أن ١٣١ خلية من إجمالي خلاياها البالغ عددها ١٠٩٠ تموت بسبب ظاهرة الاستماتة أثناء النمو؛ وجد بوب هوروفيتس الأستاذ من كامبريدج بالولايات المتحدة العديدَ من الجينات الخاصة بموت الخلية المبرمج. وأدت تلك الدراسات إلى حصوله على جائزة نوبل عام ٢٠٠٢ بالمشاركة مع جون سالستون وسيدني برينر من كامبريدج في المملكة المتحدة.
كان العديد من جينات «موت الخلية» هذه جيناتٍ حدثت بها طفرات بصورة متكررة في العديد من خلايا السرطان في الثدييات؛ مما يؤكد أن الاستماتة آلية للتخلص من الخلايا ذات اﻟ «دي إن إيه» التالف. وتثبط الطفرات في جينات موت الخلية عملية الاستماتة؛ مما يسمح للخلايا ذات اﻟ «دي إن إيه» التالف أو الذي حدثت به طفرات أن تنمو نموًّا غير طبيعي وتتحول لأورام. وقد وجَّه ديفيد لين، الذي فقد والده وهو ما زال في التاسعة عشرة من عمره بسبب إصابته بالسرطان، جهودَه البحثية لاستكشاف التغيرات التي تحدث عندما تصبح الخلايا العادية سرطانية. ففي عام ١٩٧٩، اكتشف بروتين بي٥٣، وهو بروتين غير نشط أو غير موجود في كل الخلايا السرطانية تقريبًا. فإذا كان هذا البروتين الطبيعي موجودًا بالمستويات الصحيحة في الخلايا المنقسمة، وحدث تلف في اﻟ «دي إن إيه» لخليةٍ ما (أو تم تناسخ اﻟ «دي إن إيه» الخاص بها بصورة غير دقيقة)؛ يبدأ هذا البروتين عملية الاستماتة، أو — إذا فشل في هذا — يُحفِّز عملية الهرم؛ مما يوقف كل عمليات الانقسام؛ الأمر الذي أدى لوصفه بأنه مثبط للورم و«حارس الجينوم». تتعرف خلايا الجهاز المناعي على الخلايا التي حدثت بها عمليات استماتة أو هرم (انظر الفصل التالي)، ويتم التخلص منها بواسطة عملية الابتلاع؛ لذا، حتى في المراحل المتقدمة من الإصابة بالسرطان، فإن استعادة «استجابة بروتين بي٥٣» ستَنتج عنها استجابات دفاعية قوية تعمل على تقليص حجم الأورام وتُوقِف انتشارها أكثر. لسوء الحظ، فإن إدخال بروتين بي٥٣ الطبيعي إلى الخلايا السرطانية ليس عملية بسيطة، وهناك العديد من استراتيجيات علم الأحياء الجزيئي قَيْد البحث حاليًّا. إن أمل العلاج الجيني، كالسبيل لعلاج العديد من الأمراض، لم يتحقق بعد؛ غالبًا لأن الجوانب التطبيقية لإدخال الجينات ومنتجاتها إلى الخلايا بالكميات الصحيحة وفي الوقت الصحيح دون أي آثار جانبية غير مقبولة، ما زالت صعبةً للغاية. المثير للاهتمام أنه يبدو أن الصين تحرز تقدمًا كبيرًا في العلاجات المعتمدة على بروتين بي٥٣، وذلك من خلال عقَّار يسمى الجينديسين الذي اعتمده كعلاج لسرطان الرأس والعنق عام ٢٠٠٣، في حين أن إدارةَ الغذاءِ والدواءِ الأمريكيةَ حتى عام ٢٠١٠ لم تعتمد أي علاجات قائمة على هذا البروتين.