العلاج الخلوي
معظم الأمراض لها أصول خلوية، والغالبية منها يمكن إرجاعها لخلل كيميائي حيوي بسيط يمكن تصحيحه باستخدام العقاقير؛ حيث تعود الخلايا لحالتها شبه الطبيعية ويشعر المريض بتحسن. تبدأ بعض الأمراض المعقدة بتحولات جينية تمنع التعبير عن بروتين معين أو تغير تركيب بروتين بطريقة تغير من وظيفته أو تجعله غير فعَّال. وحتى مع الضوابط والتوازنات لعمليات الإصلاح الداخلي وانتحار الخلايا، يمكن أن تُفلت بعض التغيرات الجينية التي — عندما تشترك في عمليات الخلايا الأساسية — يمكن أن يكون لها تأثير مدمر على نمو أو عمل الخلايا. يؤدي النمو الزائد الناتج عن التغيرات الجينية إلى حدوث السرطان؛ حيث تُغير الخلايا «الخارجة عن السيطرة» جوانبها الوراثية وتطور قدرتها على الانقسام اللانهائي، وفي بعض الأحيان تكتسب القدرة على غزو أنسجة أخرى. ببساطة، يتطلب علاج تلك الأمراض إزالة الخلايا الخارجة عن السيطرة، أو إصلاحها، أو استبدالها وهو الأفضل. هناك الكثير من الأمراض الأخرى التي لا تهدد الحياة بشكل مباشر، ولكن لا يمكن التعامل معها بالعلاج بالعقاقير بسبب طبيعتها الكيميائية الحيوية المعقدة. ويكون الحل المثالي للتعامل معها هو التعامل مع المرض من جذوره باستبدال الخلايا المعيبة. وتسمى هذه العملية بالعلاج الخلوي، ويمكن أن تأخذ أشكالًا عديدة. ومن أكثر تلك الأشكال شيوعًا زرعُ خلايا عاملة ناضجة، كما في نقل الدم، وزرع خلايا جذعية، كما في زرع النخاع العظمي. ما زلنا نترقب وجود علاج قياسي لإدخال خلايا حيوانية أو بشرية معدلة تستبدل مادة مهمة؛ مثل الخلايا المنتجة للأنسولين لعلاج مرض السكر.
يقول كثيرون إن الطبيب والكيميائي السويسري فيليبوس باراسيلسوس هو أول من وصف مفهوم العلاج الخلوي في كتابه «كتاب الجراحة العظيم»، الذي نُشر عام ١٥٣٦، والذي كتب فيه: «القلب يعالِج القلب، والرئة تعالج الرئة، والطحال يعالج الطحال؛ المِثْل يعالج المِثْل.» جاءت هذه الملحوظة من نظريته التي تقول إن تناول أعضاء حيوانات سليمة تُحْيي وتعيد بناء الأعضاء التالفة أو الهَرِمة المعنية؛ وهي نظرية خاصة بالتغذية أكثر من المعالجة الخلوية المعاصرة. وفي عام ١٦٦٧، حاول جان-باتيست دينيس، الذي كان يعمل في المعمل الملكي للملك لويس الرابع عشر، إجراءَ عملية نقل دم من عجل إلى مريض عقلي. حدثت أول عملية مسجلة لنقل خلايا غير الدم عام ١٩١٢ عندما حاول الأطباء الألمان علاج الأطفال الذين كانوا يعانون من ضعف في الغدة الدرقية بزرع خلايا غدة درقية. وفي عام ١٩٣١، أصبح الطبيب السويسري بول نيهانس «أبو العلاج الخلوي» بالصدفة، عندما أدخل نسيج غدة درقية من عجل، بعد مزجه بمحلول ملحي، في مريض حالته سريعة التدهور يعاني من تلف شديد في غدده الدرقية من جرَّاء عملية أجريت له. استعاد المريض عافيته وعاش لمدة ثلاثين عامًا أخرى. أصبح نيهانس مشهورًا بعلاجاته الخلوية، وكان من بين مرضاه أفرادٌ من عائلات مالكة عدة، والبابا بيوس الثاني عشر، وسياسيُّون، ونجوم سينمائيون مشهورون. وبقي اسمه وبعض علاجاته، لا سيما تلك الخاصة بالجَمال والعناية بالجلد، في عيادة بول نيهانس التي أسستها ابنته في سويسرا. كان القرن العشرون حافلًا بما يسمى العلاجات الخلوية. فقد رُوِيَ أن جون برينكلي — المعروف بأنه «طبيب غدة الماعز» — أجرى ستة عشر ألفَ عمليةٍ، زرع فيها أنسجة من خصية الماعز الصغير في الأشخاص، مؤكدًا فاعليةَ هذا الإجراء في علاج العقم، ومدَّعيًا أنه يمكن أن يعالج حالاتٍ بدءًا من حَبِّ الشباب وحتى الجنون. وقد سُحبت رخصة ممارسته للطب على أساس عدم مراعاته للجوانب الأخلاقية وقيامه بتصرفات غير مِهنيَّة. وقد روج جيمس ويلسون لاستخدام خلايا النسيج الضام للبقر، وادَّعى أن المستحضرات الخلوية التي تؤخذ عن طريق الفم «لديها القدرة على الانتقال لأي نسيج يحتاج للإصلاح، وأنه بمجرد وصولها إلى المكان المطلوب تأخذ سمات الخلية السليمة المرتبطة بها.» وقد أدت محاولات أخرى على مسارات مماثلة إلى مئات من حالات الوفاة؛ وذلك بسبب التفاعلات المناعية العنيفة للعدوى البكتيرية أو الفيروسية، بما في ذلك وفاة رجلين بسبب الغرغرينا الغازية بعد حقنهما بخلايا من أجنَّة خِرَاف. هناك عمليات زرع خلايا جنينية أخرى، قد تكون أكثر إثارة للجدل، أجراها نيهانس في سويسرا. في السبعينيات من القرن العشرين، أنشأ تلميذه وولفرام كوناو عيادة في المكسيك؛ حيث لا توجد لوائح تنظيمية، واستخدم خلايا جنينية من حوت أزرق اشتراه من الصيادين المحليين، مع عدد من الخلايا الحية مجهولة المصدر؛ من أجل «علاج» المرضى من مجموعة متنوعة من الأمراض. ونتيجةً لهذا «التدجيل» والسمعة السيئة التي اكتسبتها العلاجات القائمة على الخلايا، لا عجب في تلك النظرة المتشككة للعلاجات القائمة على الخلايا وقت أن كنا نقترب من القرن الحادي والعشرين.
(١) زرع خلايا الدم
في السبعينيات من القرن الماضي، أثبت إدوارد دونال توماس أن خلايا النخاع العظمي المحقونة عبر الوريد يمكن أن تنتشر في النخاع العظمي وتُنتج خلايا دم طبيعية، وهو عمل حصل بموجبه على جائزة نوبل في عام ١٩٩٠. والخلايا النشطة في هذه العمليات عبارة عن خلايا جذعية دموية بالغة. تدمر العقاقير القاتلة للخلايا المطلوبة لعلاج السرطان كلَّ الخلايا التي تنقسم، ومن ثم لا تفرق بين خلايا الأورام وخلايا الدم الجذعية. ويعوض استبدال خلايا المريض الجذعية بعد العلاج الكيميائي مجموعات الخلايا المزروعة بالنخاع العظمي، ويحفز على استئناف إنتاج خلايا الدم الطبيعية. تُستخدم عمليات زرع النخاع العظمي في مجموعة متنوعة من علاجات أنواع السرطانات المختلفة، بما في ذلك سرطان الدم وسرطان الغدد اللمفاوية، لإصلاح تلف النخاع العظمي الذي تَسبب فيه العلاج الكيميائي. وقد نجحت أيضًا عمليات زرع النخاع العظمي في علاج حالات فقر الدم، وغيرِها من الأمراض التي يحدث فيها تلف أو غياب للخلايا الجذعية.
يَستخدم العلاج بالخلايا الجذعية الدموية الذاتية خلايا المريض الجذعية التي تُستأصل وتنقَّى قبل العلاج. تتميز عمليات الزرع الذاتية بأنها خالية نسبيًّا من العدوى، فضلًا عن أن استعادة الوظائف المناعية تتم بشكل أكبر وبسرعة أكبر. لا تكون تلك العمليات ممكنة دائمًا، ومن ثم تكون هناك حاجة للمصادر الأخرى للخلايا الجذعية. تتضمن عمليات زرع خلايا الدم الجذعية الخَيْفية (الآتية من فرد آخر من نفس النوع) الاستعانةَ بمتبرع سليم الجسم، لا بد أن تكون أنسجته قريبة جدًّا من أنسجة المريض. وكلما كان المتبرع أقرب وراثيًّا من المريض (أحد أقاربه عادة)، كان هناك توافق كبير في بروتينات معينة على سطح الخلية تسمى معقد التوافق النسيجي. بل إن اختلافًا في زوج قاعدة «دي إن إيه» وحيد يَنتج عنه تسلسل أحماض أمينية متغير لأحد بروتينات التوافق النسيجي الخمسة؛ يمكن أن يؤدي إلى عدم التوافق. تستطيع مراكز زرع النخاع العظمي الكبرى مراجعة تسلسل اﻟ «دي إن إيه» الخاص بكل جينات التوافق النسيجي الخمسة للتحقق من وجود توافق. والتوائم المتوافقة هي وحدها التي يوجد بينها توافق تام في الخلايا الجذعية، لكن إذا لم يكن المتبرع من أقارب المريض، يجب أن يوجد جانب كبير من التوافق قدر الإمكان؛ إذ يزيد عدم التوافق من احتمال رفض الجسم للخلايا الجديدة، أو رفض الخلايا الجديدة للجسم. وينتج عن كلتا الحالتين رد فعل مناعي يمكن أن يكون مميتًا.
في العلاجات الأولى، كان النخاع العظمي يؤخذ من عظْمة كبيرة من المتبرع، هي الحوض غالبًا، من خلال إبرة تصل إلى مركز العظمة. يشار لهذا الأسلوب بحصد النخاع العظمي، ويتم في ظل تخدير عام مع كل متطلبات الرعاية للمتبرع. الآن يمكن أخذ الخلايا الجذعية من الدم الدائر. وقد تطورت تلك الطريقة من ملاحظة أن الخلايا الجذعية الدائرة تَزيد بشكل كبير بعد حقن عامل نمو بروتيني خاص بالدم. ويُعطى المتبرعون عاملَ النمو وتُجمع خلاياهم الجذعية بواسطة جهاز فصل آلي، وبعد ذلك تعاد كرات الدم الحمراء إلى المتبرع.
يمكن أيضًا عزل كميات مفيدة من الخلايا الجذعية الدموية من السائل الأمينوسي والحبل السري. فدم الحبل السري به تركيز عالٍ من الخلايا الجذعية، لكنه كافٍ فقط لعمليات زرع الخلايا الجذعية الدموية في الأطفال الصغار. وباستخدام مزيج من عوامل النمو، من الممكن زيادة أعداد الخلايا الجذعية في الحبل السري؛ مما يسمح باستخدامه في عمليات الزرع في البالغين. تُنتج الخلايا الجذعية الخاصة بالحبل السري بوجه عام مستوياتٍ منخفضةً من داء رفض الطُّعم للمضيف. وقد تحوَّل تخزين خلايا الحبل السري الجذعية الخاصة بالفرد من أجل استخدامها المحتمل في المستقبل عندما يصبح بالغًا إلى تجارة واسعة تستفيد منها شركات تخزين الأنسجة.
(٢) زرع الخلايا الجذعية للأعضاء
في أوائل ستينيات القرن العشرين، استُخلصت خطوط الخلايا السرطانية الجنينية الخاصة بالفئران التي لها خصائص الخلايا الجذعية من أورام خلايا تكاثرية. ويتكون هذا النسيج السرطاني من خلايا تكاثرية مشتقة من المبيض بشكل مباشر أو غير مباشر؛ نتيجة لعيوب خِلقية ناتجة عن أخطاء في نمو الجنين. وكان يعوق استخدامَ تلك الخلايا مشكلاتٌ متعلقة بالطفرات الوراثية وعدم الاستقرار الجينومي. أدى عزل خطوط الخلايا الجذعية الجنينية من الأجنَّة الطبيعية (راجع الفصل السادس) إلى التغلب على تلك العيوب، وبدء مجالٍ بحثيٍّ جديد يستكشف احتمالات عزل وتعديل الخلايا الجنينية البشرية، لإمكانية استخدامها كعلاج بالخلايا الجذعية في البالغين.
استُخدمت الخلايا الجذعية الجنينية للفئران بكثافة في إنتاج فئران معدلة وراثيًّا. وتلك الفئران المعدلة وراثيًّا مفيدة للغاية؛ إذ إنها تصلح كنماذج لدراسة وظائف الجينات الفردية في نوع قريب من الإنسان. ويتم إنتاج تلك الفئران بنقل جين (على سبيل المثال، جين بشري متعلق بالسرطان) في خلايا جذعية جنينية مزروعة. بدلًا من ذلك، يمكن إزالة أو تعطيل جينات فردية بإدخال جين غريب — عادةً بروتين مقاوِم للعقاقير — في جين مستهدف. لسوء الحظ، تكون تلك التعديلات الجينية غير فعالة، ومن ثم يجب إنماء الخلايا المعالجة في مزرعة وانتقاؤها للتعديل الجيني الصحيح. بعدها تُحقن الخلايا المنتقاة ميكروسكوبيًّا في كتلة الخلايا الداخلية لجنين طبيعي قبل زرعها في رحم أنثى فأر ذات قرابة. سيكون للنسل نسخة من الجين الجديد الذي يكون موجودًا في أحد أزواج كروموسوماته (أي إنه متباين اللواقح)، الذي يمكن إنماؤه أكثر للحصول على سلالات أحادية اللواقح يكون فيها للْجين الجديد (الجين الْمُزال أو المعطَّل) نسخة في الكروموسومينِ المتطابقينِ، بحيث يكون التأثير واضحًا في كل خلية في الحيوان. ويتوقف التعبير عن الجين في نوع خلية أو نسيج معين، على بيئته الجينومية، وهو أمر يمكن عادةً التركيز عليه على مستوى الخلايا الجذعية الجنينية من خلال الانتقاء الجزيئي الدقيق. هناك الآن آلاف من سلالات الفئران المعدلة وراثيًّا لكلٍّ منها جين معين، وهذه تزيد كثيرًا من فهمنا للعديد من العمليات الحيوية المعقدة. عندما يكون حدوث خطأ أو تعبير زائد عن جين معين هو السبب الأساسي للإصابة بمرض ما، يمكن للحيوانات المعدلة وراثيًّا أن تكون بمنزلة نموذج لتطوير عقاقير أو تدخلات علاجية جديدة. وحتى عندما تُحدِث تلك التعديلات الجينية تغيرات تؤدي إلى موت الأجنة، يمكن إنقاذ «خطوط الخلايا» وإنماؤها في مزرعة من أجل البحث العلمي.
هناك عدد من المصادر المحتملة للخلايا الجذعية الجنينية البشرية؛ وهي: الأجنة الميتة، والأجنة التي تبقى بعد علاجات العقم، والأجنة المخلَّقة خصوصًا لأغراض البحث باستخدام التلقيح الصناعي، والأجنة المنتجة من خلال نقل النواة إلى البويضات (وهو الأسلوب المستخدم في استنساخ النعجة دوللي). وكل تلك المصادر مثار جدل أخلاقي وديني. عادةً ما تعكس القوانين السياسية في الدول الآراءَ الأخلاقية والدينية السائدة، وهناك حظر تام في العديد من الدول لكل الأبحاث القائمة على الأجنة، في حين تضع أخرى ضوابط صارمة، وبعض الدول تضع ضوابط قليلة أو لا تضع ضوابط على الإطلاق. يعتقد معارضو الأبحاث التي تُجرى على الخلايا الجذعية الجنينية البشرية أن حياة أي إنسان تبدأ بمجرد تخصيب البويضة. لذلك، فإن تدمير أي جنين هو من الناحية الأخلاقية نوع من القتل. وهم يرون أيضًا أن تقنيات الخلايا الجذعية الجنينية هي الخطوة الأولى نحو الاستنساخ التكاثري الذي ينتهك ويقلل من قيمة قدسية الحياة. أما مؤيدو تلك الأبحاث، فيرون أنه في عمليات التكاثر الطبيعية عادةً ما تخصب البويضات البشرية، ولكنها تفشل في الانزراع في الرحم؛ فالبويضة المخصبة، مع أن بإمكانها تشكيل حياة إنسان، لا يمكن اعتبارها إنسانًا حتى تنزرع بنجاح في رحم سيدة. والأساليب المستخدمة في التلقيح الصناعي عادةً ما تقوم بتكوين أجنة بشرية متعددة أكثر مما هو مطلوب عبر مسار علاج الخصوبة؛ مما يوفر أجنَّة إضافية يجري عادةً التخلص منها، ومن الجائز أخلاقيًّا استخدام تلك الأجنة لإجراء أبحاث كيميائية حيوية من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ حياة آخرين. وقد سُمح باستخدام محدود لخطوط الخلايا الجذعية الجنينية المنتجة من تجارب أوائل تسعينيات القرن العشرين في العلاجات الإكلينيكية.
من أمثلة استخدام الخلايا الجذعية الجنينية في العلاج البشري، الموافقة التي تمت عام ٢٠٠٩ على المرحلة الأولى من التجارب الإكلينيكية لزرع الخلايا الجذعية البشرية للمخ والحبل الشوكي (الخلايا السلفية الدبقية قليلة التغصن) المأخوذة من مزرعة من خلايا جذعية جنينية بشرية، في مرضى يعانون من تلف بحبلهم الشوكي. تم علاج أول مريض في أكتوبر عام ٢٠١٠ على يد فريق يرأسه الطبيب هانز كيرستيد من جامعة كاليفورنيا بإيرفين، وتمت العملية تحت رعاية شركة جيرون المتخصصة في مجال التكنولوجيا الحيوية. وكانت التجارب التي أُجريت سابقًا على الفئران قد أثبتت أن هناك تحسنًا في استعادة الحيوانات التي تعاني من إصابة في حبلها الشوكي لقدرتها على الحركة، بعد الزرع المتأخر لمدة سبعة أيام لخلايا جذعية جنينية بشرية تم إدخالها في خط تكاثري لخلايا دبقية قليلة التغصن في مزرعة. وسوف تستمر تلك الدراسة الجديدة لعلاج المصابين بشلل في أطرافهم السفلية على الأقل خمسة أعوام. وفي حين أنه من غير المتوقع أن يؤدي هذا العلاج إلى الشفاء من تلك الإصابة تمامًا، فإنه من المأمول أن يؤدي إلى إصلاح كافٍ في الخلايا العصبية. وتلك دراسة رائدة تَعِدُ بمستقبل مشرق لاستخدام الخلايا الجذعية الجنينية في علاج إصابات الحبل الشوكي.
لقد أسفرت القيود الأخلاقية والدينية والسياسية لاستخلاص الخلايا الجنينية للعلاج البشري عن المحاولات التي تُجرى الآن لاستحثاث أو إلغاء تمايز خلايا بالغة للتحول إلى خلايا متعددة القدرات شبيهة بالجنينية، يمكن استخدامها في العلاج الخلوي. في عام ٢٠٠٦، أنتج شينيا ياماناكا خلايا متعددة القدرات مستحثة من خلايا ليفية من الفئران عن طريق إحداث عملية تعبير لجينات متعددة. استُخدمت الفيروسات العكسية (وهي عائلة فيروسات «دي إن إيه» تُدخِل تسلسلها إلى «دي إن إيه» العائل) لاستحثاث تعبير جينات ثبت أنها مهمة للحفاظ على الخلايا الجذعية الجنينية في الخلايا الليفية البالغة. ولم تنجح المحاولات الأولى نجاحًا كاملًا؛ إذ أدى تعبير بعض الجينات الفيروسية إلى الإصابة بالسرطان بعد الزرع في أجنة الفئران. وقد تم التغلب على تلك المشكلة عام ٢٠٠٨ باستخدام فيروس غُدي لإدخال الجينات. وبخلاف الفيروسات العكسية، لا يُدخل هذا الفيروس جيناته في جينوم الخلايا العائل. وقد كرَّرت العديد من الأبحاث نفس هذه التجارب التي أجريت على الفئران في الخلايا البشرية البالغة. وفي العام التالي، وجد شينج دينج وزملاؤه أنه من الممكن تغيير الخلايا الجسمية إلى خلايا متعددة القدرات دون إدراج جيني ورمي، ولكن بالعلاج المتكرر باثنين من البروتينات الصغيرة المخلَّقة كيميائيًّا. ومن المنتظر أن يكون التعديل الوراثي للخلايا البالغة البشرية لإنتاج خلايا شبيهةٍ بالجنينية قادرةٍ على إصلاح أعضائها وأنسجتها؛ من أهم سبل العلاج الإكلينيكي في المستقبل.
إن القدرة على استخدام الخلايا الجذعية لإصلاح أعضاء تالفة أو مريضة، دون التعرض لخطر رفض الجسم للأعضاء المزروعة أو غيره من الآثار الجانبية؛ هي الغاية التي تسعى لتحقيقها معظم الأبحاث. والعلاجات المعتمدة على الخلايا الجذعية موجودة، لكنها حتى الآن تعتبر علاجات طبية تجريبية فقط. ومن بين المجالات الأساسية المستهدفة الآن علاج تلف العضلات، والقلب، ومرض السكر والكبد، ومرض باركينسون، ومرض هنتنجتون.
أمراض القلب والأوعية الدموية — بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم وأمراض الشريان التاجي والسكتة الدماغية وفشل القلب الاحتقاني — هي السبب الرئيسي للوفاة في العديد من الدول حول العالم. فعندما لا يصل الأكسجين إلى خلايا عضلة القلب، فإنها تموت، ويؤدي هذا إلى تكوُّن نسيج ندبي، وتدفُّق زائد للدم والضغط، والتضخم المفرط للخلايا القلبية الحيوية؛ مما يؤدي إلى توقف القلب والموت. باستخدام نماذج من الفئران والجرذان والخنازير، ثبتت قدرة أنواع مختلفة من الخلايا الجذعية، بما في ذلك الخلايا الجذعية القلبية الجنينية والمتعلقة باللُحمة المتوسطة والبطانية والمتكونة طبيعيًّا، على إعادة إنتاج أنسجة القلب التالفة. وقد أثبتت بعض الدراسات القليلة في البشر، التي عادةً ما تتم من خلال عمليات جراحية في القلب، أن الخلايا الجذعية المدخَلَة مباشرة في الدم أو المنقولة إلى مجرى الدم قد حسَّنت كثيرًا من وظائف القلب، واستحثَّت تكوين شعيرات دموية جديدة.
ضمور العضلات هو مجموعة من الاختلالات الوراثية في الذكور، تتسبب في ضعف العضلات بمرور الوقت وتؤدي في النهاية إلى حدوث وفاة مبكرة. والسبب في تلك الحالة تغيرات في بروتين الديستروفين الذي يحافظ عادةً على تكامل العضلات. وباستخدام نماذج من الفئران والكلاب، زُرعت خلايا جذعية تسمى ميزوأنجيوبلاست (مبرمجة للتمايز لخلايا عضلية) مزودة بجين ديستروفين مصحح. وقد تمت استعادة قوة العضلات ومستويات الديستروفين الطبيعية في أربعة من أصل ستة كلاب؛ مما يشير إلى أن العلاج الخلوي من الممكن أن يكون السبيل لعلاج هذا المرض الجيني.
عام ٢٠٠٨، أُعيدت برمجة خلايا جذعية جنينية لإنماء خلايا بيتا غير ناضجة قادرة على إنتاج الأنسولين، كانت قادرة على علاج مرض السكر في الفئران. في نفس العام، أُعيدت أيضًا برمجة خلايا جلدية بشرية بالغة، تم استحثاثها في البداية إلى خلايا متعددة القدرات؛ لإنتاج الأنسولين. وهناك جانب أكثر إثارة، وهو أن تلك الخلايا أفرزت أنسولين استجابةً للجلوكوز (كما تفعل بشكل طبيعي في الخلايا داخل البنكرياس). يحتاج الأمر إلى بعض الوقت حتى تَحُلَّ زراعة خلايا منتجة للأنسولين مَحَلَّ الحاجة للحقن طوال العمر بالأنسولين في المرضى المصابين بمرض السكر من النوع الأول. وقد أُحرز بعض التقدم في زراعة خلايا كبدية من خلايا جذعية بالغة مستحثة في الفئران؛ مما يجعل إعادة تكوُّن خلايا الكبد أمرًا محتملًا.
يؤدي الفقدان التدريجي للخلايا العصبية المنتجة للدوبامين في بعض مناطق الدماغ إلى الإصابة بمرض باركينسون. اعتمدت العلاجات الخلوية الأولى على زراعة نسيج دماغي جنيني. وقد حدث تحسن ملحوظ في عدد قليل من الأشخاص؛ مما قدَّم دليلًا عامًّا على صحة الجانب النظري للأمر. وبعيدًا عن مصدر النسيج المثير للجدل، تلقي تلك التجارب الإكلينيكية الضوء على العديد من الجوانب، بما في ذلك الحاجة لكميات كبيرة من الخلايا السليمة، وتأثُّر الخلايا الجنينية المزروعة نفسها بانتقال مرض باركينسون. وفي عام ٢٠٠٨، تم تخليق خلايا جذعية سلفية مستحثَّة من خلايا ليفية جلدية من الفئران، ثم حدث تمايز لها إلى خلايا طليعية عصبية تم إدماجها (بعد عملية الزراعة) في الدماغ. وقد طُبق هذا الأسلوب على حيوان استخدم كنموذج لمحاكاة تأثير مرض باركينسون، وذلك بقتل الخلايا الطبيعية المنتجة للدوبامين باستخدام مادة سامة. أدت زراعة خلايا جذعية مستحثة إلى حدوث تحسن ملحوظ مقارنةً بالحيوانات غير المعالَجة. والتحدي الأكبر الآن يتمثل في فهم كيفية حدوث مرض باركينسون، واستخدام نماذج الخلايا الجذعية لتطوير علاجات جديدة بالعقاقير لمواجهته.
مرض هنتنجتون هو مرض تنكسي عصبي، يؤدي إلى موت الخلايا العصبية للدماغ التي تُنتج مادة كيميائية ناقلة للأعصاب (حمض جاما أمينوبوتيريك). أدى العلاج الإكلينيكي باستخدام الخلايا الجذعية لمواجهة هذا المرض إلى نفس نتائج العلاج الخاص بمرض باركينسون؛ فالنسيج الجنيني والخلايا الجذعية البالغة المستحثة المزروعة في الدماغ البالغ تزيد من نشاط الدماغ، بما في ذلك الوظائف الإدراكية والحركية. وقد لا تكون الخلايا الجذعية «الحل السحري» لعلاج هذا المرض، لكنها يمكن أن تشكِّل جزءًا مهمًّا من المواجهة الفعالة له.
يمكن استحثاث الخلايا الجذعية المتعلقة باللُحمة المتوسطة، الموجودة في النخاع العظمي، لتكوين الخلايا العصبية والدهنية والجلدية والعضلية والعظام والأوتار والغضاريف والأربطة. وهذه الخلايا يسهُل عزلها من كميات قليلة من النخاع العظمي، وإنماؤها بفاعلية للكميات المطلوبة للزرع. ويتميز المخزون المجمَّد بأنه صالح للاستخدام، ويمكن استخدامه للعلاجات الفورية الجاهزة. توجد هذه الخلايا أيضًا في لب الأسنان، وهو النسيج الليِّن داخل الأسنان. وتُعَدُّ ضروس العقل بصفة خاصة مصدرًا مهمًّا للخلايا الجذعية، وهذا يفتح الباب أمام احتمالية إجراء طبيب الأسنان لعملية زرع خلايا جذعية؛ فقد زُرعت خلايا جذعية جنينية من منطقة اللُحمة المتوسطة في عظمة الفك لدى فئران بالغة. وقد نمت بعض «براعم الأسنان» هذه إلى أسنان صلبة تعمل بكفاءة وقادرة على الاستجابة للألم. وتبقى مسألةُ إمكانيةِ حثِّ الخلايا الجذعية البالغة المأخوذة من الأسنان لإنتاج أسنانٍ جديدةٍ غيرَ مؤكَّدة، لكن هناك شركة هندية متخصصة في مجال التكنولوجيا الحيوية قد أنشأت بالفعل أول بنك للخلايا الجذعية الخاصة بالأسنان في العالم.