مستقبل الأبحاث الخلوية
إن الخلية الكاملة تعد أكثر أهمية إلى حد كبير من مجموع أجزائها العاملة. يمكن أن ينطبق هذا أيضًا على الجينوم؛ إذ يتم تحديد النموذج الأوَّلي للمكونات الجزيئية الفردية للخلية على أمل أن يؤدي الفهم الدقيق لكل جزء على حدة إلى فهم الكل. يسمى هذا الأسلوب في البحث الاختزالَ، وقد أصبح فلسفة سائدة في البحث الحيوي لعدة عقود. لكن مجرد التعرف على الأجزاء الجزيئية من اللغز لن يخبرنا بكيفية عمل الكل إذا لم نفهم قواعد تجميعها معًا. يتطلب هذا الأمر تطوير أساليب لبحث «بيولوجيا النظم» أو «التعقيد الحيوي»، وهو يمثل تحولًا في الإطار النظري (أي «تفكير خارج الصندوق») للأبحاث الحيوية؛ حيث يكون التحدي فهم التفاعلات الجماعية للعمليات الجزيئية المتعددة، ليس فقط داخل الخلية نفسها، ولكن أيضًا على مستوى الأنسجة والأعضاء والكائنات. السؤال الرئيسي هنا: «هل تُحرك الجزيئاتُ الخليةَ لتُحرك بدورها الكائن الحي، أم أن الكائن الحي هو الذي يحرك الخلية وجزيئاتها؟» الواقع أن هذه التفاعلات تقع في مكان ما بين استجابة الخلية لبيئتها المباشرة والضوابط التي يفرضها التعبير الجيني.
هناك العديد من مجالات البحث الخلوية المثيرة الجديدة. بعض تلك المحاولات يتضمن فهم كيفية تغير السلوك الخلوي تغيرًا ملحوظًا بعد حدوث تغيرات دقيقة على مستوى الجينات والبروتينات. وتتضمن محاولات أخرى استخدام الخلايا لعلاج الأمراض واستخراج المعادن واشتقاق المنتجات البترولية، أو للاستفادة من الضوء في إنتاج أنواع الوقود الحيوي. هناك استخدامات أخرى على نفس القدر من الإثارة، وتتمثل في جهودنا لإيجاد حياة تخليقية، وفهم الجانب الحيوي وراء الشيخوخة. في هذا الفصل، سنعرض بإيجاز لبعض تلك التوجهات المستقبلية وكيفية تطورها.
(١) بيولوجيا النظم
نعرف الآن تسلسل اﻟ «دي إن إيه» الكامل لبضعة أشخاص فحسب. ولدينا أيضًا فهم متزايد للآليات الكيميائية الحيوية المضمَّنة في الوجود اليومي للخلية وكيفية انقسامها وتمايزها. وفي السنوات العشر الأخيرة، أتاحت لنا التطورات التي حدثت في مجال التكنولوجيا الجزيئية إحداث ومراقبة التغيرات التي تحدث في آلاف الجينات وإشارات اﻟ «آر إن إيه» المصاحبة لها، وإنتاج البروتينات. ويمكن الآن قياس تلك التغيرات على نحو أو آخر في نفس الوقت وحتى داخل خلية واحدة. لقد تطورت المعرفة الناتجة عن هذه المجموعة من التقنيات إلى مجال يُعرف باسم بيولوجيا النظم. وقد أتاح لنا هذا المجال التعرُّف على ملايين من التفاعلات الدقيقة الإضافية بين المكونات المختلفة للخلية. راقبت التجارب الأولى التغيرات التي تحدث داخل أي خلية عند تعرضها لعقَّار دوائي محدد. على سبيل المثال، في أبسط الحالات، يتفاعل أي عقار مع بروتينه الإنزيمي المستهدف ويوقفه عن العمل. يتضح الآن عبر قدرتنا على تحليل آلاف الجينات الفردية ومنتجاتها في آن واحد أن أي عقار قد يُحدث أيضًا تغيرات في مستويات العديد من البروتينات الأخرى، التي عادةً ما تكون غير مرتبطة بالإنزيم المستهدف الأصلي، والتي قد تزيد أو تقل عادةً بمعدلات مختلفة. ربما يكون هذا هو السبب في بعض الآثار الجانبية للعقاقير، لكنه يسمح بتطوير علاجات دوائية أكثر تخصصًا «أقل في الآثار الجانبية». وبتطبيق هذه المنهجية على نحو أكبر على نظم حيوية متعددة، سنبدأ في اكتشاف التغيرات في التعبير الجيني ومستويات البروتينات التي تحدث أثناء العمليات الحيوية المختلفة؛ مثل الانقسام والتمايز الخلوي. وفي حين يحتاج إجراء تلك التجارب في حد ذاتها وقتًا قليلًا نسبيًّا، فإن فهم ما تعنيه سيستغرق وقتًا أكبر، وذلك لتأويل الكميات الهائلة من البيانات الناتجة. لحسن الحظ، أصبح تحليل هذه المعلومات ممكنًا بواسطة إمكانيات أجهزة الكمبيوتر الهائلة. يتزايد اعتماد عِلْمَي الأحياء الخلوي والجزيئي على البيولوجيا القائمة على المحاكاة المعتمدة على الكمبيوتر، التي تعرف بعلم المعلوماتية الحيوية، للإجابة عن الأسئلة الصعبة المتعلقة بالسلوك الحيوي فيما يتعلق بتسلسل البروتينات واﻟ «دي إن إيه».
قدَّم ليروي هود، وهو أحد الرواد في هذا المجال، مثالًا رائعًا لكيفية استخدام بيولوجيا النظم في المجال الطبي. تؤخَذ عينة دم من المريض، ويلي ذلك التحليل الكيميائي الحيوي والبروتيني والجيني الكامل للحالة الصحية ووظائف الجسم. تعالَج تلك المعلومات في الحال لتحديد كل الأمراض الممكنة، مع الأعراض والعلاجات الخاصة بها، أو الاختبارات الإضافية المقترحة، وذلك كله في بضع دقائق. هذا ما يطلق عليه الطب المخصَّص، وقد كان حلمًا منذ بضعة أعوام مضت، وأصبح الآن مسألة وقت (وإن لم يكن محددًا قدْرُه). يستخدم الباحثون في مجال علاج السرطان بالفعل تكنولوجيا «دي إن إيه» وبروتينات متقدمة لمراقبة عدد محدود جدًّا من الخلايا السرطانية التي يمكن أن توجد في دم مريض يعاني من ورم صلب (يُدخَل عددٌ صغير من خلايا الأورام إلى الدم باستمرار، مارًّا بالشعيرات الدموية التي تنقل موادَّ غذائيةً إلى الورم النامي). ويستخدم الباحثون في المجال الدوائي تلك الطرق لبحث الفاعلية العامة لعقاقير جديدة مضادة للسرطان.
(٢) الحياة التخليقية
ترتبط كل الخلايا الحية بعضها ببعض عبر استخدامها لنفس الشفرة الجينية وعدد صغير من التسلسلات البروتينية الثابتة إلى حدٍّ كبير. وهذا يشير إلى أن كل الحياة الحديثة تطورت من كيان حي متوارث واحد. وقد خُلِّقت مكونات الخلية — قواعد اﻟ «دي إن إيه» والأحماض الأمينية وحتى البوليمرات الصغيرة الخاصة بها — في المعامل عن طريق إعادة خلق الظروف الكيميائية والفيزيائية المتطرفة التي وُجدت أثناء انخفاض درجة حرارة الأرض الجديدة. نحن الآن في حقبة إنتاج خلايا تخليقية بالكامل من خلايا طليعية أساسية.
تحتاج الخلايا لعمل نسخ من جزيئاتها قبل أن تتمكن من الانقسام، لكنها تحتاج أيضًا إلى كل آليات تخليق البروتينات المعقدة للوصول إلى هناك. من ثم، فإن الحد الأدنى للمتطلبات لأي خلية هو تركيب حاوٍ، وتسلسل «دي إن إيه» موضوع بالترتيب المنطقي للجينات التي يشفِّر كلٌّ منها بروتينًا يمكن أن يؤدي تفاعلًا كيميائيًّا بسيطًا، والأكثرُ أهميةً القدرةُ على الجمع بين تلك العمليات والمعلومات لتنسخ نفسها بشكل منتظم. ويمكن أن تتجمع الجزيئات الدهنية ذاتيًّا في شكل أغشية بدائية، مكونةً تراكيب كروية لحماية وتركيز محتوياتها. وقد تم بنجاحٍ التخليق المعملي للريبوسومات الاصطناعية القادرة على المساعدة في تخليق البروتينات والجينومات الاصطناعية الوظيفية المدخَلَة في الخلايا التي لا توجد بها نواة. وقد قام المتخصصون في الهندسة الحيوية مؤخرًا بتخليق رغوة تقوم بعملية التمثيل الضوئي، وتحتوي على كل الإنزيمات المطلوبة لتحويل ٩٨٪ من ضوء الشمس إلى سكريات. وتحاكي تلك التطبيقات الخاصة بالتكنولوجيا الحيوية حاليًّا عمليات الحياة الطبيعية. إن قدرتنا على إعادة تخليق حياة مستقلة بالكامل هي احتمال أقل، لكن مثل هذه الأبحاث قد تساعدنا على تعريف شكل الحياة بشكل أكبر.
(٣) إنماء الأطراف والآذان
في أجسادنا، لدى الكبد فقط قدرة محدودة على إعادة تكوين خلاياه، لكن إذا قطعنا أحد أطراف سلمندر أو قنديل بحر، فسينمو له طرف آخر جديد. بدأنا نفهم الإشارات الجزيئية التي تستخدمها تلك الأنواع في إعادة تكوين الأطراف بعد البلوغ. ويبدو أن الثدييات لا تستخدم فقط مسار الإشارات هذا أثناء نمو الجنين في مراحله الأولى، لكنه مسار ربما يُحتمل إعادة تنشيطه. فبعد إجراء بتر جراحي للأجنحة في أجنة الدجاج، يمكنها أن تنمو مرة أخرى عند تنشيط إنتاج بروتين يسمى «دبليو إن تي». ويمكن أن تتم عملية إعادة تكوين لأطراف الضفادع أيضًا لاحقًا في دورة الحياة عندما يتم التعبير عن بروتين «دبليو إن تي». لدى الشرغوف (فرخ الضفدع) هذه القدرة لكنه عادةً ما يفقدها عند تحوله إلى ضفدع. ويُعتقد أن التعبير عن بروتين «دبليو إن تي» حول أحد الجروح يؤدي إلى إعادة برمجة أو عملية ما بعد التمايز للخلايا البالغة إلى خلايا جذعية قادرة على إنتاج أنواع الخلايا المطلوبة لإعادة تكوين الطرف. ومن المعروف أنه يمكن نمو الأنامل بعد بترها في الأطفال الصغار جدًّا، ومن ثم، هناك احتمالات مثيرة للاهتمام لقدرة الأنسجة البشرية على إعادة إنتاجها لنفسها.
(٤) وجود أبدي
هل يمكن أن نعيش للأبد؟ بدلًا من أن يكبر «قنديل البحر الخالد» (واسمه العلمي توريتوبسيس نيوتريكولا)، فإنه يصل لمرحلة النضوج الجنسي ثم يرجع إلى مرحلة السليلة (المكافئة للخلايا الجنينية). في قناديل البحر البالغة (مرحلة الميدوسا)، يحدث ما بعد التمايز للخلايا من السطح الشبيه بالجرس وعضو القناة الهضمية إلى سليلات تنمو بعد ذلك إلى قنديل بحر بالغ، وهكذا. وخاصية تجنب الموت هذه عن طريق عكس دورة حياته هي خاصية فريدة في المملكة الحيوانية؛ مما يسمح لقنديل البحر بالعيش والتكاثر بشكل لا نهائي. لحسن الحظ، أغلب قناديل البحر هذه (تتكاثر كل ٢٤ ساعة) تنقرض نظرًا للمخاطر العامة في البحار.
أثبتت الدراسات الحديثة أن بروتينًا مستقبلًا شبيهًا بالأنسولين في الدودة الخيطية كينورهابدايتس إيليجانس يلعب دورًا حيويًّا في التحكم في مدة حياتها. هذا الجين مهم في تنظيم عمليات التكاثر وتحمُّل الحرارة ومقاومة نقص الأكسجين والهجوم البكتيري. تسمح الطفرات في هذا الجين للدودة بالعيش قدر حياتها مرتين (رغم أن ذلك يتم في الظروف المعملية). يرتبط أيضًا بطول العمر وجود مستويات عالية من بروتين يتحكم في التعبير عن مستقبل الأنسولين هذا. هذه الدودة تقودنا لبحثِ إذا ما كانت هناك جينات مكافئة في الثدييات قادرة على إطالة عمرها. وكلما عرفنا أكثر عن هرم الخلايا، ربما كان من الممكن تعديل الجوانب الوراثية والآليات الخاصة بهذه العملية.
هناك طريقة بديلة للعيش إلى الأبد، وهي استنساخ نفسك. وأول حيوان ثديي استُنسخ هو النعجة دوللي، وذلك عن طريق نقل النواة للخلايا الجسمية (أي إدخال نواة خلية بالغة في بويضة غير مخصبة ثم وضعها في رحم أم بديلة). أسفر ذلك عن إنتاج مجموعة متنوعة من الحيوانات المستنسخة «المعمَّرة»، بما في ذلك الحيوانات الأليفة المنزلية. وتكمن المشكلة في إنتاج حيوان جديد من نواة خلية بالغة في أن ذلك يؤدي إلى زيادة خطر التعرض المبكر لأمراض متعلقة بالسن، بما في ذلك السرطان. ويعد الاستنساخ البشري وإنماء جسد الجنين في مراحله الأولى بمنزلة مصدر جديد وجيد للخلايا لتوفير خلايا جذعية علاجية مناسبة لعمليات الزرع، لكن المخاوف الأخلاقية والسياسية قد أوقفت البحث في المجال لبعض الوقت.
تعتمد الحياة في هذا الكوكب على الخلية. فقد تطورت أشكال الحياة وحيدة الخلية مثل البكتيريا والخمائر والطحالب عبر ملايين السنين إلى حيوانات متعددة الخلايا معقدة قادرة (في حالتنا) على محاولة فهم كيفية عمل الحياة نفسها. لقد ساعدَنا الرصد الدقيق والتفكير العميق لعلماء الأحياء في القرن التاسع عشر على فهم ماهية الخلية، وكيفية ارتباط كل خلية جديدة بالخلية المشتقة منها عبر جيناتها، وكيف يمكن أن تتطور خلية أو مجموعة من الخلايا إلى أنواع جديدة، وذلك بالتكيف مع بيئة متغيرة بفعل الانتخاب الطبيعي. وقد شهد القرن العشرون التعرفَ على ماهية مكونات الخلية وفك شفرة كمٍّ كبير من المعلومات التي توجد في اﻟ «دي إن إيه» والبروتينات، وبدايةَ فهم الاتصال المعقد بين الخلايا والمكونات الجزيئية المضمنة في ذلك. وربما يشهد القرن الحادي والعشرون ابتكار طرق لاستخدام الخلايا، سواء الطبيعية أو الاصطناعية، لعلاج الأمراض وإعادة إنتاج أي جزء من الجسم وإطالة العمر. وربما يكون بإمكاننا أيضًا تصميم أجهزة كمبيوتر فائقة معتمدة على الخلايا. وكما غيرت البكتيريا المتطورة في التاريخ المبكر للأرض من كيمياء الغلاف الحيوي، يمكن استخدام أساليب مماثلة لعكس الأخطار التي نتسبب فيها عبر الاستغلال والتلوث المستمرَّين اللذين نُحدثهما في الكوكب. وأيًّا كان ما سيحدث في المستقبل، فمن المنتظر أن تبقى الخلايا الحية، على نحو أو آخر، وتتكيف مع بيئتها. الأمر غير المؤكَّد هو بقاء البشر لرصد ذلك.