المستعمرون وسلوكهم
(١) المشكلة التونسية عند الاحتلال الفرنسي
نلاحظ أن المشكلة التونسية قد وُضعت دائمًا في ميادين ثلاثة: الميدان الدولي، والميدان الفرنسي، والميداني الداخلي التونسي.
تكونت المشكلة التونسية يوم احتلَّت فرنسا الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر، فأخذت فرنسا تتدخل في شئون تونس شيئًا فشيئًا تمهيدًا للاستيلاء عليها، ولم يتيسر لها احتلالها عام ١٨٨١ إلا بعد مناورات دولية دامت أكثر من ثلاثين سنة، وكانت تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة، إلى أن تم الاتفاق مع الإنجليز بمساعدة رجل ألمانيا المحنك «بسمارك» على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر وتكون فرنسا حرة التصرف بتونس، أما إيطاليا فوقع إبعادها بإعطاء بعض الترضيات لجاليتها بتونس.
وهكذا كانت نتيجة وضع المشكلة التونسية في الميدان الدولي، احتلال الجيوش الفرنسية للبلاد وفرض الحماية عليها؛ لأن الدولة الاستعمارية قد اقتسمت العالم في ذلك الحين وتصرفت في الأقطار كما شاءت لها مطامعها؛ إذ القوة بيدها والمال في قبضتها والسياسية العالمية في حوزتها.
وبمجرد استيلاء فرنسا على تونس أصبحت المشكلة التونسية تحتل مكانًا ممتازًا في السياسية الفرنسية البحتة التي لم تكن واضحة جلية في أول أمرها؛ لأن معاهدة «باردو» لم تحتوِ على لفظة الحماية، بل أبقت السيادة التونسية كاملة غير منقوصة، وكان المستعمرون ينادون بوجوب القضاء على الدولة التونسية وإلحاق البلاد التونسية بفرنسا مثل ما تم فيما يتعلق بالجزائر. وكان الأحرار الفرنسيون مثل «كليمنصو» ينددون بالعدوان على شعب صديق، ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس، فاتخذ رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك «جول فيري» موقفًا وسطًا وقال: إن فرنسا لا تريد استعمار تونس ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التراب الفرنسي، وإن احتلالها لها إنما هو ضمان لبقائنا بالجزائر. فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخص حسب عباراته في كلمتين: «لا إلحاق ولا انسحاب.»
أما داخل البلاد التونسية، فقد كانت السياسة الفرنسية تناقض ما قررته الحكومة الفرنسية، وكان أكبر عامل في تبديلها وقلبها هو المقيم العام «بول كامبون» الذي اشتهر بمهارته الإدارية بفرنسا، ففرض على تونس اتفاقية جديدة (اتفاقية المرسى)، واستدرج الحكومة الفرنسية إلى الموافقة عليها، ثم اتخذها أداة للاستيلاء على السيادة الداخلية التونسية وإنشاء إدارة حديثة تكون آلة في قبضته؛ ليتمكن من حكم البلاد حكمًا فرنسيًّا مباشرًا، فيتصرف في الميزانية لتنفيذ أغراضه، ويشرع في سياسة تنمية الجالية الفرنسية بتشجيع الهجرة ومنحهم الوظائف العامة والأراضي الخصبة، ويسرع إلى تقسيم الثروة المعدنية على الشركات الفرنسية.
فإذا كان «جول فيري» بطل احتلال تونس، فإن «بول كامبون» هو مستعمرها الأول وواضع أساس جميع المشاكل الكبرى التي صيرت القضية التونسية معقدة متشعبة استعصى حلها على الحكومات الفرنسية المتوالية وحيَّرتها وأفسدت سمعة فرنسا ونزلت بها إلى الحضيض.
(٢) المشكلة التونسية في الميدان العالمي
بقي التناقض والاضطراب بيِّنًا في السياسة الفرنسية نحو تونس، فطورًا تسير إلى تطبيق معاهدة الحماية والوقوف عندها، ومرة تنتهج السُّنة الاستعمارية التي سنها «بول كامبون»، وهي في تناقضها واضطرابها لم تلتفت إلى العالم وإلى الواقع، كأنها ذاهلة بنفسها عن غيرها، وإذا ما وعدت الحكومة الفرنسية وعدًا، فسرعان ما تتراجع فيه تحت تأثير جاليتها الاستعمارية بتونس، غافلة عما طرأ على العالم كله من تغيير عميق وعما أحدثته الحروب العالمية فيه من تبديل. عواصف هبَّت على الدنيا، فزعزعت قوات أوروبا الاستعمارية وأضعفتها حربيًّا واقتصاديًّا، حتى أصبح مركزها اليوم أقل أهمية من ذي قبل، وأضاعت الدول الاستعمارية الكبرى هيبتها في القلوب، ورأى كل سياسي أن العصر الذي كانت دول أوروبا تقتسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ بينها تفرض فيها سيطرتها واستعمارها وحمايتها وانتدابها قد انقضى وفات، فلم تبقَ في قبضتها دفة السياسة العالمية، بل أفلتت منها إلى غيرها، وقام إثر الحرب العالمية الثانية عملاقان كبيران هما أمريكا ودولة السوفييت، وأصبحت الدول الأوروبية بأسرها إما تحت النفوذ السوفياتي المباشر، وإما تحت رحمة أمريكا التي تغدق عليهم من مالها الوافر ليعيشوا ويحافظوا على كيانهم ووجودهم. وكأن فرنسا لم تعلم بعد أن كل دولة تأخذ من الدنيا على قدر قواها، وأن المحافظة على إمبراطورية كبرى ممتدة في أطراف العالم تتطلب من الجيوش والأساطيل والطيران والقوات الاقتصادية والمالية ما يكفي للوقوف أمام أكبر الدول المنافسة، وكأن فرنسا لم تعلم أيضًا أنها لا تملك هذه القوة اللازمة.
والأعجب أن فرنسا التي كانت طيلة قرون تسير في مقدمة البشرية في بث الآراء الحية الجديدة والدفاع عن حرية الأفراد والمجتمعات، صارت اليوم كأنها في عزلة عن التيارات الفكرية الكبرى التي تسير بالعالم نحو مصيره، فقد تجبرها الظروف أحيانًا على مسايرة غيرها، ولكن سرعان ما تتراجع إلى الوراء وتتشبث ببعض المبادئ البالية.
وقد انتصرت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مبادئ اعتنقتها غالب الشعوب والدول، واهتز لها كل مظلوم وكل مغلوب على أمره. وكانت أمريكا حاملة لرايتها داعية لها ساعية في تحقيقها، فظهرت في الميثاق الأطلنطي الذي جعله الحلفاء دستورًا عالميًّا لجلب الأمم إلى جانبهم، والذي امتاز بإعلان حق كل شعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، ثم سجلت مبادئه في ميثاق سان فرانسيسكو الذي أسست بمقتضاه هيئة الأمم المتحدة، فالتفتت إليها جميع الأنظار وعُلقت عليها الآمال، مع أن الدول الاستعمارية احتاطت لنفسها في ميثاق تلك الهيئة، فضيقت ميدانه وجعلته لا يطالبها إلا بتقديم بعض التقارير فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة لها. ولكن تلك الدول لم تتمكن من التملص من توقيع ذلك الميثاق الذي جعل مهمتها في الأقطار التابعة لها تقتصر على إعدادها لحكم نفسها بنفسها، وكانت فرنسا في الواقع لم تغير من سياستها الاستعمارية التقليدية شيئًا، ثم إنها وقعت أيضًا على ميثاق حقوق الإنسان وخالفته حالًا وخرقته بسرعة عجيبة واعتدت على الحريات الفردية والحريات العامة، وقتلت ونكَّلت وسجنت وعذَّبت في أكثر مستعمراتها وخصوصًا في تونس، فلم تُقم وزنًا لتلك المواثيق كلها ولم تعترف بها عند التطبيق ولم تحترم توقيعها لها أصلًا.
وأعظم ظاهرة للعصر الحديث مقت الاستعمار في العالم بأسره، واعتباره عبودية ورقًّا والحكم عليه نهائيًّا بالإزالة، وقد عزز تلك الظاهرة إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها في التخلص منه، وإن أدى ذلك بها إلى تضحيات جسيمة، وإن أخل بالأمن العالمي، وإن اكتسح الاضطراب والحرب قسمًا كبيرًا من المعمورة؛ لأن المستضعفين في الأرض والمقهورين والمظلومين والجائعين رأوا في الاستعمار والتسلط الأجنبي بأنواعه أقوى أركان النظام السائد في بلادهم القائم على الفساد والارتشاء وخدمة مصالح بعض الأشخاص أو الجاليات الأجنبية، فتحركت الجماهير الغفيرة التي تعد مئات الملايين بين آسيا وأفريقيا، واستيقظت وتفطنت إلى أسباب دائها وعزمت عزمًا كليًّا على جثِّها من أصولها، وتقدمت لفك الأغلال من رقبتها والتخلص من النير الأجنبي أولًا، ومن ذلك النظام البالي ثانيًا، ودوى صوت الحرية الهائل في أرجاء الدنيا، وتجاوبت أصداؤه من جزر إندونيسيا وسهول الهند إلى جبال الأطلس بالمغرب الأقصى، فتقطعت السلاسل وتحررت الشعوب وتكونت دول فتية وفُتحت أمامها أبواب المستقبل على مصراعيها، وكأن دولة أوروبا قد دالت فتقلَّص ظلُّها عن بلد بعد بلد، وكلما وُلد مولود جديد من تلك الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار، تعزز به جانب الحرية في العالم، وازدادت الدول الاستعمارية ضعفًا، وتقهقرت الروح الاستعمارية، وأحرزت هكذا غالب أمم الأرض استقلالها: الهند وباكستان وبورما وسيلان وإندونيسيا وسوريا ولبنان وليبيا والحبشة. وقد حصلت شعوب أخرى على حكمها الذاتي في سيرها نحو استقلالها.
وهل يمكن أن تقف موجة الحرية التي اكتسحت العالم عند حدود تونس؟ أم توهم الفرنسيون أن هذا التيار البشري الجبار سيتعطل أمام ما وضعوه من سدود وضربوه من حصار شديد حول المغرب العربي خاصة وبقية الإمبراطورية الفرنسية عامة؟
أولم يعلموا أن النطاق الحديدي الذي أرادوا به عزل تونس عن بقية الدنيا لا يمكن أن يوقف حركة شعب ونهضة أمة أرادت إرادة فعالة أن تحيا من جديد حياة العزة والكرامة، بل لم يزدها ذلك النطاق المفروض إلا شوقًا إلى الاتصال بالشعوب الشقيقة وإلى الخروج إلى الهواء الطلق الحر، فخرق التونسيون الوطنيون السد الفرنسي المنيع من كل جهة، وخرجوا بقضيتهم إلى الميدان العالمي، ووجدوا جميع تلك القوات الفتيَّة المعادية للاستعمار تناصرهم وتشد أزرهم، فقد أصبحت تلك الدول الجديدة تشارك مشاركة حقيقية في سياسة العالم. وينبغي هنا ألا ننسى أن عددًا وافرًا من شعوب الدنيا قد ذاق في السابق مرارة الاستعمار، وبقيت آثارها في فمه إلى يوم الناس هذا؛ ولذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا الجنوبية (الأرجنتين، والبرازيل، والشيلي، وبوليفيا وغيرها …) تبغض الاستعمار طبيعةً وجبلَّةً؛ ولذا كان من المتوقع أن تقف تلك الدول التي حصلت على استقلالها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن لجانب الدول الآسيوية الأفريقية التي رفعت لواء مكافحة الاستعمار. فلا غرابة إذن في أن تجد تونس أعظم قوات العالم — الأدبية والمادية — تعطف عليها وتميل إلى مساعدتها على التخلص من ذلك الاستعمار البغيض، فأصبحت المعركة في كنهها بين الماضي والمستقبل، ففرنسا وقواها تسعى للمحافظة على النظام القديم البالي، وتسعى تونس وأنصارها إلى تحقيق نظام أساسه العدل والحرية والمساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة يضمن للبشرية سلامتها ورفاهيتها، ولا يكون الانتصار إلا للمستقبل.
وقد دُهشت فرنسا لأنها تعيش في برجها العاجي فيما يتعلق بالاستعمار، عندما رأت الكتلة الآسيوية الأفريقية تتكون للدفاع عن تونس، وزادت دهشتها لما سجلت القضية التونسية في جدول أعمال هيئة الأمم، وأخيرًا لم تُحر جوابًا، فانسحبت من الجلسة العامة التي أثيرت فيها القضية، ولم تحتمل أن تجلس على كرسي الاتهام، ولفرط استغرابها وبُعدها عن الواقع العالمي المحسوس قررت حكومتها عدم الاعتراف بهيئة الأمم في هذه القضية وكأنها نسيت — أو تناست — أنها وقعت ميثاق هيئة الأمم، وأن عملها هو تهديم لتلك المنظمة العالمية. وقد أصرت على موقفها حتى رأينا رئيس وزرائها «بيني» يصرح في «كواليس» مجلس النواب الفرنسي «أن فرنسا لن تقيم وزنًا لأي قرار تتخذه الأمم المتحدة في القضية التونسية»، و«أن فرنسا سترفض رفضًا باتًّا السماح بالدخول إلى تونس لأي لجنة تعينها هيئة الأمم» (أكتوبر ١٩٥٢).
إن قرار الحكومة الأمريكية الخاص بالامتناع عن التصويت عند نظر شكوى تونس ضد فرنسا في مجلس الأمن قرار يدل على الجبن، وإن الدبلوماسية الأمريكية تلقت الصفعة التي تستحقها من يد مندوب الباكستان، إن اشتراك الولايات المتحدة في منظمة حلف شمال الأطلنطي يجب ألا يكبل حريتنا في ميدان الشئون الخارجية.
وإذا كانت الدبلوماسية الأمريكية مهتمة بحماية مصالح دول أوروبا الاستعمارية، فما علينا إلا تغيير موقفنا كدولة عالمية وإعادة النظر فيما يتعلق بمصالحنا والسير طبق سياسة خارجية مختلفة تمام الاختلاف عن السياسة التي نسير عليها.
وإن أمريكا وإن لم تؤيد في أول أمرها تسجيل القضية التونسية في جدول أعمال الجلسة العامة لهيئة الأمم المنعقدة بباريس عام ١٩٥١-١٩٥٢ ولا مناقشتها في مجلس الأمن بنيويورك، إلا أنها نصحت فرنسا المرة تلو المرة بوجوب تغيير سياستها بتونس والبر بوعودها لها. ولما رأت تعنت فرنسا سلمت لحكومتها مذكرة رسمية تطالبها بذلك، فقامت قيامة فرنسا إذ ذاك، واجتمع مجلس وزرائها بعد أن رفض «بيني» قبول تلك المذكرة أصلًا، ونشر بلاغًا باسم الحكومة الفرنسية في ٦ / ١٠ / ١٩٥٢ جاء فيه: «تقرر أننا لن نقبل أي تدخل في المسائل التي هي في جوهرها من اختصاص السيادة الفرنسية.»
وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا؛ إذ علم كل واحد أن الحكومة الفرنسية تقصد بالتدخل الأجنبي تدخل أمريكا نفسها، ويعتبر الرأي العام الفرنسي كل مناقشة لقضية تونس في هيئة الأمم إنما تقع بإرادة أمريكا أيضًا.
فبدلًا من أن تنظر فرنسا إلى الحقيقة وتعترف بالواقع وتغير سلوكها فتجلب لنفسها العطف والتقدير، ألصقت التهم بغيرها ظنًّا منها أن تعنتها وتمسكها باستعمارها ووقوفها لأجله ضد العدو والصديق والخصم والحليف، سيضمن لها بقاء إمبراطوريتها كما هي. فإذا بالرأي العام العالمي ينقلب ضدها في هذه القضية ويعرفها بالحقائق المرة التي أرادت تجاهلها.
مسكين مسيو بيني! الرئيس المؤقت للحكومة الفرنسية الممثل لفرنسا الضعيفة الهرمة البعيدة عن كل بعث وازدهار، ولقد أصبحت فرنسا المثال الأول لما للترميم من عيوب مضحكة وعجز.
وإن فرنسا — كبريطانيا العظمى — عرضة لأزمة التناقص، ولكننا بينما نرى الإنجليز يتبعون سياسة رشيدة يكذبون بها «سالوست» المؤرخ الروماني الذي يقول إن المحافظة على الإمبراطورية لا تكون إلا بالطرق التي كوَّنتها، ويقيمون الدليل على أنه يمكن أن تقام الإمبراطورية على أساس المحبة المتبادلة واحترام التقاليد المتغايرة؛ نرى الفرنسيين يتبعون بتونس سياسة مبناها العنف كأن فرنسا ما زالت دولة قوية عسكريًّا واقتصاديًّا وأدبيًّا.
وبما أن أساس أعمالها هو الظلم، فمن الصعب أن نظن أن الخاتمة ستكون لمصلحتها، وأن الفرنسيين يكونون على جانب من الذكاء لو أنهم قلَّدوا الإنجليز المتيقظين، لكي يجدوا حلًّا للنزاع القائم مع المكافحين لتحرير تونس.
ومن الغريب أن الفرنسيين الذين أظهروا تفانيهم في حب الحرية مدة الاحتلال الألماني لبلادهم، هم نفس الفرنسيين الذين لا يحترمون ذلك الحب عند غيرهم.
ولو أن فرنسا تصل إلى فرض شروطها باستخدام جنود «اللفيف الأجنبي»، ولو أنها ترمي في المعركة بجميع القوات التي لديها فتقهر مؤقتًا المقاومة الوطنية التونسية؛ فإن ذلك الحل لا يكون إلا إلى حين، لأن ما يقع اليوم في تونس ليس بالأمر الخاص بها فحسب، بل هو أمر يشبه نشوب الحريق في مزرعة حبوب، وأن اللهيب سيلتهم لا محالة جميع ما اسمه إمبراطورية استعمارية أو نصف استعمارية.
عبثًا تحاول فرنسا تعطيل سير البشرية، فالقوات الطبيعية لا تُرد ونواميس الكون لا تُغلب، وتونس تسير مع البشرية في تطورها؛ ولذا رأينا قضيتها تتقدم في الميدان العالمي بخطًى ثابتة وتعزز في كل يوم بقوات جديدة.
ورأينا أخيرًا هيئة الأمم تبحث المشكلة التونسية في جمعيتها العامة بنيويورك (ديسمبر١٩٥٢) وتتخذ في شأنها قرارًا، فتجزم هكذا خلافًا للرأي الفرنسي أن من اختصاصها النظر في المشكلة التونسية ومن حقها إصدار القرارات في شأنها واتخاذ الوسائل اللازمة لحلها.
(٣) المشكلة التونسية في الميدان الفرنسي
إن ضروريات الحرب في الشرق تفرض علينا متناقضات عجيبة. إننا نطالب بالمساعدة الأمريكية في الهند الصينية، ولكننا نحتج على تدخل الولايات المتحدة في شمال أفريقيا. إننا نخدم بكل حماسة القضية الوطنية الفيتنامية، ولكننا نبعث ﺑ «بورقيبة» إلى المنفى. إننا نتوجه إلى هيئة الأمم لو تحركت الصين، ولكننا نزعم عدم اختصاص الهيئة في قضيتي مراكش وتونس. إن السياسة ليست هي المنطق، بيد أن الوحدة الفرنسية لن تتحمل مثل هذه المتناقضات البالغة.
وكأن ساسة فرنسا لم يفطنوا بعدُ أن ذلك التناقض الذي سيفضي بالإمبراطورية الفرنسية إلى التفكك والانهيار، ناتج عن الصدمات العنيفة والتيارات الجارفة التي تتلقاها من الداخل والخارج، وهو ناتج عن تمسك فرنسا بسياسة استعمارية تقليدية لم تُرد تبديلها، قائمة على مبدأ أن: «الاحتلال العسكري لبلاد مستعمرة يجد مبررًا له في أهمية الغنائم» التي يجنيها منها.
يبدو واضحًا أن معاهدة باردو إذ تركت لفرنسا ميدانًا خاصًّا مع احترام الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية، قد وضعت بذلك قواعد قوية لإقامة نظام فيدرالي، يكون العقبة الوحيدة دون الانتشار العظيم الذي تلقاه الأماني الاستقلالية.
كان يجب التمسك باحترام معاهدة باردو وما ترتب عليها من نتائج دبلوماسية وعسكرية.
ولم توجد أبدًا سيادة تونسية لا في الواقع ولا شرعًا ولا عقلًا.
منطق عجيب لا يفهمه إلا المستعمرون، فكيف تعاقدت إذن تونس مع فرنسا ومع غير فرنسا قبل الحماية وبعدها بمعاهدات متعددة متنوعة؟ نعم يجيب الساسة الفرنسيون على ذلك أن فرنسا لم تتعاقد قط مع تونس، بل تعاقدت مع باي تونس فقط — وهو صاحب المملكة — وقد تنازل عن بعض اختصاصاته للدولة الحامية، فيبدلون الواقع المحسوس ويخترعون الأباطيل، ويتلاعبون بالألفاظ ليبقوا أحرارًا في استثمار البلاد والتحكم في مصيرها، معتمدين في الحقيقة على القوة المجردة وحدها.
إذا كانت الأرقام التي قدمتموها حقًّا، فإن تونس أكثر تقدمًا وأوسع نهضة من باكستان نفسها، والباكستان مستقلة فينبغي أن تكون تونس مستقلة قبلها.
ومن البراهين المضحكة التي يلوكونها ويكررونها من غير ملل زيادة عدد السكان في البلاد التونسية. ومن الملاحظ أن عدد السكان بتونس لا يزداد في الواقع إلا في الجهات المبرأة من الاستعمار الفرنسي، أما في النواحي التي تمكَّن منها ذلك الاستعمار؛ فإن عدد السكان في تناقص، أضف إلى ذلك أن نمو السكان في ازدياد أسرع في البلاد التي لم تعرف الفرنسيين واستعمارهم، مثل الهند وباكستان ومصر، فهو أمر طبيعي خارج عن مؤثرات الدول الغربية كلها.
وقد اتسع التذمر من الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية في الرأي العام الفرنسي نفسه على تفريطها في الممتلكات الفرنسية وعدم صيانتها من الضياع، فمنهم من يطالب بالمحافظة على الكل سيادةً وثروةً وناموسًا، ومنهم من يريد تطورًا في الألفاظ وفي بعض المظاهر وإبقاء الجوهر، والكل متفقون على الاستعمار في كنهه.
إن المسئولين فينا بدلًا من أن يبحثوا عن العناصر الثابتة للقوة في العهد الحديث فيوفروها، وبدلًا من أن يعملوا على كسبها والمحافظة عليها؛ اكتفوا بالمظاهر الخيالية للهيبة. لقد كنا في سنة ١٩٣٩ متخلفين بحرب واحدة، وفي سنة ١٩٥٣ أصبحنا متخلفين بقارة واحدة.
إن امتلاك الثروة التي تحت الأرض ونشر التعليم وتحديد العملة ومراقبة الصرف واحتلال المناطق الاستراتيجية، وتنظيم الجيش والدبلوماسية على أساس جماعي؛ تلك هي المسائل الأصلية التي وقع إهمالها فأصبحت مهددة، ولكن يوجد في البلاد التونسية عدد من المراقبين المدنيين أكبر من عددهم سنة ١٩٣٨! كسل في التفكير ثم جرأة لا تنظر للعواقب، ذلك ما يمتاز به هذا الضعف الذي يتجلى بمظاهر القوة ببراعة كبيرة حتى يخيَّل لمعظم الفرنسيين أنها القوة بعينها.
… إن جانبًا كبيرًا من الرأي العام عندنا لا يزال يتصور التوسع الاستعماري حسب أقدم مظاهره وأكثرها سخافة وإثارة للشعور، فالرأي العام يجهل من جهة التغييرات التي حدثت منذ انتهاء الحرب في جميع الأقطار الواقعة تحت الوصاية والتي لا تتمتع بالحكم الذاتي، وهو من جهة أخرى يتمسك ببعض النظريات السخيفة، فمعلوماته تقتصر على بعض العبارات المثيرة التي تمنعه من التفكير، ولا يمكن أن نتصور إلى أي حد عقمت أعمالنا وشلَّتها عبارات مثل «اجتنبوا الفضيحة» و«لا توجد ترجمة آسيوية لكلمة الحقيقة» و«في أفريقيا لا يحترمون إلا السوط»، إن ما تتضمنه هذه العبارات من ملاحظات بسيطة تُتخذ مبررًا للمواقف السياسية، وحتى لتشييد نظريات تترتب عليها قرارات حكومية.
إنه لعجيب أن نسمع بعض الساسة المعتدلين يستنكرون مطالب الحزب الحر الدستوري الجديد الخاصة باستقلال ذاتي حقيقي، ويختفون في طيات العلم الوطني كلما طلب مثلًا تعيين وزير تونسي لشئون التعمير أو أبدى أملًا في إيجاد «دولة مشتركة» في أفريقيا. إن وجود جيش وطني تونسي ودبلوماسية تونسية باتصال دائم مع القاهرة وروما وموسكو وواشنطون، لا يثير تخوفاتهم بقدر ما يثيرها إنقاص عدد الموظفين الفرنسيين في الإدارة المباشرة أو تيسير الشئون البلدية بهيئة منتخبة من قبل هيئة انتخابية موحدة!
… إن اجتماع الوطنية والشيوعية وما اتفق على تسميته بهذا الاسم الغامض: الاستعمار، كان من المتحتم أن يؤدي إلى انفجار: اثنان ضد واحد، فهل تكون الكلمة الأخيرة للقوة؟ وهكذا تتعرض الوحدة الفرنسية الناشئة من مؤتمر برازافيل، ومن دستور ١٩٤٦ إلى تطورات مختلفة، فلاقت حوادث قاسية في مدغشقر وساحل العاجل وتعرضت لهزائم في تونس ومراكش، وتفككت في تونكان ولاوس وكمبوديا في الهند الصينية.
(٤) الجالية الفرنسية ودورها في المشكلة التونسية
لقد عجزت الحكومات الفرنسية أو تظاهرت بالعجز عن حل مشكلة تونس التي لا تزيدها الأيام إلا تشعبًا وتعقيدًا، لما تتمتع به جاليتها من نفوذ كاد يكون مطلقًا ومن امتيازات فاحشة جعلتها المتصرفة الحقيقية في مصير البلاد وحظوظ العباد، وإذا ما ظهرت الحكومة الفرنسية بمظهر الحكم بين تلك الجالية والشعب التونسي، فإنها تكون دائمًا حكمًا ظالمًا يعزز جانب مواطنيه ويطلق يدهم ويسعى في منحهم حقوقًا جديدة، فأصبحت تلك الجالية الفرنسية أكبر عبء على تونس، وأرادت فرنسا أن تُظهر أن المشكلة التونسية في جوهرها وكنهها نزاع بين جاليتها وبين الشعب التونسي، وهي تعلم علم اليقين أن احتلالها العسكري للبلاد هو الذي مكَّن لتلك الجالية التي باتت أكبر مانع لكل تفاهم، وهي في الحقيقة نتيجة لسياسة التعمير التي تبعتها فرنسا منذ احتلَّت تونس رامية من وراء ذلك إلى فرنسة البلاد وإلحاقها بالتراب الفرنسي.
وكان عدد الأوروبيين عند توقيع معاهدة «باردو» (١٨٨١) لا يفوق العشرات، فأصبح اليوم حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها ٢٣٩٫٥٤٩ نسمة منهم ١٤٠ ألف فرنسي، وقد أرادت فرنسا أن تعطي لتلك الأقلية من الفرنسيين حقوقًا سياسية بتونس، فتشركهم مناصفة في الحكومة التونسية والبرلمان التونسي وجميع مؤسسات الدولة، مع أنهم أجانب لا يمكن قانونًا وشرعًا أن يكون لهم حق المواطن في بلاد أجنبية مرتبطة ببلادهم بمعاهدة دولية.
فما هي هذا الجالية الفرنسية؟ وما هو تركيبها؟
أما الأكثرية فإنها خليط من جميع الأجناس والفِرق والبلدان، أتت بهم فرنسا من كل صوب وحدب، فقبلت المشردين واللاجئين غير المرغوب فيهم في أوطانهم من روس بيض ويوغسلافيين ويونانيين وألمان وإسبان ومالطيين وإيطاليين، فكانت فرنسا تمنحهم الجنسية الفرنسية وتفتح لهم أبواب الرزق وتدخل أبناءهم المدارس الفرنسية لتُنسيهم لغتهم، وإذا بهم يصبحون أسيادًا متحكمين مهيمنين ينظرون إلى التونسي من عليائهم ويحتقرونه ويرون أنفسهم أصحاب البلاد، قد اكتسبوا من الحقوق ما ليس له.
لأجل أن تسيطر فرنسا تمام السيطرة على الناحية الاقتصادية في البلاد، وجهت همها إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية، فاتخذت كافة الوسائل الممكنة — وفي مقدمتها إصدار التشريعات المختلفة — لانتزاع الأراضي من يد التونسيين وإقرار الفرنسيين بها، فأصبح هؤلاء الفرنسيون هم المتحكمين في حياة البلاد الاقتصادية.
ثم تساند المستعمرون الفرنسيون مع الفرنسيين أصحاب رءوس الأموال المسيطرين على الحياة التجارية والصناعية، ومع رجال الإدارة الذين بيدهم توجيه السياسة المالية في البلاد، وبذلك أصبح الشعب التونسي مهددًا بالفقر أمام هذه القوى التي تسندها السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد.
ولأجل أن نعلم مقدار الظلم الذي حاق بالتونسيين من الناحية الزراعية، يكفي أن نستعرض الوسائل التي اتخذتها السلطة الفرنسية للاستيلاء على أراضي تونس الزراعية.
تبلغ مساحة الأراضي التونسية الصالحة للزراعة تسعة ملايين من الهكتارات، من مساحة المملكة التونسية التي تقدَّر باثني عشر مليونًا ونصف من الهكتارات.
وكانت كل هذه الأراضي بطبيعة الحال — قبل الحماية — تحت تصرف الأهالي، يعيشون من محصولاتها ومن تربية المواشي في مراعيها، وكان بعضها ملكًا للدولة أو للأفراد، أو ملكًا مشاعًا بين القبائل، والبعض الآخر تابعًا للأوقاف العامة أو الخاصة.
وما كاد الاستعمار يضع أقدامه في البلاد، حتى اتجه إلى كل قسم من هذه الأقسام، ورسم الطريق للاستيلاء عليه، سالكًا سياسة واحدة متتابعة الحلقات طول مدة الاحتلال.
(٥) أملاك الدولة الخاصة
تقدَّر أملاك الدولة التونسية الخاصة — قبل عهد الحماية — بمساحة لا تقل عن مليون من الهكتارات، كان للأهالي حق استغلالها، وقد وضع المصلح الكبير الوزير خير الدين برنامجه الواسع لتوزيعها بين الفلاحين، مانحًا كلًّا منهم قطعة أرض مساحتها عشرون هكتارًا، ونفذ البرنامج بصفة خاصة بمنطقة زغوان.
وتلا هذا الإجراء صدور الأمر المؤرخ في ١٣ يناير ١٨٩٦ الذي يقضي بإلحاق «الأراضي البور» بأملاك الدولة، فأخذت سلطة الحماية على عاتقها تحديد الأراضي البور، وراحت تُدخل ما تشاء من الأراضي في هذا النوع، معتدية بذلك على حرية الملك الفردية، وتوالت اعتداءاتها على أصحاب الأملاك تحت هذا الستار.
(٦) أراضي الغابات
يوجد بتونس غابات وأحراش شاسعة بالمنطقة الشمالية تبلغ مساحتها مليونًا وتسعة عشر ألف هكتار، وقد عمدت فرنسا إلى الاستيلاء عليها منذ بدء الحماية، وأصدرت أمرًا بتاريخ ٤ أبريل سنة ١٨٩٠ يقضي بإدخالها ضمن أملاك الدولة الخاصة.
ثم أصدرت أمرًا بتاريخ ٢٢ يوليو سنة ١٩٠٣ يتضمن وضع حدود نهائية لهذه الغابات، وكان الغرض الحقيقي لهذا الأمر إنما هو اغتصاب أراضي السكان المجاورة لهذه الغابات، وتضمن هذا الأمر النص على أنه لا يمكن قبول أية دعوى تتعلق بحق الملكية بعد إتمام عملية التحديد، وكانت عملية التحديد تتم في الخفاء، حتى إن أكثر المُلاك — وأغلبهم من البدو — ما كانوا يعرفون إجراءات هذا التحديد إلا بعد فوات أوانها، وقد عجز أكثرهم عن تقديم رسوم ملكيتهم؛ إذ كانوا يتصرفون في أراضيهم منذ أجيال، ومن ذلك الحين تعددت المنازعات بين السلطة الفرنسية والأهالي في هذا الشأن؛ إذ وقع إقصاء الكثيرين عن أراضيهم، وسلطت الإدارة الفرنسية الغرامات الفادحة على من عاد إلى التصرف فيها، ثم صدر أمر في ٦ يونيو سنة ١٩٢٨ بتأسيس لجنة للفصل في هذه المنازعات، وأعقبه أمر آخر في ٢٦ ديسمبر سنة ١٩٢٨ ينص على ضم نائبين من التونسيين إلى اللجنة، ومهمة هذه اللجنة هي فحص صحة المستندات التي تقدم إليها من حيث إثباتها للملكية.
ومن أغرب ما ورد من نصوص في سبيل اغتصاب ملكية الأراضي التونسية، ما جاء في الأمر الصادر في ٢٦ ديسمبر سنة ١٩٣٨ من أنه لإثبات حق المدعي يُشترط أن تكون الأرض بها حرث أو نبات أو بناء، وأن لا ملكية ما لم يتوفر هذا الشرط، ولو كان بيد المالك عقود تثبت صحة الملكية. وقد ثار الرأي العام لهذا الاستبداد والجور، فكان جواب السلطة الفرنسية أن أصدرت أمرًا بتاريخ ٢٠ مايو ١٩٣٠ بفصل العضوين التونسيين من لجنة المنازعات حتى لا يبقى بها من يمثل حقوق أصحاب الأملاك المغتصبة.
وقد ارتكبت فرنسا لتحقيق أغراضها واعتداءاتها على الملكية الفردية للأراضي المجاورة للغابات أشنع الفظائع، واستعملت في هذا السبيل شتَّى الوسائل والمناورات غير المشروعة، ونذكر على سبيل المثال أن السلطة الفرنسية طلبت من الفلاحين في جهة فريانة سنة ١٩٣٤ أن يسلموا للإدارة مستنداتهم لملكية الأراضي بدعوى الاطلاع عليها مقابل إيصالات، ثم استردت الإيصالات، وامتنعت عن تسليم المستندات لأصحابها، وأسرعت إلى تسجيل تلك الأراضي تحت ملكيتها، ووضعت يدها على ما فيها من مبانٍ وبساتين.
وفي سنة ١٩٣٨ حملت سلطة الحماية الفلاحين على الاعتراف بملكيتها لتلك الأراضي مقابل بقائهم لزراعتها، وألزمت كل فلاح بدفع إيجار سنوي، وهكذا أصبح المالك مستأجرًا والغاصب مالكًا. ومن أمثلة هذا أن سلطة الحماية انتزعت من الفلاحين المجاورين للغابات بجهة عين الدراهم مساحات تتراوح بين الهكتارين والعشرين هكتارًا، ووقع هذا الاعتداء في ثماني عشرة «شياخة» وبلغت ما اغتصب من شياخة واحدة منها وهي شياخة الفويدية ثلاثمائة هكتار بما عليها من نبات ومبان، وقد أرغم ملاك هذه الأراضي على ترك ديارهم وأراضيهم أو يعترفون بملكيتها للدولة، ويدفعون جُعلًا سنويًّا، وعندئذٍ تباح لهم فقط الإقامة فيها على سبيل العمرة.
هذا بالإضافة إلى أن السلطة الفرنسية قد اتخذت مسألة حراسة الغابات وسيلة إلى الاضطهاد، فأرسلت إلى الغابات جيشًا من الحراس الفرنسيين يفرضون على الفلاحين التونسيين الغرامات تلو الغرامات، وراح الحراس يهاجمون الأهالي في عقر دورهم ويعتدون على نسائهم تحت ستار تنفيذ القانون والتفتيش عن أخشاب الغابة؛ كل هذا باسم القانون والمدنية والإصلاح.
وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أوراق الشجر التي تعبث بها الرياح وتلقيها على الأرض سيما في فرض الغرامات المتتالية، والحجز الإداري، وبيع مواشي الفلاحين لتسديدها. وهكذا أصبح هؤلاء الفلاحون تحت رحمة حراس الغابات، توقع عليهم أنواع الظلم المختلفة والاعتداءات المتوالية على أموالهم وبيوتهم ونسائهم، وغدوا في حالة من البؤس والفقر أصبحت مضرب الأمثال.
وتتصل بمسألة أراضي الغابات مسألة المياه التونسية التي صارت بأمر مؤرخ في ٢٤ سبتمبر ١٨٨٥ من أملاك الدولة الخاصة، ومسألة المياه في منطقة الجنوب لها نفس أهمية الأراضي الزراعية في مناطق أخرى؛ إذ تتوقف عليها حياة الواحات التي يعيش منها أهل الجنوب، وكانت العيون قبل الحماية ملكًا للأفراد ولها نظام خاص في توزيعها على السكان لم يتغير منذ عهد قديم، وفي السنوات الأخيرة بدأ الاستعمار يتسرب إلى منطقة الجريد، وأقطعت السلطة الفرنسية الأراضي إلى المعمرين الفرنسيين لزراعتها نخيلًا وحولت إليها المياه معتدية على حق السكان الذي توارثوه منذ أجيال.
(٧) أراضي القبائل
يوجد بتونس أراضٍ شاسعة تتصرف فيها القبائل منذ أجيال، وهي ملك مشاع بينها، وتسمى «بالأراضي الكلية»، وقد عمدت سلطة الحماية إلى إلحاقها بأملاك الدولة، بدعوى أن القبائل لا حق لها في هذه الأراضي؛ إذ لا تملك رسوم ملكيتها، وأصدرت في هذا الشأن أمرها المؤرخ في ١٤ يناير ١٩٥١.
وقد أيدت المحكمة المختلطة هذه النظرية بتاريخ ٢٢ فبراير سنة ١٩٠٤ مقررة أن القبائل بتونس ليس لها «نظام الجماعات» الذي يجعل لها شخصية قانونية، فالأرض الكلية غير معترف بها قانونًا؛ لأن القبيلة نفسها ليست لها شخصية قانونية، واعتمادًا على هذا القرار صارت السلطة الفرنسية تسجل كل المساحات التي أرادت إلحاقها بأملاك الدولة من أراضي القبائل، واعتبرت أن القبائل ليس لها إلا حق استغلالها الوقتي، والغرض الأساسي من هذه التصرفات هو انتزاع الأراضي من يد الفلاحين وإهداؤها للمستعمرين الفرنسيين، وقد أدى هذا الإجراء مرارًا إلى تصادم بين الملاكين والقوات المسلحة، وإلى سفك الدماء وقتل الأنفس.
وهكذا وضعت السلطة الفرنسية يدها على مساحات شاسعة من مديريات الأعراض، وقفصة، والهمامة، والفراشيش، وماجر، والسواسي، ومناطق الجنوب، ثم قسمتها بين المستعمرين، بعد أن طردت منها القبائل التي كانت تملكها منذ قرون، وأقصتها إلى أراضٍ قاحلة وجبال وعرة، أو أخذهم المستعمرون كعمال في نفس الأرض التي كانوا يملكونها.
ومتى علمنا أن أراضي القبائل بالقطر التونسي تبلغ مساحتها أربعة ملايين من الهكتارات، أي ثلث مساحة القطر، تتجلى لنا في أشنع صورة خطورة هذه السياسة الفرنسية التي ترمي إلى إفقار العنصر العربي.
(٨) أراضي الأوقاف
لم تقتصر السلطة الفرنسية على اغتصاب أملاك الدولة وأراضي الغابات وأراضي القبائل، بل ذهبت في اعتداءاتها المتوالية إلى أبعد حد، فتطاولت إلى أوقاف المسلمين، وتقدَّر مساحة الأوقاف العامة والخاصة بما لا يقل عن أربعة ملايين من الهكتارات، وهو ثلث مساحة البلاد التونسية، ولم يعدم فقهاؤها استنباط الحيل القانونية لتحقيق أغراض الاستعمار، فصدر أمر بتاريخ ١٣ نوفمبر سنة ١٨٩٨ يفرض على إدارة الأوقاف أن تضع كل عام تحت تصرف إدارة الاستعمار جزءًا من أراضي الأوقاف العامة لا تقل مساحتها عن ألفي هكتار، على أن يتم نقل الملكية بين إدارة الأوقاف وإدارة الاستعمار مباشرة وبدون إشهار.
ولإدارة الاستعمار الحق في اختيار أراضي الأوقاف التي تقرر الاستيلاء عليها، وهي ترسل خبيرًا زراعيًّا يباشر وحده تقويم الأرض، ويكون رأيه فاصلًا في تقدير القيمة، وفي جميع شروط نقل الملكية، دون أي ضمان لمصلحة الوقف.
وهكذا لم تحترم فرنسا الشريعة الإسلامية الغرَّاء التي قضت بأن الوقف ملك لا ينقطع، وأنه لا يباع، ولا يُرهن، ولا يوهب، ولا يُعوض.
ولم تحترم فرنسا إرادة الوقف، فأعلنت أن المؤسسات الخيرية، كالمساجد والمستشفيات ودور العلم، لا يجب أن توقف من أجلها الأراضي، والأجدر أن تعوض هذه بالمباني والفنادق أو حتى بالمال، وقررت أن هذا التعويض مباح بل مرغوب فيه.
وهكذا استولت إدارة الاستعمار على أوقاف المسلمين واغتصبت أخصب الأراضي الموقوفة لجهات البر والتعليم، كل هذا مقابل بعض الدور المهدمة والمباني البالية، الآيلة للسقوط، التي لا يفي دخلها الضئيل بنفقات إصلاحها، أما إذا عوضت أراضي الأوقاف ببناية صالحة للاستغلال؛ فإن هذه البناية تؤجر للإدارة مقابل إيجار صوري فرنك واحد في السنة.
وهكذا توالت اعتداءات فرنسا على الإسلام في بلاد المسلمين، وهدمت النظم القائمة على أساس الشريعة الإسلامية الغرَّاء، بغير مبالاة بما تحميه من مصالح عامة وما تصرف عليه من بيوت الله ودور العلم، وعادت إدارة الأوقاف من الفقر بحيث أصبحت عاجزة عن القيام بشئون المؤسسات العلمية والخيرية، فتهدمت المدارس والمساجد، وأصبح الكثير منها في حالة يرثى لها.
وبعد أن تم لها الأمر واستولت على كل أراضي الأوقاف الصالحة للزراعة، أصدرت بتاريخ ٢٠ يناير سنة ١٩٤٢ أمرًا بإلغاء تشريع سنة ١٧٩٨، وظنت أنها بذلك تخلصت من آثار الجريمة التي ارتكبتها بالاعتداء على عقيدة البلاد وشريعتها، وسلب أموال المسلمين، والقضاء على دور العلم والمساجد والمستشفيات.
والنتيجة لهذا العمل الذي وقفت عليه إدارة الحماية جهودها منذ أكثر من ستين سنة، هو أن أصبحت جميع الأراضي التابعة لأملاك الدولة، وما أُلحق بها من أراضي الغابات، والأراضي الكلية، وأراضي الأوقاف، تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» التي أُسست سنة ١٨٩٨ لتنظيم توزيع الأراضي على «المعمرين» الفرنسيين.
ويقع التوزيع بطريق البيع الصوري بثمن زهيد يدفع أقساطًا لمدة عشر سنوات، ولتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي صدر أمر بتاريخ ١ ديسمبر سنة ١٨٩٢ أعقبه أمر ثانٍ بتاريخ ٢٥ سبتمبر سنة ١٩٠٠، يتضمن تأسيس «صندوق الاستعمار»، وقد قدمت السلطة الفرنسية لهذا الصندوق من ميزانية تونس مليون فرنك ونصفًا عند تأسيسه، ثم قدمت له سنة ١٩٠٤ ثمان مائة ألف فرنك، وفي سنة ١٩٠٥ سبعمائة ألف فرنك، وفي سنة ١٩٠٧ خمسة ملايين اعتمدتها من قرض عقدته الدولة التونسية من فرنسا، وهكذا دأبت السلطة الفرنسية كل سنة على تخصيص اعتماد كبير لصندوق الاستعمار من الميزانية التونسية نفسها، وصارت تضيف إلى هذا الصندوق المال المتحصل من بيع أملاك الدولة للمعمرين، وتستعمل كل هذه الأموال لشراء أراضٍ أخرى توزع على المعمرين وهكذا.
ولم تكتفِ السلطة الفرنسية بتأسيس هذا الصندوق لتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي، بل وضعت تحت تصرفهم أموالًا طائلة لاستثمارها، وأسست لهم خاصة بنوكًا عديدة للاقتراض منها بدون «فوائد»، إلى غير ذلك من أنواع المساعدات التي تقدمها لهم تشجيعًا على استقرارهم بتونس، حتى يصبحوا هم الأغلبية الساحقة في يوم من الأيام.
(٩) نتائج ومقارنات
وفي أول عهد الحماية تُرك امتلاك الأراضي التونسية لمساعي الفرنسيين الفردية، ثم شرعت الإدارة الفرنسية في تنظيم الخطط وتقرير البرامج الواسعة لإقرار الفرنسيين بالأراضي التونسية، فكانت تضع تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» ما تنتزعه من الأراضي الزراعية من أيدي العرب لتوزعها على الفرنسيين مقابل أثمان صورية مقسطة على آجال، فمن سنة ١٩٠٠ إلى ١٩١٤ سلمت هذه الإدارة من أراضي الشمال مساحات شاسعة بلغت ١٢٥ ألف هكتار، بينما منحتهم في منطقتي الوسط والجنوب مساحات قدرها ١٣٢ ألف هكتار، وقد ورد في الإحصاءات الرسمية أن مجموع الأراضي التي استولى عليها الفرنسيون حتى سنة ١٩١٤ يبلغ ٧٥٧ ألف هكتار، من أخصب الأراضي التونسية.
وبعد الحرب العالمية الأولى وسعت فرنسا نطاق ما تمنحه من امتيازات لإقرار ألف عائلة فرنسية بالأراضي التونسية، فمن سنة ١٩١٩ إلى سنة ١٩٣٨ وزعت ١١٩١ قطعة أرض بمنطقة الشمال بلغ مجموع مساحتها ١٤٣٥٦٠ هكتار و٧٥ قطعة بالمناطق الوسطى والجنوبية بلغت مساحتها ٥٣٦٠٥ هكتار.
واستمرت هذه السياسة الرامية إلى إجلاء العنصر التونسي من الأراضي الخصبة وإقصائه إلى الأراضي القاحلة حتى يومنا هذا.
ومما يجدر ذكره أن عدد السكان الذين يعيشون من الزراعة يقدَّر بمليون وثمانمائة ألف نسمة، منهم ٤٠٠ ألف يتصرفون في الأراضي المزروعة حبوبًا و٤٥٠ ألفًا يتصرفون في الأراضي المغروسة بالأشجار، والبقية — وهم مليون نسمة — يمثلون طبقة العمال والفلاحين. وتحتل الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب — وهي الأصل في الزراعة التونسية — مساحات قدرها ٢٩٣٤٠٠٠ هكتار؛ أي ٢٢٫٦٪ من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة، وليس في أيدي التونسيين منها سوى مليون هكتار، والبقية بأيدي المعمرين الفرنسيين والأوروبيين، وعددهم خمسة آلاف نسمة.
وكان من نتائج هذه السياسة التي جعلت الفرنسيين يستولون على قسط كبير من الأراضي الخصبة، وجزء وافر من الإنتاج الزراعي، أن عمَّ الفقر بين طبقات الفلاحين، وكثرت فيهم البطالة، وانخفض مستوى معيشتهم وأصبحت تغذيتهم ناقصة، وصاروا مهددين بالمجاعات التي تنتشر بينهم انتشارًا سريعًا بمجرد ما تحل أزمة من الأزمات.
لا يمكن بحال أن أوافق على هذه المساعدة؛ لأن التونسيين لو تعلموا لما رضوا بأن يبقوا عمالًا عندنا في أراضينا، فنفقد هكذا اليد العاملة اللازمة لنا.
… ولم يكتفِ هؤلاء المزارعون بإعفاء مفضوح شنيع من الضرائب، بل تُغدق عليهم الإدارة العامة المنح من غير حساب؛ أي إنها تتكرم عليهم بما تفرضه من جبايات على الأهلين، وتكفي إشارة منهم لتسرع إدارة الأشغال العامة في تعبيد الطرق لهم ومد السكك الحديدية، وبناء الجسور وإحداث ما يلزم لري الأرض.
ولم يستحوذوا على الأرض فقط، بل احتكروا المياه القليلة الثمينة بشمال أفريقيا، ويتصرفون في اليد العاملة كما يشاءون، ولإبقائها راضخة طائعة فإن المحاكم والعمال (المديرين) والسجون والقوة العامة تحت أوامرهم وتحت تصرفهم، ويقيمون أحيانًا سجونًا خاصة في وسط مزارعهم لمن يُظهر عدم الطاعة من عمالهم.
وإن صنيعة المستعمرين الفرنسيين بتونس «الكونت دي هوتكلوك» بصدد إشعال حريق بشمال أفريقيا لا يقل عن الحريق الذي أشعله الأميرال «دراجانليو» وراءه بالهند الصينية المنكوبة، وقد كتب أخيرًا ملاحظ أمريكي: «من الضروري العاجل أن تسترجع باريس رقابتها على السياسة الفرنسية بتونس، وإلا فإن هيكل فرنسا بشمال أفريقيا سينهار.»
ومن أعجب ما يجده الباحث في البلاد التونسية أن البلاد وميزانيتها مسخَّرة لخدمة الموظفين الإداريين، بخلاف ما يقع في الدنيا بأسرها من أن الموظفين مجعولون لخدمة الدولة والبلاد، فعددهم في تونس يزيد على الثلاثين ألفًا، معظمهم من الفرنسيين، يتقاضون — كمرتبات ومنح — أكثر من ثلثي الميزانية. وقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن ٧٠ ألفًا من الفرنسيين (المكونين من الموظفين وعائلاتهم) يعيشون عالة على الخزينة التونسية.
وبعد أن استحوذوا على جميع مناصب النفوذ والسلطة يتصرفون فيها كلٌّ حسب أهوائه ومطامعه؛ مالوا إلى الوظائف الصغيرة يعمرونها بأتباعهم وأفراد عائلاتهم نساء وأطفالًا، حتى أصبح مدير الإدارة من الفرنسيين ورؤساء المصالح منهم والكتبة والبوابون، بل أصبح أيضًا ساعي البريد والشرطي والسجان منهم أيضًا، كأن تلك الوظائف البسيطة تستوجب معارف معينة ومؤهلات لا توجد إلا عند الأخصائيين الفرنسيين، وأن عدد هؤلاء الموظفين في ازدياد مطرد ألحق بهم من فرَّ من الألمان أثناء الحرب ومن طُرد من سوريا ولبنان ومن هرب من جحيم الحرب في الهند الصينية ومن تجنَّس جديدًا من الأوروبيين.
وقد استصدرت فرنسا مرسومًا جعلت بمقتضاه جميع الكنوز المعدنية ملكًا للدولة، ثم وزعتها على شركات فرنسية تستثمرها لفائدتها، ولم تستثنِ إلا مناجم الفوسفات فسمحت بتملكها لبعض الشركات الفرنسية أيضًا.
وإذا أضفنا إلى ذلك شركات الضوء والكهرباء والنقل والبنوك، يمكن أن نتصور مدى السيطرة الفرنسية على الاقتصاد التونسي وما تتمتع به الجالية الفرنسية من امتيازات جعلت في قبضتها جميع إمكانيات البلاد، فلهم جميع الحقوق من حرية وكسب وإثراء ولسماع كلمتهم وتنفيذ أغراضهم معتمدين على الإدارة التي في خدمتهم وطوع أمرهم، وعلى قوات البوليس التي لا تكتفي بحمايتهم وحماية أرزاقهم ومصالحهم، بل تسرع إلى تنفيذ إرادتهم، بل تفاقم أمرهم إلى أن أصبح البعض منهم يسجن من يريد من التونسيين في سجنه الخاص ويفرض الغرامات على عماله كأنه دولة في الدولة.
إن الإنسان ليدهش عندما يرى الدور الذي يلعبه بعض المعمرين، بلون بشرته الزاهي وصوته الجهوري وانكبابه على الشغل وصحته الجيدة، ولكنه يمتاز بنفسية الفلاح الصغير الذي أثرى بسرعة فائقة، وأصبح مليونيرًا، ولو كان بفرنسا لما ارتقى إلى أكثر من عضوية في مجلس محلي، ولكن الرجل يتباهى بأنه قادر على تسمية أو عزل المقيمين العامِّين، ولسنا على يقين من أن دعاءه هو مجرد رياء!
إن السكان الفرنسيين ينكرون على «المسيو بريليه» أن يكون له الحق في التكلم باسم فرنسيي تونس الذين خان ثقتهم … وإنهم سيدافعون عن منشآت فرنسا بجميع الطرق …
إن بعض مصالح الفرنسيين لا تندمج ضرورة وحتمًا ضمن مصالح فرنسا.
وينبغي تخليص السلطات العامة مما تنوء بثقله من عبء شرذمة من أوروبيين حديثي النعمة يستخدمونها لمصالحهم الخاصة الفاحشة وحدها.
وينبغي تشجيع أصحاب تلك السلطات على عدم الرضوخ لذلك الإكراه الذي يتحمله بعض الموظفين عن طيب نفس مستخفِّين بواجباتهم، فيصبحون شركاء في الإجرام طواعية أو عن غير إرادة منهم.
… إننا شاهدناه عن قرب ودرسنا حركاته العامة والخاصة فوجدناه محدودًا جدًّا، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يؤهل المستعمر في قليل أو كثير ليكون حكمًا في مصير الأهالي.
أما الفضائل فإنه يتحلى بالكثير منها، وخاصة تلك التي يمتاز بها العامل المُجد والوطني المخلص، ولكنه لا يملك ما يمكن أن يعبر عنه بفضيلة الغالب أو العدل المنبثق عن العقل والقلب الرحيم، وذلك الشعور بحقوق المستضعفين، وهو لا يتعارض مع هيبة الحكم، إنه يصعب إفهام المستعمر الأوروبي أنه توجد حقوق غير حقوقه في البلاد العربية، وأن الأهالي ليسوا جنسًا خُلق للاستعباد والاستغلال … إن المستعمرين يعلنون جزافًا أن هذا الجنس غير قابل بطبعه للتهذيب والإصلاح، وذلك من غير أن يكونوا قد قاموا بأي محاولة منذ ثلاثين سنة لإنقاذه من انحطاطه الخلقي والفكري، وإن صرخة الاستنكار التي تردد صداها في الجالية الاستعمارية من أقصاها إلى أدناها بمناسبة مشروع المدارس الأهلية الذي أبدى البرلمان اهتمامه البالغ بها؛ لدليل عجيب على هذه العقلية، هنا أيضًا يحاول عبثًا البحث عن الروح الاجتماعية وعن الاعتبارات العامة أن المستعمرين ليس لديهم أي نظريات عامة حول السلوك الواجب نحو الأهالي، إنهم لا يكادون يدركون أي سياسة نحو ثلاثة ملايين من البشر سوى سياسة الضغط، ليس هناك أي تفكير بلا شك في إزالتهم من الوجود، بل إنهم ينكرون حتى الرغبة في إقصائهم إلى الصحراء، ولكن لا توجد أية عناية بما يشكون منه ولا بعددهم الذي يبدو أنه يزداد مع ازدياد فقرهم، إنه يوجد شعور بخطر محتمل ولكن لم يقع اتخاذ أي إجراء لاجتنابه.
إن الفرنسيين المقيمين عبارة عن أناس يخضعون لما يمليه عليهم الهوى أكثر من توجيهات العقل أو تأثير المثل العليا؛ فقد ظلوا بعد أن تجمدت عقليتهم على ما كان عليه آباؤهم من قبل في أول عهد قدومهم إلى أفريقيا، غزاة ومغامرين ومنعزلين يواصلون بقوة عجيبة وبعض الانتصارات الباهرة مشروعات ذات صفة ومصالح خاصة، فهم إذن يؤلفون مجموعة من الشخصيات الفردية أكثر منهم مجتمعًا منظمًا وقائمًا على أساس من المبادئ والتقاليد. إنهم لا يجتمعون إلا للدفاع عن مصالحهم، ولكن هذه المصالح التي هي مصالح طبقة معينة لا تتفق دائمًا مع مصالح فرنسا، إنه ينقص هؤلاء الرجال — وهم بلا شك من ذوي النيات الطيبة، وقد حولوا بجهودهم المتواصلة أفريقيا الجرداء إلى أرض خصبة — إدراك القيم الأدبية السامية، ونظرة أقل مادية وأنانية للعلاقات بين الإنسان عامة ولمشكلة الأهالي بوجه خاص. إنه ينقصهم الدافع القوي الكريم المنبثق عن ثقافة مجردة عن المصلحة المادية، وينقصهم حب المبادئ الذي يترك فراغًا يزداد مع مر السنين وتضخم الثروة.
ومن الملاحظ أن الجالية الفرنسية بتونس لا تتحمس لمبدأ، ولا تلتف حول فكرة، ولا تحركها عاطفة بشرية أو وطنية، ولكنها إذا ما اجتمعت كلمتها وتوحدت، فإنما تجتمع وتتوحد للدفاع عن مصالح أفرادها الشخصية فقط. وإن تلك المصالح تتجسم في نظرهم في استيلائهم جماعات وأفرادًا على البلاد وسلطاتها وخيراتها؛ ولذا رأينا الناطقين بلسانها من صحافة ونواب يدَّعون بلا خجل أنهم هم أصحاب البلاد الحقيقيون، وهم أبناؤها البررة والمدافعون عنها والمالكون لها والمستثمرون لكنوزها والمديرون لشئونها، حتى قال قائلهم في جريدة «تونس فرانس»: «إن كان للعرب التونسيين مقابر تأوي أجداث أجدادهم منذ أحقاب وأحقاب، وإن اختلطت رفات آبائهم بهاته الأرض الطيبة، فإن للفرنسيين أيضًا مقابر بها تئوي آباءهم الأقربين الذين كوَّنوا تونس تكوينًا جديدًا!» فهم إذن حسب نظرهم أصحاب حق في البلاد، وهكذا أعطى الغاصب لنفسه حق المواطن كمن دخل دارًا عنوة على أهلها وسكن معهم وضايقهم فيها وحصرهم في سقيفتها وأدخل عليها إصلاحات طفيفة، ثم سعى في إخراجهم منها بدعوى أن الدار أصبحت ملكًا له.
أما فيما يتعلق بنا، فإنا كنا نخير أن تكون مباحثات اللجنة الرسمية للإصلاحات مسبوقة باتصال غير رسمي في لجان شبه رسمية تقع فيها مجابهة صريحة لوجهات النظر بين الممثلين الحقيقيين لسكان تونس من تونسيين وفرنسيين.
إن تلك المذكرة (مذكرة ١٥ ديسمبر ١٩٥١) قد وضعت مبدأ لا يمكن لحكومة جديرة بهذا الاسم أن تتخلى عنه من غير أن تتلوث، وذلك المبدأ هو استحالة اعتبار المائة والثمانية والسبعين ألف فرنسي المتوطنين أرض تونس كأجانب بها.
وإننا نعتقد اليوم كما اعتقدنا أمس أن ذلك المبدأ يتماشى تمامًا في تطبيقه السماح للتونسيين تدريجيًّا بإدارة شئونهم بأنفسهم.
ولذا كانت مذكرة ١٥ ديسمبر ١٩٥١ هي ميثاقنا في العلاقات الفرنسية التونسية.
ولا ننسى أن نذكر أن تلك المذكرة من تحريرهم وتحرير أعوانهم.
لا شيء يعوض فرنسا وإمبراطوريتها، وأقول: إمبراطورية، ولا أقول: وحدة فرنسية ذات روابط مهلهلة …
… ولا ينبغي أن نتبرأ من أننا مستعمرون، وينبغي للذين استعمرناهم ألا يحمروا خجلًا، بل ينبغي لهم أن يكونوا فخورين بذلك معترفين لنا بالجميل، وأن هاتين العاطفتين تمكننا من إحداث مشاركة مقامة على التقدير والاحترام والصداقة.
فأية مشاركة ممكنة بين الغالب والمغلوب والقاهر والمقهور غير مشاركة الراكب لفرسه؟! وأي تقدير غير تقدير السيد لعبده؟! وأي احترام غير احترام المزارع لبستانه وأرضه وأشجاره؟! وأي صداقة غير صداقة الأسد لفريسته؟!
وترى تلك الجالية أن المقدمة الحتمية لتلك المشاركة العجيبة قتل الزعماء الوطنيين، وفي طليعتهم بطبيعة الحال «الحبيب بورقيبة» كما قال الجنرال «أوميران» نفسه: «إن تونس كانت تبقى هادئة مزدهرة لو كان بورقيبة فرنسيًّا؛ لأنه إذ ذاك يكون قد وقع رميه بالرصاص في عام ١٩٤٥ لمشاركته مع العدو.»
فإن القوم لا يردعهم رادع ولا يوقفهم ضمير ولا تلينهم عاطفة ولا تقودهم فكرة، بل يرون في المحافظة على امتيازاتهم الظالمة مبررًا لسفك الدماء وقتل الأبرياء واختلاق الأكاذيب وقلب الحقائق، يثيرون بها الرأي العام الفرنسي الغافل عما يجري في المستعمرات، وإلا فالجنرال أوميران وأضرابه يعلمون علم اليقين أن بورقيبة ورفاقه من الوطنيين التونسيين، كلهم كانوا يعارضون الإيطاليين في الاستيلاء على تونس، ويقاومون المحور لأجل ذلك. والحوادث شاهدة والمواقف بيِّنة من خطب وتصريحات وقرارات للحزب الحر الدستوري في هذا الموضوع.
ويعلم الجنرال «أوميران» أيضًا أن الوطنيين بتونس لا يخدمون ركاب دولة أجنبية أيًّا كانت، إنما يعملون لاستقلال وطنهم ليس غير، وتلك هي جريمتهم الحقيقية في نظر الفرنسيين.
أوَلم يوجد بتونس حقًّا حالة ينبغي تطهيرها؟ أوَليس من الضروري إرجاع التوازن الطبيعي بين الرجال وبين الأشياء قبل كل شيء؟ أوَليس من اللازم التخلص نهائيًّا من بعض المؤثرات وخصوصًا من الثائرين؛ أي من الدستوريين الجدد؟
فينبغي في نظره إذن أن يُقتل صبرًا مائة ألف من التونسيين، وهو عدد أعضاء الحزب.
إن المشوشين نظموا صفوفهم ليزرعوا البغضاء ويهدروا الدماء، فلا تصدعوا آذاننا في هذه الآونة بإصلاحات أو تنازل … أو معامل الحلفاء أو مصالح.
ولا تستهزئوا بنا بدعوى الاعتبارات السياسية العليا وهيئة الأمم المتحدة، وأمريكا وأوروبا والقمر والملائكة، وورق العملة وورق … الحلفاء.
إن كان ذلك صحيحًا فيما يتعلق بتونس، فهو صحيح أيضًا بالنسبة لمراكش.
فقد تطلب محق المجرمين هناك ثلاثة أيام … فهل يتطلب هنا ثلاثة أعوام؟!
فليس في الأمر حقيقتان، بل في فرنسا حكومة واحدة، وبشمال أفريقيا محميتان.
فلأي سبب لم نصل إلى نفس النتائج في نفس الوقت؟
وهكذا نرى الجالية الفرنسية تفقد أعصابها ويذهب عنها رشدها، عندما يصادم الواقع أوهامها ويقضي على أطماعها ويهدد مصالحها، فيعتريها ضرب من الجنون الإجرامي ويسير شعب تونس بين هؤلاء المجانين العطشى لدماء الأبرياء وبين فرنسا المتشبثة بأحلامها الاستعمارية.