الحركة الوطنية
(١) الحركة القومية
لم تتكون الحركة التونسية من العدم، ولم تتولد بين عشية وضحاها، بل نشأت وترعرعت وتطورت خلال قرن كامل تقريبًا، حتى أصبحت كما نشاهدها اليوم تجمع شعبًا بأسره في وحدة متينة، وتسير به في كفاح دموي مرير دام عامين ضد قوات استعمارية مسلحة بأحدث أنواع السلاح العصري.
وليس غرضنا كتابة تاريخ تلك الحركة بالتفصيل، ولكن بسطة موجزة تعين على فهم ما يجري بتونس اليوم من جهاد.
بدأت نهضة تونس وسعيها في التخلص من كل نفوذ أجنبي في أواسط القرن التاسع عشر، فأصدر ملكها إذ ذاك محمد باي (٩ سبتمبر ١٨٥٧) «عهد الأمان» الذي يعتبر إعلانًا لحقوق الإنسان وللمبادئ الديمقراطية من مساواة بين الأفراد وحرية شخصية، وحرية الأديان، وعدالة الجبايات، والذي كان مقدمة للدستور التونسي الصادر في ١٨٦٠، ولما اعتلى خير الدين باشا المعروف بعبقريته السياسية كرسي الوزارة (١٨٧٣) أسرع إلى إدخال النظم الحديثة على الدولة التونسية، وشمل بإصلاحه الإدارة العامة والمحاكم الشرعية والمدنية والتعليم والصحة والاقتصاد والزراعة، وكانت تلك المؤسسات — وخاصة المدارس العصرية الثانوية والعليا — نواة صالحة وبذورًا طيبة أنبتت شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكانت أساسًا للنهضة والتقدم السريع الثابت في خطاه رغم جميع العراقيل الاستعمارية، حتى رأينا موجة من الأعماق تكتسح شعب تونس وكأن الحياة التي كان تيارها يجري ببطء، بل اختفى أحيانًا كما تختفي الأنهار تحت الرمال، تدفقت من جديد وظهرت مياهها أصفى وأغزر، وإذا بها تيار جارف لا يقدر الاستعمار الفرنسي البالي على إيقافه أو تعطيله.
لقد ابتدأت المقاومة التونسية للاستعمار الفرنسي يوم وضع أول جندي فرنسي رِجله على أرض الوطن، وكانت من ذلك اليوم تكتسي قالبين، فتارة تكون ثورة عامة أو محلية وطورًا تكون حركة سياسية صرفة، وفي بعض الأحيان تتخذ القالبين معًا.
أن نموت أحرارًا دفاعًا عن شرفنا وشرف وطننا أحسن من الحياة في العبودية والذل.
ثم إنه قاوم توقيع معاهدة (باردو)، ولما وقَّع الملك على تلك المعاهدة اختفى العربي زروق فرارًا من انتقام الوزير الخائن مصطفى بن إسماعيل، وبعدها هاجر إلى الشرق.
وقام بعده الشيخ محمد السنوسي الذي كان لسان المعارضة التونسية للحماية الفرنسية، واتخذ من منصبه في أمانة العاصمة مركزًا يردُّ منه تدخل السلطات الفرنسية في شئون تونس حتى حكم عليه بالنفي.
ورأى الأستاذ البشير صفر الذي حمل المشعل حقبة من الزمن أن يوجه عنايته إلى الشباب ويوجهه نحو الثقافة والعلم واستكمال الوعي القومي، بما كان يلقيه من محاضرات في معهد الخلدونية الذي أسسه لهذا الغرض، وكان لتعاليمه أعمق الأثر حتى عده الشعب أبا النهضة الحديثة في تونس.
وكان علي باش جانبه أول زعيم قومي قاد الحركة الوطنية وأسس دعائمها، فكتل حوله الشباب المثقف، وأصدر أول جريدة قومية (التونسي) سنة ١٩٠٤، وأخذ يوالي فيها الحملات على الاستعمار الفرنسي، ويفند اعتداءاته ويفضح مؤامراته وسلبه لخيرات البلاد واستيلائه على السيادة التونسية وطغيانه وبطشه. وقد تأثر إلى حد بعيد بحركة الشباب العثماني، فكان لحملاته الصحفية ولاجتماعاته الشعبية صدى عميق أيقظ الشعور القومي وبث روح المقاومة في جميع الطبقات. وقد اقتصر عمله على أمور سلبية من ردع الظلم وإرجاع بعض الحقوق إلى أهلها والمطالبة بإعطاء التونسيين حقوقهم المسلوبة.
وقد عم القلق العاصمة التونسية وتبرَّم الشعب من الاعتداءات الفرنسية، وتوترت العلاقات مع الإيطاليين الذين أعلنوا عن نواياهم في الاعتداء على طرابلس، فبات الجو ينذر بالشر والانفجار القريب. ولما أرادت السلطات الفرنسية أن تستولي على قطعة من مقبرة «الجلاز» الإسلامية وحاولت تسجيلها (٧ نوفمبر ١٩١١) هبَّ الشعب من كل صوب وسار في مظاهرات صاخبة مدافعًا عن قبور أجداده وأجداث آبائه، واندلعت الثورة دامية شديدة ودارت المعارك في المقبرة وحولها، ثم شملت المدينة كلها، فانهزم الشعب الأعزل في آخر الأمر بعد مقاومة دامت أيامًا أمام القوات العسكرية المنظمة المسلحة، فنصب الفرنسيون المشانق في ميدان باب سويقة وشنقوا جماعة من الوطنيين من بينهم أحد أبطال الثورة «الجرجار» الذي بقيت صورته حية راسخة في الأذهان، لما أظهره من شجاعة في المعركة، فقتل بنفسه عددًا من رؤساء مراكز البوليس الفرنسي وأتباعهم من الشرطة، ومن رباطة جأش وسخرية من الموت عند المشنقة.
وبعد إخماد الثورة أسرعت السلطات الفرنسية إلى تعطيل جريدة «التونسي» وإلقاء مسئولية الحوادث على «علي باش جانبه» وصحبه، وإلى إعلان الأحكام العرفية، وتسليط الحكم العسكري على البلاد التونسية، وقد استمرت تلك الأحكام إلى عام ١٩٢٢.
ولكن الإرهاب لم يفتَّ في ساعد شعب متعطش إلى الحرية والعدالة، وكان إضراب عمال الترام سنة ١٩١٢ فرصة سانحة لإظهار غضبه، فآزرهم ضد الشركة الأجنبية التي كانت تستثمرهم استثمارًا، وقاطع ركوب عربات الترام عندما عوض الجنود الفرنسيون العمال المضربين، بل منع بالقوة كل من أراد ركوبها، وأخيرًا سجل انتصارًا عندما حصل العمال على مطالبهم، وهو انتصار صغير في ميدان ضيق، ولكن مفعوله كان عميقًا إذ أحيا الجذوة المشتعلة، وقوَّى الأمل وأعطى درسًا مفيدًا للمستقبل بأن النصر وليد الاتحاد.
فأرادت السلطات الفرنسية إذ ذاك أن تقضي على الحركة الوطنية الفتية، حتى يخلو لها الجو من كل معارضة عند تنفيذ خطتها الاستعمارية، فنفت أقطاب الحركة إلى الخارج وتوجهوا إلى الآستانة واستقروا بها، ما عدا الأستاذ عبد العزيز الثعالبي الذي ذهب إلى باريس بعد أن أمضى بعض أشهر في الجزائر.
وأكرمت الدولة العثمانية وفادة جميع التونسيين المنفيين وأعانتهم على متابعة كفاحهم في الخارج، وأسندت إلى بعضهم مناصب عالية ليسهل عليهم العمل في سبيل استقلال وطنهم. ومن أبرز تلك الشخصيات «علي باش جانبه»، والشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفائحي. أما الأستاذ محمد باش جانبه أخو علي باش جانبه، فإنه أسس بسويسرا لجنة «تونس جزائرية» وأصدر باسمها مجلة «المغرب» التي تصدت للدفاع عن شعوب المغرب وحقوقها، وقد توفي ببرلين وحيدًا فريدًا بعد كفاح طويل مرير، ولم يحضر دفنه غير الأمير شكيب أرسلان، رحم الله الجميع رحمة واسعة. وكان أمير البيان يزور قبر صديقه في الجهاد كلما مر ببرلين، ويتأسف لرؤيته مهملًا مبعثر الأحجار.
أما في داخل تونس، فازداد الضغط واشتدت وطأة الأحكام العرفية، واتسعت الاعتقالات بين الشباب القومي لأتفه الأسباب خوفًا من دعايتهم في وسط الشعب وما تجره من ثورة.
ورغم تلك الاحتياطات كلها اندلعت نيران الثورة في الجنوب وشاركت فيها بداية عام ١٩١٥ قبائل بني زيد المعروفة ببأسها وفروسيتها وفتوَّتها تحت قيادة بطلها الحاج سعيد بن عبد اللطيف الذي أخذ يخوض المعارك الواحدة تلو الأخرى بعد وضع خططها. ففي عام ١٩١٦ قضى في مرة واحدة على القسم الأكبر من القوات الفرنسية؛ إذ بيَّتهم وهاجمهم برجاله بالسلاح الأبيض، كما وضع لهم كمينًا في أحد المضايق وأفنى فيلقًا كاملًا في بداية الثورة، ودامت الحرب عامين كاملين، ولم تتغلب فرنسا إلا بعد أن أتت بالنجدات يتلو بعضها بعضًا، وبعد أن جردت جيشًا كاملًا جاءت به من واجهة القتال الكبرى.
(١-١) الحزب الحر الدستوري التونسي
لقد كال الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى الوعود المعسولة للشعوب المستضعفة كيلًا؛ لكي يستعينوا بها على أعدائهم. وبعد انتهاء الحرب أحيا الرئيس ولسن آمالًا جسامًا فيها لما أعلن عن مبادئه، واتجهت وفود البلاد المغلوبة على أمرها إلى باريس، حيث انعقد مؤتمر الصلح، ومن بينها الوفود العربية ليحققوا تحريرهم الموعود. وفي شهر سبتمبر عام ١٩١٨ قدمت لجنة تحرير تونس والجزائر عريضة لمؤتمر الصلح للمطالبة بحقوق شعوب المغرب، وقدم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان يقيم بباريس على رأس وفد تونس عريضة إلى الرئيس ولسن باسم الشعب التونسي مطالبًا باستقلال بلاده، ثم نشر في أوائل ١٩٢٠ كتابه الشهير «تونس الشهيدة» الذي تخاطفته الأيدي التونسية والمغربية عامة؛ إذ يفضح لأول مرة، بعاصمة فرنسا نفسها، طرق الاستعمار الفرنسي، ويبين جناياته.
وفي أثناء إقامة الشيخ الثعالبي بباريس قام صحبة من الوطنيين بتشكيل الحزب الحر الدستوري التونسي عام ١٩١٩، وقد كانت فاتحة أعماله رفع مذكرة إلى جلالة الملك محمد الناصر، يطالبون فيها بإصدار دستور ينظم الدولة التونسية طبق المبادئ الديمقراطية، وقد وجدوا من جلالته عطفًا شاملًا وتأييدًا كاملًا، ولم يعلن الحزب عن الاستقلال كغاية يرمي إليها لأن الظروف لم تكن مساعدة، بل اقتصر على برنامج إصلاحي واسع النطاق أهم ما فيه السعي لإرجاع ما اغتصبه الفرنسيون من سلطات إلى أيدي التونسيين.
ولبى الشعب نداء الحزب والتفَّ حوله وتكتل فيه الشباب العامل وانبث في المدن والقرى، يؤسس له فروعًا وينظم صفوف الوطنيين ويقيم الدعوة له في كل مكان.
وأخذ القصر الملكي يؤازر الحزب بفضل أعظم نصير له به: الأمير محمد المنصف، النجل الأكبر لجلالة الملك الذي لم يقتصر على مجرد التأييد، بل انضم إلى الحزب وأدى يمين الإخلاص للمبادئ الوطنية.
ولم تبقَ السلطات الفرنسية مكتوفة الأيدي أمام اتساع الحركة التونسية، فأسرعت إلى إلقاء القبض على حامل لوائها الشيخ عبد العزيز الثعالبي بباريس ونقلته والأغلال في يديه إلى السجن العسكري بتونس، وأقامت عليه دعوى خطيرة بتهمة التآمر ضد أمن الدولة. ولما رأت هياج الشعب وحماسته واندفاعه في الدفاع عن زعيمه، اضطرت إلى إطلاق سبيله، فخرج من السجن وقاد بنفسه الحركة الوطنية.
وإذ ذاك لجأت فرنسا إلى تغيير مقيمها العام في تونس ربحًا للوقت وانتظارًا للفرص السانحة، وتلك طريقة اتبعتها فرنسا في مستعمراتها؛ إذ تكتفي بتبديل الأشخاص وتتمادى في نفس السياسة الاستعمارية.
ووصل المقيم الجديد «لوسيان سان» إلى تونس في يونيو ١٩٢١، وهو أخطر مقيم عرفته، فشرع حالًا في رفع الأحكام العرفية؛ لكي لا يشاركه العسكريون في النفوذ، وعوَّض المجلس الشوري بالمجلس الكبير، وأسس وزارة العدل، وفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وأطلق الحريات من عقالها، فازدهرت الحركة الوطنية وتعددت الصحف وكثرت الاجتماعات العامة.
ولم يتساهل المقيم الجديد في ذلك الميدان إلا ليتمكن من تنفيذ خطته الاستعمارية الرامية إلى جعل تونس جزءًا من فرنسا، ولا يتم ذلك إلا إذا عوض الفرنسيون التونسيين وشردوهم في الصحاري؛ ولذا فتح أبواب الهجرة للفرنسيين والمتفرنسين من أبناء أوروبا، وفتح لهم أبواب الإدارات التونسية ليتخذوا منها مرتزقًا يستولون بواسطتها على النفوذ والسلطة، وأقطعهم الأراضي الشاسعة التي اغتصبها من العرب.
وتفطن الوطنيون إلى ذلك الخطر الجسيم، وساند الملك شعبه، وتوترت العلاقات بينه وبين فرنسا، حتى إنه في آخر الأمر هدد بالتخلي عن العرش إذا لم تنفذ فرنسا مطالب الشعب، فكان جواب المقيم العام محاصرة القصر الملكي بقوات كبيرة من الجيش الفرنسي يوم ٥ أبريل ١٩٢٢، فهبَّ الشعب وثارت ثائرته وعمَّت المظاهرات، وسارت الجماهير عشرات الألوف على الأقدام من عاصمة تونس إلى شاطئ المرسى، حيث القصر الملكي، تأييدًا لملكها ومؤازرةً له، فلجأ المقيم العام إذ ذاك إلى المراوغة، ووعد الملك وعدًا صريحًا بإرضاء الرغبات الوطنية على أن يتأجل إنجازها إلى ما بعد زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية «ميلران» لتونس.
وبعد أن تمت تلك الزيارة نكث «لوسيان سان» عهده، وأصدر الأوامر الاستثنائية لتعطيل الحريات العامة وصادر الصحف ومنع الاجتماعات العامة.
وفقدت الحركة الوطنية إثر ذلك أكبر عضد لها بموت جلالة الملك محمد الناصر، فكانت مصيبة عامة أحدثت فراغًا لا يُسدُّ، فلم تقدر الحركة الفتية على مقاومة موجة الاضطهاد، فخمد نشاطها وقل عملها، فاختار الشيخ عبد العزيز الثعالبي إذ ذاك الهجرة إلى الشرق.
(١-٢) الحزب الحر الدستوري الجديد
مرت بتونس بعد سفر الثعالبي فترة ركود دامت أعوامًا قليلة؛ إذ رجع جماعة من الشباب القومي النشيط من فرنسا، حيث أتموا دراستهم، ومن بينهم الأستاذ «الحبيب بورقيبة» الذي امتاز بشخصية قوية وإرادة فعالة وفكر واضح جليٍّ، واجتمع هؤلاء الشبان حول جريدة «صوت التونسي» التي أصدرها الأستاذ «الشاذلي خير الله» عام ١٩٢٩، ووجدوا مجالًا واسعًا للعمل عندما صادف انعقاد المؤتمر الأفخارستي عام ١٩٣٠، وقد اعتبره الفرنسيون حملة صليبية جديدة ومقدمة لفرنسة التونسيين بطريق التنصير، وقررت سلطات الحماية إقامة الحفلات في تلك السنة نفسها بمناسبة مرور خمسين سنة على احتلال تونس.
فجرد الشباب أقلامهم وشنُّوها حملات قوية شديدة على الاستعمار ونواياه، والتفَّ الشعب حولهم مؤيدًا ومؤازرًا، وتحمس لهم لمَّا قدمتهم الإقامة العامة للمحاكمة لأجل مقالاتهم بجريدة «صوت التونسي»، فتحرك الشعب دفاعًا عن خيرة شبابه ونظم المظاهرات في أكبر مدن المملكة وخاصة أمام المحكمة الفرنسية، حيث رُفع الحبيب بورقيبة على الأكف، ولما رأى المقيم العام هذا التضامن القوي عدل عن المحاكمة، ولكنه أصدر أوامر استثنائية جديدة لتشديد ما كان أصدره «لوسيان سان» من قبل.
وفي شهر نوفمبر ١٩٣٢ أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدته الشهيرة «العمل التونسي»، فالتفت حوله أقوى العناصر الوطنية وأخذ حالًا يهاجم قانون التجنس الذي أصدرته الحكومة الفرنسية تحت تأثير «بول بنكور». سعيًا وراء فرنسة العباد والبلاد، وأبان بإيضاحه المعهود ما في هذا القانون من خطر جسيم على كيان الشعب التونسي العربي المسلم، فلجأت فرنسا إذ ذاك إلى رجال الدين ليؤازروها في القضاء على شعب كامل، فأصدروا بالفعل فتوى ادعوا فيها أن المتجنس لا يعد كافرًا ويجوز دفنه في مقابر المسلمين.
فصدع الحبيب بورقيبة بأن هؤلاء الرجال خونة يتاجرون بالدين ولا يمثلون الإسلام والمسلمين، ووجه نداءاته للشعب ليدافع عن مقابره. فهبَّ الشعب لندائه، ولما مات عدد من المتجنسين في مختلف أنحاء القطر احتل الجماهير المقابر للذود عنها ومنعوا القوات العسكرية الفرنسية من دفن هؤلاء المتجنسين بها، وكثرت هكذا المصادمات الدامية وخاصة بمدينة المنستير؛ حيث استشهد عدد من الوطنيين وجُرح منهم عشرات.
ولما رأى أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري نشاط هؤلاء الشبان ومقدرتهم والتفاف الشعب حولهم، عقدوا مؤتمر الحزب (١٢ و١٣ مايو ١٩٣٣) وقرر المؤتمر بالإجماع قبول هيئة جريدة «العمل التونسي» في اللجنة التنفيذية، كما قرر تحت تأثير هؤلاء الشبان «أن سياسة التفاهم مع فرنسا قد فشلت فشلًا ذريعًا بعد تجربة دامت سنوات طويلة»، وأن غاية الحزب التي يعمل لتحقيقها هي «تحرير البلاد ومنحها دستورًا يحفظ شخصيتها ويحقق لها سيادتها بين الأمم المتمدنة المتحكمة في مصيرها.»
وإذا بالحزب الحر الدستوري الذي كاد يضمحل فلم يبقَ منه غير الاسم مدة الفتور والركود، يجدَّد تجديدًا عميقًا تحت تأثير عنصر النشاط والحياة، وشعر الشعب كله ببعث وطني قوي ونشاط لا يني، وعملٍ جدِّي لا يفتر، واتجاه واضح في الصمود في وجه المستعمر، ومقاومته مقاومة فعالة. والشيء الجديد هو شعور الشعب بأن الحبيب بورقيبة ورفاقه على استعداد تام للتضحية وتحمل الأخطار والعذاب في سبيل بلادهم.
فازداد الشعب حماسةً في مقاومة التجنيس ويقظةً في المحافظة على مقابره خوفًا من أن يُدفن فيها متجنس، إلى أن اضطرت الإقامة العامة الفرنسية إلى النزول عند إرادته، وإذا بها تأخذ قرارين في آنٍ واحد فتكون مقابر خاصة بالمتجنسين من جهة، ولكنها من جهة أخرى تصدر أمرًا بحل الهيئات السياسية التونسية؛ أي الحزب الحر الدستوري، وبتعطيل الصحافة الوطنية.
ولم يدُم الوئام داخل اللجنة التنفيذية للحزب بين عناصر الشباب الناشط الجدِّي وبين الشيوخ المؤسسين للحزب، بل احتد الخلاف واستفحل لأتفه الأسباب ولم يمكن حسمه، فاجتمع إذ ذاك مؤتمر عام نظامي للحزب بمدينة قصر هلال (مارس ١٩٣٤) ليكون حكمًا بينهم، وحضره رجالات الحزب ونواب عن كافة فروعه ومنظماته، وتيقن إذ ذاك شيوخ الحركة أنه أُسقط في أيديهم، وأن الأغلبية الساحقة مع الشبان العاملين، فامتنعوا عن الحضور، وانتخب المؤتمر هيئة إدارية وتنفيذية جديدة سُميت «بالديوان السياسي» واختار الأستاذ الحبيب بورقيبة أمينًا عامًّا للحزب.
وسُمي الحزب الحر الدستوري التونسي منذ ذلك العهد بالدستور الجديد؛ أي المتجدد، كما أُطلق اسم الدستور القديم على جماعة الشيوخ الذين أبوا حضور مؤتمر قصر هلال.
وسار الحزب الجديد قدمًا في أعماله ونشاطه المتزايد باندفاع وحماسة، واتصل قادته بالشعب اتصالًا متينًا وثيقًا لإيقاظ الشعور الوطني فيه وإحياء الوعي القومي في نفسه وتدريبه على الحياة السياسية العملية.
ووصل تونس إذ ذاك الطاغية «بيروطون» كمقيم عامٍّ، وأظهر استعدادًا للتفاهم بإعطاء ترضيات طفيفة، وسعى لإخماد نشاط الحزب ببعض الوعود، ولم يقيد عمل رجاله ظنًّا منه أن الخلاف بين التونسيين سيشتد وأن الخصومة بينهم تريح فرنسا واستعمارها منهم جميعًا لاشتغالهم ببعضهم، وإذا بالحبيب بورقيبة وصحبه يغتنمونها فرصة لمضاعفة عملهم، فأصدروا جريدة «العمل» وعقدوا الاجتماعات العامة في أكثر مدن المملكة وقراها، وجرفوا وراءهم الشعب جرفًا.
فلما رأى «بيروطون» خطر هذه الحركة الجبارة أراد محوها، فألقى القبض على قادتها (٢ سبتمبر ١٩٣٤) ونفاهم إلى برج القصيرة بالصحراء، وكانت موجة من الاضطهاد لم يسبق لها نظير. وكان رد الفعل من الشعب عنيفًا شديدًا، فعمَّت الاضطرابات في القطر التونسي كله، وخرج الجماهير في مظاهرات كبرى، وأعلنوا الإضرابات العامة، وتعددت الصدمات الدامية بين الشعب والقوات الفرنسية المسلحة، وكانت أقواها بالمكنين وقصر هلال وطبرية والبرجين ونفطة ومنزل تميم.
واستمر التشويش عامين كاملين حتى أُجبرت فرنسا على تغيير سياستها، فاختار رجال الواجهة الشعبية بفرنسا الذين كانوا على وشك استلام الحكم بها «أرمان جيون» لتعويض «بيروطون» الطاغية في الإقامة العامة.
ودخل تونس في أبريل ١٩٣٦، فبادر بإطلاق سراح القادة المعتقلين وأطلق الحريات العامة.
فاستأنف الحزب نشاطه باندفاعه المعهود، وجدد فروعه في أكثر المدن والقرى، وأصدر صحفه وخاصة جريدة «العمل» وبث دعاته في كل جهة، وساعد على تجديد الحركة العمالية وإحياء النقابات التونسية، وتعددت حوله جمعيات الكشافة والشباب.
وقام زعيم تونس «الحبيب بورقيبة» بسفرتين إلى باريس (١٩٣٦ و١٩٣٧) لنشر الدعوة لفائدة بلاده وإقناع الدوائر الفرنسية الرسمية بإرضاء رغبات الشعب. وكان الطلب الرئيسي في الرغبات المستعجلة منح تونس برلمانًا وحكومة مسئولة أمامه. وكان لعمل «الحبيب بورقيبة» نتيجة؛ إذ حصل على بعض الوعود التي لم تُنجز، ولكنه أقنع الوزير «فيانو» بنظريته، فرأى «فيانو» من المحتوم عليه أن يزور تونس، وألقى خطابًا في مذياعها اعترف فيه «بأن الشكوك تحوم حول الإدارة الفرنسية بهذه البلاد»، وأعلن عن وجوب «إصلاح الإدارة التونسية وإشراك التونسيين في إدارة شئون بلادهم»، وإذا بالحكومة الفرنسية تُقصي الوزير «فيانو» عن منصبه تحت تأثير العناصر الاستعمارية وحملة الجالية الفرنسية بتونس.
وغيرت فرنسا سياستها منذ ذلك الحين من غير مبرر، وأصدر المقيم العام أوامره بتعطيل الحريات وخاصة حرية الاجتماعات، فعقد الحزب مؤتمره السنوي (نوفمبر ١٩٣٧) الذي قرر متابعة الكفاح وافتكاك الحريات؛ إذ الحرية لا توهب وإنما تؤخذ، ورد العدوان بالعدوان والعنف بالعنف، ووضع خطة للمقاومة.
وحلَّت بالمغرب كله موجة شديدة من الاضطهاد الاستعماري وبدأت بمراكش ثم الجزائر، فأعلن الحزب تضامن تونس مع شقيقتها وقرر أن يقوم شعب تونس بإضراب عام (نوفمبر ١٩٣٧)؛ احتجاجًا على سياسة فرنسا التعسفية.
ثم إنه تمادى في نشاطه العادي واجتماعاته الشعبية الكبرى رغم تحجيرها تنفيذًا لقرار المؤتمر؛ إذ الاتصال بالشعب ضروري حيوي بالنسبة للحركة الوطنية، وما منْع الاجتماعات إلا فصلٌ قاطع بين القادة وبين الشعب، وإخماد للروح القومية، وقتل محتوم للحزب.
ووقع أول اصطدام عنيف بين القوات الوطنية والقوات الفرنسية المسلحة بمدينة بنزرت (يناير ١٩٣٨) استشهد فيها عدد وافر وجُرح عشرات.
فاجتمع المجلس المِلِّي للحزب في شهر مارس ١٩٣٨، وقرر بالإجماع عدم الرضوخ للقوانين الظالمة والأوامر الاستعمارية الاستثنائية، وقد وصلت الوقاحة والصلَف بالسلطات الفرنسية إلى تحريم رفع العلم التونسي أو اتخاذه شارة. وتفرَّق قادة الحزب في مختلف جهات المملكة ليقودوا الشعب في كفاحه، وليعلِّموه التمرد على القوانين الاستعمارية. وكانت واقعة وادي مليز (٤ أبريل ١٩٣٨) عنيفة دامية، وردَّ الوطنيون هجوم القوات الفرنسية، واشتبكوا معهم في معركة دامت أكثر من نصف يوم، وسقط الشهداء عشرات والجرحى مئات، وانتشرت الاضطرابات والاصطدامات إلى جهة الكاف.
وكان يوم ٨ أبريل يومًا مشهودًا، أضربت فيه المملكة التونسية عن العمل تنفيذًا لقرار الديوان السياسي، فتعطلت المصالح العامة، وتوقفت المواصلات، وأُغلقت الأسواق والدكاكين، وشلَّت حركة المواني، ونزل الشعب إلى الشوارع في مظاهرات منظمة رهيبة، وبلغ عدد المتظاهرين والمتظاهرات في مدن القطر وقراه أكثر من مليون نسمة حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها، وهو عدد ضخم بالنسبة لبلاد لا يزيد سكانها على الثلاثة ملايين ونصف، ورغم كثرة الناس لم يقع ولا حادث، بل كانت السكينة والنظام يسودان الجماهير.
إن الدستور بالنسبة للحماية الفرنسية كالمرض المزمن عند الرجل الكهل، فإما أن يتخلص من مرضه وإما أن يقتله المرض.
ولم تقدر الحماية الفرنسية على التخلص من الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أصبح الشعب التونسي بأسره.
ولما شاهدت السلطات الفرنسية الخطر الداهم الذي يهدد استعمارها، بيتت أمرها بليل، وتآمرت على شعب تونس الأعزل، وألقت القبض يوم ٩ أبريل صباحًا على الأستاذ علي البلهوان، وبثت أعوانها بين الطلبة وفي الأسواق ليعلنوا ذلك الخبر، وتجمهر الشعب أمام المحكمة الفرنسية ليخلِّصوا أحد قادتهم من السجن، وقد كمنت القوات الفرنسية المسلحة في جوارها، واندفعت من مكمنها تحصد الشعب حصدًا بأسلحتها النارية السريعة الطلقات، وهاجمت الدبابات والمصفحات الجمهور الأعزل من ناحية أخرى، فكانت أدمى مجزرة عرفتها تونس: مئات من القتلى ومئات أخرى من الجرحى.
وأُلقي القبض من الغد (١٠ أبريل) على الزعيم «الحبيب بورقيبة» وهو مريض في فراشه.
وصدرت الأوامر من الإقامة العامة الفرنسية بتعطيل الحريات كلها، وحل الحزب الدستوري التونسي، وأُعلنت الأحكام العرفية في البلاد.
وانتشر الجيش الفرنسي يقتل، ويعذب، ويعتدي على الناس في الشوارع، ويهاجمهم في بيوتهم، وينتهك الحرمات، ويفسد الأرزاق، ويعيث فسادًا.
وغصت السجون والمعتقلات بعشرات الآلاف من الوطنيين، وأخذت المحاكم العسكرية تصدر أحكامها بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والسجن على مئات من التونسيين.
وابتدأت المحنة الكبرى التي دامت خمس سنوات لم يعرف شعب تونس خلالها غير البطش والطغيان.
(١-٣) المقاومة
ولكن الشعب لم يستسلم، ولم يخنع، بل استمر عدة أشهر في مقاومة شديدة عنيفة دامية؛ لأن عمل الحزب كان عميقًا بقدر ما كان منتشرًا، وقد بلغت كلمات الحبيب بورقيبة إلى القلوب؛ إذ كانت وصيته التي كررها في كل اجتماع: «ليست الوطنية تصفيقًا وهتافًا وأناشيد وحضور الاجتماعات في حالة السلم ووقت الراحة، إنما الوطنية عقيدة وإيمان بحق كل فرد في الحياة والتمتع بالحرية والسيادة في بلاده. الوطنية سعي وعمل وصبر وثبات وقت الشدة والكفاح.»
ووجدت المقاومة بعد حين دماغها المسيِّر، وعقلها المدبر، وبطلها الجسور، عندما رجع الدكتور الحبيب ثامر من فرنسا، فأخذ قيادتها، ونظم الحركة الوطنية خفية، وشكل شعبًا للحزب سرية، وجمع الشتات وكتَّل القوات، وأحدث المواصلات بين الجماعات المكافحة، فكانت نشرات الحزب توزَّع في يوم واحد في جميع أنحاء القطر التونسي، وازدادت هكذا الحركة انتشارًا وشدة حتى اضطرت فرنسا إلى التخفيف من اضطهادها، وصدرت بعض الصحف الوطنية إذ ذاك، نذكر من بينها «تونس الفتاة» وجريدة «تونس».
ولما أزمع رئيس الحكومة الفرنسية إيدوار دلادييه على زيارة تونس ردًّا على إيطاليا التي أظهرت أطماعها فيها جهرة، اغتنمها الحزب فرصة ليلفت أنظار الرأي العام العالمي لمطالبه في الحرية والاستقلال، وأصدر الدكتور الحبيب ثامر أوامره للشعب الدستورية السرية جميعها، فاقتُبل الرئيس الفرنسي بمظاهرات شعبية صاخبة تعلوها اللافتات الكبرى تحمل رغبات الشعب في إطلاق سراح الزعماء والحرية والاستقلال، وتتصاعد منها الهتافات بحياة تونس حرة مستقلة، وحيثما سار إلا وأصمَّت آذانه صيحات الجماهير، وكانت أروع المظاهرات ببنزرت وباردو وتونس وصفاقس.
وكانت كل مظاهرة تتبعها موجة من الاعتقالات والمحاكمات.
وما شهرت الحرب حتى اشتد الاضطهاد، وعمَّ القمع، فانقلبت حركة المقاومة إلى حركة مقاومة عنيفة؛ فدمرت مصالح الفرنسيين وحرقت ضيعاتهم وقطعت سكة الحديد مرارًا وتكرارًا، وكذلك أسلاك التليفون وأعمدته ووسائل المواصلات وخاصة التابعة منها للجيش الفرنسي.
وأعلن الجنود التونسيون الذين أدمجتهم فرنسا في جيوشها حركة العصيان، وامتنعوا عن الدفاع عن الأرض الفرنسية، وثار المرابطون منهم بالقطر التونسي، واستولوا على مدينة القيروان، وشوشوا مدينة قابس؛ فحاربتهم فرنسا، ولم تلِن في قمعهم، ثم جرَّدتهم من كل سلاح وسجنتهم في الثكنات لا يفارقونها خلال الحرب.
(١-٤) التنكيل والتعذيب
لم تكتفِ السلطات الفرنسية بالاضطهاد العام، واعتقال الوطنيين بالجملة حتى غصَّت بهم المعتقلات والسجون، واكتظَّت سجون الجزائر نفسها، ونقلت عددًا منهم إلى سجون فرنسا، بل عمدت إلى أنواع من التنكيل والتعذيب، كنا نظن أن التاريخ طواها مع القرون المظلمة والعصور المتوحشة قبل أن نراها بأعيننا ونحمل سماتها في أجسامنا، ولو جمعت ما شاهدت منها وجربت بنفسي لملأ كتابًا، ولا يتسع المقام إلا لسرد بعضها من غير تفصيل.
دخل معنا إلى السجن العسكري بتونس شاب لم يتجاوز الخمسة والعشرين من عمره اسمه «عبد العزيز»، وكنا نسكن كل واحد منا زنزانة؛ أي غرفة صغيرة جدًّا، فمرض عبد العزيز، واشتدت به الأوجاع، وعسُر علينا الاتصال به أو التفريج عنه في ذلك السجن الذي كان يخيم عليه جو من الإرهاب والاضطهاد، وكنا نبيت الليل كله ونحن نستمع إلى أنين المريض، ولا تغمض لنا جفون، ولا مسعف، ولا طبيب، ولا دواء.
وفي الليلة الثالثة سمعنا منه صيحة أزعجتنا، وتوالت صيحاته في الظلام، أدخلت على قلوبنا الوحشة، وحيرت الهواجس، وبقي يصرخ صرخات كأن أحشاءه تتقطع إلى السَّحر فهدأ وسكن، ولما فتح الحارس في الصباح غرفته وجده ميتًا، وعلمنا فيما بعد أن أمعاءه ثُقبت، وكانت عملية جراحية ربما تنجيه، أو تخفف على الأقل من آلامه، وكم من أمثال «عبد العزيز» من الشباب التونسي ذهبوا ضحية الإهمال وقسوة القلب.
وقد أصبحت مراكز البوليس في تلك المدة أماكن تنكيل تقشعر منه الأبدان، فبعد أن يُلقوا القبض على الوطنيين يحملونهم إليها، ويشرعون في تعذيبهم بالطرق القديمة، وبالطرق العصرية المحدثة أيضًا؛ فأحيوا الخازوق (وهو عمود طويل يُجلسون عليه المحكوم عليه فيخرق أمعاءه)، ولكن عوَّضوه بزجاجات، وكانوا يضعون أنابيب الماء في فم التونسي، ويملئون بطنه، ثم يدوسونها بأقدامهم، أو يرمونه في غرفة مظلمة بها الجص، ويُبقونه أيامًا متوالية حتى ينسل جلده، وقسم من لحمه تحت تأثير الجص، أو يسجنونه مع عدد كبير من رفاقه في زنزانات فاقدة للهواء تقريبًا، ويبللون أرضها بالماء الكثير المخلوط بالبوتاس، بعد أن يخلعوا عنهم ثيابهم ما عدا قميص وسروال، وتمر عليهم الأسابيع والأشهر أحيانًا فلا يتمكنون من النوم في الليل، ولا من الراحة في النهار فوق الماء والبوتاس، ولا يعطونهم من الأكل إلا قطعة صغيرة جدًّا من الخبز فقط، وكوبًا من الماء في الصباح وآخر بعد الظهر، فكانت أجسامهم ترتعش وترتجف من البرد الشديد وهم جياع عطشى، وما زالت أصواتهم ترن في أذني، وهم يتلهفون لجرعة ماء ويتوسلون للحارس بيتري: «يا عرف بيتري! أنا عطشان! عطشان الله يبقي لك أولادك، أغثني بشربة ماء! إني أموت! أموت!» وكان الحارس يجيبهم (مو … ت)! بالتطويل هكذا؛ ويُحمل أكثرهم من تلك الزنزانة إلى مستشفى السجن حيث يموتون.
أما الوطنيون الذين نقلتهم السلطات الفرنسية إلى سجون الجزائر، فلم يرجع إلى تونس منهم إلا الثلث تقريبًا، ومات الباقي أشنع موت. ولقد سمي بعضهم سجن «لامبيز» الشهير بجهنم البيضاء، لكثرة الثلوج بجهته في فصل الشتاء، كان كل تونسي يسكن غرفة ضيقة وحيدًا فريدًا، والكلام محرم تحريمًا باتًّا كليًّا، وكانوا يُجبرون على صناعة الحلفاء المبللة بالماء، في ذلك البرد القارس، فتنتفخ أيديهم وتدمى، وتتبلل أجسامهم التي لم تبقَ فيها قوة للمقاومة لفرط ما هم فيه من جوع. وكان الرعب يملأ قلوبهم كلما نزلوا إلى ساحة السجن وقت الطعام صفًّا، الواحد تلو الآخر، خيفة من السجانين الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة، وقد اختار مدير السجن عددًا من المجرمين الكبار والأشقياء سفاكي الدماء وقاتلي الأرواح، واتخذهم أعوانًا للسجانين، وهم أقوياء الأجسام ذوو عضلات وشدة، وأكثرهم من حثالة الأوروبيين (ألمان وبولنديين وروس وفرنسيين وغيرهم) يعيشون عيشة ممتازة ويأكلون أكلًا فاخرًا ليحتفظوا بقواهم، وعلى صدر كل واحد منهم قطعة قماش حمراء كعلامة وشارة؛ ولذا سُمُّوا بكلاب الدم، وكانوا يترصدون المساجين عند مرورهم بالساحة، ولأقل إشارة وأتفه عبارة تراهم ينقضُّون على التونسي انقضاضًا، وينهالون عليه ضربًا ويدوسونه دوسًا بأقدامهم، وإذا بأسنانه تتطاير ودمائه تكسو الأرض وجسمه النحيف قد انهار، فسقط مغشيًّا عليه، ثم يأخذونه إلى زنزانة ضيقة مظلمة لا يدخلها هواء ولا ضوء فيتعذب فيها جوعًا وعطشًا، ولا تسمع أنَّاته طيلة إقامته بها إلا ضئيلة خفيفة، وبعد أيام يُخرجونه منها لا يقدر على حراك، فاني الجسم، ويزجون به في بيت الموت، وهو مستشفاهم، فلا يلبث أن يموت، وقد قضى عشرات وعشرات من التونسيين نحبهم هكذا.
كنا نقرأ في تاريخ فرنسا أن تحت قصورها وأبراجها وحصونها القديمة دهاليز وسراديب محفورة في الأرض، يضعون فيها المغضوب عليهم، ويسمُّونها المنسيات، وكنا نعتقد أنه لم يبقَ منها في القرن العشرين إلا آثار يزورها السواح ويتفرجون عليها، إلى أن نقلتنا السلطات العسكرية الفرنسية في بارجة حربية من السجن العسكري بتبرسق إلى حصن «سان نيقولا» بمدينة مارسيليا، الذي اختير كمعتقل لنا، فوصلناه برفقة زعيمنا الأستاذ الحبيب بورقيبة، وأيدينا في الأغلال والسلاسل، وكانت فرنسا على وشك الانهيار، تحت ضربات الجيش الألماني، وقد سقطت باريس في أيديهم (١٤ يونيو ١٩٤٠) فأمرنا الحراس والجندرمة بنزع ثيابنا تمامًا ثم انهالوا علينا ضربًا، ثم ساقونا في دهاليز تقطر ماءً لفرط الرطوبة بها، وأغلقوا علينا الأبواب، وبقينا في ظلام دامس. ولما استيقظنا لم نرَ إلا ضوءًا ضئيلًا يأتينا من فوهة في السقف، وإذا بها كالبئر علوًّا؛ أكثر من عشرة أمتار عمقًا، ووجدنا أنفسنا في منسية من تلك المنسيات العتيقة، وقد عشنا فيها ستة أشهر كاملة حتى صار الواحد منا إذا ما خرج إلى ضوء الشمس، ورأى الحركة والحياة حوله بقي مبهورًا مبهوتًا، وقلَّ الأكل شيئًا فشيئًا وهزلت الأجسام حتى أصبحنا هياكل من عظام. ولما وزن الأستاذ الحبيب بورقيبة نفسه، رأى أن وزنه لا يفوق الخمسة والثلاثين كيلوجرامًا.
وما تلك إلا نماذج مما عاناه الوطنيون التونسيون، والأعجب أن العذاب لم يزدهم إلا عزمًا في وجوب التخلص من الاستعمار الفرنسي الفظيع.
(١-٥) المنصف باي
وأثناء ذلك الاضطهاد القاسي، اعتلى عرش تونس (٤ أغسطس ١٩٤٢) الملك الصالح والوطني المتحمس محمد المنصف باي الذي أدى يمين الخدمة الوطنية واشترك في الحزب الدستوري منذ حياة أبيه، عام ١٩٢٢، واتصل بالشعب الذي أقام له الحفلات والاجتماعات، والتفَّ حوله وعلق عليه الآمال، فأهدى لشعبه ما يملك من مال ومتاع وسار سيرة العدل والإنصاف حتى لقِّب بعمر الثاني، وبقدر ما كان رحيمًا بالشعب بقدر ما كان صلبًا شديدًا مع أصحاب النفوذ من وزراء ومتصرفين ومديرين، حتى انقطع الظلم وزالت الرشوة وساد الأمن والطمأنينة.
ونزلت جيوش المحور بتونس في شهر نوفمبر ١٩٤٢، فأصبحت ميدانًا للحرب، واكتسحها الخراب والدمار، ولكن الشعب تآزر وتساند، ولم يكترث بالقنابل والموت؛ إذ حصل على ضرب من الحرية لم يعهده منذ انتصاب الحماية الفرنسية.
وقام الوطنيون المسجونون بثورة داخل السجن تحت قيادة الدكتور ثامر، وسقط منهم عدد من الشهداء والجرحى، ولم يتمكنوا من الحرية، بل أطلق سراحهم بعد حين بتدخل صاحب الجلالة الملك الصالح المنصف باي.
وسرعان ما كوَّن الدكتور ثامر ورفاقه من جديد تشكيلات الحزب وعقد مئات الاجتماعات، فالتفَّ الشعب حوله وانتظمت فيه صفوفه، وكانت عناية الحزب موجهة خاصة إلى الشباب، فأسس له المعسكرات في جميع أنحاء المملكة للتدريب ومدرسة لإخراج المسئولين والقادة، ودروسًا ليلية وتمارين أقبل عليها الشباب الوطني إقبالًا عظيمًا.
وقدم الملك عريضة لحكومة فيشي الفرنسية مطالبًا فيها بحقوق شعبه، ثم كوَّن وزارة انتقالية برئاسة دولة محمد شنيق استعدادًا لاستقلال بلاده وإرجاع السيادة التونسية إلى ما كانت عليه قبل الحماية الفرنسية.
وقد التزم جلالة الملك محمد المنصف ووزارته الحياد التام في الحرب، وكان موقف زعماء الحركة الوطنية مماثلًا له، فرغم الضغط الذي ضغطته على الأستاذ الحبيب بورقيبة ورفاقه الحكومة الإيطالية الفاشية بروما بعد أن أخرجهم الجيش الألماني بالقوة من سجون فرنسا، لم يقفوا بجانب المحور بل قاموا بدعاية قوية لحمل الشعب كله على الحياد بمجرد رجوعهم إلى تونس.
ولكن الفرنسيين الذين رجعوا صحبة حلفائهم المنتصرين ودخلوا تونس يوم ٨ مايو ١٩٤٣ سعوا في التعمية وقلب الحقائق، وأذاعوا أن المنصف باي والحكومة القومية كانوا جميعًا في جانب المحور، فنصبوا لهم العداء وشرعوا في الانتقام منهم انتقامًا قاسيًا، فخلعوا الملك ونفوه إلى صحراء الجزائر، ثم منها إلى تنس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأخيرًا إلى مدينة بو بفرنسا حيث مات منفيًّا عن عرشه وبلاده، ضحية الظلم السافر.
ونسي الفرنسيون محاربة أعدائهم الألمان والطليان، وأخذوا يقتلون التونسيين في كل مكان، رميًا بالرصاص وبدون محاكمة، وملئوا منهم المعتقلات والسجون ظنًّا منهم أن ذلك يغسل عنهم عار الهزيمة ويُرجع إليهم ناموسهم القديم، فمزقوا بأيديهم معاهدة الحماية التي فرضوها عنوة والتي تنص على أن مهمتهم الأولى هي حماية الملك الجالس على العرش وعائلته، وحماية البلاد وصيانتها من كل اعتداء، فسلموا البلاد إلى دول المحور وخلعوا الملك بأيديهم، والحقيقة أنه لم يبقَ لفرنسا مبرر قانوني لاستمرار وجودها بتونس، ولولا مساندة الجيوش الإنجليزية والأمريكية لها وما أغدقوه عليها من سلاح، لما تمكنت من البقاء بتونس ولا بالمغرب العربي.
وخيَّر القادة البقاء مع شعبهم ومقاسمته أخطاره، على الهجرة مع جيوش المحور واختفوا مدة لينجوا من الفتك الفرنسي، إلى أن تدخل رئيس الولايات المتحدة روزفلت نفسه في الأمر وضمن لهم حريتهم الشخصية، فظهروا إذ ذاك وشرعوا في الاتصال بالشعب وتنظيم صفوفه سرًّا، وأصدروا جريدة «الهلال» السرية بمعاونة بعض الشباب الوطني، وكانت القوات الفرنسية المسلحة تهاجمهم في أكثر الاجتماعات التي كانوا يعقدونها من غير انقطاع، وتعلق بهم القضايا، وتزج بهم في السجون، ولكنهم تمادوا في نشاطهم رغم العراقيل كلها.
ولما بلغ قادة الحركة الوطنية أن ميثاق الجامعة العربية قد وقَّعت عليه الدول العربية، أعدوا العدة لسفر الزعيم «الحبيب بورقيبة» إلى الشرق ليُسمع صوت تونس المجاهدة، فغادر رئيس الحزب تونس خفية يوم ٢٦ مارس ١٩٤٥، وركب البحر في زورق صغير من أراضي بلاده إلى طرابلس، ومنها قطع قسمًا كبيرًا من الصحاري على رجليه إلى أن وصل مصر بعد شهر ودخلها يوم ٢٦ أبريل ١٩٤٥.
وشرع الحبيب بورقيبة هكذا في كتابة صفحة جديدة من الكفاح؛ إذ أخرج القضية من نطاقها الداخلي الضيق إلى النطاق العالمي الواسع.
(٢) الحركة الوطنية، المبادئ
وجد قادة الحركة الوطنية مجالًا من الوقت (مدة خمس سنوات متوالية سجنًا) للتفكير، وإعمال الرويَّة ومراجعة أنفسهم في الأحداث التي مرت بهم والمعارك التي خاضوها، والنكبات التي لحقت بتونس، وتناولوا بالبحث السياسة الاستعمارية الفرنسية وطرقها، وقارنوا بينها وبين سياسية غيرها من الدول الاستعمارية، وخاصة بريطانيا، وتصفحوا تاريخ الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها وتحررت من العبودية والرق، فخرجوا من تلك الأبحاث المتكررة، والمحادثات الطويلة، بأفكار تبلورت وتعمقت وقرأت للواقع حسابه، وآراء مقامة على معرفة شعبهم ونفسية الخصم وطبيعته، ووضعوا خطة سياسية طويلة النفس صعبة التنفيذ، فيها المغامرة والمخاطرة وفيها أيضًا التعقل والحكمة، وعلموا أن الارتجال في قيادة الشعب يجر الخذلان والمهالك، كما أن السير الثابت في طريق معينة مضبوطة وخطة واحدة قد توضحت مبادئها العامة وتناسقت أجزاؤها وتكاملت، وارتبط بعضها ببعض، ضمان النجاح والنصر إذا كانت لها المرونة الكافية، وأمكنها مسايرة الظروف والتقلبات العالمية والداخلية.
ومن البديهي أن الحركة الوطنية كجميع ما يقوم به البشر، إذا كانت لا تبلغ الازدهار ولا تأتي ثمرتها إلا بالعمل المتدارك والتضحية المتوالية، فهي للفكر أحوج وللروية والعقل مضطرة اضطرارًا؛ إذ السياسة ميدان تتبارى فيه المواهب والفطن، وتتمارى فيه الأذهان والأفكار، فتكون الغلبة لمن هو أرجح عقلًا وأنصع تمييزًا وأحدُّ ذكاء وأجسر قلبًا وأقل تهورًا، وقد سلَّم الشعب التونسي لرجال الديوان السياسي قيادته، والتفَّ حولهم، ومنحهم ثقته، وحكَّمهم في الأموال والرقاب بعد أن سبر غورهم وجربهم المرة تلو الأخرى، ورآهم صابرين ثابتين كالجبال الرواسي، لا تتغلب عليهم الأحداث، ولا تقهرهم المصائب، ولا يُخضعهم عذاب، ولا يفلُّ في عضدهم نفي ولا سجن، ولا حر الصحاري المحرقة، ولا ثلوج معتقلات فرنسا المبيدة؛ إيمان لا يتزعزع وعزم لا ينثني، وعمل لا ينقطع. وكان يقين القادة لا تردد فيه في أن الشعب سيعينهم على تحقيق ما وضعوه من خطة، وقد سار فعلًا في الطريق التي عبَّدوها.
وكانت الحرب إذ ذاك تطحن القسم الأكبر من آسيا وأوروبا وأفريقيا، والقوات الألمانية في مدِّها متقدمة قبل أن يأتيها الجزر، وكانت عواطف غالب العالم العربي إلى المحور أميل، وعن الحلفاء منحرفة؛ لما ناله من بعضهم من ظلم وعدوان واستعمار. وقد رأى شعب تونس قوات الجيوش النازية تحتل باريس وترغم أنف فرنسا وتتغلب عليها قهرًا في أيام معدودات، فانساق جزء كبير من التونسيين — مثقفين وعمالًا وأغنياء — إلى حب الألمان والشماتة بخصمهم المنهار، ولكن الحبيب بورقيبة رأى خطر الاندفاع العاطفي، فعدد الإنذارات إلى تونس وسانده رفاقه المساجين معه لإبعاد التونسيين عن الارتماء في أحضان المحور؛ لأن السياسة الرشيدة لا تقام على العواطف ولا تنقاد للأهواء، ولكنها تسير حسب مصالح الوطن العليا، فماذا تنتظر تونس من المحور غير تقديمها هدية إلى موسوليني. ونحن نعلم ما فعله الإيطاليون عامة والفاشيون خاصة في ليبيا، فليس من الرشد في شيء أن نخرج من استعمار فظيع لنقع في استعمار أفظع، أضف إلى ذلك اقتناعنا بهزيمة المحور، وينبغي لتونس ألا تكون في شق المغلوبين، وقد تحققت تنبؤات الحبيب بورقيبة كلها، فلما أخرجنا الألمان من سجون فرنسا سلَّمونا إلى الطليان، وجرت محادثات مع المسئولين هناك، فلم نقبل كأساس للمفاوضة إلا الاعتراف حالًا باستقلال تونس وتسليم النفوذ بها إلى التونسيين، فأجاب نائب وزير الخارجية الإيطالية: «هل تظنون أن إيطاليا خاضت الحرب لتهب لكم تونس، وهي إنما تريدها لنفسها.» ففسدت العلاقات منذ ذلك اليوم بين القادة الوطنيين وبين الحكومة الإيطالية، ولما رجعوا إلى تونس أسرعوا إلى بث فكرة الحياد، ثم الاتصال مع ممثل أمريكا لدى السلطات التونسية القنصل «دوليتل» خلال واجهة القتال، فكان أكبر عون لهم فيما بعد.
وكان هكذا اختيار القادة لمعسكر الحلفاء — رغم وجود فرنسا بينهم — أكبر ضمان لحياة الحركة الوطنية وبقائها، واستمرارها.
وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تعالت أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها، وصرخ مئات الملايين من البشر مطالبين بحقهم في الحرية والاستقلال، واكتسحت موجة التحرير القسم الأكبر من آسيا، وكأنها توقفت قليلًا عند حدود أفريقيا، وكان ميثاق الأطلنطي ثم ميثاق سان فرنسيسكو ثم تأسيس الأمم المتحدة، مبعث الآمال الجسام والدليل على أن الموازنة العالمية قد تغيرت، وأن أوروبا الغربية المستعمرة لم تبقَ صاحبة الكلمة النافذة والسيطرة المطلقة على البحار السبعة والقارات الخمس، بل أصبحت هي نفسها بين عملاقين عظيمين: روسيا الشيوعية في الشرق، والولايات المتحدة الأمريكية في الغرب.
فما هو حظ تونس يا ترى من هذا الانقلاب العالمي، فقد ساعدت الظروف العالمية بعض الشعوب على نيل استقلالها الأسمى، ولكن الاستقلال الحقيقي لا يوهب ولا يعطى، إنما يؤخذ ويفتكُّ، ولا يحصل عليه من الشعوب إلا من كان أهلًا له، وقد قطع الشعب التونسي المرحلة الأولى الأساسية في سيره نحو الاستقلال، فتغلغلت الفكرة الوطنية في نفسه، وبلغت الدعوة جميع الطبقات، واكتسحت المدن والقرى والبوادي، ولم تبقَ مجرد عاطفة وحماسة واندفاع، بل تبلورت العاطفة في فكرة واضحة جلية، وفهم الشعب في مجموعه أن الروح الوطنية ترمي إلى عمل إيجابي وبناء وتشييد في جميع الميادين، وتكوين قوة فعالة لإنجاز تلك المشاريع، بقدر ما ترمي إلى سد الأبواب في وجه الخصم الاستعماري اللدود ومكافحته دومًا واستمرار مكافحة لا تنقاد للبغض الأعمى والكراهية المتنطعة، بل فيها التمييز الواضح بين حاملي الفكرة الاستعمارية وغيرهم من الفرنسيين أنفسهم، وأن لا عدو غيرهم، فيعمل على جلب بقية الجاليات الأجنبية واستمالتها، ويسعى لإقناع الفرنسيين الأحرار ليكونوا أعوانًا له ودعاة لقضيته العادلة.
فأقام شعب تونس الدليل تلو الدليل على أنه بلغ رشده السياسي واكتمل وعيه القومي، وتعمق في شعوره الوطني، وأصبح يتفهَّم أدق المواقف السياسية، ويوجه ضرباته إلى خصمه الوحيد: الاستعمار وأنصاره، وبعد جهاد مرير مستمر خاضه وراء حزبه — الحزب الحر الدستوري — طيلة عشرين سنة، صبر وصابر وثبت وغامر فيها، أصبح لا يخشى عليه من التفكك والابتلاع، واقتنع أنه شعب عربي مسلم صاحب مجد تالد ومدنية خالدة وتاريخ عظيم، وأعرب عن إرادته الراسخة في أن يحيا حياة العزة والكرامة، وأن يقيم على تراثه الباقي، مجتمعًا جديدًا ونظامًا حديثًا ومدنية تماشي روح العصر الحاضر. ففي إمكان القوة الاستعمارية الغاشمة العمياء أن تُزهق الأرواح وتُعذب الأشخاص وتُفسد الأقوات والأموال وتخرب البيوت، وفي إمكانها أن تسجن الأجسام وأن تضيِّق عليها، ولكن يستحيل عليها أن تقتل الفكرة الحرة الطليقة التي تعددت بتعدد معتنقيها، ونمت وانتشرت، وسكنت النفوس التي لا تُسجن، وتغلغلت في القلوب التي لا تُغلُّ، وأصبحت عقيدة وإيمانًا لا يُقتلع.
ومنذ ذلك الحين شرعنا في المرحلة الثانية الأساسية، وهي معركة افتكاك النفوس السياسي ونقله من يد الفرنسيين إلى أيدٍ تونسية، وهو عمل إيجابي صعب محفوف بالأخطار؛ لأن الاستعمار الفرنسي توغَّل في البلاد وتغلغل، ورمى عروقه في أرضها وانتشر على سطحها.
فالمراكز الرئيسية في الإدارات التونسية كلها، ومعاقل النفوذ والسلطة بها في قبضة الفرنسيين، حتى إنها أصبحت آلة مسخَّرة لخدمة مصالحهم والمحافظة على امتيازاتهم المجحفة، والتشريع وسن القوانين في أيديهم أيضًا، قد مكنهم من إعطاء اعتداءاتهم المتوالية صبغة قانونية وطلاء شرعيًّا كاذبًا، والمال الذي تخضع له الرقاب وتقوم عليه الأعمال في تصرفهم؛ إذ إنهم يتحكمون في الميزانية التونسية — دخلًا وخرجًا — كما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم.
ثم إن الاستعمار الفرنسي مال إلى نفوس قسم من التونسيين يدنسها ويفسدها، بل يختار أسقط الناس وأحطهم خلقًا وأطوعهم لإرادته وشهواته، وإن كانوا خلوًا من كل ثقافة أحيانًا، فاقدين لكل ضمير، فيتخذهم أعوانًا أذلَّاء خانعين ويسند إليهم المناصب العالية والوضيعة، ويطلق يد أطماعهم في أرزاق الناس، ويفتح لهم أبواب الارتشاء على مصراعيها، ويجعل من عباد الدرهم والدينار، الذين يسيرون في ركب كل قوي جبار، ويميلون مع النفوذ حيث مال كالظل التابع لصاحبه، صنائع له ومريدين، فيكون زمرة من الخونة المارقين، قد تعودوا الخيانة ومرنوا على الغدر والنفاق، حتى إنهم أسرعوا إلى خيانة أسيادهم الفرنسيين عندما احتلَّت جيوش المحور تونس، وباتوا أكثر نازية من الألمان أنفسهم. وقد انتقم الفرنسيون من بعضهم وحكموا عليهم بالإعدام كعلي بن ضياف الذي كان عاملًا (متصرفًا أو مديرًا) في الجنوب التونسي أثناء الحرب، ثم عفوا عنهم وأرجعوا أكثرهم لمناصبهم، وهؤلاء هم أصدقاء فرنسا.
ثم إن الاستعمار الفرنسي بقي بتونس سبعين سنة، فوجد من الوقت ما يكفيه لمعرفة سهولها وجبالها، وقراها ومدنها، والمراكز الاستراتيجية المهمة فيها، والطرق المتحكمة حربيًّا في أجزائها، فاحتلها جميعًا بقواته العسكرية، وبث البوليس الفرنسي في كل مكان، وجعل من الجندرمة — أي الدرك الوطني الفرنسي — أسيادًا يسيطرون على داخل المملكة كلها، بدعوى المحافظة على الأمن، وبنى لهم من الميزانية ثكنات كالقصور في كل مكان، وأغدق عليهم من مال التونسيين ما يمكِّنهم من شراء الضمائر وتكوين العيون في الأسواق، وأحياء القبائل وغياض المزارعين والفلاحين، فتمكَّن هكذا من الاستيلاء على القطر التونسي استيلاء عسكريًّا بوليسيًّا شديدًا محكمًا.
وينبغي ألا ننسى أن الفرنسيين استحوذوا شيئًا فشيئًا على جميع الميادين، سياسية وإدارة، وتعليمًا، واقتصادًا، وزراعة، وتجارة، وكادوا يقفلونها في أوجه التونسيين، ويحرمونهم من كل نشاط ما عدا الاشتغال كعمال عند الفرنسيين. ولكن التونسيين لم يستسلموا في أي ميدان، وقاوم كل جماعة منهم لإثبات وجودهم وضمان حياتهم، حتى جاء الحزب فوحد الجهود، ونظم الصفوف، واتخذت إذ ذاك المقاومة شكلًا جديدًا متناسقًا لإيقاف ذلك التيار الجارف والموت الداهم.
تلك هي بعض الصعوبات الرئيسية التي يجب التغلب عليها، وذلك هو الاستعمار الذي تعززه فرنسا بأموالها وجيشها وقوات مستعمراتها، فكيف يمكن صدها عن دوس تونس الصغيرة ومحوها؟ فلا بد إذن من التفكير الرصين لتوفير أسباب النجاح واجتناب ما أمكن من أسباب الخيبة. وشروط النجاح ثلاثة؛ أولها: اعتماد الشعب على نفسه حتى يكون من ضعفه قوة، ومن تشتته وحدة، ويغذي في أبنائه روح التضحية. وثانيها: تكوين عطف عالمي من الشعوب والحكومات لتساند تونس في قضيتها. وثالثها: اختيار الظروف العالمية الملائمة.
(٣) غايات الكفاح التونسي أو المبادئ التي جاهد من أجلها شعب تونس
ليس من باب الصدف أن صرَّح الصحفي الفرنسي الشهير «جان روس» فقال: «أغرب ما أحدثه الحزب الدستوري بتونس أنه كوَّن رجالًا أحرارًا مستقلين في تفكيرهم في بلاد لا تتمتع بالحرية ولا بالاستقلال.» ولم يعرب عن رأيه هذا إلا بعد أن زار أغلب جهات المملكة التونسية، بصحبة الحبيب بورقيبة، وجالس جميع الطبقات، وتحدث مع جميع الأوساط من مثقفين وتجار وعمال وفلاحين وغيرهم، ولقد تعجَّب مما شاهده وسمعه، وأن ملاحظاته تنبئ عن أمر واقعي محسوس كان نتيجة لعمل دام عشرين سنة، وجه الحزب أثناءها عنايته إلى تكوين الفرد التونسي وتبديل نفسيته حتى أيقظه ودرَّبه وصيَّره عضوًا عاملًا صالحًا في المجتمع، عارفًا بواجباته وحقوقه، مميزًا لأدق المواقف السياسية، متفطنًا لألاعيب الاستعمار وأذنابه، معتمدًا على نفسه. وقد كانت الثورة الوطنية الكبرى في النفوس والعقول، فأذهبت عنها الجمود والركود، وخلَّصتها من الخوف والأوهام وعبادة التقاليد البائدة، وأحيتها من جديد فكأنها بعثتها بعثًا وغيرت في نظرها سلم القيم، حتى آمنت بأن الموت أفضل من حياة الذل والهوان، وأن حياة بلا كرامة شخصية ولا عزة وطنية، ولا ضمان للعيش ولا حرية فردية وجماعية؛ إنما هي الموت نفسه، بل أشنع منه، لأنها تنزل بالإنسان إلى مستوى الحيوانات والبهائم، حقًّا إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد غيَّر التونسيون ما بأنفسهم، ثم انقلبت تلك الثورة النفسية إلى ثورة دامية لا تعرف الكلل ولا الملل في شعب اشتهر بلينه وهدوئه ولطفه ورقَّته، حتى قال فيه جورج ديهاميل الكاتب الفرنسي العالمي: «إن تونس أثينا العالم الشرقي»، لما شاهد في أهلها من اتزان في الأفكار ومرونة في العقل وتناسق في الأجواء وسهولة على هضم المدنية الأوروبية من غير أن ينصرفوا عن مدنيتهم العربية الإسلامية.
إن شعب تونس لم يقدِم على ما أقدم عليه من تضحيات جسيمة إلا وهو عارف لماذا يضحي ولماذا يستميت، مقتنعًا أن لا طريق آخر لتحقيق الأهداف التي وضعها أمام أعينه، فما هي تلك الأهداف؟
لقد قام التونسيون بتجارب عديدة متنوعة في شتَّى الميادين لينهضوا ببلادهم ويحققوا لها الإصلاح المطلوب بمشاريع طويلة النفَس تسعى إلى الإنشاء والبناء، وقالوا: إن استقلالًا لا يتم من غير اقتصاد سليم زاهر، فكوَّنوا الشركات المختلفة للتصدير والاستيراد والتجارة بأقسامها، وأسسوا معامل للنسج، وأحدثوا البنوك الوطنية، وإذا بالسلطات الاستعمارية توقف عملهم التجاري بأن تمنع أحيانًا بطرق منعوجة وبدعوى تنظيم التصدير والاستيراد، وأحيانًا تمنعهم جهرة من الاتجار مع الخارج، وتضيِّق عليهم وتعطي أوامرها للبنوك الفرنسية لتقطع عنهم القروض، وإذا بجميع تلك الشركات تعلن إفلاسها بعد مدة وجيزة. وأما معامل الغزل والنسج والشيكولاتة والمصبرات والزيوت، فإنها تقتلها بطرق أخرى، فعِوض أن تحميها من المنافسة الأجنبية وخاصة الفرنسية، تفتح أبواب الجمارك للبضائع المماثلة لإنتاجها، ثم تجبرها على شراء المواد الأولية من السوق الفرنسية، رغم ارتفاعها عن الأسواق الأجنبية، ثم تضيِّق عليها بالأنظمة والقوانين، حتى أُرغمت كثرتها على توقيف عملها. أما البنوك التونسية فإن سلطات الحماية تحاربها من غير قناع، فتفتكَّ منها أموالها عنوة، وتغلق أبوابها بأمر عسكري مدعية أن تلك البنوك مجعولة لتمويل الحركة الوطنية.
وقد رأينا تلك السلطات الاستعمارية تحارب المزارعين التونسيين حربًا لا هوادة فيها، فتُثقل كواهلهم بالجبايات المجحفة، وتسلط عليهم أعوانها ليسلبوا منهم أموالهم بالارتشاء، وتوقف أعمالهم لأقل قضية تلعق بهم، وتطلق في غالب الأحيان يد المرابين والبنوك العقارية الفرنسية لبيع أملاكهم وما يكسبون، وتشكك في حقهم في ملكية أرضهم والتمتع باستثمارها، وتحرِّم على التونسيين شراء أرض تونس إذا ما كانت في ملك الفرنسيين والإيطاليين أو غيرهم من الأوروبيين، فإن نهضت الفلاحة التونسية وبدلت طرقها العتيقة وعوضتها بالطرق العصرية في كثير من الجهات، وازدهرت، فتلك معجزة أتى بها الفلاح التونسي رغم عرقلة الاستعمار له في كل خطوة يخطوها.
ثم قال التونسيون: إنه لا نهضة تُمكن، ولا تقدم يحصل، ولا استقلال يتمُّ إلا بالتربية والتعليم، ولكن الاستعمار بالمرصاد، يعد علينا أنفاسنا، ويسعى لإفساد مشاريعنا؛ ولذا رأيناه يسعى لتعطيل الإصلاح بجامع الزيتونة حتى أصبح التيار جارفًا، فلم يقدر على وقفه. أما المدارس الحرة التي نسميها بتونس المدارس القرآنية، فإن إدارة العلوم والمعارف الاستعمارية أخذت تضايقها بالقوانين والأنظمة، حتى منعت التونسيين أخيرًا من إنشاء مدارس جديدة أو زيادة فصول في المدارس القديمة إلا بعد موافقتها، ومعنى ذلك أن حركة إنشاء المدارس أو توسيعها قد كاد يتوقف تمامًا. وقد شوِّهت برامج التعليم إلى درجة أنها مُسخت مسخًا؛ لا هي عربية صريحة ولا هي فرنسية صرفة، بل هي مزيج بلا روح، وخلط يُفسد عقول الناشئة.
وبعد التجارب المرة والخيبات المتوالية، تبين شعب تونس أن القضية الوطنية وحدة لا تتجزأ، وأن الإصلاح في أي ميدان من الميادين مستحيل ما دام نظام الحماية الاستعماري قائم الذات، وأصبحت المشكلة السياسية هي أم المشاكل لا يمكن أن يحلَّ غيرها إلا بحلها.
وهكذا كان أول مبدأ أقيمت عليه الحركة الوطنية، هو مبدأ الاستقلال، ويتمثل الاستقلال أولًا وبالذات في إلغاء معاهدة الحماية التي مكَّنت الأجنبي من السيطرة على البلاد وبررت احتلاله لها، واستثماره لخيراتها. وتوجهت الجهود كلها إلى إزالة الحكم الفرنسي المباشر، وتوحدت الصفوف وتكتلت القوى لتلك الغاية المقدسة، فما دام الحكم الأجنبي مسلطًا على المملكة التونسية يستحيل عليها أن تخطو خطوة حقيقية نحو الرقي والمدنية والازدهار المادي والأدبي، وإذا ما خطت خطوة إلى الأمام في ميدان فإنها تتقهقر خطوات إلى الوراء في الميادين الأخرى، فالحكم الأجنبي هو السبب الرئيسي في بطء نهضتنا، وهو السد المنيع بيننا وبين النهضة الشاملة التي تمكننا من الالتحاق بقافلة الأمم المتمدينة، كما قال الكاتب الفرنسي المعروف «دانيال جيران»: «يمكن لتونس أن تصبح — كالأقطار الاسكندنافية — جنة صغيرة على وجه الأرض لولا الاستعمار الفرنسي.»
ولما قامت حجة التونسيين حسب القانون والشرع، وحسب العدالة والحق، وحسب العواطف والرحمة والإنسانية، التجأ أصحاب النظريات الاستعمارية إلى ضروب من السفسطاء لا تروج على العقول، وأنواع من الادعاءات تخالف الواقع المحسوس، نأتي ببعضها كنماذج من تلاعب القوم ومهارتهم في قلب الحقائق. يقولون إن فرنسا لا ترى مانعًا من إعطاء تونس استقلالها، ولكن سرعان ما تحتل دولة كبيرة أخرى مكانها، فتصبح تونس المسكينة مستعمرة لها؛ ولذا يجب المحافظة على معاهدة الحماية واحتلال الجيوش الفرنسية لتونس. وهذا منطق غني عن أي تعليق معناه: يجب أن آكل هذه الفريسة لكيلا يأكلها غيري، ومن أدراك أن غيرك يريد أكلها؟ ومن أنبأك بأنها لن تحافظ على استقلالها كغيرها من الشعوب الصغيرة في العالم؟
ثم يقولون إن فرنسا مستعدة للتنازل للتونسيين عن حق إدارة بلادهم بأنفسهم، ولكن بشرط واحد: وهو أن يصبحوا قادرين على تسيير شئونها والتحكم في مصيرها، ثم إن الفرنسيين أنفسهم يجتهدون في عدم تمكين التونسيين من الثقافة اللازمة لذلك، ويُقصونهم إقصاءً كليًّا عن مراكز النفوذ ومناصب السلطة ووظائف التدريب والتمرين على الحكم، حتى يبقوهم دائمًا أبدًا عاجزين عن تسيير إدارة بلادهم بأنفسهم. ولو كان الفرنسيون مخلصين صادقين في ادعائهم، لكانت مدة احتلالهم لتونس (سبعين سنة) كافية لذلك التكوين المطلوب.
وآخر سفسطة ابتكروها هي أن الدول الكبرى نفسها — كفرنسا مثلًا — لم تبقَ حرة مستقلة استقلالًا مطلقًا، بل نحن نعيش في عصر الكتل الكبرى التي تعد كل منها مئات الملايين من البشر؛ ولذا ينبغي لتونس أن تحافظ على مكانها في الوحدة الفرنسية، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن الدول التي تكوِّن تلك الكتل الكبرى متساوية في الحقوق والواجبات؛ قد تنازلت كل واحدة منها بقسط مماثل من سيادتها لمصلحة المجموع، وأنها تعاقدت مع حلفائها معاقدة الند للند، والحر مع الحر، عن رضًى وطبق إرادتها. أما ارتباط تونس بفرنسا فهو ارتباط الغاصب مع المغصوب، والغالب مع المغلوب، والسيد مع المسود، والمولى مع عبده، دخلت تونس تحت الحماية الفرنسية رغم إرادتها وغصبًا عنها، فهو اتحاد لا مساواة فيه ولا حرية ولا عدالة، كاتحاد الشاة والذئب، والفريسة والأسد. إنما تتحد الدول المستقلة لتحمي كيانها، وتضمن مصالحها. وتجبر فرنسا تونس على الاتحاد معها لتضيع جميع مصالحها، وليُمحق كيانها، وإنها لسفسطاء مضحكة لو لم تجرَّ وراءها ما يُبكي.
والاستقلال المنشود لا يتحقق إلا إذا حافظ الشعب التونسي على كيانه كشعب له مميزاته وتقاليده وعاداته وأخلاقه، وتمسك بروحه التي استقاها من آبائه وأجداده والتي كونتها قرون من تاريخ ماجد ومدنية عميقة، ولم يفرط في مقومات قوميته من إسلام وعروبة. وإن الإسلام والعروبة هما عمادا الفكرة الوطنية وأساسها، وليس معنى الدين عندنا التعصب الأعمى، بل هو الأخوة البشرية والتراحم، واحترام الغير في تفكيره وعقيدته وميوله وآرائه، مع المحافظة التامة على إسلامنا إيمانًا وعبادات ومعاملات، وليس معنى العروبة — جنسًا ولغة — العنصرية البغيضة ولا التفوق الكاذب على البشر، ولا معاداة اللغات الأجنبية والثقافات الأعجمية، بل السهر على لغتنا يجعلنا نحترم لغة غيرنا ونستمد منها ما نحتاجه من علوم وفنون، ومما يزيدنا تعلقًا بالفصحى وتفانيًا في خدمتها، وهو أنها لغة القرآن الكريم والدين الحنيف، وأنها أيضًا الرابطة الكبرى التي تربطنا بالشعوب العربية الشقيقة، وهي اللحمة بإخوان لنا خارج حدود تونس الضيقة، يوحد بيننا التاريخ، وتجمعنا بهم محنة الاستعمار، وتتكون منا ومنهم الأمة العربية؛ ولذا كانت فكرة الوحدة العربية فكرة متأصلة بتونس، راسخة في أرضها متولدة عن طبيعتها.
وهكذا كان المبدأ الثاني للفكرة الوطنية بتونس هو وحدة المغرب العربي والانتماء للجامعة العربية.
والاستقلال وإن لم يكن أمرًا سلبيًّا بحتًا إلا أنه لا يمكن أن يكون وحده غاية الغايات في الحركة الوطنية. نعم هو الشرط الأساسي وبدونه لا تمكن الحياة لشعب، فهو إذن الوسيلة الوحيدة لضمان تلك الحياة. وليس الاستقلال في نظر شعب تونس إنهاء الحكم الأجنبي فقط، بل هو الطريق والمنفذ والباب نحو أهداف سامية ومبادئ واضحة اعتنقها الشعب، وعزم على تحقيقها في ميدان السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض، متفاعلة، تُكون ضربًا من الوحدة عجيبًا. والشعب التونسي لا يعيش في الماضي؛ فقد نفض عنه غبار القرون، وماشى هذا العصر الحاضر في حاجياته الأدبية والمادية.
ليس الظلم والحيف والفساد والفوضى بتونس ناتجة عن عمل شخص معين، بل ولدها نظام الحكم الحالي، وما زالت مرارة التجارب القاسية في فم كل تونسي، فالحكم الأجنبي المقنع أحيانًا والسافر الظاهر أحيانًا أخرى. الحكم الأجنبي المباشر قد دام سبعين سنة شاقة طويلة داس خلالها حقوق الشعب وكرامته، وعبث بمصالحه وأعرض عن رأيه، وعاكسه في إرادته، وسلم النفوذ لإداريين فرنسيين مهمتهم فنية أو إدارية، فضاعت بينهم المسئوليات واختلطت في أيديهم السلطات وأصبحوا ملوك طوائف وأخطر. فنظام الدولة التونسية في الظاهر هو الملكية المطلقة من الوجهة الشرعية القانونية، وأما في الواقع فإن الموظفين العالين الفرنسيين قد استحوذوا على النفوذ وصرفوه كما شاءت لهم أهواؤهم ونزعاتهم الاستعمارية؛ ولذا كان المطلب الأول للحركة الوطنية هو إدخال النظام على تلك الفوضى ومنح الدولة التونسية دستورًا قارًّا يضمن للأفراد وللمجموع حقوقهم، ويحدد المسئوليات والسلطات.
عرف شعب تونس مساوئ الحكم الفردي والملكية المطلقة والحكم الأجنبي، ورأى أن الملكية المطلقة لا تقل خطرًا عن الاستعمار نفسه، وكثيرًا ما تكون مطية له، وبابًا يدخل منه ودعامة له يعتمد عليها في استمراره وبقائه، فاتخذ المبدأ الديمقراطي الصحيح كأساس لبناء دولة عصرية سليمة، حكم الشعب بالشعب للشعب، فإرادة الشعب في مجموعه فوق كل إرادة، وهو صاحب الكلمة النهائية في تقرير مصيره واختيار ما يريده من حكم وما يرتضيه من حاكمين، وهو القوة الواعية المحافظة على نظام الحكم، وهو أيضًا مصدر السيادة كلها لا يشاركه فيها مشارك، وهو منبع السلطات ومقرها وصاحبها الحقيقي.
والشعب أيضًا هو الحاكم وهو المرجع، فيختار من بين أفراده من ينوب عنه في تنفيذ إرادته والتصرف في سلطاته، مع أنهم لا يعملون إلا باسمه، ثم إليه مرجعهم فيحاسبهم ويجدد ثقته فيهم أو يزيلهم عن مناصبهم حسب أنظمة معينة ومواقيت مضبوطة.
والحكم الديمقراطي لا يكون لصالح شخص واحد ولا طبقة واحدة، بل يكون لصالح عموم الشعب وضمان مصالح مجموعه، والسهر على الوطن كله، والاحتفاظ به وبثروته للجيل الحاضر والأجيال المقبلة.
لقد وُجهت الانتقادات الكثيرة للحكم الديمقراطي، وأظهر كثير من المفكرين السياسيين ما فيه من عيوب حقيقية من أعظمها صعوبة الاستقرار، ونشر الخطط والبرامج السياسية وفضحها على الملأ وتسليم مقاليد الأمور لأناس ربما لا يحسنون التصرف فيها، وإنما برعوا في الاستحواذ على ثقة الجماهير بذلاقة اللسان والتلاعب بالألفاظ والمهارة في الدعاية. ثم بعد هذا كله كيف يمكن للتاجر والأستاذ والفلاح والطبيب، وغيرهم من أرباب الصناعات والمهن، وإن كانوا بارعين في أشغالهم الخاصة، كيف يمكن لهم أن يكونوا الساسة الحقيقيين والقادة المسيرين للحكم، مع جهلهم للسياسة وأصولها وبُعدهم عنها وعن خفاياها وأغوارها وغاياتها، وقلة مرونتهم فيها وتجربتهم لها. إن ألف جاهل لا يكوِّنون عالمًا، وإنك لا تسلم جسمك المريض إلا لطبيب عارف مجرب، فكيف تسلم قيادة دولة للخباز والبقال والمزارع والمحامي وغيرهم من أبناء الشعب، يختارون النظام اللائق لها، ويسيِّرون دفتها، ويتحكمون في مصيرها. فعيوب الديمقراطية لا تُنكَر ولكنها تتضاءل أمام عيوب نظم الحكم الأخرى، وخاصة الحكم الدكتاتوري سواء أكان تحت اسم الملكية المطلقة أم غيره من الأسماء؛ لما فيها من ظلم وتعسف وعدم مسئولية وفقدان للحرية ومغامرات ربما تجر الشعب إلى الهلاك، وضياع المصالح الخاصة والمصلحة العامة نفسها أحيانًا، ويمكن الإتيان بعشرات الأمثلة من التاريخ القديم والحديث للدلالة على ذلك. وقد اعتمد الشعب التونسي في اختيار النظام الديمقراطي على تعاليم دينه الحنيف: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فتعاليم الإسلام تنافي الاستبداد بأنواعه وتحض على الديمقراطية.
إن شعب تونس أصبح لا يتحمل الملكية المطلقة ولا يرضى بها، ولن يسمح بوجودها، ولكن الملكية الدستورية تجمع بين حسنات الملكية والديمقراطية، فالملك عنصر الدوام والاستقرار في الدولة، والعمدة في المحافظة على مصالحها العليا، وضمان الاستمرار في حياتها السياسية، وهو أيضًا عنوان الدولة ورمزها الحي، ورئيسها الدائم وعلامة وحدتها، وممثل سيادتها. والملكية لا تناقض تقاليدنا ولا تخالف روح تاريخنا، بل يتقبلها الشعب برضًى من تلقاء نفسه، ويجد العرش كنقطة ارتكاز في المحن والمصائب ومعقل الآمال مدة الكفاح والجهاد، فيلتف حوله لتحقيق وحدته وصيانة كيانه.
وتكون هذه الملكية دستوريةً؛ أي إن الملك يصبح أكثر رسوخًا، وتكون السلطة التنفيذية تحت إشرافه في يد وزارة مسئولة أمام برلمان، فيختار الشعب أفراده كنواب عنه.
والحرية روح ذلك النظام الديمقراطي وأساسه، فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب حقًّا، فمعنى ذلك أنه يختار ما يريده من نظام وسياسة، ومن قال اختيارًا قال أيضًا حرية؛ إذ من البديهي أن الاختيار يفرض وجود الحرية، فلا يكون حرًّا من هو مجبور على قبول نظام معين وسياسة محددة مضبوطة وضعها غيره، ولا يمكن اختيار إلا إذا كانت أمام الشخص أنظمة مختلفة وسياسات متعددة وحلول متنوعة، فيختار إحداها دون غيرها، عن اقتناع فردي ومن تلقاء نفسه من غير أن يكون تحت ضغط خارجي أو تهديد أجنبي عنه، بل حسب إرادته الشخصية، وكما يمليه عليه عقله وإدراكه؛ لأن الاختيار في المجتمع السياسي كاختيار الفرد لأعماله، ولو لم يكن الفرد حرًّا في اختيار أعماله، ولو فرضت عليه الأعمال فرضًا، لما بقي مبرر للجزاء ولا سبب للعقاب. وكذلك في الحياة السياسية لا معنى للديمقراطية إذا لم يكن أفراد الشعب أحرارًا في اختيار ما يرونه من حكم. والحرية في حقيقتها وفي الواقع أيضًا كلٌّ لا يتجزأ، فإما أن تكون وإما ألا تكون، فإذا وقع الاعتداء على فرد أو جماعة من الشعب وسُلبت منهم حريتهم من أجل آرائهم أو معتقداتهم، يُفتح الباب للاعتداء على حرية جميع الشعب وكبته. وحرية الفرد مرتبطة بحرية المجموع أيضًا، فإذا كانت حرية الشخص الواحد مقدسة، فكذلك حرية الجماعات، فللفرد أن يبدي ما يراه من آراء، وله أن يحاول إقناع غيره بها، كتابة وقولًا، وتلك هي حرية الفكر، وله أن ينتقد آراء غيره وأن يفندها وأن يتبع بالتحليل والنقد أيضًا آراء الحكومة ورجال السياسة وأعمالهم، وله أن يكوِّن مع غيره من المواطنين جماعات للدفاع عن أفكارهم والدعاية لها، وله أيضًا الحرية الكاملة في معتقده من غير أن يكون عرضة للاعتداء من طرف الحكومة أو من طرف جماعات أخرى من الشعب، وتلك هي حرية الأديان. وليس الحرية هي الفوضى بل فيها ضرب من النظام عجيب؛ إذ تنتهي حرية كل فرد عند ابتداء حرية غيره، فمن لا يحترم حرية غيره ليس أهلًا للتمتع بحريته؛ ولذا كانت الحرية تتطلب ضربًا من الرقي والتربية السياسية والاجتماعية في الشعوب وأفرادها، يجعلها تتسامح ويحتمل بعضهم بعضًا، فلا يلجئون للقوة لفرض إرادتهم أو آرائهم أو معتقدهم على غيرهم، حتى يصبح ذلك التسامح جبلة وطبيعة ثانية في كل مواطن، فتقديس حرية الغير إنما هي تقديس لحريتك الشخصية.
لقد شاهدنا كثيرًا من المفكرين السياسيين — وخاصة بفرنسا — يظنون أن الحرية مرتبطة بالمساواة، بل يميلون أحيانًا إلى تدعيم المساواة والدفاع عنها أكثر من ميلهم للحرية نفسها، مع أنهما مختلفان في جوهرهما وكنههما؛ إذ نرى في أكثر الديمقراطيات الحرية موفورة إلى درجة، ولكننا لا نشاهد المساواة بين أفراد الشعب في الغالب، يقولون المساواة في الحقوق والواجبات، نعم المساواة أمام القانون العام أمر حتمي لنظام المجتمع سواء في الديمقراطية أو في غيرها؛ إذ يقام كل مجتمع على قداسة القانون سواء أكان موضوعًا أم دينيًّا منزلًا، لأن العدل أساس العمران، ومن مصلحة الحاكم مهما يكن نوعه أن يحترم القانون.
والمساواة في الديمقراطية هي أن تكون أصوات جميع المواطنين — أصحاب الحق السياسي — متساوية عند التصويت أو في انتخابات النواب عنهم، نعم هذا الضرب من المساواة موجود في الغالب في البلاد الديمقراطية، ولكن التفاوت بين المواطنين في الثروة والثقافة والمواهب يجعل تلك المساواة نظرية أكثر منها واقعية. فنفوذ الغني وفرض آرائه على الفقير من الأمور الجلية البديهية، وكذلك نفوذ المثقف وأصحاب الجاه.
أي معنى للحرية وأي مجال للمساواة إذا كانت الديمقراطية تقتصر على الميدان السياسي وحده، ولا تشمل الميدان الاجتماعي والاقتصادي؟! فهل حرية الفقير إلا حريته في أن يعيش ويموت في تعاسة؛ فحظُّه من الحياة الفاقة والمرض والجهل والجوع أحيانًا، فهو عبد في الواقع للقمة الخبز له ولعياله، وقد يجدها وقد لا يجدها إذا كان عاطلًا والبطالة تهدده يوميًّا، وأين المساواة في أقطار يسيِّر فيها بعض الأفراد الرأي العام بما لهم من صحافة قوية ومجلات وكتب ومذياعات؛ أي إنهم يفرضون آراءهم فرضًا، ثم يسيطرون بأموالهم على مؤسسات الدولة نفسها.
فالحرية السياسية وحدها لا تكفي، بل لا بد من تعزيزها وتدعيمها بتحرير المواطنين من الفقر والفاقة ومن البطالة وما تجرُّه وراءها من ويلات، فينبغي أن يكون لكل مواطن حق في العمل حتى يحافظ على حياته وحياة أسرته، وعلى كرامته البشرية؛ إذ الكرامة والفقر لا يجتمعان.
وإن العدالة الاجتماعية لا تقف عند هذا الحد؛ لأن حياة الفرد والعائلة تهم الشعب كله وتتطلب ضمانات اقتصادية تماشي الضمانات السياسية وتكملها، فالضمانات الاجتماعية ضرورية للديمقراطية الحقيقية؛ فلا تجوع الأسرة إذا مرض ممولها، وتعالج أفرادها للمحافظة على صحة المجموع، فحق العلاج الطبي وحق السكن الصحي، وحق التعليم والتربية، من الحقوق البديهية التي لا نجدها في الغالب عند الديمقراطيات! ولا معنى للديمقراطية بدونها.
ودعامة تلك الحقوق كلها، حق العمال في التكتل وتكوين نقابات تدافع عن مصالحهم، وحق الإضراب كسلاح لحفظ حقوقهم أو للحصول عليها.
أتى الحبيب بورقيبة بفكرة كانت أساسًا للعمل، وهي أن الشعب إذا استيقظ ونظم صفوفه هو الذي يخلص نفسه بنفسه من الاستعمار، وهو الذي يدخل على الدولة والمجتمع نظامًا يضمن له السيادة والحرية والرفاهية، فينبغي إذن أن يسير الحزب الحر الدستوري على مبدأ اتصال القادة بالشعب اتصالًا دائمًا عميقًا قويًّا، مهما تكن التكاليف، وأن يتحمل في سبيله كل التضحيات، فكان الحزب في العهد الأول من كفاحه (من ١٩٣٣ إلى ١٩٤٤) يناضل في جبهتين: يناضل ضد الفرنسيين الذين يقاومونه، تارة بالقوانين الاستثنائية والمحاكم الزجرية، وطورًا بالحديد والنار، ويقاوم مقاومة أصعب وأشق الركود والخنوع والعقلية البالية والتفرقة والأوهام المستولية على قسم كبير من الشعب، حتى أيقظ القلوب وأنار العقول وقضى على الخرافات، وحطم التقاليد البالية والعصبية القبلية، والتعصب البغيض، وأحدث ثورة في النفوس عميقة، وإذا بشعب اليوم غير شعب الأمس.
وإن اتصال القادة بالشعب اتصالًا مباشرًا يتخذ طرقًا شتَّى وأساليب متنوعة، ويعتمد على دعاية عصرية منظمة نظامًا محكمًا توجه الرأي العام توجيهًا وطنيًّا قوميًّا، وتوضح له الغايات الأساسية التي ينبغي أن تكون دومًا حاضرة في أذهان التونسيين، وتشرح له الأهداف الجزئية التي تهيئ تحقيق تلك الغايات البعيدة، وتبين له أيضًا مقاصد المناورات السياسية الدقيقة وتعوده على فهمها بالإشارة والتلويح، ولم يتم ذلك إلا لمعرفة قادة الحزب بنفسية شعبهم وميوله وطبيعته والامتزاج به، فيرتفعون به إلى مستواهم في التفكير السياسي، ويقودونه حسب المصالح الوطنية العليا لا حسب العواطف والانفعالات والحماسة.
وكانت أعظم وسيلة في دعاية الحزب الاجتماعات العامة التي اتخذت قوالب متنوعة وانقسمت إلى أصناف متعددة؛ فتبتدئ عادة باتصال بعض الدعاة اتصالًا فرديًّا بالقرية أو المدينة أو الجهة لفحصها واختيار بعض الوطنيين بها يكونون كالنواة للعمل المقبل ويجمعون حولهم كتلًا صغيرة؛ يجتمع بهم ذلك الداعية، وبعد أن يتم ذلك العمل الذي يتطلب أسابيع وشهورًا أحيانًا يشرع الحزب في اجتماعات أوسع، يرسل لها بعض خطبائه المفوهين مصحوبًا بأخصائيين في التنظيم، يشتغلون بعد الاجتماع بتوثيق الروابط وإدخال الترتيبات الحزبية واختيار المسئولين على قيادة الحركة في تلك الجهة اختيارًا مؤقتًا. وعندما يتم التمهيد وتتكون المؤسسات الحزبية ويتهيأ الجو، إذ ذاك يقصد أحد القادة تلك الجهة، فيبلغ أنصار الحزب ودعاته ذلك الخبر إلى القاصي والداني ويبثونه في الأسواق والبوادي، وتزين المدن والقرى بالأعلام، ويهيأ في الغالب طقم الموسيقى، وفي الميعاد المضروب تخرج عشرات السيارات لتستقبل الزعيم في الطريق على بعد ١٠ أو ٢٠ كيلومترًا من مقر الاجتماع، ويجتمع السكان خارج المدينة، ويصطف قسم من الشباب «الدستوري» على حافتي الطريق، ويذهب قسم آخر منه على الدراجات النارية ليلتفوا بسيارة الزعيم، وما أن يظهر وسط الطريق حتى تتعالى الهتافات باستقلال تونس وبالجهاد في سبيلها، وتعزف الموسيقى الألحان القومية وتصدح الشبيبة الدستورية بالأناشيد الوطنية وتتبعها الجماهير، ويدخل الزعيم إلى المدينة تحت الأعلام الخفاقة وسط الجماهير المتحمسة والنساء المزغردات. وما أن يأخذ مكانه فوق منصة الخطابة وحوله من الرجال المسئولون على الحركة حتى تهدأ الأصوات، فيصبح ذلك الجم الغفير من الشعب الذي جمع الغني والفقير والمرأة والرجل والشاب والشيخ والعالم والجاهل في صعيد واحد كأن على رءوسهم الطير، ويبدأ الاجتماع بتلاوة آي الذكر الحكيم، ثم يتعاقب الخطباء أمام الميكرفون وبعد كل خطيب منهم أنشودة وطنية قوية.
وأخيرًا يقف الزعيم وسط عاصفة من التصفيق، فيشعر الإنسان بلحمة عجيبة ووحدة امتزجت فيها روح الزعيم بروح الجماهير التي اشرأبت منها الأعناق واتجهت العيون، وتعلقت النفوس بالكلمات النورانية، بل بجرس الصوت ونغمته ونبراته، فتنفعل بانفعاله وتغضب لغضبه وتفكر إذا ما أجبرها على التفكير. وكانت خطب الزعماء لا ترمي إلى إنماء الحماس الذي ينطفئ بسرعة، بل كانت دروسًا سياسية تزيح اللثام عن الاستعمار ونواياه وطرقه المنعرجة الملتوية وأهدافه البعيدة والقريبة، كما تكشف القناع عن الحقائق التونسية المرة وعن أمراضنا المزمنة وعيوبنا التي ينبغي أن نتخلص منها، ثم تهدي إلى طريق معالجة أنفسنا وسبل النجاة مما نحن فيه وما يتطلبه تحرير الفرد والوطن من نكران الذات ومن تضحيات وصبر وثبات. وأخيرًا يشرح لهم الموقف السياسي بتدقيق تام، ويختم الاجتماع بنشيد الحزب الرسمي والناس وقوف، ويختلط بعد ذلك الزعماء بالشعب كأفراد منه؛ لأن التقديس انتزع في تونس من الأشخاص، ولا تقديس إلا للفكرة القومية.
ولما شاهدنا بالتجربة المتكررة أن ذلك الاتصال المباشر بالشعب أفيد للقضية وأعظم مفعولًا من كل الطرق الأخرى، عددنا الاجتماعات العامة والخاصة وكررناها ونوعناها. وللحزب أكثر من أربعمائة شعبة في المملكة التونسية، يجتمع المنخرطون في كل واحدة منها مرة في كل أسبوع أو نصف شهر على الأقل؛ ليكونوا مطلعين على تطورات الحالة. ويعقد دعاة الحزب المتجولون عشرات الاجتماعات في كل أسبوع، أما الزعماء فإنهم في تنقل دائم ودعاية شفاهية مستمرة. ولندرك مقدار هاته الناحية من جهودهم، يكفي أن نعلم أن في تونس الصغيرة الرقعة ٢٥٠ كيلومترًا عرضًا و٥٥٠ كيلومترًا طولًا يقطع بعضهم بين المائة ألف كيلومتر والثمانين ألف كيلومتر في العام الواحد في جولات متتابعة.
لم توهب حرية الاجتماع والكلام إلى الحزب الحر الدستوري، بل أفتكَّها افتكاكًا وأخذها عنوة وضحى بمئات ومئات من أتباعه، وضحى قادته أيضًا بحريتهم وحوكموا أحكامًا قاسية المرة تلو المرة لأجل تلك الاجتماعات؛ لأن الحريات كلها مفقودة بتونس منذ شهر أبريل ١٩٣٨، والحزب نفسه محجر قانونًا، فمن يتلفظ بكلمة «دستور» ومن يجتمع بأكثر من ستة أشخاص معرض لثلاثة أعوام سجنًا وغرامات مالية فادحة. وبما أن تحقيق الأهداف القومية تتطلب إيقاظ الشعب وتكتله، وبما أن تلك النهضة مستحيلة وذلك التكتل لا يتم إلا بتلك الاجتماعات العامة؛ قرر الحزب أن يقوم بها ويكلِّفه ذلك ما يكلِّفه، فبدأ على إثر الحرب العالمية الثانية بالاجتماعات الصغيرة إلى أن نمت وترعرعت وأصبحت تعد عشرات الآلاف، فوجدت فرنسا نفسها أمام الأمر المقضي، فإما أن تقدم على إيقاد ثورة عامة، وإما أن تغض الطرف شيئًا ما. وحاولت إيقاف تيارات الاجتماعات تارة بإصدار أحكام قاسية على المسئولين عن عقدها والمتكلمين فيها، وتارة تنزل إلى أماكنها جنودها ودباباتها لتمنعها فتتم في أماكن أخرى، فقد ابتدأ التونسيون في الحقيقة معركة التحرير في ذلك المجال.
ثم كان الحزب يصدر منشورات أسبوعية يوزعها على شعبه فقط للتوجيه وتحديد مواضيع الداعية، وبيان الأعمال المتنوعة التي يتطلبها الموقف وما أحدث في الأنظمة الداخلية، فيبث ما فيها إلى أعضاء الحزب ثم إلى الجماهير، وذلك اتصال آخر كاد يكون مباشرًا.
وللحزب صحيفتان رسميتان تنطقان باسمه؛ الأولى باللغة العربية تتوجه إلى الشعب التونسي، والثانية بالفرنسية تتوجه إلى الأجانب، وله صحف متعددة شبه رسمية؛ اثنتان منها يوميتان: الواحدة صباحية والأخرى مسائية، وبجانبها عشرات من الجرائد الأسبوعية منها السياسية ومنها الأدبية ومنها الدينية ومنها الفكاهية والهزلية، حتى إن جميع الصحافة التونسية أصبحت موالية للحزب تدافع عنه وتنشر آراءه، ما عدا بعض الصحف الهزيلة التي تمولها السفارة الفرنسية.
وأخذ الحزب أيضًا ينشر الرسائل الصغيرة وبعض الكتب.
(٤) النظام الحزبي
يتكون مجموع الحزب من أعضاء عاملين وأعضاء مساعدين، وكل عضو منه لا بد أن ينتمي إلى شعبة من شعبه، وتنقسم تلك الشعب إلى نوعين: النوع الأول وهو الأكثرية الساحقة هي «الشعب الترابية»، لكل واحدة منطقة محدودة وعددها يفوق ٤٠٠ شعبة، و«الشعب غير الترابية» وهي موجودة خاصة في العاصمة تجمع عادة المهاجرين إليها من بلدة معينة أو جهة معينة. وقد تبعنا في الغالب التقسيم الطبيعي سواء أكان بشريًّا أم جغرافيًّا.
ولا تتكون الشعبة الرسمية إلا إذا انخرط فيها ٥٠ عضوًا عاملًا على الأقل، فإذا تم ذلك النصاب تعقد جلستها العامة وتنتخب هيئة إدارتها التي من بينها رئيس الشعبة وأمينها العام وأمين صندوقها والمسئول عن الشبيبة والمسئول عن الدعاية، وتجتمع تلك الهيئة مرة في الأسبوع على الأقل لبحث الوسائل الناجعة لإنمائها واتساعها وتطبيق أوامر الحزب في منطقتها، وعليها أيضًا أن تعقد اجتماعًا عامًّا لجميع المنخرطين فيها مرة في كل نصف شهر على الأقل، وتكون من الشبان التابعين لها «شبيبة دستورية» تسهر الشعبة على تربيتها الوطنية وتدريبها على العمل وتنفيذ الأوامر والامتثال للنظام. وفي غالب الأحايين تنشئ لها شبه مدرسة لتثقيفها تثقيفًا سياسيًّا وطنيًّا ممزوجًا بثقافة عامة، وتكوِّن الشعبة أيضًا هيئة من الدعاة يعملون باستمرار تحت إشرافها في جميع منطقتها لبث الدعاية الفردية والاتصال بجميع الطبقات لجلبهم للحزب وتوجيههم التوجيه الصحيح، فينبثُّون في الأماكن العامة والخاصة مجادلين ومناقشين مدافعين ومبينين، ويكون عددهم حسب أهمية الشعبة.
وتختلف مناطق الشعب اختلافًا كبيرًا في مساحاتها الترابية، ففي البوادي تنتقل الشعبة بطبيعة الحال مع القبيلة، وهي في الجهات الزراعية يتفرق أعضاء الشعبة على مجموعات المساكن المتفرقة التي تسمى عندنا ﺑ «المشتى» أو «الدوار»، ويكونون في كل واحدة منها مركزًا تابعًا للشعبة، وفي كل قرية وكل مدينة شعبة. وإذا كانت المدينة كبيرة آهلة بالسكان، فتتكون في كل حي منها شعبة، ولكل شعبة ناديها الخاص تجتمع فيه فيصبح شعارًا للروح القومية ومركزًا يتجه نحوه كل «دستوري»، ومرجعًا ومأوى وينبوعًا للأفكار الحية ومنارًا ينير السبيل في وجه الشعب وعنوانًا على استمرار الكفاح.
(٤-١) الجامعات الدستورية
وقد انتظمت تلك الشعب في «جامعات دستورية» لكل واحدة منها منطقتها، فقسم الحزب هكذا المملكة التونسية ١٤ جامعة، تسهر كل واحدة منها على سير الحركة بجهتها، وتكون الرابطة بين الهيئة العليا للحزب والشعب، ولها هيئة مديرة تُنتخب من بين أعضاء هيئات الشعب، وتشرف على أعمال الدعاية الحزبية وتكوين الشُّعب الجديدة وتنظيم الشعب القديمة ومحاسبتها المالية.
(٤-٢) المؤتمر
ويقتضي نظام الحزب مبدئيًّا أن ينعقد مؤتمره مرة في كل سنة، ولكن النضال الوطني الدائم جعله لا يعقد جلساته العامة إلا مرة بعد سنوات، وهو أعظم هيئة في الحزب، وصاحب السلطات كلها فيه؛ لأنه يمثل جميع أعضائه تمثيلًا ديمقراطيًّا صحيحًا، ويتكون من نواب ينتخبهم الأعضاء العاملون مباشرة في مقر شعبهم، وتقدم الهيئة العليا استقالتها لديه لمجرد اجتماعه، وهو الذي يسطر نظام الحزب أو يدخل عليه تحويرات، وهو الذي يقرر سياسة الحزب واتجاهه، وهو أيضًا الذي يعين بالتصويت الهيئة المديرة للحزب، وينتخب أيضًا قسمًا من «المجلس المِلي».
(٤-٣) الديوان السياسي
تسمى الهيئة العليا للحزب والمنفذة لقراراته «الديوان السياسي»، ولها في الفترة بين المؤتمرات جميع النفوذ الذي للمؤتمر نفسه بشرط أن تقدم جميع أعمالها لأول مؤتمر ينعقد بعد تلك الأعمال ليصادق عليها أو ينكرها، وهو يتحمل مسئولية جميع أعمال الحزب ومسئولية تسيير الحركة القومية كلها، كما يتحمل مسئولية النضال وتهيئة أسبابه. ولقد أصبح الديوان السياسي أكبر سلطة في البلاد التونسية، وأصبحت كلمته نافذة في الشعب بأسره بمثابة الدماغ المسير وما يصدر عنه من قرارات وتصريحات لا يصطبغ بصبغة شخصية، بل يصدر عنه كمجموع، وهو يتركب من عشرة أعضاء، من بينهم رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، والأمين العام صالح بن يوسف، وأمينان عامان مساعدان: الهادي نويرة وعلي البلهوان، ومدير المنجي سليم، ونائب المدير الهادي شاكر، والأعضاء: جلولي فارس ويوسف الرويسي (بدمشق)، وقد مات الدكتور ثامر شهيدًا بكراتشي، وقد فُصل الدكتور ابن سليمان من الحزب، ويجتمع مرتين في الأسبوع على الأقل، ولكن اجتماعاته في الحقيقة كادت تكون يومية، ويمتاز عمله بالاستمرار في خطة واحدة وبرنامج عام طيلة أعوام متوالية، كما يمتاز بالتكتم التام في نواياه، ولا تظهر مقرراته إلا عند التنفيذ، فينفذها إذ ذاك بسرعة خاطفة تضع المستعمر أمام الأمر المقضي، وتأخذه على حين غرَّة، وبفضل تكتل القوات الشعبية حوله وفهمها لمناوراته، كان دائمًا يملك زمام المبادرة في الأعمال، فيفسد مناورات السلطات الاستعمارية ولا يدخل الشعب في معارك جزئية أو كلية، عندما يسعى لها المستعمر، بل عندما يرى أن الظروف تساعد تونس.
(٤-٤) المجلس الملي
ولجانب الديوان السياسي توجد هيئة يستشيرها في الأزمات ويعتمد عليها في تنفيذ المقررات السريعة، وهي تقوم مقام المؤتمر بعد انفضاضه، وتلك الهيئة هي المجلس الملي المكون من رؤساء الجامعات ومن أعضاء ينتخبهم المؤتمر، ومن حق الديوان السياسي حضور جلساته.
(٤-٥) مدارس الحزب
كوَّن الحزب شبه مدارس تابعة للشعب والجامعات، وانتدب لها من بين الدستوريين من يلقي المحاضرات في النظم السياسية وتاريخ الحركات القومية في مختلف الأقطار وفي مبادئ الحزب وطرق دعايته وكفاحه ليكون فيها دعاة مقتدرون، وأسس بتونس مدرسة عليا للدعاة الممتازين يتلقون فيها الدروس بانتظام ويمتحنون في موادها، ولكن أعظم مدرسة لتكوين الرجال القادرين على خوض معركة الحياة الذين تم إعدادهم لتنظيم جميع الميادين من سياسة وثقافة واقتصاد واجتماع؛ فلم يقتصروا على معرفة النظريات بل يرونها كلامًا أجوف ما لم تكن مقرونة بالتطبيق، هي العمل الحزبي المستمر الذي يفرض على الدستوريين فرضًا للقيام بمنشآت الشعب المتنوعة والذي يكوِّنهم تكوينًا في الكفاح والنضال.
(٤-٦) مكاتب الحزب في الخارج
ولم يقتصر عمل الحزب على داخل المملكة التونسية، بل رأى أنه لا بد من تعزيز الكفاح الداخلي بعمل خارجي يتسع نطاقه شيئًا فشيئًا، حتى يمتد وينتشر في غالب القارات لتكوين أنصار لتونس وجلب عطف الحكومات والشعوب والتعريف بالقضية الوطنية وبالأساليب الاستعمارية الفرنسية، فكوَّن لهذا الغرض مكاتب متعددة وجعل من مكتب القاهرة مركزًا لها ونقطة اتصال دائم، وأحدث مكتبًا بنيويورك يقوم بالدعاية في الأوساط الأمريكية المختلفة، ويسهر على سير القضية أمام هيئة الأمم المتحدة ولدى وفود الحكومات. وله أيضًا مكاتب بباريس ونيودلهي وكراتشي وستوكهلم، وهو يوسع عمله هذا يومًا فيومًا.
(٥) المنظمات القومية
تشعبت الحركة الوطنية بتونس بقدر انتشارها وتعمقها، وتعددت حاجياتها بتعدد الميادين التي تكافح فيها لرد الهجمات الاستعمارية والسيطرة الأجنبية وتوغل الفرنسيين في منظمات الدولة والاقتصاد من زراعة وتجارة ومناجم وبنوك وفي التعليم والثقافة، لتفكيك جميع الروابط القومية والقضاء على معنويات الشَّعب وثروته. فرأى الحزب وجوب تقسيم الأعمال في الكفاح ليختص كل جماعة من الوطنيين بالنضال في ميدانهم، مع السير طبق توجيه الحركة الوطنية، فكان الميدان السياسي مختصًّا بالحزب نفسه لتحقيق الأهداف الوطنية العليا.
وأعان الحزب على تكوين منظمات قومية كبرى تعمل تحت إشرافه العام في الحقل السياسي وتشتغل كل منها بناحية من نواحي الحياة.
(٥-١) الاتحاد العام التونسي للشغل
إن الاتحاد العام التونسي للشغل أعظم منظمة قومية تونسية؛ لأن العمال يكوِّنون الطليعة في كل شعب والقوة الفعالة في النضال، وهم أصحاب السواعد المفتولة والشعور البشري الصحيح والثبات على المبدأ وأعرف الناس بالظلم والظالمين، وهم رجال الإنتاج، يسهل تنظيمهم لاجتماعهم مئات وآلافًا في محل عملهم، وإن ما يرونه يوميًّا من بذخ المستعمرين وشرههم واحتكارهم للأرباح الطائلة يجعلهم لا يطيقون صبرًا على البقاء فيما هم فيه من فاقة وعراء ومسغبة.
وقد شرع العمال التونسيون في تنظيم صفوفهم في نقابات تونسية للذود عن حقهم المغصوب والسعي في رفع مستواهم الحيوي في عام ١٩٢٢، تحت قيادة شاب نشيط ممتاز تخرج من مدارس الهندسة، وهو محمد علي القابسي الذي أحدث حركة نقابية قوية بما بثه من روحه الثائرة في قلوب أتباعه. وقد تولدت حركة هذا الزعيم النقابي وسط الكفاح؛ لأنه بمجرد ما كوَّن (الجامعة العامة للعمل التونسي) سنة ١٩٢٤، وقفت القوات الاستعمارية في وجهه وصُمت الآذان عن مطالب العمال المشروعة، فما كان منه إلا أن أعلن إضرابًا عامًّا، وكانت نقطة ارتكازه ميناء «بنزرت». وجاءت القوات الفرنسية تعزز أصحاب رءوس الأموال الاستعماريين، فقتلوا وشردوا وألقوا القبض على عشرات من بينهم محمد علي، وأحالوهم إلى المحاكم الفرنسية التي حكمت عليه بالنفي المؤبد سنة ١٩٢٥، فهاجر وطنه مجبرًا ومات بالحجاز فريدًا وحيدًا.
وكانت الأسباب التي انهزم أمامها محمد علي متنوعة، أعظمها تألُّب جامعة النقابة الفرنسية العامة والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الفرنسي والأحزاب الاستعمارية اليمينية التي حملت في صحفها حملة شعواء على النقابات التونسية لانسلاخها عن النقابات الفرنسية من جهة، ولما فيها من خطر يهدد المصالح الاستعمارية من جهة أخرى، فلم تجد الحركة النقابية الأولى مدافعًا ولا نصيرًا، ولكن الفكرة التي شرع محمد علي في تنفيذها لم تمت معه، وتأسست سنة ١٩٣٧ من جديد (الجامعة العامة للعمال) ونشرت فروعها في المملكة التونسية كلها بسرعة عجيبة، وكان الحزب يؤازرها بكل قواه، وهذا من أكبر أسباب نجاحها، ولكنها لم ترق الاستعماريين، خاصة وأن العمال بعد أن تكتلوا وطالبوا بحقوقهم من غير جدوى أخذوا يقومون بالإضرابات المتوالية، فتذمرت الشركات الفرنسية الكبرى من هذه الحركة، واستنجدت مناجم الفوسفات بقوات البوليس والجيش التي وضعتها السلطات الفرنسية تحت تصرفها، فاحتلَّت المناجم وأخذت تقاوم العمال مقاومة شديدة عنيفة، وهاجمتهم هجمات متوالية دامية أسفرت عن عشرات من القتلى ومئات من الجرحى في مناجم المتلوي والعرائس والمضيلة والجبل الأبيض والمتلين، فقام الشعب التونسي بأسره بإضراب عام غضبًا لعماله وآزرهم في مُصابهم، وأرسل إليهم من كل أنحاء المملكة الإعانات والإسعاف. ولما هبت العاصفة على الحركة الوطنية التونسية جرفت في أعاصيرها الجامعة العامة للعمال سنة ١٩٣٨، فذاق القائمون بها ألوانًا من العذاب والسجون، ولحق الاضطهاد الاستعماري حركة العمال كما لحق الحركة الوطنية نفسها.
وبعثها الزعيم النقابي العالمي الشهيد فرحات حشاد عام ١٩٤٤ بعثًا جديدًا وكساها صبغتها الحالية، ووجهها توجيهًا نقابيًّا صحيحًا، وافتكَّ الحرية النقابية من السلطات الاستعمارية افتكاكًا عندما وضعها أمام الأمر المقضي عام ١٩٤٤ بتكوين نقابات حرة بمدينة صفاقس، ثم عم نشاطه المملكة كلها، وحصل على الاعتراف القانوني بنقاباته الحرة، وساند الحزب الحر الدستوري الحركة العمالية الفتيَّة مساندة قوية كلية؛ لأن الحركة العمالية أصبحت من الأسس الثابتة في تكييف مستقبل تونس، ولأنها قوة من أعظم قوى البلاد اندفاعًا واستماتة. وسرعان ما انتظم العمال — من تونسيين وغير تونسيين — في صفوف هذه الحركة الجبارة، فأصبح عددهم يفوق المائة ألف، وخاضت المعارك الواحدة تلو الأخرى للدفاع عن حقوق أعضائها، وتوالت الإضرابات، فأرادت السلطات الفرنسية أن تنزل بها الضربة القاضية قبل أن يستفحل أمرها، واغتنمت فرصة الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل، في يناير ١٩٤٨ والذي نجح نجاحًا باهرًا في المملكة كلها، فعطل جميع المصالح وأوقف المواصلات والإدارة، وتآمرت تلك السلطات مع الجيش الفرنسي. وبينما كان العمال المضربون في محطة قطار صفاقس يحافظون على تنفيذ الإضراب، هاجمتهم القوات المسلحة في الصباح المبكر بدون سابق إنذار، وأطلقت عليهم وابلًا من الرصاص، وهرع العمال من كل صوب لمكان المعركة وخاضوها وهم عزل من كل سلاح، واقتحموا الدبابات وافتكُّوا منها المدافع الرشاشة، ولم يتقهقروا إلا بعد أن تكاثر عليهم الجنود من كل صوب، ومات منهم ثلاثون شهيدًا وجُرح مائة وخمسون، واعتقلت السلطات الفرنسية عقب ذلك مئات من العمال وأودعتهم السجن. وقد تظاهر الشعب التونسي بأسره احتجاجًا على هذا الاعتداء الدامي، وقدم أعضاء بلدية صفاقس استقالتهم، وحمَّلوا السلطات الفرنسية مسئولية هذه الحوادث، ولكن السلطات الفرنسية مع ذلك قدمت زعماء الحركة النقابية إلى المحكمة الفرنسية، فأصدرت عليهم في ٢٠ يناير سنة ١٩٤٨ أحكامًا قاسية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
باسم جلالة الملك المعظم، سيدي محمد الأمين الأول، صاحب المملكة التونسية، دام له العز والبقاء، وبالنيابة عن وزارته المخلصة المتفانية في خدمة شعبه النبيل، وأصالة عن نفسي بصفتي وزيرًا للشئون الاجتماعية؛ أقف والقلب متصدع أسًى أمام جثث هؤلاء الشهداء الأبرار الذين سقطوا كما سقط كثيرون من قبلهم.
أقف بينكم جميعًا لكي أعرب عن الحزن العميق الذي يخالج في هذا اليوم الرهيب صدر الأمة التونسية قاطبة، وفي مقدمتها ملكها المفدى ووزارته الوفية، التي بذلت منذ أسابيع قصارى الجهد للتفادي من المأساة التي نحياها اليوم، والتي تشتد وطأتها أيما اشتداد على أفئدتنا عندما نعلم أنه كان من الممكن بل من السهل اجتنابها؛ فقد كنا على قاب قوسين أو أدنى من الحل الذي من شأنه إرضاء المضربين وإعادة السلم والراحة لنصابها، فإني بعد ما طمنت خاطر العملة المضربين وطلبت منهم ملازمة الهدوء والسكينة بواسطة نوابهم الشرعيين طلبت أيضًا بإلحاح من مدير الشركة أجلًا إلى أن يصدر بلاغ مجلس الوزراء الذي انعقد كما تعلمون يوم الثلاثاء في الساعة الرابعة مساء، وقد انفجرت المأساة بكل أسف في نفس ذلك اليوم حوالي الساعة الثانية بعد الزوال أيضًا، لكن أبت الأقدار إلا أن تجد ما جدَّ، ونحن — المؤمنين بوجود الله تعالى، العامرة قلوبنا بتقواه، الصابرين والمصابرين على الضيم والعدوان، الجادين في مقاومته بالحجة والإقناع — لا نرى في هذا المصاب العظيم الذي حل بأمتنا في أبنائها الضعفاء المساكين إلا محنة تكون عاقبتها بحول الله الفرج؛ لأن في اتحادنا الهادئ الوديع وفي صمودنا خاشعين صابرين في هذا اليوم أمام موتانا الذين ذهبوا ضحية اعتداء فظيع لا مبرر له؛ لأن المضربين لم يطالبوا إلا بحق مشروع وبأساليب مشروعة، قلت: لأن في اتحادنا عبرة لمن لم يعتبر لحد الآن، ولمن لا زال يفضل استعمال القوة على حسن التفاهم ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن؛ لأن لكل قوة قوة أكبر، وقوة الله التي نحن متمسكون بها فوق كل شيء.
ونحن نؤمل أن تقتص العدالة من كل معتدٍ أثيم، وألا تذهب هذه الأرواح سدًى، بل يكون في تضحيتها درس يتعظ به الحائدون عن سواء السبيل، سبيل التفاهم النزيه وحسن المعاشرة بين جميع المتساكنين.
وفي الختام ننحني بخشوع وترحُّم على أرواح هؤلاء الشهداء الأبرياء، داعين لهم بالرحمة الواسعة ومقدمين إلى أوليائهم وإلى كافة الطبقة الشغيلة خاصة، وإلى الأمة التونسية عامة أحرَّ تعازينا وأشمل عطفنا.
وتجددت المعارك الدامية بين العمال والقوات الفرنسية بشركة بوتنفيل الزراعية وبجهات سوق الخميس وسوق الأربعاء وباجة وبرج السدرية، وقد حملت إحدى النسوة العاملات أثر هاته الواقعة الأخيرة جثة وحيدها على يديها وكان شابًّا لم يتجاوز العشرين من عمره، وسارت به والعمال وراءها إلى أن وضعته أمام قصر الملك بحمام الأنف الذي كان قريبًا جدًّا من محل المعركة، وأخذت تنادي بأخذ حقها من الظالمين، فأطل عليها الملك من شرفته واستفسر الأمر، فلما علم بحقيقة الحادث أدخلها إلى قصره وقبَّلها في رأسها وأجلسها حذوه ومسح دمعتها وقال لها: إن مات لك ابنٌ فالتونسيون كلهم أبناؤك؛ خصوصًا وأنه مات شهيدًا في سبيل وطنه ودينه، وما أنا إلا أب لك، فخرجت إلى الملأ وهي تزغرد.
(أ) أهداف الاتحاد
المؤتمر الوطني الرابع
المشكلة القومية والتمثيل الشعبي
أيها الإخوان …
إن الطبقة العمالية التونسية، وكذلك منظمتها القومية (الاتحاد العام التونسي للشغل) مؤمنة إيمانًا راسخًا بأن العدل الاجتماعي الذي نريد تحقيقه في أكمل صورة لا يمكن أن يتحقق في نطاق الوضع السياسي الجائر إلا صوريًّا وجزئيًّا؛ وذلك لأن الوضع السياسي في حياة جميع الأمم ما هو إلا صورة من الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد فيها، ولأن السياسة هي نظام الحكم العام المسيطر على الشئون الاجتماعية والشئون الاقتصادية، المدبر لأحوال طبقات الأمة المختلفة، والمؤثر على توزيع الثروة القومية بين تلك الطبقات تأثيرًا مباشرًا، وأي سياسة حكومية لا تشمل الاقتصاد ومشاكل الإنتاج والمعاش والأسعار والأجور؟ وأي مشكلة من المشاكل الاجتماعية كمقدرة الشراء ونظام الشغل وحقوق العمال ونظام الإضراب … إلخ، خارجة عن مشمولات نظر الحكومات؟!
ثم إن الطبقة العاملة التونسية تعلم من ناحية ثانية أن الأمة كلٌّ لا يتجزأ، وأن الذين يعملون على تفريق الصفوف وتمييز طبقة على طبقة وتفضيل فريق على فريق، إنما هم أعداء الأمة من أولئك الرأسماليين والاستعماريين الذين يريدون أن يوجهوا قوة الكفاح في الشعب إلى التطاحن الداخلي والتقاتل بين أقسام الأمة الواحدة لتتخاذل في حملتها ويضعف بعضها بعضًا. ولكن الطبقة العاملة التونسية قد أقامت الدليل المرات العديدة على أنها تعلم بالضبط أين مصلحتها ومن هم أعداؤها الحقيقيون ونحو من يجب أن توجه كفاحها المستميت، وعلى أنها متحدة اتحادًا كليًّا مع عامة الشعب التونسي بكافة طبقاته في جهاده نحو العدل والحرية والرقي. والشعب التونسي بدوره قد أدرك ذلك وأكبره في الطبقة العاملة، فقابلها من التأييد لها والاتحاد معها بمثل ما لقيه منها.
وبهذا يتبين لماذا كان كفاحنا الاجتماعي في نفس الوقت كفاحًا سياسيًّا؛ لأن السياسة مسيطرة على الاجتماعيات، فلا تصلح هذه إلا بصلاح تلك، كما يتبين لماذا كان كفاحنا الاجتماعي كفاحًا قوميًّا في نفس الوقت؛ لأن مصلحة العمال جزء من المصلحة القومية العامة، فلا تتحقق الأولى إلا بتحقق الثانية.
مقومات النظام السياسي عندنا وما تنطوي عليه من مبادئ الجور
ولو أمعنا النظر لحظة في نظام الحكم في بلادنا، ولو باعتبار المشاكل الاجتماعية خاصة، لرأينا أن جميع الأسباب السياسية فيما لا نزال نقاومه من أنواع الظلم الاجتماعي راجعة إلى فساد الأصول العامة القائم عليها النظام السياسي في البلاد.
والأصل الأول الذي يقوم عليه هذا النظام السياسي هو كما تعلمون المبدأ الاستعماري، والاستعمار معناه تسخير القوى السياسية وهياكل الحكم في جميع أنواعه ومظاهره لخدمة رأس المال الأجنبي، ومصالح طبقة أجنبية من المحظوظين الذين جاءوا البلاد لاستثمارها من جميع النواحي. لذلك كان أول ما يبدأ به الاستعمار محاولة قتل السلطة الأهلية وإزالة الذات والشخصية والسيادة القومية، كذلك رأيناه يصنع بشقيقتنا الجزائر مثلًا؛ فيمحو الذاتية القومية الجزائرية، ويجعل من التراب الجزائري العربي ترابًا فرنسيًّا، ويحشر الجزائريين في الجنسية الفرنسية حشرًا. أما في بلادنا، فالاستعمار حاول قتل الذاتية التونسية وإفناء السيادة التونسية بواسطة الإدارة المباشرة التي لم تبقِ لنا من السلطة إلا الألقاب الظاهرة والتصرف الصوري، وافتكَّت السلطة الحقيقية والنفوذ الواقعي، وهذا ما توصل به الاستعمار إلى أن شحن إدارتنا بالآلاف المؤلفة من الموظفين الأجانب، وإلى أن صيَّر التونسي في إدارة بلاده أجنبيًّا عن الحكم والنفوذ الحقيقي وعن تدبير الشئون الجوهرية في حياة بلاده.
على أن الاستعمار لم يكتفِ بسلوك سبيل الإدارة المباشرة للاستبداد بالحكم والتصرف به وحده، بل زاد على ذلك أنه عزز هذا الحكم المباشر بإسناده إلى قوات احتلال عسكرية وجندرمة وشرطة يتصرف فيها وحده دون تدخل السيادة التونسية؛ لأنه لا يرمي إلى تدبير شئون الحياة والمصلحة القومية العامة، بل إلى فرض نظام سياسي يهدف إلى مصلحة خاصة، هي مصلحة الجالية الأجنبية التي يقال إنها حماية.
وبعد أن استبد الاستعمار بالحكم بواسطة الإدارة المباشرة، وبعد أن جعل ذلك الاستبداد استبدادًا بالقوة واحتلالًا عسكريًّا؛ زاد على ذلك كله أن جعله استبدادًا ديكتاتوريًّا لا رائحة للديمقراطية أو لشبه الديمقراطية فيه، فالشعب في جميع شئونه خاضع لسياسة حكومة غير مسئولة يتصرف فيها مديرو الإدارات والوزراء كما يشاءون بدون أن يستطيع الشعب الدفاع عن مصالحه بواسطة أي منظمة نيابية تعبر عن آرائه ورغائبه، وقد استعمل الاستعمار هذه الوسيلة بصفة مستمرة في الماضي وهو يود أن يستمر على استعمالها في المستقبل. فأما مديرو الإدارات فهو لا يزال إلى الآن متشبثًا بأن يكونوا من الأجانب، معاكسًا في ذلك كل منطق وكل معقول وأبسط مبادئ الحق.
وهل من المنطق أو المعقول أو من الحق في شيء أن يكلَّف بالنظر في المصلحة القومية وتدبير الشئون الوطنية من هم أجانب عنا وعن وطننا؟! وأما الوزراء فإن الاستعمار كان يختارهم من بين ذوي الذمم التي تباع وتشترى بأبخس الأثمان، ينصبهم على كراسي الحكم ويغدق عليهم الأموال والنياشين والتشريفات، ويصرفهم بكل سهولة في خدمة مصالحه ضد المصلحة العامة بدون مراعاة استنكار الشعب ولفظه لهؤلاء العبيد والأذناب.
على أن الاستعمار لم يُرد أن يكون حكمه الاستبدادي مكشوفًا مفضوحًا، فحاول أن يغطي على ذلك بالمغالطة والتمويه، فأحدث مجالس ادعاها نيابية وما هي بالنيابية، ولكنها مهازل فظيعة ومنكرات أشنع من الظلم المكشوف. أوجد الاستعمار المجلس الكبير ولكنه جعل نظامه النيابي على ما تعلمون من التشويه الممقوت ومن التمثيل الجائر، فأعطى لممثلي الأقلية الأجنبية نصف المجلس ولممثلي الأمة التونسية بأجمعها النصف الآخر، ثم زاد على ذلك أن جعل التمثيل فيه للمصالح الاقتصادية؛ أي للطبقات التي تتنافى مصلحتها الخاصة مع المصلحة العامة، أو التي تجد مصلحتها الخاصة في ممالأة مصلحة الأجانب والخروج عن المصلحة القومية، فإذا المتصرفون في ميزانية الدولة المقررون لوجوه صرف الأموال المأخوذة من جيوب الشعب، هم كبشة من ممثلي المستعمرين الذين اغتصبوا الأراضي والشركات الكبرى التي افتكَّت موارد الثروة القومية وأذناب الاستعمار ممن كسبوا ثروتهم بخدمة ركاب الأجانب وامتصاص دماء المواطنين.
وليكون هذا الحكم السياسي الدكتاتوري كاملًا محكمًا، أضاف إليه نظام حالة الحصار الذي عاشت فيه تونس فوق الثلاثين سنة من أول الحماية، ولا تزال عائشة فيه منذ ثلاث عشر سنة باسترسال؛ أي من سنة ١٩٣٨، أما الأوامر الزجرية الاستثنائية والتحجير للحركة السياسية الكفاحية الوطنية الحقة، فذلك ما لا يحتاج إلى تذكير.
النظام السياسي وعلاقته بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية
إن هذا النظام السياسي الذي لخصنا لكم خصائصه ومقوماته، أيها الإخوان، لم يأتِ على هذه الصورة إلا لأنه خاضع في عناصره إلى غايات معلومة، ولا تختلف أشكال النظام السياسي إلا باختلاف أغراضها وغاياتها، فما هي الغايات التي شكلت الحكم السياسي عندنا بشكله هذا؟
إن الشيء الذي يجب أن نؤمن به إيمانًا راسخًا هو أن الأجنبي لا تقوم سياسته إلا على مبدأ المنفعة المادية، والتفوق الجنسي والمعنوي، فالاستعمار عندنا وليد النظام الاقتصادي العصري السائد في غربي أوروبا، وهذا النظام الرأسمالي قائم على أن المنفعة المالية هي الغرض من كل شيء، وأن المال هو أول ما يرسم في سلم القيم، وأن الرغبة في المال والنهم العادي لا يقفان عند حد، وأنه إذا حصلت ثروة كبرى وجب الطموح إلى ثروة أخرى أكبر منها، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.
ذلك هو — أيها الإخوان — المبدأ الذي تقوم عليه نفسية الاستعمار ومذهب الاستعماريين في نشاطهم أينما كانوا. بل انظروا إلى الميدان الاقتصادي في البلاد، تجدوا أن معظم الثروة القومية الوطنية قد اغتصبها الاستعمار، فثروة المناجم بأنواعها في أيدي الشركات الرأسمالية الكبرى، والعمال بمثابة الأدوات أو الآلات المستعملة في استثمار تلك الثروة لا يعتبر فيهم إلا رخص النفقة ومقدار الإنتاج، كما أن الآلة تكون أحسن ما تكون إذا كانت رخيصة الثمن غزيرة الإنتاج. وجميع الأراضي الخصبة في أيدي الشركات الفلاحية الأجنبية وكبار المعمرين الذين حصلوا عليها بالقوة الغاشمة أو بالخدعة والحيلة.
ومعظم الثروة القومية مما ينتج عن استثمار لا يزال موجهًا إلى خارج الوطن؛ لأنه نتيجة عمل رءوس أموال أجنبية. وهكذا تعم الفاقة والفقر العباد والبلاد، فالفلاح يضيع أرضه أو تتغلب عليه قوة الفلاحة الكبرى، والعامل تُمتص جهوده، والوطن تتناقص ثروته الاقتصادية بما يخرج منها إلى الخارج.
هذا في الميدان الاقتصادي، أما في الميدان الاجتماعي فأجلى ما يظهر للعيان هو البؤس المادي والأدبي الذي هو نتيجة التفقير الاقتصادي والضغط السياسي، والطبقة الشغيلة التونسية أعلم بذلك، فلا الأجور تقدم حسب الحاجيات الطبيعية ومستوى الأسعار، ولا الحقوق الاجتماعية كاملة ولا محترمة، فلئن حصل عمال المصانع والمناجم على بعض حقوقهم؛ فإن إخواننا عمال الفلاحة لا يزالون يرزحون تحت أعباء نظام قانوني جائر لا يضمن لهم عشر ما هو مضمون لغيرهم من العمال. ولولا كفاحهم العجيب وما أظهروه من بسالة وشجاعة أدهشت الخصم نفسه، وكانت آية لنا جميعًا، لما حصلوا على شيء. زد على ذلك أن هذه الحقوق الاجتماعية الموجودة قانونًا لا يحترمها الاستعمار، بل لا يزال يدوسها بقدميه، ولا يزال يحاول إبطالها بشتى الوسائل، ولا يزال يقاوم الحركة النقابية الكفاحية بالقتل وبالتعذيب بالتتبعات العدلية وبالسجن والنفي … إلى غير ذلك. كل ذلك والطبقات الشعبية في بؤسها المادي، مشردة الأطفال، مهددة في صحتها، لا من يسهر عليها ولا من يفكر في إيجاد نظام ضمان اجتماعي يتكفل القضاء على الأمراض والعاهات والنكبات والبطالة، ولا من يفكر في إيجاد وسائل الاستخدام الكامل لإزالة التشرد والتسول والبطالة والتدهور، ولا من يفكر في شأن الطفولة وما يهددها من الجهالة والسقوط الأخلاقي والأمراض والإجرام، وآخر ما يريده الاستعمار بعد أن استبد عليها سياسيًّا وأفقرها اقتصاديًّا وظلمها وأهملها اجتماعيًّا: هو قتلها معنويًّا؛ فهو يقاوم حركة التعليم ويقتِّر عليها المدارس تقتيرًا، وهو يحاول أن يقتل لغتها القومية وأن يجنسها لغويًّا ويدمجها عقليًّا حتى لا تبقى لها شخصية تشعر بها ولا ذاتية تدافع عنها، بل تبقى جاهلة لا تعرف حقوقها ولا تشعر بها ولا تقدر على الدفاع عنها، أو تتعلم تعلمًا أجنبيًّا فتنسى قوميتها وذاتيتها وتنسلخ عن طبيعتها وتفنى فناء معنويًّا.
ما يستنتج من الكلام السابق: خدمة القضية القومية واجبنا الأول
وهذا كله أيها الإخوان، هل تظنون أنه يمكن لولا أن نظام الحكم السياسي مسخر له موجَّه إلى أغراضه؟ فالغرض الاقتصادي والاجتماعي من الاستعمار الرامي إلى جلب المنفعة المادية إلى المستعمرين دون غيرهم، هو الذي اقتضى أن يكون النظام السياسي على ما هو عليه. فالغاية أن يستثمر الأجانب جميع موارد البلاد، فوجب أن يكون حكم البلاد في غير أيدي أبنائها وأن تغتصب سيادتها، وأن يحتكر الأجانب الإدارة والنفوذ. والغاية التصرف في ثروة البلاد بأجمعها، فوجب أن لا يشارك الشعب في تسيير شئون البلاد وأن لا يكون هناك نظام نيابي ديمقراطي صحيح. والغاية امتصاص دماء البلاد والعباد، فوجب أن تكون القوة المسلحة مسلطة على كل مكافح وأن لا تكون هناك حريات عامة حتى لا يستعملها الشعب للمقاومة والكفاح. والغاية افتكاك كل ما يملك هذا الشعب من أراضٍ وموارد طبيعية، فوجب أن يثقل هذا الشعب اقتصاديًّا وأن يحرم من الحقوق الاجتماعية وأن يبقى جاهلًا فقيرًا، حتى لا تكون له قوة مادية ولا معنوية يزاحم بها الأجنبي أو يدافع بها عن ملكه وحقه.
وهكذا نرى الاستعمار يتلخص في أنه نظام سياسي أغراضه الاقتصادية والاجتماعية ووسائله العملية القانونية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، أغراض ووسائل منافية للمصلحة القومية التونسية منافاة جوهرية، ولا سبيل إلى الطمع في تحسين الحالة الاجتماعية وقلب الوضع الاجتماعي إلا بقلب الوضع الاقتصادي والوضع السياسي المتولد عنه، أي لا سبيل إلى الوصول إلى هدف واحد من أهدافنا النقابية، إلا إذا بدلنا النظام السياسي الاستعماري المنافي للمصلحة القومية بنظام اقتصادي وسياسي قومي بحت.
لقد كانت الطبقة العاملة التونسية ولا تزال، ولن تزال إلى يوم النصر والاستقلال وبعده، في مقدمة الكفاح القومي العام مؤازرة بدون تستر أو خفاء للحركة القومية التحريرية التونسية عاملة على نصرتها والانتصار بها ومعها.
ذلك أن الطبقة العاملة التونسية مؤمنة بأن حركتها ثورية انقلابية، لكنها ثورية لا على معنى العنف وانقلابية لا على معنى الفوضى.
بل هي حركة ثورية وانقلابية بمعنى أنها تريد أن يسود الحياة العاملة للمجتمع التونسي مبادئ سامية، وسلَّم من القيم العالية غير ما جاءنا به وفرضه علينا الاستعمار.
فنحن نريد أن نقلب أصول الحكم العامة التي يقوم عليها النظام الحالي … نريد أن يكون الهيكل السياسي خاضعًا مسخرًا، لا لخدمة رأس المال الأجنبي ولا مصالح طبقة أجنبية محفوظة، بل لخدمة مصلحة المجتمع بأسره والأمة بأجمعها.
لذلك نطالب: بأن يرجع للسيادة التونسية كامل وجودها وكامل حقوقها وسلطتها ونفوذها قانونيًّا وعمليًّا، لا لفظًا فقط؛ لأن ذلك من حقوقنا الطبيعية، ولأن أول ضمان للمصلحة القومية العامة لا يكون إلا في سيادة قومية، ويستحيل أن يكون في سيادة أجنبية أو شبيهة بالأجنبية.
ونطالب بأن يرجع إلى أعوان السلطة التونسية نفوذهم، وإلى الموظفين التونسيين كامل حق إدارة بلادهم؛ لأن عون السلطة والموظف وكيل عن الأمة خادم لها، ولأن أول ضمان لأمانة الوكيل وصدق الخدمة لا يكون إلا في لحمة الجنس ووحدة المصلحة الوطنية، وليس من الحق ولا من المعقول أن توكل على مصالحك الأجنبي الطامع فيك القادم لاستثمار بلادك واغتصاب مالك.
ونطالب بأن ينشأ نظام نيابي ديمقراطي يشتمل على النظام البلدي وعلى النظام البرلماني؛ لأننا لم نعد نرضى بمهازل المجلس الكبير ومن فيه من قرود الاستعمار ممن لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يعملون إلا لمصلحتهم الشخصية أو لمصلحة الأقلية المحظوظة التي ينتمون إليها، ولأننا لا نعترف للإدارة ولا لمشعوذي المجلس الكبير ولا للأجانب بحق سن القوانين العامة المنظمة لحياة الأمة، ولا بحق تقرير الميزانية العامة ومواردها ومصارفها، وهي حق من حقوق الشعب المقدسة التي لا يتصرف فيها شرعًا إلا وكلاؤه الذين ينيبهم عنه ويرضاهم ويختارهم ويمنحهم حق التشريع والتسيير، وميزانية الدولة خزينة عامة يجب أن يضطلع كل فرد بحظه من أعبائها على قدر طاقته المالية دون تمييز لطبقة على طبقة، ويجب أن تصرف في المصالح العامة دون تفريق لفريق من الناس على فريق، يجب ألا يقررها إلا من يختارهم الشعب اختيارًا ديمقراطيًّا حرًّا لذلك.
ونطالب بأن يكون هذا النظام النيابي الديمقراطي قائمًا على مبدأ تحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية معًا، ضامنًا لتمثيل الطبقات الشعبية والطبقات الشغيلة التمثيل المناسب لأهميتها وأهمية كدها وعملها ونشاطها، الذي هو أساس ازدهار الثروة القومية. ونطالب بذلك لأننا نريد أن يقوم نظام المجتمع التونسي المجدد على أسس إنسانية سامية هي التي تعمل الطبقة الشغيلة على تحقيقها، فليست غايتنا افتكاك ما في يد الطبقة المحفوظة الآن حتى نحل محلها ونصبح نحن المحظوظين، وليست غايتنا تسليط دكتاتورية العملة على الأمة، بل غايتنا تسليط العدل بيننا وبين سائر طبقات الأمة. وليست الخصومة بيننا وبين فريق من الناس لهم فوق ما لدينا، فنحن نرمي إلى امتلاكه منهم، بل الخصومة بيننا وبين مبادئ النظام الرأسمالي الجائر، نريد أن نعوضه بنظام قائم على العدل والمساواة في الحقوق بين الإنسان والإنسان، وعلى تقدير الكفاءة والاستحقاق بمقدار العمل الصالح النافع المنتج، وعلى أن قيمة كل إنسان ما عمل وما أفاد بعمله المجتمع.
فالناس يستوون مع الدواب في الحاجيات المادية من طعام وشراب ومرافق معاش، ومن الطبيعي أن يريد أي إنسان هذه الرفاهية المادية؛ لأنها أقل ما يستحقه الإنسان في الوجود، ولكننا لا نكتفي بها ونريد أن يكون معنى الحق عندنا فوق معنى المنفعة، ومعنى السمو والرفعة الإنسانية فوق معنى الرفاهية المادية والتحسين لأحوال معاشنا، نريد أن نغير سلم القيم الانتفاعية البحتة الخاضع لها مجتمعنا الرأسمالي ونظامنا السياسي الاستعماري.
وسوف لا نزال نكافح ونعمل مهما كانت الظروف، حتى نحقق لبلادنا هذا الرقي الإنساني، وحتى يعترف لنا بحق تدبير شئوننا بأنفسنا تدبيرًا حرًّا ديمقراطيًّا في ظل حرية الأفراد واستقلال الأمة، وسواء أكان المقتعدون لكراسي الحكم وزارة شعبية مجاهدة أو وزارة صورية خانعة وجيش استعمار متجبر، فإننا لن نعمل إلا في جانب العاملين على ضوء مبادئ الديمقراطية الكاملة التي نؤمن بها، ولن نألوا جهدًا في مقاومة كل حائد عن سبيلها.
ولهذا يرى المكتب التنفيذي من واجبه أن يطلب من الطبقة العاملة أن تتحد في هاته الظروف الدقيقة التي تغمر بلادنا؛ لأنه بالاتحاد المعزز بالثقة واليقظة وبالعمل الفعال، نتمكن من فك كل القيود والوصول السريع إلى مرامينا.
وإن الاتحاد يناضل ليتمتع العمال في تونس بحرية تكوين النقابات؛ إذ يستحيل على العامل المنفرد أن يطالب بحقه وأن يرفع عن نفسه الضيم إذا لم يتكتل مع إخوانه، فيكونون قوة تقف أمام قوات الرأسمال الاستعماري.
ويسعى للمحافظة على أكبر حق للعمال وأمضى سلاح عندهم، وهو حق الإضراب الذي يلجأ إليه العمال عند خيبة المفاهمات مع أصحاب العمل، الذين يستمرون عادة في استثمار عرق جبين غيرهم لو لم يتمكن عمالهم من إجبارهم على إعطائهم طلباتهم، وذلك بتعطيل الإنتاج أصلًا ووقف العمل.
وإن النقابات هي الضمان الوحيد للعمال لرفع مستوى معيشتهم وزيادة أجورهم على نسبة غلاء المعيشية.
ولا يكون العامل مطمئنًّا على حياته وحياة أسرته، ما لم تتحقق الضمانات الاجتماعية التي تمكنه من الحصول على التأمين ضد حوادث العمل، حتى إذا ما وقع له حادث أثناء العمل لا تموت عائلته جوعًا، وعلى حفظ صحته وصحة أبنائه بأن تكون مداواته على نفقة صندوق الضمانات الاجتماعية، وعلى المنح العائلية التي تُمنح له للترفيه شيئًا ما على عائلته، أو إمدادهم بالضروريات.
وبما أن المخالفات التي تتعلق بالعمل ليست من خواص المحاكم القضائية؛ فيتحتم إذن للسهر على تنفيذ القوانين النقابية تأسيس نوع خاص من المحاكم تطبق هذه القوانين وتكون كالحكم بين أصحاب العمل والعمال، ويكون من بين أعضائها من ينوب عن الاثنين، وتلك هي المحاكم العمالية التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للعمل بعد صراع دام سنوات، ولكنها لم تكن مطابقة لجميع رغباته؛ لأن الاستعمار يُفسد كل شيء، ولا يكون العامل مطمئنًّا على بقائه في عمله والمحافظة على مورد حياته، إلا إذا التزم صاحب العمل بالتزامات نحوه، وبما أن تلك الالتزامات ليست خاصة بعامل دون آخر، بل تشمل جميع العمال المشتغلين في مكان واحد، أصبحت العقود المشتركة أمرًا ضروريًّا لتحقيق الاستقرار للعمال.
(ب) نظام الاتحاد
يكتل الاتحاد جميع العمال بالقطر التونسي؛ أي كل من يرتزق بعمله ويعيش بكد يمينه أو بعمل فكره، ما عدا أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين وصيادلة الذين حجر عليهم قانون النقابات الانضمام إليها؛ ولذا نجد في الاتحاد العام التونسي للعمل، عامل الميناء وعامل المصنع وعامل سكة الحديد مثلًا، وإلى جانبهم الموظف الصغير والموظف الكبير وفراش المدرسة وأستاذ الكلية أيضًا، وكلهم منخرطون في صفوفه طبق نظام محكم دقيق.
فجميع العمال في صناعة واحدة أو عمل واحد يكونون في كل مدينة نقابة توحد صفوفهم وتقوم بالدفاع عن حقوقهم، وتتكلم باسمهم مع أصحاب العمل أو ممثلي الحكومة، وتديرها هيئة ينتخبها الأعضاء انتخابًا ديمقراطيًّا، وقد تكونت هكذا في مدن القطر التونسي مئات النقابات: كنقابة عمال ميناء تونس، ونقابة عمال شركة الترام، ونقابة عمال المقاهي والمطاعم، ونقابة المدرسين في المدارس الثانوية … إلخ.
وفوق النقابات نوعان من جامعات تجمعها، أما النوع الأول فهو الاتحادات الجهوية وعددها ١٣ اتحادًا، يسهر كل واحد منها على تسيير الحياة النقابية بجهتها ويكون كمرجع ومقر أساسي لها، وهي اتحادات تونس وبنزرت والكاف وباجة وسوق الأربعاء وزغوان ونابل والقيروان وسوسة وصفاقس وقفصة وقابس ومدنين.
وأما النوع الثاني فهي جامعات حسب المهن والصناعات، فجميع من يشتغل بالتعليم ينضوي تحت لواء جامعة التعليم، وجميع الموظفين متكتلون في جامعة الموظفين وكذلك عمال السكة الحديدية والمناجم والفلاحة وغيرهم.
وتشرف على الكل هيئة إدارية عليا يختار من أعضائها الهيئة التنفيذية للاتحاد العام التونسي للعمل التي يسيرها الأمين العام للاتحاد.
والمؤتمر هو الهيئة المهيمنة على الاتحاد المقررة لاتجاهاته العامة الواضعة لنظامه الداخلي، وهو يتكون من أعضاء ينوبون عن العمال مباشرة بعد أن يتم انتخابهم في نطاق النقابات، والمؤتمر هو الذي ينتخب الهيئة الإدارية.
(ﺟ) نشاطه في الميدان العالمي
كان كفاح الاتحاد في الخارج لا يقل أهمية عن كفاحه في الداخل، وقد وجد صعوبات جمة للاتصال بالحركة العمالية العالمية؛ لأن فرنسا لا تريد أن تسمح لمنظمة قومية تونسية بالاتصال رأسًا ومباشرة بالعالم الخارجي، فوضعت العراقيل المختلفة من احتجاجات وغيرها، ووكلت نوابها الرسميين وشبه الرسميين كلويس جوهو زعيم الحركة النقابية الفرنسية، وممثل فرنسا في المكتب الدائم للعمل بجنيف، والممثل السابق للنقابات الفرنسية رفقة لويس صيان في الجامعة العالمية للنقابات، ليعارضوا في انضمام الاتحاد للحركة العالمية، وكان الشيوعيون الذين انفلت من يدهم زمام القيادة النقابية بتونس قد كونوا أيضًا سدًّا منيعًا أمام الاتحاد في تلك الجامعة العالمية.
فلم يجد الاتحاد التونسي في أول أمره صدى لنداءاته ولم يتلقَّ جوابًا عن مطالبه، ولما أخذت بوادر الانقسام تظهر في الحركة العمالية وانحاز كل شق إلى معسكره، ذهب الشيوعيون مع روسيا والباقون مع أمريكا، إذ ذاك أرادت الجامعة العالمية للنقابات أن تعزز قواها، فدعت وفدًا من الاتحاد التونسي للحضور إلى مؤتمرها، ثم قررت قبول الاتحاد في صفوفها، ولكن سرعان ما تم ما كان متوقعًا من انقسام، وخرجت النقابات الحرة عن المنظمة العالمية، وكونت اتحادًا خاصًّا بها الجامعة العالمية للنقابات الحرة.
فإذا بها تراسل الاتحاد التونسي وترجو منه الانفصال عن المنظمة الشيوعية والانضمام إليها، ولم تقتصر على ذلك بل أرسلت نوابًا عنها إلى تونس للاتصال بعمالها وإقناعهم بما تسعى له لعلمها بأن الاتحاد العام التونسي للشغل أقوى وأنظم منظمة نقابية في أفريقيا كلها، فطرح الاتحاد تلك المسألة على بساط البحث في مؤتمره المنعقد في مارس ١٩٥١ والذي حضره كمستمعين نواب عن النقابات العالمية الحرة ونقابات الجزائر ومراكش وساحل الذهب ويوجوسلافيا ومدغشقر وبريطانيا والهند وفرنسا، وتوالت المناقشات الحادة، ولم يفز اقتراح الانضمام إلى النقابات العالمية الحرة إلا بثلثي الأصوات فقط؛ لأن قسمًا كبيرًا من العمال التونسيين وإن لم يكونوا شيوعيين إلا أنهم يرون في أمريكا الدولة التي تعزز الاستعمار الفرنسي بتونس، وتمدها بالسلاح الذي يفتك بالعمال التونسيين أنفسهم. وانضم هكذا الاتحاد إلى الجامعة العالمية للنقابات الحرة، وأصبح زعيمه الشهيد فرحات حشاد عضوًا ممتازًا في الهيئة الإدارية العالمية، ثم عوضه بعد موته نوري بودالي الذي انتخبه مؤتمر النقابات العالمية المنعقد في ستوكهولم (يوليو ١٩٥٣) خلفًا له.
وقد كان لانضمام الاتحاد إلى النقابات العالمية الحرة مفعوله الكبير في جلب أنصار يعدون بعشرات الملايين للقضية التونسية، وأصبح العمال في مؤتمراتهم العالمية أو في مؤتمراتهم الوطنية سواء بأمريكا أو بأوروبا أو بآسيا، يطالبون باستقلال تونس وبث الدعاية لها في بلدانهم ويساندون الاتحاد العام التونسي للشغل في عمله من أجل تحرير وطنه.
(٥-٢) الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة
وهو يجمع كل من يشتغل بالتجارة والصناعة من تونسيين، وقد كتل أغلبيتهم الساحقة في نقابات، لكل مهنة واحدة منها، تُشرف عليها اتحادات في الجهات المختلفة، مهمتها الأولى الدفاع عن مصالح أعضائها، ومهمتها الثانية — وهي لا تقل أهمية عن الأولى — توجيه الاقتصاد التونسي وإحياؤه، وتكوين المشاريع الإنشائية لتكون نواة لاقتصاد الغد. وقد شرع في تبديل الصناعات القديمة وإدخال التطور العصري عليها وتوجيه إنتاجها توجيهًا يماشي رغبات المجتمع. وقد تغير بالفعل في مدى شهور قليلة منظر بعض الأسواق التونسية التي عوضت البلغة (الحذاء المغربي القديم) بالأحذية العصرية، وكون شركات لمزاحمة الشركات الأجنبية مثالها شركة الثلج. وأحسن تنظيماته هي الشركات التعاونية كشركة إنتاج السجاد القيرواني وغيرها.
ويقوم أيضًا بتنظيم معارض كبرى للبضائع والإنتاج الصناعي التونسي.
وكان عمله مثمرًا جدًّا؛ إذ كتل الأغلبية الساحقة من التجار وأرباب الصنائع، حتى أصبح عدد أعضائه يفوق خمسة وخمسين ألفًا، اجتمعوا في نقابات، وانتظمت النقابات بدورها في اتحادات جهوية. ويسير الاتحاد كله هيئة إدارية ينتخبها المؤتمر العام الذي يجمع ممثلين عن النقابات، ينتخبهم الأعضاء العاملون مباشرة.
(٥-٣) الاتحاد العام للفلاحة التونسية
وهو أقوى المنظمات القومية عددًا، وأعضاؤه في ازدياد مطرد، وقد بلغوا في ديسمبر سنة ١٩٥٢ أكثر من مائتين وخمسين ألفًا.
وهو أيضًا أحدث المنظمات القومية تأسيسًا، ولكن ينبغي ألا ننسى أن تونس بلاد فلاحية قبل كل شيء، وأن الاستعمار الفرنسي يهدد المزارعين قبل غيرهم بانتزاع أراضيهم منهم بشتى الوسائل والتضييق عليهم أدبيًّا وماديًّا حتى يملوا ويغادروا أراضيهم بيعًا وهجرة، فيستحوذ عليها المعمرون الفرنسيون.
ولذا استجابوا لنداء اتحادهم بسرعة، فانتظموا في نقاباته التي غطت البلاد بشبكة محكمة، وتصدى الاتحاد لتلقينهم الروح التعاونية وذوبان مصلحة الفرد في مصلحة المجموع، ومصلحة الأفراد لا تتم إلا بمصلحة المجموع، وكون فيهم روح النظام والنقد الإنشائي والامتثال بعد الاقتناع.
وإن الإنشاء والبناء يسيران دائمًا جنبًا إلى جنب مع النضال والكفاح في جميع المنظمات القومية التونسية؛ ولذا نرى الاتحاد بعد أن اشتد ساعده وأرست أسسه، قام بتكوين الشركات التعاونية بين أعضائه. فلنذكر على سبيل المثال الشركة التعاونية التي تكونت في الوطن القبلي بين منتجي البرتقال، والشركة التعاونية لمنتجي التمور بجهة الجريد المسماة بشركة «النور»، وهو بصدد تكوين أكبر عدد ممكن من تلك الشركات سواء لبيع الإنتاج أو لشراء ما يحتاجه المزارعون، ولتعميم الأساليب العصرية في الفلاحة باستخدام الآلات الميكانيكية.
(٥-٤) الاتحادات الجهوية التابعة للاتحاد العام للفلاحة التونسية والنقابات التابعة لها
(أ) الاتحاد الجهوي بصفاقس، رئيسه: أحمد بن عياد
ويشمل نقابات: صفاقس، الصخيرة، سيدي عقارب، جبنيانة، المحرس.
(ب) الاتحاد الجهوي بسوسة، رئيسه: عمار شوشان
ويشمل نقابات: الوردانين، المنستير، معتمر، النفيضة، سيدي أبو علي، الساحلين، أكودة، القلعة الكبرى، حمام سوسة، قصر هلال، صيادة، بو حجر، خنيس، لمطة، جمال، طوزة، زرمدين، المصدور، مبزل كامل، بني حسان.
(ﺟ) الاتحاد المحلي بالمكنين
ويشمل نقابات: طبلبة، شراحيل، سيدي نعيجة، المكنين.
(د) الاتحاد المحلي بالمهدية
ويشمل نقابات: المهدية، قصور الساف، سيدي علوان، البقالطة.
(ﻫ) الاتحاد المحلي بمساكن
ويشمل نقابات: بني ربيع، البرجين، الكنايس، بني كلثوم.
(و) الاتحاد الجهوي بباجة
ويشمل نقابات: باجة، الفرنانة، سوق الأربعاء، غارة الدماء.
(ز) الاتحاد المحلي بالجبل الأبيض
ويشمل نقابات: الجبل الأبيض، بوشتاتة، رأس الرجل، الطبابة وفطناسة، طبرقة.
(ﺣ) الاتحاد الجهوي بتونس، رئيسه: محمد الهادي بن الحاج
ويشمل نقابات: مرناقة، الموسى، رادس، وادي الزرقاء، قلعة الأندلس، تستور، مجاز الباب، طبرية.
(ط) الاتحاد المحلي بطبرسق
ويشمل نقابات: قعقور، عين جمالة، طبرسق، دقة، الكريب، سيدي إسماعيل.
(ي) الاتحاد الجهوي بالقيروان، رئيسه: علي الحمامي
ويشمل نقابات: القيروان، سيدي عمر بو حجلة، البيخة، سيدي علي بن نصر الله، مشيخة القفي، الخنية، السفاية، سبيطلة، فريانة.
(ك) الاتحاد الجهوي بالوطن القبلي، رئيسه: الهادي المرايط
ويشمل نقابات: منزل بوزلفى، الحمامات، نابل، بني خيار، منزل تميم، تازركة، الصمعة، نيانو، قربة، المعمورة، بني خلاد.
(ل) الاتحاد الجهوي بالكاف، رئيسه: صالح بربوش
ويشمل نقابات: الكاف، تاجروين، السرس، أبو كسور.
(م) الاتحاد الملطي بقفصة
ويشمل نقابات: قفصة، بئر الحفي، سيدي بوزيد.
(ن) الاتحاد الجهوي ببنزرت، رئيسه: الحاج عبد الواحد الصفاقسي
ويشمل نقابات: بنزرت، غار الملح، رأس الجبل، فيريفيل، منزل جميل، رفراف.
(س) الاتحاد المحلي بمكثر
ويشمل نقابات: مكثر، الروحية، تالة، سليانة، كسرى، ريع أولاد يحيى، ريع سليانة.
ويضاف إلى تلك الاتحادات بعض النقابات المتفرقة.
ولنذكر بجانب تلك المنظمات القومية الكبرى «الاتحاد النسائي التونسي» الذي يجمع عددًا وافرًا من النسوة العاملات، وجامعة قدماء المحاربين التونسيين التي تكتل في صفوفها ما يقارب ستين ألفًا من قدماء المحاربين، والاتحاد العام للطلبة التونسيين، والاتحاد الكشفي التونسي، وقد ساند الحزب وأعان أدبيًّا وماديًّا على تأسيس وازدهار مئات من الجمعيات الأدبية والثقافية والرياضية؛ لأنها أحسن مدرسة لتكوين المواطن الصالح القادر على القيام بواجباته، ولأنها أيضًا تقوم بعمل إنشائي واسع عميق في جميع الميادين.
(٦) خاتمة
وهكذا أصبح الشعب التونسي شعبًا واعيًا مرتبط الأجزاء متكتلًا في مؤسسات قومية عتيدة، منظم القوى في جميع الميادين.
فإما أن تجيب فرنسا رغباته، وإما أن يرمي بتلك القوات في الميدان؛ لأنه اعتمد في كفاحه على الله وعلى نفسه أولًا وبالذات.
وعدد الاتحادات الجهوية التابعة له ١٣، ولنذكر مقرها مع اسم المسئول عن تيسيرها …
(١) تونس، الحبيب النيفر.
(٢) نابل، محمد سعد.
(٣) سوسة، محمد الشلبي.
(٤) القيروان، سالم المديمغ.
(٥) صفاقس، محمود كريشان.
(٦) قابس، الهامي العمراني.
(٧) جريسة، عبد الحميد القاضي.
(٨) قفصة، محمد فتاح.
(٩) توزر، الجديد بن الصادق.
(١٠) باجة، محمد يومون الغمراسني.
(١١) بنزرت، الحاج عبد الواحد الصفاقسي.
(١٢) سوق الأربعاء، عياد الباروني.
(١٣) الكاف، محمد كسرمه.