الفظائع
(١) تدبير الفظائع
ملأ الفرنسيون الدنيا صراخًا وطبقوها دعاية ضد الألمان النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وفضحوا الأعمال الإجرامية التي ارتُكبت مدة الاحتلال الألماني لفرنسا، وأبرزوا للملأ ما وقع في مدنهم وقراهم — وخاصة في قرية «أورادور» — من تقتيل الأبرياء وتعذيبهم والتنكيل بهم.
ولكنهم بتونس عاملوا عشرات القرى معاملة «أورادور» بل معاملة أشنع وأفظع، وظنوا أن أنين المظلومين لن يُسمع في العالم، وعويل الأرامل سيُكبت، وصراخ اليتامى سيغط، واعتقدوا أن الضعيف المقهور المغلوب لا يؤبه له، ولا يُلتفت إليه، ولا يُصغى لشكواه، وعلموا أن تونس في زمرة البلدان المغلوبة على أمرها المحتلة احتلالًا قويًّا جبارًا، المعدودة في عرف الدول الكبرى ملكًا لفرنسا، فيقول عنها الإنجليز كما يقول الأمريكان تونس الفرنسية.
وقد جربت فرنسا ذلك الأسلوب بالجزائر في عام ١٩٤٥ عندما قتلت أكثر من أربعين ألف جزائري — رجالًا ونساء وشيوخًا وأطفالًا — وقام الجنرال جارباي نفسه بقمع الحركة الوطنية بجزيرة مدغشقر، وقُتل في تلك الأثناء أكثر من مائة ألف لم تشعر بهم الدنيا، ولم يعِرهم الرأي العام العالمي التفاته، وأرسلته الحكومة الفرنسية إلى تونس بنفس النوايا وليقوم بنفس العمل، فلم تكن عملية «التطهير» في جهة الدخلة من باب الصدفة، بل كانت منظمة تنظيمًا محكمًا قد أُعدت خطتها من قبل، وسُطر برنامجها في غير غفلة ولا سهو، بضمير لا يرحم، وقلب لا يخفق وفقدان غريب لكل شعور إنساني، حتى أصبح كل تونسي يتساءل أين المدنية الفرنسية، بل أين المدنية البشرية؟ وأين الرحمة؟ وأين الإنسانية؟
تعرف الحقيقة كيف تفتح لنفسها سبيلًا لتُسمع صوتها رغم حالة الحصار، ونحن نقدم إليكم صوتَ واحدٍ من أعز مشتركينا، مربٍّ مسالم، لا همَّ له إلا إنارة عقول أطفال أفريقيا الشمالية وتثقيفهم:
أبعث إليك بهذه الأسطر في هذا الصباح المحزن، وفي جو ملؤه الغضب المستعر، وبين مصائب متدفقة في ساعة لم أسمع فيها إلا دويًّا مرتبكًا من الأصوات، ومن الأنين والشهيق المتدفق والبكاء بصوت مرتفع ممزوجًا بدويِّ المصفحات والطائرات المحلقة في سماء القرية.
إني أعتذر إليك إذا لم أجد الألفاظ اللازمة لأعبر عن الهول المحيط بنا، ومعذرة أيضًا إذا لم أتعقل في كلامي.
كنت قد حضرت بنفسي مأساتين مرجفتين متتاليتين، وشاهدت خلالها نساء بريئات وأطفالًا ورجالًا بؤساء يتساقطون ويتخبطون في دمائهم، وهم جميعًا عزل!
يقاوم في هذا البلد هدوء الرجال واطمئنان الأطفال المسرورين والمترنمين حين خروجهم من مدرستهم، وضعف النساء القلقات اللاتي ينتظرن أولادهن وينادين رجالهن، قلت تقاوم تلك الجماهير من الناس بجلب الرشاشات والدبابات والمفرقعات اليدوية وحتى بالمدافع.
انظروا إلى أولئك الشبان المرتدين الثياب البالية، وإلى أولئك الفلاحين المسنين المساكين، الراجعين من حقولهم حاملين معهم معاولهم أو قائدين إبلهم أو حميرهم، الماكثين هناك مطروحين على الأرض في غدران دمائهم، وانظروا إلى هذه المرأة التي بُقر بطنها، وهذه الأخرى التي شُجَّ منها الرأس، ثم يتكلم المتكلمون عن السلام!
لشد ما تمنيت أن أقص عليك تفاصيل هاتين المأساتين المتقدمتين — من بين كثير من المآسي — غير أني لم أملك أعصابي من شدة التأثر، قد خرجت الآن أمي؛ إذ إنه لم يُعثر على أخيها، كما فقدت جارة لنا — في آن واحد — أختها وبعلها، هذه قصة مصير المضطهدين الطالبين بغاية الهدوء إرجاع حقوقهم، هذا ما يتحمله الشعب من هذا المجتمع الاستعماري.
لا أدري هل تصل إليك هذه الرسالة! إن مرور البريد يكاد يكون منعدمًا بجهتنا، إنه ليس من واجبي أن أتناسى ذكر الزميلين التونسيين المنخرطين في منظمتنا، واللذين كنت أنتظر منهما إعانة فعلية لترويج أساليبنا وطرقنا الفنية. لقد اعتُقلا وأُخذا من فصليهما أول أمس، وقد اعتُقل آخرون كثيرون مثلهم، وأعتقد أن موعد اعتقالي قد لا يتأخر أيضًا؛ رغم أننا جميعًا لم نرتكب أية مخالفة.
نعم، إن وجوهنا لتحمر خجلًا وغيظًا نحن الذين شاهدنا حربين وعرفنا السجون والمحتشدات، يجب أن نفضح، وأنتم معنا، هذه الحملة الحربية التي تقع باسم الفرنسيين. إذن باسمنا جميعًا وبدم أبنائنا وبالأموال التي يحصل عليها الشعب بعرق جبينه.
لقد احتج الجنرال جارباي: «القائد الأعلى للجيوش بتونس» في تصريح لمراسل فرانس بريس الخاص، على الحملة الرامية إلى المسِّ بسمعة الجيش وخلق جو ملؤه الشكوك والريب يريده الدستور الجديد لتنبيه الرأي الدولي لتونس الشهيدة، قال: «بعد البحث الذي قامت به السلطة العسكرية المختصة، فإني أكذِّب بصفة قاطعة أن الجنود قاموا بقتل الأطفال في أي قرية من الدخلة أو أي جهة أخرى من القطر التونسي، عن قصد أو عن غير قصد.
ولم تسجل أي شكوى للمحاكم في هذا الموضوع من عائلات الأطفال أو من السلطات التونسية، وإنه من اختصاص القضاء الفرنسي بتونس وحده — الذي يبحث شكوى السلطة العسكرية على حملة الأكاذيب التي كان الجيش ضحيتها — أن يقوم بفحص جثث الأطفال الذين ماتوا بتازركة، إذا ما رأى مصلحة في ذلك.»
وأضاف الجنرال جارباي قائلًا: «صحيح أن تونسيين قُتلوا وجُرحوا أثناء الثورات والمظاهرات والعمليات البوليسية، ومات ثلاثون منهم لحينهم، وجُرح ما يربو على مائة وأربعين، مات ثلاثون منهم بعد حين، فليس هناك قتل ولا جريمة قتل. وقد حدث موت هؤلاء التونسيين إما أثناء اشتراكهم في المظاهرات التي انقلب بعضها إلى ثورات حقيقية، وإما عند فرارهم أثناء عمليات التطهير التي جاءت من بعد.
وإن عدد التونسيين الذين قُتلوا في هذه العمليات أربعة.»
وقد أيدت الجنرال جارباي في ادعائه الإقامة العامة الفرنسية بتونس، فأصدرت البلاغات تلو البلاغات زاعمة أن ما جرى في جهة الدخلة إنما هو مجرد عمليات تفتيش عن الأسلحة، وأن الجنود اكتفوا بالقيام بواجبهم البسيط. وقد علق الاتحاد العام التونسي للشغل على ادعاء الإقامة العامة في تقريره عن حوادث الدخلة قال: «ندرك اليوم بعد أن أصبح من الممكن مراجعة صحة الحوادث المذكورة مقدار الإجرام الذي اقترفته الإقامة العامة الفرنسية، عندما كانت تُصدر بلاغاتها المقتضبة عن تلك الحوادث، وتذيع نداء تدعو فيه السكان إلى الهدوء، وتخبر جلالة الباي بأن الحكومة الفرنسية مستعدة لاستئناف المفاوضات مع التونسيين، تلك الحكومة التي أرسل وزير حربيتها جيوش الرعب والوحشية يفتكون بالسكان الآمنين، كما افتضح الكذب والبهتان الذي تضمنه البلاغ الذي ذكر أن ثلاث بيوت فقط نُسفت، والواقع أن أكثر من ٤٠ بيتًا قد نُسفت بالديناميت وعشرات من البيوت نهبت.
وهل كان لا بد من نسف البيوت لتفتيشها؟!»
زعم أن المقصود من العمليات المذكورة هو تجريد السكان من الأسلحة، ونشرت بعض الصحف أن ترسانة كاملة عُثر عليها، ويستفاد من بلاغ أصدرته الإقامة العامة أنه عُثر على الأسلحة الآتية:
٣٥ بندقية حربية، ٢٣ بندقية صيد، ١٣ بندقية من نوع قرايين ومدفع هاون واحد رقم ٨١، ٢ مدافع رشاشة، ٩ مسدسات رشاشة، ١٢ مسدسًا، ٢٠ لغمًا.
ولكن كيف يمكن تصديق هذه الإحصائية بعد أن زعم البلاغ الذي تضمنتها كذبًا أن ثلاث بيوت فقط نُسفت، ولم يذكر أن أسلحة الصيد كانت بيد أصحابها وفق تراخيص قانونية، ولم يذكر أن معظم الأسلحة الحربية التي تركتها جيوش المحور لم تعد صالحة للاستعمال.
والأعجب أن كلًّا من الجنرال جارباي والمقيم العام لم يكتفيا بالتكذيب، بل جرَّا أمام المحاكم الفرنسية بعض الصحف التونسية التي نشرت شيئًا من الحقيقة عن حوادث الدخلة، ورفعا قضايا على كل من يتحدث عنها لكمِّ الأفواه.
سمعت إذن نداء المقيم العام وما احتوى عليه من تلخيص للتاريخ القريب، فقد تحدث عن حركة القمع بجهة الدخلة قائلًا إنها: لم تفق في شدتها الدرجة التي كان ينتظرها الإنسان من حركة مثلها.
وقد ذهبت إلى جهة الدخلة معتمدًا على تجربة أكسبتني إياها أربعون سنة في المحاماة وفي وظائف عامة مختلفة، ويؤسفني أن أقرر أن التقرير الذي أعطوه لنا عن حوادث الدخلة لا يوافق الحقيقة، ولكن الإجراءات التي اتخذت كانت موافقة للأوامر الكتابية التي بيدي الآن والتي أصدرها الرجل المسئول، وإن تلك الأوامر في أقصى درجات العنف، وأنا أقرأ منها جملتين:
تكون معالجة كل قرية على حدة، واحدة واحدة، بكيفية تطمن السكان: اعتقال المشبوهين إما افتكاك أو استلام الأسلحة والذخيرة، وفي حالة المقاومة المسلحة يكون العمل بعنف إلى فناء أو استسلام تام من جانب الثائرين.
لا يمكن استعمال الأسلحة الثقيلة في أي حال من الأحوال، ولكن الرشاشات مرخص بها.
وقد تمكنت من بحث الحالة بالتدقيق، ولم يكن في جهة الدخلة غير التخريب المقرر المنظم من قبل، والذي أريد أن أقوله هو أن التخريب كان متناسقًا بطريقة مضبوطة بعد انتهاء الاضطرابات، لقد خربوا بالديناميت عددًا كبيرًا من البيوت الواحد تلو الآخر.
في القرى الثلاث التي زرتها خربت أكثر من عشرة بيوت، إنه لا محالة لا يعد خروجًا عن القانون أن تخرب عمارة أثناء عملية حربية؛ إذ ذلك من الضروريات الحربية.
وليس خروجًا عن القانون أن يعاقب شخص ارتكب جريمة أو جنحة عقابًا مناسبًا لجريمته أو لجنحته.
ولكن مما ليس في القانون في شيء، ومما يسمى في القانون الدولي بحملات تأديبية تأباها الأخلاق ويحرمها القانون، هو بعض العمليات التي جرت بتونس.
إن تلك الحملات التأديبية لا يمكن أن تستساغ في زمن الحرب، أما في حالة السلم، فهي لا تُقبل أصلًا من باب أولى وأحرى كما تعلمون، وخاصة أثناء عملية ليست بعملية حرب ولكنها عملية تخريب منسق.
هذا التقرير (يعني تقرير جارباي) يدل على أن العملية كانت مدبرة حقيقة إرادية منسقة، قد صرح الجنرال جارباي أنه أمر بها، وزاد قائلًا: إن حدود أوامره لم تُتعد في أي وقت من الأوقات.
فقد ساد الرعب جهة الدخلة مدة ستة أيام من ٢٨ / ١ / ١٩٥٢ إلى ٢ / ٢ / ١٩٥٢، ففي تلك الفترة قامت الجيوش الفرنسية (ومن بينها جنود المظلات المرسلون من فرنسا وجنود الفرقة الأجنبية، ورجال الدرك، ومعهم عدد وافر من المستعمرين الذين جُندوا لهذه المناسبة) بضرب حصار شديد على الجهة، ومنع الدخول إليها والخروج منها بعد تطويقها بالدبابات والمصفحات والقوات المسلحة، وشرع الجند في عمليات حربية حقيقية داخل المنطقة في ظل الحصار المضروب عليها وتحت ستار من الحديد والنار، وقد علق الاتحاد العام التونسي للشغل في تقريره على ما شهده ممثلوه بالكلمات الآتية:
إن تلك القرى أصبحت اليوم على حال تكفي مشاهدتها للحكم على السياسة الفرنسية بتونس حكمًا لا يقبل مراجعة أو نقدًا، فقد كانت تلك القرى ضحية للبطش الوحشي الذي لم يراعِ أحدًا، بل أصاب السلطات المحلية التونسية ذاتها، وكانت الجرائم مدبرة، وكانت في شكل حملات تأديبية محكمة التنظيم نُفذت بوحشية لا مثيل لها.
وضعت قائمة المسيرين والمشبوهين في كل قرية، ومساندة الجيش ضرورية لإلقاء القبض عليهم في هذه الجهة.
وزاد الكولونيل قائلًا: وأسلوبنا هو أن نطوق كل قرية وندخلها ونعطي قائمة المشبوهين إلى رئيس القرية، ونقوم بعملية «التطهير» حول القرية لنلقي القبض على من يحاول الفرار، ونرسل المعتقلين إلى محتشد «ريفيار» وتقع عملية «التطهير» في شبه جزيرة الدخلة من الجنوب نحو الشمال. وسنصل على طريق الشاطئ إلى قرى في أثناء عملية «التطهير» طوقت «دار شعبان» في ضواحي نابل، ووقفت دبابة في الطريق المؤدية إلى داخل القرية، وفي الساحة الرئيسية جماعة من الأهالي أمام جندرم يراجع — وهو متردد — قائمة أسماء، وحولهم بعض جنود يحملون رشاشات صغيرة. وفي آخر الساحة بين عمارتين جماعات أخرى لابسين الجبة يشاهدون المنظر.
ثم عرجنا نحو الشرق على طريق سليمان الذي يشق شبه الجزيرة، وكان محروسًا كله بالجنود للقبض على الهاربين.
(١-١) عمليات القمع وفظاعتها
تارزكة، وهي قرية صغيرة في معزل عن الطرق الرئيسية، مشهورة بنشاط أهلها وحبهم للعمل، واشتغالها الرئيسي بالزراعة، وعدد رجالها لا يتجاوز السبعمائة، وقد تشكلت بها شعبة دستورية ككل القرى التونسية يرأسها شاب عُرف بالحزم والصلابة، هو وحيد المسعدي، وقد اشتهرت تارزكة بوطنيتها، وشاركت مشاركة فعالة في تاريخ الحركة القومية، واصطدمت بالقوات الفرنسية عام ١٩٣٨، وحُكم على عدد من شبانها الذين مات كثير منهم في السجون الفرنسية وخاصة بسجون الجزائر، فهي تشاطر الشعب كله آماله وآلامه؛ تعيش عيشة هادئة ساكنة كأنها مكونة من عائلة واحدة، وليس فيها درك ولا بوليس فرنسي. ومن الملاحظ أنه لم ترَ فائدة في القيام بمظاهرات، ولم يلقَ القبض على أحد من أبنائها خلال المظاهرات التي حدثت في المدن المجاورة لها، ولم يمنعها ذلك من أن كانت أول مسرح للبطش الفرنسي بجهة الدخلة.
وحوالي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم ٢٩ / ١ / ١٩٥٢ سمعت زوجة الشيخ (العمدة) طرقًا على الباب، فأيقظت زوجها، ولما فتح الباب وجد نفسه أمام جماعة من الجنود الذين طلبوا منه أن يدعو مناديًا لجمع السكان في الميدان العام.
وكانت تازركة في ذلك الوقت مطوقة بالجنود (الفرقة الثالثة من عساكر المظلات التابعة للفيف الأجنبي التي أتت من فرنسا أخيرًا، وكان الدرك الفرنسي المحلي يقوم مقام الدليل لإرشادهم)، وأخذ بعض الجنود يتسلقون السطوح بينما أسرع السكان يجتمعون، ومنذ اللحظات الأولى أُطلقت النار على مصطفى بن محمد المسعدي عند دخوله أحد الشوارع المؤدية لميدان الاجتماع، فخرَّ صريعًا، كما جُرح أحد الضباط برصاصة كانت موجهة إلى الشهيد، ثم عُرض جثمان مصطفى بأمر عسكري أمام الجموع في الميدان العام، وتُرك هناك مدة ساعتين.
وبعد حشد الرجال ذهب بعض الجنود إلى البيوت يبحثون عن المتخلفين الذين بلغ عددهم ٥٥ شخصًا أكثرهم من الشيوخ والعجز، وطلب إذ ذاك ضابط الجند بواسطة الشيخ (العمدة) أن تسلَّم له جميع الأسلحة، ورافق الجنود أصحاب الأسلحة إلى بيوتهم لجلبها. ونُفِّذ الأمر وسلِّمت، وهي مكونة من بنادق «الشرطية» (وهم أعوان العمدة في المحافظة على الأمن)، ومن بنادق صيد لأصحابها رخصة في حملها.
وإذ ذاك قُدِّمت للشيخ قائمة بها ١٥ اسمًا طُلب من أصحابهم الحضور، فتقدم أربعة من المذكورين بالقائمة، وأُمروا بالالتحاق بمن سلَّموا بنادقهم وأُوقفوا جميعًا، وتقدم الضابط، وأعلن أنه في حالة عدم حضور التسعة أشخاص الآخرين قبل الساعة التاسعة والنصف؛ فإن الجنود ستهدم بيوت تازركة وتبتدئ ببيت وحيد المسعدي أحد المتغيبين، وأضاف أن وحدات أخرى من الجيش ينتظر وصولها، ولم يسمح لأحد بالذهاب للبحث عن المتغيبين.
وفي انتظار نهاية الأجل المضروب طلب إلى الشيخ أن يأمر بتموين الجنود وتحضير طعام الكسكسي لهم.
ووصلت وحدات أخرى من الجيش مكونة من جنود المظلات خلال فترة الانتظار، وأخذوا ينتشرون في البيوت حيث بدأت عمليات النهب والتهديم. وحوالي الساعة العاشرة والنصف سُمع أول انفجار كبير، وقد كان هذا الانفجار في بيت الحاج عبد الرحمن المسعدي والد وحيد، فنُسف البيت، ثم أتى دور بيت على المسعدي واستمر النسف إلى الظهر.
وبقي الرجال مجموعين في الميدان العام تحت حراسة جيش كامل إلى ما بعد الظهر من غير أكل ولا شرب. وقد برقت عيونهم أملًا عند قدوم «الكاهية» (نائب المدير) والمراقب المدني الفرنسي بنابل في وقت الغروب، ولكنهما انصرفا بعد نصف ساعة وصرحا بأن العمليات الجارية تنفَّذ بأمر السلطات العسكرية، وأنهما لا يستطيعان التدخل بوصفهما موظفين مدنيين.
وقد عاث الجنود في البيوت فسادًا نسفًا ونهبًا لغرض ظاهر للعيان، وهو إلحاق الضرر بالأهالي بتهديم بيوتهم وتحطيم ما فيها من أثاث ومدخرات ومؤن.
أما بيت الحاج إبراهيم المسعدي، فقد نُسفت به ثلاث غرف ولم يبقَ منها إلا أكداس من الحجارة والغرف الأخرى بها بقايا الأثاث المحطم والملابس الممزقة المبعثرة على الأرض، وكانت آثار الزيت المراق وكمية كبيرة من الحبوب الملوثة بالتراب تُرى بمخزن المؤن وفي صحن المنزل.
وانهار نصف بيت علي المسعدي شقيق السابق تمامًا، كما تداعت للسقوط البيوت المجاورة في دائرة نحو ١٠٠ (مائة) متر، ويخيَّل للإنسان أنه أمام قذف جوي، وقد حُطِّم الأثاث وكُسرت مرايات الدواليب بمؤخرات البنادق ومُزقت الملابس وبُعثرت على الأرض.
ونُهب بيت مصطفى بن عثمان وكيل الأوقاف، وأُتلف جميع ما فيه، ولم يبقَ به إلا القليل من الأمتعة الصالحة للاستعمال.
وهُدم بيت محمد قاسم الزكار نسفًا «بالديناميت».
ونُسفت بالديناميت أيضًا بيوت صالح وعلي ومحمد برينيس، وحُطِّم جميع ما فيها من أثاث، كما تداعت للسقوط جدران أحد المنازل المجاورة لها.
أما بيت الصادق بن الحاج فلم يُنسف، ولكن حُطِّم جميع ما فيه، وأُتلف مخزن التموين، وأُهرق الزيت وسائر المواد الدسمة على الأرض وخُلطت بالتراب، لتكون غير صالحة للاستعمال، وكُسر به دولاب بلوري لمصوغات الأم وابنتها، وسُرقت منه المصوغات ومبالغ من المال، ووقع تفتيش النسوة اللاتي كن بالبيت وعوملن معاملة وحشية أُجهضت إحداهن إثرها، وهي حنيفة بنت الصادق بن الحاج التي كانت حاملًا في شهر الثالث، وقد بقيت علامات الصدمة الشديدة التي تلقتها ظاهرة عليها بعد أيام، وجُرِّدت بية بنت الصادق بن الحاج من حليِّها وعوملت معاملة وحشية أيضًا.
ونُسفت إحدى الغرف من بيت العروسي بن محمد درويش بالديناميت فانهارت جدرانها، ويشاهد في الغرف الأخرى نفس المنظر المشاهد في غير هذا البيت: أثاث محطم، وأدراج مكسرة، وآثار ضرب على المرايا، ومؤن متلفة، وقد اجتمع به عشرة من النسوة ممن هُدمت بيوتهن وتُركن بدون مأوى.
ونُهب بيت الحاج الطاهر بن الحاج (أمين التموين) وأُتلف ما به.
ونُهب أيضًا بيت المولدي برينيس (تاجر وصهر عمدة البلدة) وأُتلف ما به وجُرِّدت الزوجة، وهي بنت العمدة من حليِّها، تحت التهديد بالحراب.
وفتح الجنود صندوقًا كان ببيت البشير صفر، ونهبوا منه أمتعة شقيقي صاحب البيت.
وأتلف الجنود جميع ما في بيت خدوجة ناجية، وهي أرملة تعيش مع بناتها الأربع، فدخل الجنود عليها وسرقوا «جهاز» البنات.
ونُهب بيت محمد بن حسين التازركي سكرتير كاهية (نائب حاكم) نابل، وكان صاحبه غائبًا يقوم بواجبات وظيفته بنابل.
وقد سلِم بيت الشيخ (العمدة) الحاج عامر بن محمد ناشي من النهب بسبب تدخل المسيو دوباس، الطبيب الفرنسي ببلدة قربة المجاورة، وكان يومئذٍ في تازركة.
أما مكتب العمدة، فقد اقتحمه جندي رغم تدخل أحد أعوان الدرك، وبُعثرت الأوراق الإدارية. ويلاحظ أن الشيخ بادر في اليوم التالي خشية من أعمال نهب جديدة بتسليم جميع موارد الضرائب التي حصلها اعتقادًا منه بأن تلك المبالغ الكبيرة لم تعد في مأمن في صندوق المشيخة.
وما عدا البيوت الخاصة أصيبت محال أخرى منها خمس دكاكين بقالة؛ نُهب جميع ما فيها من المواد، كما نُهب دكان الحلاق صالح جويعة.
وكذلك نُهبت مكاتب المأذونين ومُزقت الدفاتر والعقود وغير ذلك من الوثائق الرسمية، وبُعثرت على الأرض. وحاول الجنود إحراق تلك الأوراق، وشاهدت البعثة الوزارية التونسية فعلًا أوراقًا محترقة تثبت ذلك فيما يبدو.
ولم يكتفِ الجنود بتلك الأعمال الوحشية، بل أرادوا المس بدين التونسيين وإهانته، فدخلوا مسجد القرية من بابه الرئيسي ومن الباب الخلفي، ومزقوا مصاحف القرآن وبعض كتب الحديث الشريف والفقه الإسلامي، وكانت آثار هذا الانتهاك للمقدسات واضحة بينة لما زارت البعثة الوزارية التونسية قرية تازركة.
بينما كان الجنود الفرنسيون يقومون بتلك العمليات الوحشية، كان رجال القرية محشورين في الميدان العام مهددين طوال اليوم، وعند المساء سيقوا إلى بيت محمد بن سعيد حيث اعتُقلوا الليلة كلها تحت الحراسة المسلحة، وكانوا يسمعون إلى الصباح — دون أن يستطيعوا حراكًا — صراخَ نسائهم اللواتي يتصارعن مع الجنود، كما كانوا يسمعون الأبواب تتفتح ودوي الطلقات النارية.
وقد أظهرت بعض النسوة من الشجاعة ورباطة الجأش ما جعلهن مثالًا للرجال الوطنيين أنفسهم، فاشتهرت من بينهن الآنسة صلوحة بنت محمد درويش التي أصبحت بطلة تازركة ومثالًا للوطنيات التونسيات؛ فقد دافعت عن بيت أبيها لما اقتحمها العساكر وأخرجتهم منه، فرجعوا في عدد أوفر وتجددت المعركة وهي كاللبؤة دفاعًا واستماتة، فانهال عليها الجنود ضربًا وهي ترجع الضربة بأختها، ولم يتغلبوا عليها إلا بعد أن استخدموا الحراب، فطعنوها عدة طعنات بقيت جروحها بينة في جسدها، وظنوها ماتت، فغادروا المنزل.
وكانت في الوقت نفسه تجري معركة محتدة في بيت الصادق بن سعيد، فقد ناضلت فاطمة بنت محمد نضالًا مريرًا لانتشال ابنتها من يدي أحد الجنود الذي كان يريد اغتصابها، وحمت ابنتها بصدرها فانهال عليها الجندي ضربًا بكعب حذائه، وبقيت آثار هذا الضرب على جسمها، ولكنها رغم ما لحقها من الضر لم تستسلم، فجن جنون الجندي، فاعتدى على الجدة التي كانت تستغيث وضربها ونهب منها بعض متاعها.
وكان التنكيل بالتونسيين يرمي إلى إذايتهم إذاية عميقة والمس بتقاليدهم وروحانياتهم؛ ولذا أُطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب رجالهن، علمًا من المستعمر أن كل امرأة مسلمة تُنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر، وتصبح كأنها منبوذة من المجتمع. ويحدث دائمًا أن زوجها ينفصل عنها وعن أهلها ويضمر لها البغض والكراهية، فلم تكتفِ العساكر الفرنسية بالتخريب والنهب، بل اعتدت على شرف التونسيات وكرامتهن، وكان التحقيق في هذا الأمر دقيقًا صعبًا، وقد استعملت الدكتورة الآنسة غيلب والقابلة السيدة بدرة الورتاني كثيرًا من اللباقة للحصول على بعض المعلومات.
-
ج. ب بنت: سنها ٢١ سنة، اغتُصبت وعاينَّا آثار رضٍّ على فخذيها من الداخل، وقد تناوب عليها ثلاثة جنود.
-
ب. بنت س: سنها ٢٥ سنة، كانت حاملًا في شهرها الثالث، تتبَّعها الجنود وضربوها وأجهضوها.
-
ﻫ. بنت س. ب: سنها ٢٥ سنة، نُزعت ملابسها واغتُصبت بينما كان السلاح مصوبًا نحو عنقها.
-
م. بنت ك. ج. ا: سنها ١٦ سنة، انتُشلت من فراشها، وعندما هددها الجند بالاغتصاب فرت هاربة وألقت بنفسها في بئر انتُشلت منه فيما بعد.
-
ﻫ. بنت س: سنها ١٧ سنة، حاول الجند اغتصابها.
-
م. بنت م. د: سنها ١٢ سنة، حاول الجند اغتصابها.
-
ر. بنت س. ب. س. ج: سنها ١٥ سنة، محاولة اغتصاب، ارتمت أمها عليها لحمايتها فضربها الجند ضربًا مبرحًا.
-
ك. بنت ا. ن: سنها عشرون سنة، هربت عند قدوم الجيش وحاولت الانتحار، ولكن أحد الجنود أمسك بها ومنعها من الصراخ بأن وضع ثوبًا على فمها واغتصبها، ثم سلب منها حليَّها الذهبية، وهي تتألف من سوار وخلخالين.
-
ن. بنت ب. س: وسنها ١٨ سنة، تملَّكها الرعب، فاختفت وراء أمها التي تبلغ ٥٠ سنة، وحاول جندي سحبها إليه، فحاولت أن تحميها بجسمها، فضربها الجندي على وجهها. وقد شاهدنا آثار الضرب عند مستوى العين اليسرى، واغتُصبت البنت.
-
ن. بنت ب. س: شقيقة (ن) وسنها ١٦ سنة، اغتصبت أيضًا.
يظهر أن حوادث الاغتصاب كانت أفظع الحوادث التي دارت في تلك الليلة المزعجة، وذكر لنا أن كثيرًا من الأمهات كن يُخرجن بناتهن من الغرف ويدفعن بهن إلى البئر للارتماء فيها، وتوسلت الكثيرات من النسوة بأطفالهن الرضع للجنود طلبًا للشفقة والرحمة، وكان المعتدون يثورون من هذا المنظر، فيقتلون الأطفال دوسًا بالأقدام بعد إلقائهم على الأرض.
وهناك بنت تبلغ من العمر ١٦ سنة وشقيقها الصغير كانت تحمله على ذراعيها، لم تسلم هذه الفتاة إلا بفضل فكرة طرأت لوالدتها، وهي لفها مع الطفل في سجادة ووضعها في مخبأ أرضي.
وكانت النسوة بعد أيام من تلك الحوادث يتحدثن إلى الصحفيين أو إلى البعثات الحكومية الرسمية ويجهشن بالبكاء، ومن بينهن الكثيرات ما زلن في حالة غيبوبة وذهول، ومنهن من اضطربت أعصابهن.
- (١)
فاطمة بنت محمد بن صالح ناشي وسنها ٢٠ يومًا، عُثر عليها وعلى وجهها آثار الاختناق بعد مرور الجنود ببيت أهلها، وماتت في اليوم التالي.
- (٢)
صالح بن محمد بن حسين ناشي وسنه ٤٥ يومًا، داسه أحد الجنود بالأقدام عندما أبت أمه الاستسلام إليه وهو يريد اغتصابها.
- (٣)
زهرة بنت بشير غلاب سنها ٥ أشهر، انتُشلت من بين يدي والدتها وألقيت بعنف على الأرض، وقد هربت أمها وتركتها ميتة عندما حاول جندي الاعتداء عليها واغتصابها.
- (٤)
فضيلة بنت محمد بن محمد قاسم وسنها سنة وستة أشهر، ألقاها جندي على الأرض، وقد فرت أمها إلى السطوح فلحق بها واغتصبها، وعندما عادت إلى بيتها وجدت فضيلة ميتة. وقد جُرحت الأم جراحات من أثر طعنات السونكي وخاصة بذراعها الأيسر ويدها اليمنى.
ونهب الجنود من بيت الحاج محمد الخاي جميع ما فيه من ملابس، وكمية من المال قدرها خمسون ألف فرنك، وأربع أسورة من ذهب وثمانية أقراط من ذهب أيضًا وكمية كبيرة من مؤنه، ودمِّر جميع ما بقي وكُسر الأثاث كله.
وقد سلب أحد الجنود من السيدة شاذلية بنت الشيخ (العمدة) عمر الناشئ أساورتها وأخراصها، وحاول أبوها أن يسترجعها بواسطة جندي آخر فلم يفلح، فسأل ذلك من الملازم قائد الفرقة فأُرجعت له إذ ذاك الأساور فقط، واحتفظ الجندي بأخراص السيدة شاذلية المسكينة.
وبعد أن فارق الجيش الفرنسي تازركة يوم ٢٩ / ١ / ١٩٥٢ رجعت إليها من الغد وحدات عسكرية جديدة في الساعة السابعة صباحًا، وإذا بمنادٍ يدعو السكان للتجمع، ثم ينادي عن التسعة أشخاص الذين كانوا غائبين بالأمس، وذهب عشرون من سكان القرية للبحث عنهم وعادوا بواحد منهم فقط؛ لأن الغائبين لم يكونوا في تازركة، وبعد الظهر أُطلق سراح الرجال، ولم يغادر الجنود تازركة إلا في الساعة الخامسة صباحًا من اليوم التالي، ولكن على الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر من ذلك اليوم انزعجت القرية من جديد عند سماع طلقات المدافع الرشاشة، ثم قدم الجنود وطوقوا القرية وأخذوا يتسلقون السطوح، وجيء بالسيد الشافعي بن الطيب المسعدي جريحًا، وقد أطلق عليه النار خارج القرية على الرغم من أنه رفع يديه وسلم نفسه للجندي الذي كان يريد اعتقاله، وعرض في الميدان العام وهو مصاب برصاصة في بطنه، وبعد ذلك جاء الشيخ وحمله في سيارته، وقد توفي في مستشفى التحرير في ٣ فبراير، ولما شاهد الشيخ أن الأمر يتطور إلى الخطورة خاطب كاهية نابل (نائب حاكمها) بالتليفون وطلب منه النجدة، فقدم الكاهية مع أعوان الدرك، ومضت الليلة بدون حوادث تذكر.
وكان يوم أول فبراير هادئًا نسبيًّا؛ إذ اقتصر الجنود على صيد الدجاج وجميع الدواجن التي أبيدت عن آخرها، وغادر العساكر القرية نهائيًّا يوم السبت ٢ فبراير، وطلب ضابطهم من الشيخ (العمدة) أن يبحث عن أربعة جنود إيطاليين تابعين للفيف الأجنبي، انتهزوا فرصة الحوادث للفرار من الجندية.
وأخيرًا يلاحظ أنه بالإضافة إلى كل ما حدث للسكان، فقد حُكم عليهم بغرامة حربية قدرها ٨٠٠٠٠ فرنك بأمر من المراقب المدني الفرنسي لسبب قطع عمود تليفوني، وقد ضرب المراقب المدني لدفع تلك الغرامة أجلًا ينتهي في ٣٠ / ١ / ١٩٥٢ الساعة السادسة مساء، وإذا تأخر الدفع تُتخذ تدابير قمع ضد السكان، ولكن التدابير نُفذت قبل حلول الأجل المضروب.
إن السلطات المحلية بتازركة تفتح تحقيقًا مع كل قادم إلى تازركة في زيارة لأهله أو أصدقائه، وتمنعه من الإقامة بها أكثر من بضع ساعات، كما تفتح بحثًا مع المضيف أو القريب الذي ينزل عنده الزائر، وهكذا حيل بين كثيرين من أفراد العائلات التازركية المقيمين بتونس وبين زيارتهم لذويهم، فهل طبق نظام السجون بتازركة؟!
(أ) قرية بني خيار
طوَّق الجيش الفرنسي هذه القرية واحتلها من يوم الثلاثاء ٢٨ يناير إلى يوم الجمعة أول فبراير، وهدم في اليومين الأولين ثمانية بيوت، هذه أسماء أصحابها: محمد بن علي الضاوي، حمدة بن محمد الشتيوي، محمود بن المولدي السيد، الصادق بن محمد يحيي، المولدي بن حسين بن ناجي، محمد زرياط، ورثة الشيخ حامد زمتر، ورثة محمود سلامة.
وكانت الدبابات وهي تنتقل بناحية مقبرة القرية أصابت بعض البيوت فألحقت بها ضررًا، وقد جمع الجنود في بيتين اثنين جميع الأثاث وأضرموا فيه النار، وأحرقوا مكتبة قيمة للسيد المشارفي، وكانت بها مؤلفات ثمينة وكمية من المال، ونهبوا بيوتًا كثيرة منها بيت محمود بن محمد عزوز والعورسي بن محمد بوسنينة، كما نهبوا دكان ساعاتي وأرغموا محمد بن الحبيب هويسة على إحضار كمية كبيرة من الطعام وتقديمها للجنود، فقال أحدهم لمضيفهم بينما كانوا يتناولون الطعام: «هذا بيت جميل لا ينقصه إلا شحنة من الديناميت»، وكانت نكتة لها وزنها واعتبارها.
وقد اضطروا تحت التهديد أحد قدماء المحاربين إلى تسليم شقيقه عبد القادر الذي كان الجنود يبحثون عنه؛ لأنه من أتباع الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد، وبعد ذلك نسفوا بيت المحارب القديم.
وجمعوا معظم رجال القرية في مقهى وحكموا عليهم بالوقوف طوال ليلة كاملة، وإذا حاول أحدهم الجلوس بعد أن ناله التعب والجهد انهال عليه الجنود ضربًا مبرحًا، وهجموا على بقية الناس وطعنوهم بالسونكي في ظهورهم.
وقد حاول الجند اغتصاب منوبية بنت صالح وسنها ٢٥ سنة، فاندفع أربعة رجال للدفاع عنها فأصيب واحد منهم بطلقات من مدفع رشاش فسقط جريحًا.
ولا يتصور التونسيون أن العساكر الفرنسية يمرون بمكان من غير أن ينشروا التخريب والاغتيال والتعذيب والتنكيل، وقد عُذب محمد بن محمد عزوز أحد قدماء المحاربين في بيته، وأرغمه الجنود على حفر قبره بنفسه ووضعوه فيه حيًّا وهالوا عليه التراب، وكانت له يد مبتورة بقيت خارج القبر، وأخذ يستغيث وكان منظره مزعجًا رهيبًا. ولما علم الجنود أنه من قدماء المحاربين الذين كانوا معهم في أثناء الحرب أخرجوه من القبر، ولكنهم تمادوا في تعذيبه والتنكيل به طوال الليل، وأخيرًا أحرقوا متاعه أمام عينيه وأتلفوا مكاسبه، ثم تركوه هو وأبناءه العشرة — وغالبهم صغار — في حالة من التعاسة والبؤس والفاقة يرثى لها، وقبل أن يغادروا البيت طعنوه بالسونكي من خلف قائلين له: لا بد أن يبقى في جسمك أثر كذكرى لهذه الليلة.
وجرحوا عددًا من السكان من بينهم حمادي بن خميس مرابط ومحمود بن خميس مرابط ومحمود بن محمد عزوز، وقتلوا محمد بن أحمد الجمالي بينما كان يتبول.
وقد فرضت على «بني خيار» غرامة حربية قدرها مائة ألف فرنك.
(ب) مدينة قربة
وهي المدينة الوحيدة في جهة الدخلة التي نجت من التهديم والتحريق والتقتيل، مع أنه كان من المقرر أن ينالها ما نال غيرها من مدن وقرى الدخلة، وقد احتلَّتها القوات الفرنسية المسلحة وطلبت أن يسلم إليها أعضاء الهيئة المحلية للحزب الحر الدستوري الجديد، فتقدم أربعة وعشرون رجلًا وسلموا أنفسهم فداء للمدينة، فضُربوا ضربًا مبرحًا أليمًا، ثم سيقوا إلى «لوري» سار بهم إلى معتقل في صحراء الجنوب، ولم تنجُ (قربة) رغم ذلك لولا تدخل الطبيب الفرنسي المحلي وهو من الرديف؛ فقد ارتدي بدلته العسكرية لوقف هجوم مواطنيه المتعطشين لسفك الدماء، ولكن القرى الأخرى لم تجد مثل ذلك الطبيب لحمايتها وإنقاذها من العدوان.
(ﺟ) قرية المعمورة
-
4 D. B. P..
-
I/I. R. C. P..
-
C. A. L..
وقام الجند في هذه القرية بنهب جميع المنازل نهبًا منظمًا، وخاصة بيوت محمد بن أحمد الزهاني القاضي بمحكمة الكاف، وأحمد بن علي بيه، وداود بن علي رحيم، والصادق بن رمضان بن حميدة، وخميس بن الحاج محمد الزمني، وأحمد بن أحمد بن عثمان علية. وقد حملوا معهم جميع ما فيها من أثاث ومؤن ومصاغ ومال، ويقدر وزن الحلي والمصوغ الذي أخذه الجنود بثلاثة كيلوجرام.
وقد اعتدوا أيضًا على شرف بعض النسوة، وضربوا منهن امرأة حاملًا في شهرها الثامن بعد أن تتبعوها حتى أجهضوها وسقط الوليد ميتًا، ومن بين تلك النسوة زوجة محمد بن محمد بن علي، وزوجة عبد السلام بن عمر بن سالم.
وقصد الجنود إلى ضريح الولي الصالح سيدي محمد بن عيسي، حيث تقام الصلاة ويعلم القرآن، وذلك لغرض واضح؛ وهو انتهاك حرماته المقدسة، فألقوا القبض على المعلم وطردوا التلاميذ وحطموا الألواح التي تحمل الآيات القرآنية ونسفوا الضريح بالديناميت.
قرية الصمعة
مر بها الجنود في ٢٨ يناير و٣٠ منه، وكفاهم ربع ساعة لاعتقال الأشخاص الذين كانوا يبحثون عنهم، وبرغم عدم وجود أية مقاومة دخل الجنود ١٥ بيتًا وجمعوا جميع ما فيها من أثاث وأضرموا فيها النار حتى احترقت كلها، ونهبوا الأشياء النفيسة ومبالغ كبيرة من المال، ونسفوا بيت حسن الحاج علي ودكاكين.
(د) مدينة فليبية
لقد استشهد كثير من التونسيين أثناء المظاهرات التي قامت فيها يوم ٢٤ يناير أمام مركز البريد ونقطة البوليس، بينما لم يمس أحد من رجال الأمن الفرنسيين بسوء، ولم يقع أي اعتداء على أي فرد من الفرنسيين المدنيين. وتمادى قتل التونسيين في الأيام التالية، وقد تم إعدام هؤلاء الشهداء على الطريقة الآتية:
اعتقل عونان من البوليس عزيز بن علي خوجة في بيته يوم ٣١ يناير وسنه ٣٨ سنة، وهو والد سبعة أطفال، وقالا له: تعالَ معنا «للكاهية» الذي يدعوك، ثم بينما كانا سائرين به في الطريق قال له أحدهما: «لقد قدمت ضدي شكوى منذ مدة، وفي هذه المرة سنسوي حسابك.» وسيق إلى مركز البوليس، وشوهد وهو خارج منه مع حمادي بن حسين الغربي البالغ من العمر ٢٦ سنة، وتوجه الاثنان إلى مركز الدرك تحت حراسة ضابط البوليس «بامبينا»، وهنالك عُذب الاثنان تعذيبًا فظيعًا وخرجا بعد ساعة في حالة ذهول، ووجهاهما مشوهان، وحُملا في سيارة كان يحرسهما فيها عون من أعوان الدرك، وتوجهت السيارة بقيادة الضابط «بامبينا» إلى بستان يقع بالقرب من «دويرة الإمام» وهناك أعدما، وحُملت الجثتان إلى نقطة البوليس في سيارة كبيرة يقودها عون البوليس «فارينا».
ودعا الضابط الشيخ (العمدة) وقال له: «لك جثتان، احملهما إلى بيتيهما وليدفنا بدون احتفال.»
وأُخذ حمادي بن علي بن عفيف البالغ ٢٢ سنة من بيته وعُذب ثم قُتل، ومات بكسر في الجمجمة.
وأُعدم يوم ٢٥ يناير صالح بن جديه، معتوه القرية.
وكان عزيز بن أحمد فرج الله عائدًا مع قطيعه الذي كان يرعاه فقُتل رميًا بالرصاص، وقُتل يوم المظاهرة محمد المسلماني وحمده بن الحاج بن سعد وحمدة بن الحاج علية.
ونهب الجنود أكثر البيوت والدكاكين والمقاهي، ونظموا ذلك النهب في حي كامل لم يُبقوا فيه شيئًا، وأتلفوا الأثاث وكسروا جرار الزيوت والمواد الدسمة والمؤن، وقطعوا الفرش والمساند، وأحرقوا عددًا من السيارات منها سيارة السيد بوبكر الصافي العضو بالمجلس الكبير وسيارة السيد عامر بن محمد الغربي، وكذلك سيارة نقل لهذا الأخير.
وسرقوا جميع الحلي والقطع الذهبية والفضية والمال والمؤن.
وبينما كان الجنود يقومون بهذه الأعمال الوحشية كلها، فقد أجبروا السكان على إعداد الأكل اللازم لجميع هؤلاء العساكر وإمدادهم بكل ما يحتاجون إليه.
ولما غادروا القرية حملوا معهم المعتقلين الذين لم يُعرف مصيرهم.
(ﻫ) قرية وادي الخاطف
قتل العساكر أثناء مرورهم بهذه القرية اثنين من سكانها هما محمد بن علي الحجري (وهو أبكم وأصم)؛ بسبب عدم امتثاله لأوامر الجنود التي لم يسمعها، والثاني خادم السيد «زهوزه».
(و) قرية حمام الغزاز
بدأت محنة هذه القرية القريبة من قليبية يوم ٢٥ يناير، وقد رمتها في ذلك اليوم بين الساعة الثانية والخامسة بعد الظهر الطائرات الصاروخية بالقنابل، وأطلقت عليها مدافعها الرشاشة، فأصيبت مئذنة المسجد وعدد من البيوت.
وقد ارتكب البوليس الفرنسي جرائم متعددة في ذلك اليوم نفسه؛ فقد اعتقل ضابط البوليس الفرنسي عبد الله بن حسين بن حسن البالغ عمره ٢٧ سنة في بيت صهره، وأرسله إلى المكان الذي كان يجمع فيه رجال القرية، ثم أخرجه من بينهم وحمله إلى بستان «دويرة بني غازي» حيث قتله وتركه هناك.
وزار ضابط البوليس محيي الدين بن محمد رهوان، وهو مزارع متزوج يبلغ من العمر ٤١ سنة في بيته، وكان يبحث عن شقيقه عبد الكريم فلم يجده، فأخرج محيي الدين رافع اليدين، وفي الطريق أمره بأن يهتف: تحيا فرنسا، فأبى قائلًا: أنا لا أعرف إلا الله ورسوله. فقتله رميًا بالرصاص وتركه في مكانه.
وبعد أربعة أيام من تلك الحوادث حاصرت قوات الجيش الفرنسي القرية، وارتكبت فيها ما ارتكبته في بقية القرى.
وقد نسف الجنود عدة بيوت منها بيوت السيد عبد الرحمن بن حسين، والسيدة حرم البشير بن حسين، والسيد محيي الدين بن بشير، وذلك بعد أن تجولوا بين البيوت المهدمة من قبل بالقنابل أو المنهوبة وبأيديهم كاشفة ألغام للبحث عن الأسلحة.
وجمعوا الرجال في ميدان القرية ونهبوا البيوت والدكاكين، واغتصبوا عدة نسوة تحت تهديد المسدسات، بعد أن ضربوهن ضربًا مبرحًا، وجردوهن من مصوغاتهن من بينهن امرأة عمرها ١٦ عامًا حامل في شهرها الثالث، وقد أُجهضت في اليوم التالي، واغتُصبت امرأة أخرى بحضور أطفالها الثلاثة، وقد اعتدوا على المسجد، وكانت دباباتهم تجوب مقبرة القرية لتهدم القبور كلها.
•••
وإننا لم نسجل هنا إلا الحوادث التي تأكدنا من صحتها من التقارير الرسمية للحكومة التونسية ووكالات الأنباء الأجنبية ومراسلي الصحافة الفرنسية، أما في الواقع فإن الاعتداء على المكاسب كان أكثر مما أوردنا والعدوان على الأشخاص حدث على أوسع نطاق مما ذكرنا.
اعتُقل سبعمائة شخص وبقي منهم خمسمائة موقوفين، ومن بينهم مائة وخمسون أُلقي عليهم القبض أثناء التباسهم بالجريمة، أو لتملكهم بعض الأسلحة، وسيحالون على المحاكم العسكرية، وتتراوح الأحكام عليهم بين عام وخمسة أعوام سجنًا حسب القانون، وأُبعد ثلاثمائة وخمسون فردًا إلى جنوب تونس.
اليوم القرية جائعة، لم يبقَ شيء من المؤن في بيت من البيوت، ولم يبقَ ملبوس، وتعددت النسوة المسنات والأرامل — كفاطمة حجي مثلًا التي في كلفتها عائلة مكونة من أربع بنات وصبي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره — اللاتي لم يبقَ شيء في بيوتهن واللاتي أضعن حتى جهاز بناتهن بعد أن أمضين أعوامًا في إعداده.
أما البقالات الخمس الموجودة في القرية، فقد نهبها الجنود نهبًا كليًّا ولم يُبقوا فيها شيئًا، وفي اثنتين منها مثلًا كانت الرفوف خاوية، وكان على أرضها السكر والحمص مبددًا مبللًا بالنفط.
لقد تجولت بجهة الدخلة مقتفيًا آثار اللفيف الأجنبي … ومررنا بالقرية، وقد اختلطت التوابل والزيوت بالتراب وكونت فوق الأرض طبقة سميكة متسخة، وذلك كل ما بقي من بقالة كانت مزدهرة منذ يومين، وجميع الدكاكين خاوية فارغة مدمرة، وفي زاوية لطخها الوحل قطعة قماش تلمع وتبرق، وهي من القماش المطرز بالذهب للباس النسوة، وقد سرق جميعه ما عدا تلك القطعة، ونسفت المفرقعات خمسة بيوت، وكان أحدهما جديدًا، وفي زاوية تحت بقايا حائط مهدم ثلاثة أطفال صغار فوق حصير، وهو جميع ما بقي من الأثاث كله، وصاحب الملك واقف بجانب تلك الخرابات ووجهه مغطي بردائه، تتردد زفراته مع أنفاسه فترجُّه رجًّا رغم محاولته التغلب عليها، ووقفت زوجته وشرعت تمشي بين الأنقاض وتضرب على صدرها، وسألت عن معني صيحاتها المتكررة، فترجموها إلى: «إخواني، إخواني، لقد ضاع مني كل شيء.» وبقي صوتها يتبعنا إلى أن غادرنا الشارع.
لقد نُهب جميع الطعام والمؤن وجميع المال وجميع المصوغ، وهو ثمرة عمل هؤلاء القرويين حياتهم كلها.
وقد تركت عملية «التطهير» منطقة الدخلة في حالة دمار لن تستطيع النهوض إلا بعد وقت طويل، وسينشأ الأطفال هناك وأمام أعينهم أشباح من الخرائب والفظائع، وسيشب الكثير منهم في اليتم والتعاسة، أما الفتيات المغتصبات فسيحملن في نفوسهن مرارة تلك الشناعة طول الحياة، وستشهد البيوت وأضرحة الأولياء والمساجد على مرور السفاحين النهابين الهدامين الذين أوفدتهم وزارة الدفاع الفرنسية إلى تلك البقاع.
ولقد طالب شعب تونس باحترام كرامته وسيادته بحق تونس في أن تكون لها حكومة وطنية تونسية ونظام تمثيلي نيابي ديمقراطي، فأجابه ممثلو فرنسا بالقمع وعمليات «التطهير».
إن ضمير كل إنسان حر مهما يكن جنسه أو دينه ليحكم حكمه البات على ذلك الصنيع.
تونس في ١ فبراير ١٩٥٢
من الوزير الأول للمملكة
التونسية إلى السفير المقيم العام لفرنسا بتونس
الموضوع: حوادث الدخلة – تقرير التحقيق وضعه معالي وزير
الدولة ومعالي وزير الصحة العامة
صحبة هذا نسخة من ذلك التقرير
تبعًا لرسالتي عدد ٤٥ ب م/س ا ب بتاريخ ٦ فبراير ١٩٥١ أتشرف بإبلاغكم صحبة هذا نسخة من التقرير الذي وضعه معالي الدكتور الماطري والدكتور ابن سالم، وقد كُلِّفا بإجراء بحث رسمي على العين فيما يتعلق بحوادث الدخلة.
ويؤسفني أنكم لم تروا ما أوعزت لكم به من إرسال من يمثلكم ليشارك في ذلك البحث؛ إذ إنه كان يأتي بارتسامات مباشرة عن المنظر المؤلم الذي ظهر للباحثين، ولا يمكن إلا أن يتراءى بصفة غير تامة خلال ما في تقرير كتابي من جفاف.
إن جلالة الملك المعظم قد تأثر كل التأثر من صرامة تدابير القمع الجارية الآن التي تسببت في عدة اعتداءات خطيرة على سلامة الأشخاص والمكاسب وعلى مباشرة السيادة التونسية، وقد تولت الحكومة التونسية إنهاء بعض الاعتداء إلى جناب السفير المقيم العام.
ونُشرت تلك البرقية مع تصريحات الحكومة التونسية على الصحافة، فكانت رد فعل واضح على اعتداءات الفرنسيين.
لقد ظنت السلطات الفرنسية أن ما استعملته من عنف وما نشرته من تخريب ونهب وتنكيل وتقتيل، سيبعث الرعب والخوف في قلوب التونسيين، ويوقف تيار الوطنية فيهم، ويصدهم عن متابعة كفاحهم في سبيل حريتهم واستقلالهم؛ فيخفتون صوتهم ويختبئون في بيوتهم ويستسلمون استسلامًا كليًّا للقوة الجبارة. وإذا بالآية تنعكس ويكذِّب شعب تونس آمال المستعمرين ويسفِّه أحلامهم ويُحبط مؤامراتهم الدنيئة ويُثبت أن قوة الحديد والنار لا توقف تيار الشعوب إذا أرادت الحياة.
ولم تضيع مدن الدخلة الجريحة ولا قراها المكلومة وقتها في النحيب والعويل، بل لم تفارقها القوات المعتدية حتى هبَّ السكان جميعهم وقاموا بمظاهرات صاخبة محتجين ومعلنين لعزمهم على متابعة الكفاح.
وهبَّ الشعب التونسي بأسره لمؤازرة المنكوبين والمضطهدين، وبمجرد ما وصلت إلى العاصمة أخبار الفظائع تكونت بها «لجنة إغاثة قومية» فأصدرت نداء للتونسيين ليؤازروا منكوبيهم، فتدفقت الإعانات من مال ولباس وطعام، وسارت القافلة الأولى نحو الدخلة بعد يوم وليلة، وتوالت إثرها القوافل، وازدادت حركة التآزر اتساعًا يومًا بعد يوم، ولم ينسَ منها الوطنيون المحرومون من حرياتهم سواء أكانوا بالسجون أم بالمعتقلات، وشملت جميع المنكوبين في القطر كله، وهبَّت كل مدينة تمون ما اقترب منها من معتقلات، ولنأخذ بعض الأمثلة من مئات: فقد كوَّن الفرنسيون محتشدًا ﺑ «زعرور» قرب «ماطر» التي أخذت في تموينهم مرة بعد مرة، من جملتها يوم ١٠ مارس ٥٢ وأصدرت لجنتهم الفرعية البلاغ الآتي: «لم ينسَ الماطريون إخوانهم المعتقلين بمحتشد «زعرور» رغم الظروف التي يجتازونها، فأرسلوا إليهم في سبيل الإغاثة ١٠٠ كيلو سكر، ١٠٠ كيلو صابون، ١٠٠ علبة سردينة، ٤٠٠ علبة سجائر وكبريت، ٥٠٠ كيلو برتقال، ٥٠ خروفًا، ٢٠٠ كيلو خبز، ٣٠ علبة فلفل، ١٠ آلات حلاقة، ٢٠٠ شفرة للحلاقة، ٢٠٠ ورقة وظرف للرسائل، ٢٠ علبة شمع، ٢٥ كيلو مربى، ٥ كيلو قهوة، ٣ أرطال نشوق، ٢ كيلو فلفل مسحوق.»
وفي يوم ١١ من الشهر نفسه أخذت مدينة جرجيس في الجنوب تستعد لإغاثة معتقل «جلال»، وقالت لجنتها الفرعية للإغاثة بتاريخ ١٢ مارس (عن جريدة الصباح التونسية): «تتأهب جرجيس لأخذ قسط وافر لإغاثة المنكوبين والمبعدين بالخصوص بجلال قرب (بنقردان)، فقد شرع الأهالي في جمع إعانة ذات بال شارك فيها التجار والموظفون والفلاحون من سوق جرجيس، وقد نجحت بفضل أصحاب الضمائر الأبية.»
وهذا أحد بلاغات لجنة الإغاثة الفرعية بمدينة سوسة (الصباح في ١٤ / ٤ / ١٩٥٢) تأسس هذا الفرع إثر حوادث شهر يناير، وأخذ يمد عائلات ضحايا سوسة والساحل بصورة عامة، واليوم توجه نخبة من أفرادها إلى طبلبة والمكنين والوردانين، حيث وزعت كميات كبيرة من المواد الغذائية تبرع بها أهل الفضل والإحسان من سوسة، وكذلك فقد حصلت نحو مائة عائلة منكوبة على مقدار من المال والملابس والأثاث المنزلية.
وقد قوبلت اللجنة المتجولة في كل من هذه القرى من طرف الأعيان والأحرار الوطنيين بكامل الحفاوة والتبجيل.
أما اللجنة المركزية بتونس التي اتخذت من النادي المركزي للحزب مقرًّا رئيسيًّا لها، فقد اتسعت أعمالها إلى أن شملت القطر التونسي كله، وتوالت جهودها من غير انقطاع، وهذا مثال من بلاغاتها (عن جريدة الصباح في ١٦ / ٣ / ١٩٥٢) تتواصل الإمدادات كل يوم على طريق لجنة الإغاثة إلى منكوبي الحوادث الجارية.
وما زال الشعب التونسي الكريم يمد بكل سخاء يده إلى المنكوبين والمتضررين، ولجنة الإغاثة ما فتئت تعمل على إيصال كل ما يلزم المعتقلين، سواء الذين بالسجن المدني أو العسكري من تموين وملابس وأغطية.
ففي كل يوم يصل إلى السجن المدني ما يربو عن ستمائة كيلو من المواد الغذائية، أما السجن العسكري فإن التضييقات التي يلقاها المساجين لم توفر عليهم إمدادات لجنة الإغاثة.
وتتقدم اللجنة بالشكر إلى شعب تونس، وخاصة إلى سكان حي «باب السعدون» الذين ما برحوا يتبرعون بكل عزيز وغالٍ.
ولنلاحظ أن كل هذه الإعانات والتبرعات التي اتصلت بها عائلات المنكوبين من جراء أعمال القمع والتطهير لا تكفي لسد حاجاتهم، وإنما هي في الحقيقة تخفف ما نزل بهم وتعطي فكرة عن روح التضامن والتآزر والتآخي بين أفراد شعب تونس، فتشجعه على متابعة كفاحه.