الدموع والدماء والخراب
لم تكتفِ جيوش الجلادين بما ارتكبته في جهة الدخلة من فظائع، ولكنها نظمت الإرهاب والقمع في القطر التونسي بأسره، ونشرت الفزع والرعب في كل نواحيه وجهاته، الجهة تلو الجهة حسب خطة مدبرة وأعمال منسقة وإجرام مبيت.
(١) جهة الساحل
وجاء دور جهة الساحل التي تعتبر بحق من أعظم معاقل الوطنية، فأعلنت السلطات العسكرية حالة الطوارئ، وشددت الحصار، وأخذ الجنود يهاجمون المدن والقرى واحدة إثر أخرى.
إن أهالي «قصر هلال» الذين لا يفتُّ في عضدهم شيء من القسوة والجبروت، عازمون على مواصلة العمل والكفاح المثمر، إلى أن يحققوا لوطنهم العزيز أمانيه الغالية.
(٢) بنبلة
تم «تطهيرها» في ٢٠ / ٢ / ٥٢ من السادسة صباحًا إلى الخامسة مساء. احتلها الجند والجندرمة وحاصروها، وأحضر الضابط الفرنسي شيخ البلدة وأعيانها بالمدرسة الابتدائية، وتلا عليهم أسماء ١٤ شخصًا طلب اعتقالهم حالًا، وأرسلوا إلى محتشد «زعرور»، وكلف الضابط رجلًا ينادي بتأمين الأهالي إذا هم سلموا الأسلحة التي لديهم، فلما تقدم البعض بأسلحتهم اعتقلهم (١٦ شخصًا)، ثم بدأ التفتيش والتحطيم والتبديد، ومن بين المعتقلين شيخان يتجاوز عمرهما ٧٠ سنة، واعتدي بالضرب المبرح على كثير من السكان، وخاصة السيد عامر قاسم الذي أغمي عليه من شدة العذاب، ووقعت أعمال نهب كثيرة، وعلى إثر هذه الأعمال الوحشية مباشرة أذاع أهالي بنبلة بيانًا أعلنوا فيه تمسكهم بالمطالب الوطنية وعزمهم على مواصلة الكفاح.
وكانت بلدة «الوردانين» التي لا تلين لها قناة في الوطنية، مسرحًا لفظائع تكررت خلال شهر كامل من تبديد للأرزاق والمؤن ونهب واعتداءات وتقتيل، فحوصرت للمرة الأولى في ٢٦ يناير، وحوصرت للمرة الثانية في ٩ فبراير، وفي كل مرة يهاجم الجنود البيوت بعد أن يجمعوا الرجال تحت الحراسة المسلحة وتتعالى أصوات النسوة وصراخهن، وقد أُجهضت عشرة منهن ونُقل بعضهن إلى مستشفى مدينة سوسة. وأخذت قوات الجيش تتردد على البلدة إلى يوم ٢٣ / ٢، ففي تلك الليلة استمرت القوات في أعذب الملاهي لديها وهي صيد السكان بالبنادق، فأطلقوا الرصاص على محمد الوسلاتي ويوسف جعفر وهما في طريق العودة إلى منزلهما، فأصيب الأول ونُقل إلى المستشفى واعتُقل الثاني وسُلم إلى الدرك الفرنسي بسوسة.
ولم تنجُ قرية البرجين من القمع، وطوقتها قوات الشر يوم ٢٢ فبراير، وكان التفتيش وكان الحصار وكان العذاب.
وكان احتلال الجند لبلدة الساحلين يوم ١١ / ٢، وكان مع الضابط قائمة بثمانية عشر اسمًا من بينهم اسم سكرتير الشعبة حسين عمامو الذي فتشوا بيته وبعد الانتهاء من التفتيش كسروا ما فيه من زجاج ومرايا وأوانٍ ودواليب بمؤخرة بنادقهم، ثم أخذ الضابط يسأله أمام الأهالي: هل أنت دستوري؟ فأجاب: نعم أنا دستوري. وكان بالقرب من الضابط صبيَّان عمرهما ١٢ سنة و١٤ سنة، فتقدم أحدهما وقال: ليس هو وحده دستوريًّا، إن كل الأهالي هنا دستوريون. فسأله الضابط: وأنت؟ قال: نعم أنا دستوري، وسأل الطفل الثاني، فأجاب بنعم، فألقى عليهما القبض وأخذهما مع المعتقلين، وإن لم يكن اسمهما موجودًا بالقائمة. وأخرج الضابط واحدًا من هؤلاء وأمره أن يهتف بسقوط بورقيبة وبحياة فرنسا، فصاح السجين: «يحيا زعيمنا الأكبر بورقيبة»، فأرسل عليه كلبًا من كلاب الجيش عضه في رجله اليمنى ومزق عضلاتها، ونُقل إلى المستشفى وقد أصيبت رجله بالتعفن.
وصلت القوات الفرنسية إلى بلدة طبلبة يوم ٤ فبراير مساءً وأحاطت بها حالًا، وفي صباح ٥ فبراير طُلب من جميع السكان البالغ عمرهم من ١٥ إلى ٨٠ سنة الخروج إلى ميدان البلدة، فأخرج الضابط الفرنسي تجريدة بها أسماء أعضاء الهيئة الدستورية، وطلب من الحاضرين أن يسلموا ما عندهم من السلاح، ثم أصدر أمره بأن يتقدم له كل من ينادى باسمه، ومن كان غائبًا اعتُقل أبوه وأمه وزوجته وأبناؤه وبقية أفراد عائلته، وسيق الجميع إلى ثكنة سوسة.
وكان الجيش أثناء ذلك يفتش البيوت، ويفعل فيها ما اعتاده من أفاعيل.
وأصبح الفرنسيون يستعملون الكلاب البوليسية على نطاق واسع، وقد أطلق الجنود في ذلك اليوم كلابهم على التونسيين، فنهشتهم نهشًا وقطعت لحومهم، وما زال عدد كبير من أبناء طبلبة يحملون في أجسامهم آثار عض الكلاب، وقد أصيب اثنان من الدستوريين بجراح خطيرة من جراء ذلك. وتفننوا في التعذيب والتنكيل، فبعد أن حطموا نادي الشعبة الدستورية وأتلفوا ما فيه ومزقوا الأعلام التونسية، أخذوا علمًا منها وناولوه إلى أحد الكشافة واصطفوا صفين وأجبروه على الجري بينهم من غير إمهال ولا راحة، وكلما تعب أو توقف انهالوا عليه ضربًا، وتقاذفوه بينهم وهم يتضاحكون، إلى أن مزقت ثيابه وسالت دماؤه وكست جسمه وسقط مغشيًّا عليه. ولما أفاق أصبح كالتائه الفاقد لرشده من كثرة التعذيب، وخرج ولم يعلم إلى حيث اتجه.
وقد طلب الجند من بعض الشبان أن يرتدوا أزياء الشبيبة الدستورية، وعندما لبسوها طلب منهم أن ينادوا: «يسقط بورقيبة»، فلم يمتثل أحد منهم، فكان نصيبهم الضرب بمؤخرة البنادق والتعذيب بالتيار الكهربائي أو بالمياه الباردة. ورغم هذا كله كان جواب جميع التونسيين: «يحيا بورقيبة».
وبقيت طبلبة الجريحة مدة أشهر تعيش حياة مرهقة تحت الإرهاب والاضطهاد، وقد فقدت كل وسائل المعيشة بعد أن شرد قادتها وأبناؤها ووُزعوا بين معتقل «زعرور» وثكنة الجيش بسوسة وسجن المهدية والسجن العسكري بتونس، والبريد أيضًا مقطوع عن البلدة تلك المدة كلها.
ولم نذكر من أعمال القمع بجهة الساحل إلا النزر اليسير والوقائع القليلة، كمثال لما وقع في بقية مدنها وقراها بدون استثناء.
(٣) جهة بنزرت
ولحق أيضًا جهة بنزرت قسط وافر من الاعتداءات، فقد ابتدأت عملية «التطهير» ببلدة عوسجة يوم ٢٧ / ٢ / ٥٢، وطوقت بحصار شديد، ثم فتش الجنود جميع بيوتها ودكاكينها بطريقتهم المألوفة، فأتلفوا المؤن والأرزاق، وحطموا الأثاث، ونهبوا وأفسدوا كل ما وجدوه، وعاملوا السكان بقسوة ووحشية، حتى لحقت الأضرار والجروح أكثر من خمسين منهم، واعتُقل من بينهم ثمانية ساءت حالتهم جدًّا وأشرفوا على الهلاك من فرط ما لحقهم من تعذيب، ودامت عمليات القمع يومين وليلة.
(٤) الكاف
وبقيت مدينة الكاف عرضة للأعمال الوحشية مدة أسابيع، فبعد أن اعتقلت السلطات الفرنسية القادة الوطنيين في أوائل شهر فبراير وأبعدتهم إلى الصحراء برمادة، ألقت القبض يوم ٢٢ / ٢ / ٥٢ على ١٤ شخصًا آخرين، وقام يومها الجنود بنسف عدد من المنازل المجاورة للثكنة العسكرية.
وقُتل ذلك اليوم جندي فرنسي، فاشتد الحصار على المدينة من الغد (٢٣ / ٢ ) واعتُقل عدد كبير من الوطنيين، وأخذ الجيش يمطر الحي العربي بالقنابل اليدوية والمفرقعات المتنوعة، وهاجموا المسجد وألقوا فيه القذائف، فحطموا ما في داخله.
وتوجه أثر تلك الاعتداءات وفد يمثل سكان الكاف إلى العامل (المدير) وبلغوه احتجاجهم على تلك الأعمال الوحشية، وعقد المستشارون في هيئة بلدية الكاف اجتماعًا يوم ٢٥ فبراير وقرروا أثناءه تقديم استقالتهم — إذ أصبحت حياة كل من في المدينة في خطر — وهم السادة: عبد الجليل الباجي، وعبد الحفيظ قدور، وعمار بن بلقاسم، وإبراهيم بن الشاذلي، ورمضان بن فبري، ودانا البير. وغني عن الملاحظة أنهم من سراة المدينة ومثقفيها وأعيانها، فأعلنوا هكذا عن انضمامهم إلى الكفاح الوطني.
وقد أعلن أهالي مدينة السرس الإضراب في ٢٣ و٢٤ فبراير تضامنًا مع سكان مدينة الكاف.
(٥) باجة
وقاست مدينة باجة من الاحتلال الطويل والحصار الدائم ألوانًا من الإرهاق، وكانت الطائرات الحربية تحلق فوقها من حين إلى حين لإنزال الرعب في القلوب، وفُتش الكثير من بيوتها ونُهب، وذاق أهلها مرارة التنكيل وعُذب ثلاثة منهم عذابًا أليمًا وهم: علي بن العبيدي، وعبد المجيد بن عثمان، ودياب بن خضيري، واعتُقل عدد وافر من سكانها، وانتشر الجند في ضواحيها و«طهروا» هنشير الحلوفة وهنشير بو سعادة، وألحقوا بأصحابها العذاب وأتلفوا الأرزاق.
(٦) سوق الأربعاء
وقُطعت أعمدة التليفون بجهة سوق الأربعاء ليلة ٢٥ فبراير، فقدمت إليها القوات الفرنسية المسلحة وقامت بأعمال الترويع والتفتيش وإتلاف المؤن والأثاث في تلك المنطقة كلها، واستعملت الكلاب في تعذيب التونسيين، ومن بين المصابين امرأتان نهشتهما الكلاب ثم اعتدى عليهما الجنود بالضرب والدوس بالأقدام، وأُلقي القبض على عدد من الوطنيين. وعلى إثر تلك الحوادث ألف السكان وفدًا من الأعيان قابل العامل واحتج لديه على هذه التصرفات المشينة، وأعلمه أن الشعب بأسره متضامن وسيتابع كفاحه لتحقيق أهدافه السامية.
(٧) كسرى
وفُجعت بلدة كسرى في أبنائها وأرزاقها ونُهبت بيوتها، وكانت مأساتها من أفظع ما يتخيل الإنسان، وقد حوصرت مدة أسابيع حصارًا عزلها عن العالم وقطعها من المواصلات حتى جاع أهلها وكادوا يتلفون جميعًا.
أما مدينة مكثر القريبة منها، فإن الجنود لم يقتصروا فيها على ما اعتادوه من تدمير ونهب وإفساد وترويع، بل أرادوا أن يُلحقوا بأهلها العار باعتدائهم الشنيع على شرف نسائها. لقد قام الجند يوم ٢٧ فبراير بتفتيش محل السيد فرج بن علي السياد، ثم حملوا معهم زوجته وابنته وزوجة ابنه بالقوة، ولما اعترض الرجل طريق المعتدين ضربوه ضربًا مبرحًا بمؤخرة البنادق، وسيق النسوة إلى مكان مجهول، وبعد يومين في صبيحة ١ / ٣ / ٥٢ عُثر عليهن في حالة إغماء مطروحات في أحد الحقول وحالتهن يرثى لها، فنُقلن إلى المستشفى، كما نُقل إليها أيضًا السيد فرج الذي أصيب في إحدى عينيه بجروح خطيرة.
أما في جنوب القيروان، فقد هاجمت قوات فرنسية كبيرة الأراضي الخاصة بقبائل جلاص، وأنزلوا أقصى ضرباتهم على قبيلة الذويبات، فنشروا الدمار والخراب، وأتلفوا جميع الممتلكات، وفتشوا جميع المنازل تفتيش إبادة وتدمير. وفي بيت خليفة بن أحمد أطلقوا النار على ابنته خيرة فأصابوها في فخذها الأيسر، وأطالوا التفتيش والحصار في بيت عبد النبي بن الحاج ضوء وأخيه علي المكي مدة ٢٤ ساعة كاملة، وقتلوا الكلاب وحطموا الأدوات المنزلية والآلات الزراعية، وكان ضرب من الجنون الإجرامي قد استولى على الجنود في آخر الأمر، فأخذوا يحرقون البيوت بجميع ما فيها من أثاث ومؤن في موقع جهينة حيث يسكن قسم من الذويبات، ولم ينجُ السكان من النار إلا بمعجزات، فمن بين البيوت التي أصبحت رمادًا: (١) بيت الأرملة ربح بنت بوقطف. (٢) بيت حسين بن محمد بن عباس، ولما خرج منه صاحبه فرارًا بنفسه من النار اصطاده الجند صيدًا ورموه بالرصاص فأبقوه جثة هامدة. (٣) بيت علي بن بوقطف. (٤) بيت عمر بن بوقطف. (٥) بيت محمد الهادي بوقطف. (٦) بيت يوسف بن قريدة. (٧) بيت محمد بن يوسف بن قريدة.
ودخل الجيش الفرنسي إلى بلدة جبنيانة دخول الفاتحين المنتصرين يوم ٢١ فبراير، وزرع الرعب والخوف، فطوق البلدة، وفتش بيوتها ودكاكينها، وألقى القبض على رئيس الشعبة محمد عاشور الزناتي.
(٨) الجم
حاضرت القوات الفرنسية بلدة الجم، ثم احتلوها، وروعوا السكان، وأعلنوا حالة الطوارئ، ثم قبل أن يغادروها فرضوا عليها ضريبة حربية بدعوى حراسة أعمدة التليفون.
(٩) الصخيرة
انتشر الجنود في جهة الصخيرة، ونشروا بها الذعر بدعوى التفتيش عن السلاح، وحطموا حتى خيام الرعاة، وأجهضت سيدات، وجُرح عدد وافر من الرجال.
(١٠) قابس
جاء دورها يوم ١٤ فبراير، فاحتلها العساكر، وقاموا بحملة إرهابية واسعة النطاق، وطوقوا بيت الحاج عبد الله بن رحومة عضو مجلس البلدية بقابس، وأتلفوا ما فيه، ثم فتشوا بيت ابنه فلم يجدوا شيئًا، فألقوا القبض على أبنائه الثلاثة ومن بينهم السيد النجار قائد إقليم قابس للكشافة، ونقلوهم إلى الثكنة العسكرية. ثم أعلنت حالة منع التجول. فأضربت المدينة احتجاجًا على هذه الإجراءات، وخاصة لأن منع التجول يحرم الأهالي من أداء صلاة العشاء وصلاة الفجر في المساجد ويمنعهم من إقامة الأذان.
ورجع الجنود في ٢١ و٢٢ فبراير، وحاصروا المدينة من جديد، وأعادوا فيها عملية «التطهير»، وفتشوا عدة منازل منها بيت صالح ضوء أحد القادة الكشفيين، والطاهر واجد أمين مال الشعبة الدستورية، واعتقلوا عددًا وافرًا من الوطنيين، وبالليل كان الجنود يقومون بترويع الناس، فيتسلقون السطوح ويسعون في تكسير أبواب المنازل للنهب وانتهاك الأعراض.
(١١) الرديف
عادت قوة من اللفيف الأجنبي وجنود المظلات إلى بلدة الرديف يوم ١٨ فبراير بعد أن قاموا بعمليات «التطهير» فيها مرارًا من قبل، وحاصروها وقاموا بأعمالهم المعتادة من تنكيل وترويع وضرب ولَكْم وإهانات وتفتيش الرجال وحتى النساء في البيوت، ونهبوا وبددوا وحطموا، واعتقلوا أعضاء الشعبة الدستورية وسكرتير نقابة التجار واعتدوا عليه بالضرب.
(١٢) جهة الجنوب
اصطبغت حملة الإرهاب العسكري في الجنوب بالقسوة والشدة، فأُعلنت حالة الطوارئ بمدنين ابتداء من ١٧ فبراير، ومُنع التجول من السادسة والنصف مساء إلى السابعة صباحًا، وذلك إثر الهجوم الذي وقع على الثكنة العسكرية في الأسبوع السابق لذلك، وأُطلق عليها الرصاص للمرة الثانية فقُتل ثلاثة جنود، كما وقع إطلاق النار في يوم ٢٠ يناير على لوري محمل بالجنود، فانقلب ومات ١١ جنديًّا.
وبدأ القمع يوم ١٤ فبراير، فتألف ركب من عامل الجهة (المدير) والقائد العسكري الفرنسي وأعوان الجندرمة وعدد كبير من الجند، وقامت القوات «بتطهير» أعبنتن، واعتقلوا رئيس شعبة أولاد عبد الله ورئيس شعبة أولاد محمد وكامل الهيئة الدستورية ومحمد بن فرج والهادي الصانعي الذي اعتقلوا معه ابنًا له لم يتجاوز الخامسة، ثم انتقلت القوات إلى «أم التمر» حيث اعتقلت عددًا من الوطنيين.
وجاء دور «وادي اللبة» ففتشوا منطقته ثلاث مرات في يوم واحد، وخاصة منزل السيد ضوء الهتشير وألقوا عليه القبض؛ لأنهم وجدوا عنده بندقية غير صالحة للاستعمال، وبقيت عائلته لا تعلم شيئًا عن مصيره. وقد عُذب المساجين ونُكِّل بهم تنكيلًا فظيعًا إلى أن فقد بعضهم رشده.
وكان التونسيون رغم ما يعانونه من اضطهاد مريع يحرصون على إظهار حمق الفرنسيين وخوفهم، فكان الأطفال بمدينة تونس يربطون حققًا فارغة في ذيل القطط ويطلقونها في الشوارع الرئيسية، فيهرع البوليس والقوات الفرنسية المسلحة ويركضون من كل جانب شاهرين أسلحتهم وعلى وجوههم علامات الفزع.
وكانت قوائم الأسماء التي يحضرها الفرنسيون لاعتقال الناس قديمة، وحدث في أكودة أن ضابطًا فرنسيًّا أمر بإحضار راجح إبراهيم الذي أدرج اسمه في القائمة ولم يحضر، فتقدم أحد السكان وقال: سأدلكم عليه. وذهب مع الضابط والجنود إلى أن بلغ بهم المقبرة المحلية، ووقف بهم على قبر، وقال: هنا يسكن راجح إبراهيم، إنه قد مات منذ سنوات. ويدل ذلك على فوضى قسم الاستعلامات الفرنسي، وعدم تعاون التونسيين معه.
وحاصر خمسمائة جندي قرية «المعتمر» (أي أكثر من عدد سكان القرية)، وخرج أحد رجالها يريد الذهاب إلى مدينة سوسة، وفي الطريق ساقوه إلى الضابط الفرنسي، فسأله: ما اسم هذه القرية؟ فقال: قرية المعتمر. فنظر الضابط في خريطة أمامه ثم قال: كأنه يخاطب نفسه، لا هذا غير ممكن، غير صحيح. وبعد ساعات غادر الجند القرية وتبين أنهم كانوا قد ضلوا الطريق ولم يقع تفتيش القرية.
(١٣) التضامن القومي
ومن أجمل الأمثلة الرائعة على قوة الشعور الوطني وروح التضامن القومي، ما حدث في مدينة مساكن، حيث احتلها بداية من ٨ فبراير جنود اللفيف الأجنبي الذين كانوا يعيثون فسادًا في جهة الدخلة، فأخذ الجنود يبيعون ما نهبوه من ذهب وفضة وما سرقوه من حلي في الدخلة، وأسرع الأهالي لشرائه منهم، وبيع الخلخال بثمانية آلاف فرنك وقيمته ١٥٠ ألف، وباع الجند بعض القطع الذهبية بزجاجة من الخمر، وبلغ مجموع ما باع الجنود من الحلي ٦٠ ألف فرنك، بينما يقدَّر ثمنه الحقيقي بستمائة ألف فرنك، ثم جمع الأهالي كل ذلك الحلي وسلموه إلى الخليفة (الوالي) الذي سلمه بدوره إلى الملك ليرفعه لأصحابه، ورفض أهالي مساكن استرداد المبالغ التي اشتروا بها الحلي لما عرض الخليفة ذلك عليهم، فضربوا هكذا مثالًا عاليًا لهجت به البلاد التونسية بأسرها.
ولقد استمرت حملة القمع الدامي من غير انقطاع في القطر كله.
(١٤) شراحيل (من ضواحي مدينة المنستير)
في شهر فبراير حوصرت القرية من طرف الجنود حصارًا شديدًا، وأخذوا يطلقون الرصاص في الفضاء لينزلوا الرعب في قلوب الناس، وجمعوا الرجال كبارًا وصغارًا وكهولًا في مكان معين، ثم فتشوا البيوت والمنازل وروَّعوا من فيها من النساء والأطفال، وأتلفوا كل ما وجدوه من مؤن وزيت، كما أتلفوا البيض والدجاج وجميع الطيور الداجنة، وسلبوا المصوغ والحلي وانتهكوا حرمة المسجد، وبعد التفتيش أشبعوا الرجال ضربًا وأطلقوا على بعضهم الرصاص، فجرحوا أحدهم وأتوا بكلاب أطلقوها على الناس تعضهم وتنهش لحومهم حتى جرحت عددًا وافرًا.
وذهب إلى المستشفى من يملك مالًا للمداواة، وبقي البعض بدون معالجة يئن من جراحه.
وأُلقي القبض على اثنين وعشرين رجلًا من سكان القرية، وفرضت على أهالي البلدة غرامة حربية قدرها تسعة أغنام.
في صبيحة يوم الأربعاء ٢٨ فبراير استيقظنا من نومنا، فوجدنا أنفسنا مطوقين بقوات من الجندرمة، وسرعان ما اقتحموا المنازل وعاثوا في أثاثها فسادًا، وانهالوا علينا ضربًا وشتمًا ولكمًا، وأطلقوا علينا كلابهم فشتتت صغارنا وروعت نساءنا. وأخيرًا أسفرت النتيجة عن فقد كمية كبيرة من الحلي ذهبًا وفضة، واعتقلوا جمعًا من الرجال والنسوة ساقوهم أمامهم وزجوا بهم داخل السجن. ولم يكفهم ما فعلوا من ترويع، بل رجعوا يوم الخميس ٦ مارس فلم يستيقظ الأهالي إلا على نباح كلابهم وأصوات شتائمهم، يروعون الأهالي ويضربونهم بمؤخرات البنادق.
وقد بلغت الحماقة والاستفزاز غايته في كل مكان، وأصبح الفرنسيون ينغصون حياة التونسيين بجميع الأساليب ويضيقون عليهم أنفاسهم، وإن ما وقع ببلدة بنزرت مثال من آلاف الأمثلة.
عندما كان الشاب عثمان بن محمد مؤمن من سكان منزل جميل — وعمره ١٧ عامًا — مارًّا بشوارع مدينة بنزرت في قضاء بعض شئونه، وذلك يوم ٩ مارس؛ إذ وقف أمام السينما «ماجستيك» متأملًا في الصور المعلقة، وإذا بشرطي فرنسي يصيح به: در! ارفع يديك! ماذا تفعل هنا؟ وأثناء تفتيشه وجد عنده مبراة صغيرة، فقال له: لماذا تحمل هذا السلاح غير المرخص به، فأجابه الشاب: هذه مبراة صغيرة أبري بها قلمي وهي لا تتجاوز الثلاثة أصابع، وإذا كانت هذه المبراة تعتبر سلاحًا غير مرخص به، فلماذا تباع في كل مكان؟
فما كان من البوليس إلا أن قاده إلى المركز وزج به في السجن، وعندما حضر رئيس مركز البوليس أُتي به واستجوبه طويلًا فيما لا ينتمي إلى قصة المبراة. وفي الساعة العاشرة ليلًا أطلق سراحه.
فخرج محتارًا مفكرًا، إلى أين يذهب؟ وعند من يأوي؟ حتى عثر عليه رجل فقال له: أراك حيران يا بني، فما الذي دهاك؟ فحكى له ما جرى، وقال: إن عائلتي بمنزل جميل وليس لي أحد بمدينة بنزرت، وبيننا وبين بلدتي البحر، وقد فاتني وقت الرجوع وانقطعت المواصلات في هذه الساعة المتأخرة، وتوقفت «القنطرة المتنقلة» عن عبور البحر، فأخذه الرجل معه إلى بيته فنام مع أبنائه، ولا تسل عما حدث لعائلته من أجل غيابه وخاصة لوالدته الأرملة.
وأصبح الجنود الفرنسيون قُطَّاع طريق.
(١٥) السرس
في مساء يوم الأحد الثاني من مارس كان عامر بن محمد دباش، وأخوه سالم والعياشي خلف الله، يقضون السهرة بالفندق القديم على بُعد ثمانية كيلومترات من السرس بطريق مكثر، وكان برفقتهم محمد الأشهب معلم بالمكان، والعادل بن العبيدي والهادي بن السخري وعلي بن عزوز والطاهر القداش … وغيرهم؛ إذ دخل عليهم فجأة — حوالي الساعة التاسعة والنصف — أربعة من الجنود شاهرين بنادقهم وخناجرهم، وأدخلوهم تحت تهديد السلاح لمستودع بضاعة داخل المحل، وشيعوهم بعبارات السب والشتم. وبعد دقائق خرج الجنود وامتطوا سيارتهم، ولاذوا بالفرار وأخذوا معهم ما وجدوا من دراهم في الصندوق؛ أي ٩٥٠٠٠ فرنك وكمية من لفائف التبغ.
وفي صباح يوم الاثنين ٣ مارس أصبحت قرية السرس مضربة عن العمل، احتجاجًا عما تسترسل عليه القوات العسكرية من السرقة، التي أصبحت مباحة في وسط شعب أعزل.
وإن الفرنسيين لا يرحمون مريضًا ولا امرأة حاملًا ولا جريحًا، وتحجرت قلوبهم حتى أصبحت أكثر قسوة من الصخر؛ فقد وقع إيقاف السيد عمر بن سليمان التجاني من مشيخة «لاله» بعمل قفصة يوم ١٥ فبراير ١٩٥٢، وكان جريحًا، وقد جيء به يوم السبت ٨ مارس إلى المستشفى العسكري في حالة احتضار، وقد أسلم الروح صباح يوم الأحد في التاسعة متأثرًا بجراحه التي لم تعالج في الإبان.
-
منزل جميل: السيد محمد البسطي أمين مال نقابة الفلاحين المنتجين.
-
بنزرت: أُلقي القبض على أربع شخصيات يوم ١٠ مارس؛ هم السادة أحمد بن حمادي الكعاكي الكاتب العام لنقابة الفلاحين المنتجين باللواتة، حمادي بن كندارة، عمر العبيد، التيجاني العبيد.
-
نابل: أُلقي القبض من جديد على السيد محمد بن الطيب.
-
صفاقس: اعتقل ٢٢ شخصًا يوم ١٠ مارس.
-
قابس: أُلقي القبض يوم ٩ مارس على ١٥ تونسيًّا ويوم ١٠ مارس اعتُقل شخصان بمنزل قابس.
-
العالية: يوم ١١ مارس بسجن فرد واحد.
-
المنستير: يوم ١١ مارس أُلقي القبض على عشرة أشخاص.
ويتكرر ذلك يوميًّا في جميع المدن والقرى، ولم يكتفِ الفرنسيون بالكهول والرجال حتى أخذوا يسجنون الأطفال الصغار ويسلطون عليهم أقسى الأحكام.
(١٦) سجن الأطفال
ففي مدينة قفصة أُلقي القبض مساء الخميس ٦ مارس في الساعة الثامنة مساءً على طائفة من الأولاد الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين السابعة والثانية عشرة، لا لذنب سوى كونهم تجمعوا كعادة الصبيان يجوبون الطرقات رافعين أصواتهم ببعض الأناشيد، فاعترض طريقهم أعوان الجندرمة شاهرين في وجوههم السلاح مصوبين نحوهم الرشاشات، وساقوهم إلى السجن حيث قضوا ليلتهم.
وفي صباح الجمعة ٧ مارس أُلقي القبض على أولاد صغار آخرين، وقد علق على ذلك محرر «الصباح»، قال: وإلى حد كتابة هذه الكلمات (١٢ مارس ١٩٥٢) لم نعلم عنهم شيئًا جديدًا، فما هي حالة الآباء والأمهات.
وقد شارك الأساتذة والمعلمون الفرنسيون السلطات في قمع التونسيين، وكانت بلدة الحامة مسرحًا لذلك العدوان، كما كانت بقية المملكة، على إثر المظاهرة التي قام بها أبناء المدرسة الابتدائية، احتجاجًا على طرد إخوانهم تلاميذ المدرسة الثانوية بتونس وصفاقس، فَصَل مدير المدرسة الفرنسي عددًا من التلاميذ إلى أجل محدود، وعددٌ آخر طُردوا نهائيًّا.
وكان كل ذلك لم يشفِ غليل الفرنسيين، فأخذوا يعتقلون الناس بالجملة ويختطفونهم اختطافًا من الشوارع، وخاصة في مدينة تونس؛ فقد شنت قوات الأمن في عشية يوم السبت ١٨ مارس حملة اعتقالات واسعة النطاق بالأحياء العربية، فكانت تلقي القبض على المارة والجالسين في المقاهي بأحياء باب الخضراء والمرجانية والحلفاوين، وقد بلغت الإيقافات نحو المائة بدون موجب رغم استظهار المقبوض عليهم ببطاقات التعريف بشخصياتهم، ولكن عربات البوليس قد عادت غانمة مثقلة بما اقتنصته.
واستمر اختطاف الناس من الطريق العام، وهي وسائل منافية لحرية الأفراد في السير بالطريق آمنين والسعي لقضاء حوائجهم.
وحوالي الساعة الرابعة من عشية يوم الأحد ٢٣ مارس سدت الطرقات والأنهج المؤدية إلى أحياء باب الخضراء، ونهج العسل وباب سيدي عبد السلام وباب سيدي عبد الله وباب سيدي قاسم؛ بحيث طوقت العاصمة التونسية بالقوات المسلحة وحوصر سكانها، وكل من بارح منزله أو دكان شغله التُقط وزُج به في العربة السوداء وسيق إلى حيث ينزل ضيفًا في أحد المحتشدات أو في مقر الشرطة.
وفي نفس الساعة طوق حي الحلفاوين والتقط منه المارة وجُلاس المقاهي من جانب البوليس السري والعلني، ودامت هذه العملية ساعة تقريبًا.
وفي صباح يوم الأحد ٢٣ شنت حملة بوليسية على سوق الخضر بحي سيدي البحري، ورفعت خضر الباعة كلهم وغلالهم إلى مستودع المحجوزات البلدي، وسيق أربابها إلى عربة البوليس. وقد اتسع نطاق هذه الحملة إلى المقاهي هناك برفع جلاسها، كما شنت حملة مماثلة في نفس الوقت على سوق الحي الإسرائيلي، ودامت إلى الزوال.
(١٧) نداء من أعماق السجن
إن المعتقلين السياسيين المحشودين بشق «السيلونات» بالسجن المدني بجوار المحكوم عليهم بالإعدام والمجرمين، يعانون كل أنواع الظلم والاضطهاد من إدارة السجون سواء من الناحية المادية أو الأدبية.
وبعد أن طالبوا بالسجن السياسي ختموا لائحتهم بهذه الكلمات الخالدة: «هذا وإننا لنعلن من جديد تعلقنا الكامل بالعرش المفدى، معبرين عن صحة عزمنا لمواصلة الكفاح حتى النصر النهائي، متيقنين من أن نهاية هذا العسف والظلم والقمع موقوفة على تقديم نفوسنا ضحايا وقربانًا على مصلحة الوطن العليا.»
(١٨) المحاكم العسكرية
اعتادت السلطات الاستعمارية على اتخاذ المحاكم الفرنسية أداة قمع وإرهاب وتسخير العدالة والقضاء لتعزيز استعمارها والفتك بالتونسيين، ولم تكفِ محكمة عسكرية واحدة، فأضيف لها محكمة عسكرية ثانية بتونس وأُحدثت أخرى بصفاقس، وقد أصدرت المحاكم الفرنسية الزجرية أحكامها القاسية على أكثر من عشرة آلاف من التونسيين، وهي تجلس يوميًّا من غير انقطاع مدة عامين كاملين، ولنأتِ ببعض الأمثلة من قسوتها وجبروتها.
وحكمت المحكمة الزجرية في نفس اليوم على السيد عبد الرزاق بن والي بتهمة مظاهرة بمدينة زغوان، والسيد المكني بتهمة تعطيل الترام.
وفي صباح يوم الاثنين ١٠ مارس طوقت المحكمة الفرنسية في مدينة صفاقس بقوات الجيش والبوليس؛ خوفًا من غضب الشعب، وأدخل البوليس تسعة من المعتقلين على بعضهم آثار الدماء وآخرون جروحهم بيِّنة، كما أدخل النساء إحداهن حامل واثنتان تحملان أطفالهما.
ومن الشهود اثنان مدنيان فرنسيان ديسكويون ودوبير — الأستاذان بالمعهد الفني بصفاقس — اللذان دنسا مهنة التدريس بأن أصبحا مخبرين للبوليس، وكذلك فعل الأغلبية الساحقة من المدرسين والمعلمين الفرنسيين بالبلاد التونسية، وأصدرت المحكمة أحكامها القاسية بالسجن والخطايا على السيدات: مجيدة كريشان، حليمة الشعبوني، فاطمة نميلة، مبروكة شعور، نفيسة السراط، خديجة شعور، عائشة القفال، حميدة الميلادي، وسيلة الشعبوني.
وحين استجوابهم أنكروا ما نُسب إليهم، وصرحوا بأن اعترافاتهم لدى البوليس كانت تحت مفعول الضغط والإرهاب والتعذيب. وبعد الاستماع لمرافعة الادعاء العام ولسان الدفاع، حكم على اثنين منهم بخمس سنوات أشغالًا شاقة وبالتغريب مدة عشر سنوات، وعلى اثنين آخرين بثلاث سنوات سجنًا وعلى واحد بعامين، وحكم على ستة منهم بثلاث سنوات سجنًا وعشر سنوات تغريبًا، وحكم على اثنين بعشر سنوات سجنًا مع الأشغال الشاقة والتغريب عشرين سنة.
(١٩) حياة التونسيين في جو الإرهاب
أصبح كل تونسي غير آمن على حياته ولا على حريته ولا على رزقه، وهو يتوقع الاعتداء عليه في كل خطوة يخطوها في الشارع أو أن يهاجَم في عقر بيته أو يؤخذ إلى السجن أو المعتقل في كل ساعة من النهار أو الليل، لا لذنب اقترفه ولكن لأنه تونسي، فتعود على جو الإرهاب وعدم الأمن والاستقرار، وأصبحت الجنازات نفسها لا تسلم من الاعتداء.
فقد احتُفل بعد ظهر يوم الجمعة ٢١ مارس بتشييع جثمان الفتى الشهيد المرحوم عبد الرزاق الشرايبي الذي سقط يوم الخميس صريعًا برصاصة من أحد أعوان البوليس اخترقت جبهته.
وقد خرج موكب الجنازة من نهج القنطرة حيث يقع بيت الفقيد، وشيعه عدد عظيم من الشعب نساء ورجالًا وشبانًا، واخترق الموكب حي الحلفاوين فحي باب سويقة، فحي باب سعدون في طريقهم إلى مقبرة الفدان، وكانت جميع الأنهج محاصرة بقوات الجندرمة والبوليس.
وعند وصول موكب الجنازة إلى المقبرة ودخول الناس وراء النعش لحضور مواراة الشهيد التراب، طوقت المقبرة من جميع أبوابها ومساربها بالقوات المسلحة، وشرع في تفتيش النسوة اللاتي صاحبن موكب الجنازة، وكان هذا التفتيش الذي لا مبرر له يجري بأسلوب ماس بالتقاليد الإسلامية؛ حيث كان الأعوان يخلعون عباءة النسوة المسلمات ويكشفونهن ويفتشونهن من قمة الرأس إلى أخمص القدم، ومن كانت ترتدي منهن الزي الإفرنجي خلعوا عنها معطفها وأجروا عليها نفس الأسلوب في التفتيش.
وبعد الانتهاء من تفتيش النسوة، انتقلوا لتفتيش الشبان؛ حيث أمروهم بالمرور صفًّا متتابعًا في خندق قذر كان محفورًا بالطريق مملوء بالعفونة، وهناك أخذوا يفتشونهم ويلحقون بهم الإهانات، وكثيرًا ما ضربوهم بمؤخرات بنادقهم.
ولم تتمكن الجماهير المشيعة للجنازة من تقديم تعازيهم لعائلة الفقيد، بل بلغنا أن أخا الفقيد قد وقعت إهانته وضربه، فزادوه ألمًا على ألمه برزيته في شقيقه.
وكانت القوات تلتقط الناس وتزج بهم في عرباتها، وبلغ عدد الموقوفين رقمًا عظيمًا.
تعيش رأس الجبل في هذا الظرف الدقيق والساعة الرهيبة منذ أن جدت الحوادث وحلت النكبة بأمتنا الهادئة الوديعة، وشعبنا المسلم المسالم في جو من الترويع والتعذيب ومحيط من التشفي والانتقام لا يعلم مداهما إلا الله.
ولا تظن أن سبب هذا هو العثور على مستودع للذخيرة والبارود، وإنما لتصلب أبناء هذا البلد في وطنيتهم والتمسك بكامل عقيدتهم المتمثلة في التحرير النهائي من القيود العنصرية البغيضة، والفروق الاستبدادية الكريهة. هذا هو مجمل ما عندنا في البلاد، وقد أخذت جماعة من براذع الاستعمار وأذنابه في تزوير الحقائق وتبديل الأشياء حتى ادلهمت العاقبة واختلطت السبل ولم يعد هناك مجال لفهم أعمال المتنطعين، فقد أخذوا بالظنة وعاقبوا على الشبهة وروعوا النساء وهددوا العجائز المسنات، وقبضوا على عدد من المواطنين البرآء الذين لا هَمَّ لهم في الحياة إلا التحصيل على الرغيف لقوته وقوت عائلته، وهم كثرة لا يحصى لها عد. وهناك آخرون من المشبوه فيهم قد زجوا بهم في غياهب السجون (المعروف بكراكة غار الملح) وجردوا عليهم سوط العذاب.
وها إننا نرى في كل يوم ضابط الحرس المتجول والجندرمة يغدون ويروحون، وفي كل مرة يخرجون من جيوبهم قائمة فيها أسماء لبعض الأشخاص، وقد يكون من بين هؤلاء الأشخاص من هم خارج البلد يسعى للعمل، وفيهم من هو مريض في العاصمة بقصد التداوي، وفيهم من لا يعلم أحد مصيره إلى الآن، ولعله أودع السجن مع أن كل من لا يعثرون عليه دلهم خائن القرية (القواد حسب عبارة الضابط) على محله، وأخذ أمه أو أخته أو فردًا من أفراد عائلته كرهينة من الرهائن إلى أن يسلم نفسه، وقد وقع أخذ الأم وابنها في ليلة من الليالي.
وها هي الأنباء تأتي أنهم نقلوا الأخ محمد الكداش رئيس الشعبة الدستورية من محل إبعاده والإتيان به إلى غار الملح لحشره مع بقية زملائه الذين هم الآن في حالة لا يقدر على خطها القلم، والأخطر من هذا هو معاملتهم معاملة مجرمين حقيقيين.
(٢٠) رد الفعل التونسي
هل استسلم شعب تونس لقوات الشر الفاتكة؟ وهل تنازل عن مبادئه تحت تأثير الضربات القاسية؟ وهل تراجع عن كفاحه لما لحقه من اضطهاد وتعذيب وتنكيل وقمع دامٍ؟ وهل ركن إلى السكينة والهدوء وخاصة أنه ليس لتونس قوات مسلحة تقف أمام الحديد والنار وترد بها غائلة المعتدين؟
ولقد علم شعب تونس علم اليقين منذ آماد، أنه لا يتغلب بالقوة المادية الصرفة على الجيش الفرنسي في الحرب الحقيقية التي شنتها فرنسا عليه، وعلم أيضًا أن طرق المقاومة متنوعة متعددة، فاختار منها أنجعها وأقربها من طبعه، فقرر سياسة عدم التعاون مع السلطات الاستعمارية، وأظهر إرادته القارة الراسخة على نبذ الحكم الأجنبي ومقاطعته وعدم الانصياع لأوامره والتمرد عليه في جميع الميادين. وكانت كلمة الشعب موحدة وصفوفه متراصة منظمة، فقال التونسيون جميعًا للاستعمار البغيض: لا! لن نتقبله ولن نرضى به، ولن نخلد لحكمه ولن نعيش عيشة العبودية والرق، ولن نبقي أجانب في وطننا. وللتونسيين أرواح مؤمنة بالحق مؤمنة بحقهم وحق وطنهم، وليس لهم غير صدورهم يستقبلون بها رصاص الاستعمار الجائر، وليس لهم غير دمائهم، فقدموها هدية للحق، لعل العالم الذي يسمي نفسه حرًّا يعترف لهم بحقهم في الحرية.
فلم تهدأ للتونسيين حركة ولم يمكنوا السلطات الاستعمارية من رقابهم ومن بلادهم، بل صبروا وصابروا وثبتوا وصمدوا، وكانوا يردون الفعل بما لديهم من وسائل، فلم تقم قوات الشر بجريمة إلا وأعقبتها اضطرابات جديدة.
وكانت الاضطرابات العامة تتوالى من غير انقطاع، إضراب طويل بعد اعتقال الزعماء يوم ١٨ يناير، ثم استئناف الإضراب إثر فظائع الدخلة، وإضراب عقب الاعتداء على الوزارة التونسية ومرات أخرى.
وأضربت مدينة صفاقس يوم ٧ مارس عندما اعتقل البوليس عددًا كبيرًا من النساء والشبان والطلبة وأحالتهم إلى المحاكم الزجرية، واستمر الإضراب أيامًا متوالية. كما تجددت المظاهرات الشعبية من غير انقطاع، ففي حدود الساعة الواحدة والنصف من يوم ١٠ مارس اجتمعت جماهير غفيرة من الشبان بربض صفاقس، وساروا بالهتافات والأناشيد، واتجهوا إلى إدارة العمل للاحتجاج على تلك المحاكمة، فلاحقتهم قوات البوليس، ولكنها لم تتمكن من إلقاء القبض إلا على شاب واحد.
وفي الساعة الرابعة والدقيقة العشرين بعد الظهر إثر التصريح بالأحكام القاسية، تجمهر الشعب في سوق الزيتون، ثم ساروا في مظاهرة رهيبة بشوارع بيكفيل هاتفين بحياة الرئيس الحبيب بورقيبة منادين بالاستقلال، وصدحوا بالأناشيد، فاعترضتهم قوات البوليس وهاجمتهم هجومًا عنيفًا وضربتهم ضربًا مبرحًا وأثخنتهم جراحًا، واعتقلت عددًا وافرًا من الشبان.
وقامت القوات الفرنسية المسلحة إثر تلك المظاهرات بتفتيش واسع النطاق في الأحياء العربية من مدينة صفاقس، وألقت القبض على ٢٢ شخصًا.
ولكن الحالة لم تهدأ، وقد انتشرت الأخبار بأن زعماء العمال الذين اعتقلوا يذوقون العذاب ألوانًا بالسجن، ويُعتدى عليهم يوميًّا بالضرب والإهانة والتنكيل، فخرج العمال في مظاهرة كبرى، والتفت حولهم الجماهير وساروا إلى مسكن عامل (مدير) صفاقس ليبلغوه احتجاجهم، فطاردتهم قوات البوليس والجند وشتتتهم.
وتظاهر طلبة الفرع الزيتوني بمدينة قابس وسلموا للعامل لائحة احتجاج على تعسف السلطات الفرنسية، ثم اتجهوا نحو المراقبة المدنية الفرنسية، فاعترضت قوات البوليس وشتتتهم وألقت القبض على خمسة منهم.
وقام أهالي بلدة مدنين في الجنوب التونسي بمظاهرة كبرى يوم ١٣ مارس، وسارت في نظام كامل إلى إدارة العمل (المديرية)، وسلموا إلى العامل (المدير) لائحة احتجاج شديدة، والتحقت بهم قوات الجيش والبوليس وشتتتهم بعنف واعتقلت سبعة منهم.
وانتظمت بمدينة قفصة مظاهرة شعبية قوية يوم ١٧ مارس، وسارت في الساعة العاشرة والنصف صباحًا من الجامع الكبير إلى المراقبة المدنية، فأوقفتها القوات المسلحة في الطريق، وصادمتها بشدة وانهالت على المتظاهرين ضربًا ولكمًا ودفعًا، حتى شتتتهم وألقت القبض على جماعة منهم.
وكانت عاصمة تونس مسرحًا للإضرابات والحوادث الآخذة بعضها برقاب بعض، ولم تكتفِ المدينة بإعلان الإضراب العام عندما بلغت فظائع الجيش الفرنسي بجهة الدخلة وغيرها من جهات القطر، بل تحرك الشعب، وانتظمت صفوفه في مظاهرات صاخبة قوية، فكانت الأيام الدامية تتوالى وتتجدد. وقد سارت الجماهير في مظاهرة كبرى يوم ٤ فبراير، ولما وصلت إلى شارع مدريد التقت بالقوات الفرنسية المسلحة التي لم تمهلها، بل عاجلتها بإطلاق النيران، فسقط شهيدان يتخبطان في الدماء، وجُرح عدد وافر. وفي نفس الوقت كانت مظاهرة شعبية أخرى تسير بشارع باب الخضراء متجهة نحو الحي الأوروبي، فاشتبكت مع الجيش الفرنسي واستشهد منها عدد وجُرح عدد آخر.
وكان يوم ٥ فبراير يوم حداد على الشهداء الذين سقطوا أمس ضحية العدوان الفرنسي المسلح، فخرج الشعب في مظاهرة كبرى، وسار المتظاهرون رباعي منتظمي الصفوف إلى سراي المملكة بالقصبة، وقابل وفد منهم الوزير الأول، واحتج على أعمال القوات الفرنسية.
وكانت المظاهرة التي قامت بها النسوة التونسيات يوم ١٥ فبراير من أروع مظاهر الوطنية، وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر أحاط المتظاهرون — ومعظمهم من النسوة — بالإقامة العامة، وقد خرج كل فريق منهم من الشوارع المحيطة بها: شارع فرنسا، وشارع الجزائر، وشارع هولاندا، وكانت المتظاهرات يقمن بحركاتهن بسرعة خاطفة، وعند وصولهن كان المفوض بالإقامة العامة نازلًا من سيارته ليدخل إلى عمارة الإقامة، وفي تلك اللحظة بالذات رمت امرأة قنبلة يدوية، وفي الحين — نظرًا لقرب مراكز البوليس والجيش — أتى أعوان البوليس في سيارة، فرميت عليهم قنبلة ثانية، فانفجرت السيارة وجُرح عونان جروحًا خطيرة، واثنان آخران جروحًا خفيفة، ورميت قنبلة ثانية على الإقامة من شارع هولندا، فحطمت شبابيك مكتب رئيس الديوان العسكري للمقيم العام.
ولا تسل عن الخوف الذي استولى على جميع الفرنسيين الذين كانوا في الحي الأوروبي، فكنت تراهم بين هارب يجري وصارخ يصيح، وأوصدت السينمات أبوابها وأُغلقت الدكاكين ونزل الرعب في قلوب الفرنسيين، حتى إن جماعة منهم كانوا وراء جنازة داخلين إلى الكنيسة الكبرى أمام الإقامة العامة، ففروا تاركين جنازتهم.
واستشهدت إحدى الوطنيات، وجرحت أخرى جروحًا خطيرة، وكانت لا تخفي ابتهاجها بنجاح المظاهرة. وقد استخدم الجند أسلحة سريعة الطلقات، فجرحوا عددًا وافرًا من التونسيين، وأكثرها جروح خفيفة.
وبقيت مدينة تونس هائجة مائجة مضطربة مدة أشهر، وإذا اعتراها سكوت فهو سكون البراكين التي تنذر بالانفجار في كل وقت؛ فقد اجتمعت جماهير غفيرة من الشعب بعد ظهر يوم السبت ١٨ مارس بمسجد السبحة، وتناول الكلمة كثير من الشبان شارحين أعمال القمع والاعتقالات التي تفاقم أمرها بكامل البلاد التونسية، واحتجوا على ما قام به الفرنسيون من محاولة نسف بيت صاحب الدولة محمد شنيق رئيس الحكومة التونسية، وخرجت الجموع من المسجد في مظاهرة رهيبة، وسارت إلى أن بلغت ميدان شارع الجزيرة، وهناك التقت بقوات البوليس والجيش التي عمدت إلى تشتيتها وإلقاء القبض على بعض المتظاهرين.
وتعددت يوم ١٩ مارس المظاهرات، وخاصة بحي الحلفاوين والشوارع المجاورة له، فخرجت مظاهرة بعد أن نظمت صفوفها من ذلك الميدان، واخترقت شارع سوقي بالخير حتى بلغت باب الخضراء، وفي مفترق الطرق هاجمتهم القوات المسلحة، وكان عدد النساء كبيرًا في تلك المظاهرة.
وتحركت مظاهرة أخرى في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر من الميدان نفسه، وجابت شارع الحلفاوين، وحين إشرافها على ميدان باب سويقة اعترضتها قوات البوليس.
وانتظمت مظاهرة ثالثة بالسوق الجديد من حي الحلفاوين، وسارت حتى بلغت شارع مدريد ثم افترقت.
وخرجت مظاهرة رابعة في الساعة الخامسة والنصف، وكانت أكثر عددًا وأقوى نظامًا، تسير في مقدمتها النساء والوطنيات.
وقررت الوطنيات التونسيات الاعتكاف بجامع الزيتونة ابتهالًا إلى الله واحتجاجًا على عمليات القمع وتقوية لروح الجهاد، وشرعن في الاجتماع بالمسجد يوم ٢١ فبراير حتى غص بهن على اتساعه، واكتظت رحاب الجامع الأعظم بجمع التونسيات، وبدأن في الصوم وعلى رأسهن بعض الأميرات. وحاصرت الجيوش الفرنسية الجامع، وفي اليوم الثاني من الصوم والاعتكاف قامت بعض النسوة خطيبات على المنبر معلنات عن إرادتهن في أخذ قسط وافر من الجهاد لجانب الرجال. وكان لكلام الأميرة فاطمة أعظم الوقع، وهي حفيدة الملك الشهيد محمد المنصف، وجاء بعض مشايخ الزيتونة وخاصة الشيخ المختار بن محمود الذي حرض المؤمنات على الصبر والثبات.
وقد اجتمعت الهيئة التدريسية الزيتونية صباح يوم الأحد التاسع من شهر مارس إثر الاعتداءات المتكررة على الأمة التي تناولت هيئاتها جميعًا، ومن بينها شيوخ التدريس وموظفو إدارة المدارس والتلاميذ، وإنه لا يمر يوم إلا وفوج من الزيتونة يساق إلى المحتشدات أو السجون؛ حيث يلاقون الشدائد من رجال البوليس، مما لم يبقَ معه منزع إلى الصبر، فاجتمعت الهيئة التدريسية للاحتجاج ضد هذه الاعتداءات المقصود منها التنكيل، والفتُّ في عضد الأمة التي آلت على نفسها أن تكافح إلى النهاية في سبيل الوصول إلى مطامعها الحيوية.
وقد رأى شعب تونس أن المقاطعة الاقتصادية من أنجع طرق الكفاح، فقررت الهيئات الوطنية منذ بداية الحوادث مقاطعة المغازات والمقاهي وقاعات السينما الفرنسية، ووزعت المنشورات تعلم الشعب بذلك وخاصة يوم ٢٣ فبراير، ونجحت المقاطعة نجاحًا كبيرًا؛ إذ صار التونسيون لا يقصدون تلك المحال التي أصبح أصحابها يقاسون أشد الأزمات، وعجز الكثير منهم على خلاص مصاريفه آخر الشهر، وإذا بالمقاهي التي كانت تغص بالتونسيين قد باتت خاوية منهم، وكذلك قاعات السينما؛ فهي لا عمل حقيقي فيها إلا يوم السبت والأحد، أما بقية الأسبوع فتكاد تكون فارغة ولا تحتوي إلا على أقلية من المتفرجين لا تُذكر.
وقد كان هذا السلاح الجديد قوي المفعول، فأحس أصحاب المحال بالخطر، وحاولوا جلب المشترين والزبون بكل الوسائل، وخفضوا أسعارهم تخفيضًا كبيرًا من غير جدوى، وامتنعت المعامل والمصانع بفرنسا من إرسال البضائع إلا إذا دفعت أثمانها سلفًا، ورفضت الشركات الاحتياطية القروض ولم تعترف بضياع السلع أثناء الحوادث السياسية.
واضطرب المستعمرون الفرنسيون وارتبكت حالتهم، فباع بعضهم ضياعهم ومزارعهم وخيَّم على أكثرهم كابوس من الخوف على أرزاقهم ومحصول حقولهم. وكان الخوف كل الخوف من اليد العاملة التونسية، ومن أعمال التخريب والإتلاف، فكلهم يشعر أن شرارة كافية لحرق مزرعة كاملة.
ولما قوي ذلك الشعور في الجالية الفرنسية حرر البعض منهم اللوائح والمذكرات، واحتجوا فيها على الحكومة الفرنسية، وطالبوا بحل المشكلة التونسية لترجع حياتهم إلى معتادها. وقد علق أحد التونسيين على ذلك فقال: «ولكن الحكومة الفرنسية لم تستفد من تلك النداءات؛ لأنها بلغت من الفوضى والاضمحلال درجة لا تمكنها من الشجاعة الكافية للخروج من المأزق وإيجاد حل للمشكلة، وإن ذلك يجبرنا — نحن التونسيين — على طلب حل مُرْضٍ لمشكلتنا بوسائلنا الخاصة الداخلية والخارجية.»
وكان أحد الخونة قد أنزل المصائب على قسم من الوطنيين، ودل السلطات الفرنسية على عورة المكافحين، وهو سليمان بن حمودة، خليفة بلدة القطار في ضواحي مدينة قفصة، فقُتل ببلدة القطار نفسها يوم ١٤ فبراير ١٩٥٢، وهو أول خائن يُعدم، فعند خروجه من مكتبه وبينما كان بصدد الركوب في سيارته، اقترب منه تونسيان وأخرج أحدهما مسدسًا من تحت جبته وأطلق عليه النار فأرداه قتيلًا، ولاذا بالفرار وهما يطلقان العيارات النارية؛ لكي يبتعد الناس ويختبئوا بالمقاهي، فيوسعون لهما الطريق.
وقد توسعت حركة النسف في مراكز الجيش والبوليس الفرنسي، فذكر بعضها على سبيل المثال:
حوالي الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين من مساء يوم الاثنين ١٠ مارس، سمع سكان حي باب سويقة والأحياء المجاورة دويًّا، ثم شاهدوا سيارة الصليب الأحمر لنقل الجرحى تقف أمام مركز البوليس الثالث بتونس، فيخرج الجنود خمسة من زملائهم من المركز.
وقد وُضعت كمية من المفرقعات في عداد المياه بحائط المركز، فلما انفجرت أحدثت به أضرارًا جسيمة؛ فقد تهدم حائط المركز من ناحية شارع الكشباطي بأكمله، وتهدمت أيضًا أجزاء كبيرة من بقية الحيطان، وأصيب سبعة من الجنود كانوا داخل المركز بجروح خطيرة قضت على حياة أحدهم أثناء نقله إلى المستشفى.
ويظهر من الحجارة المبعثرة بمركز البوليس ومن الجدران المتهدمة، أن الانفجار كان شديدًا جدًّا، وتلك هي المرة الثالثة التي ينسف فيها ذلك المركز. ولما تبين للسلطات الفرنسية أن وسائل القمع لم تفلح، التجأ القائد العام للقوات الفرنسية إلى زيادة التضييق على التونسيين جميعًا، فأعلن قراره بمنع التجول بالأحياء العربية انتقامًا من الوطنيين؛ قال في بلاغه: ارتكبت في ليلة ١١ مارس الحالي مؤامرة جنائية ضد مركز القسم الثالث للبوليس، تسببت في قتل جندي وجرح ستة آخرين من بينهم تونسي.»
إن هذه المؤامرة التي حدثت على إثر سلسلة طويلة من الأحداث الإرهابية، من شأنها تعكير صفو النظام والأمن العموميين؛ ولذا تقرر منع التجول ليلًا بالمدينة العربية من الساعة التاسعة ليلًا إلى الساعة السادسة صباحًا ابتداء من مساء اليوم (١١ مارس ١٩٥٢) إلى أن يصدر ما يخالف ذلك.
ولكن الوطنيين لم يلتفتوا لذلك القرار ولم يعيروه أهمية وتمادوا في نسف الثكنات، فيوم الخميس ١٣ مارس في الساعة الثامنة إلا ربعًا سمع بمدينة المنستير دوي هائل ارتجفت له جدران المدينة بأكملها، وتحطم زجاج النوافذ في دائرة متسعة جدًّا، وقد انفجرت كمية من المفرقعات بإحدى نوافذ مركز البوليس فنسفت أكثره، وكانت الأضرار المادية فادحة، ولم يصب أعوان البوليس؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يقومون بجولة تفقدية بشوارع المدينة.
وانفجر لغم في بناية مولد الكهرباء بمدينة المنستير، فخربه مساء ١٦ مارس، وفي نفس المساء رميت قارورتان من البنزين المضطرم على جراج بمدينة القيروان، فاشتعلت فيه النيران.
ونسف بمدينة صفاقس معمل الكهرباء يوم ٤ فبراير، وبقي الظلام مخيمًا على أحياء كاملة من المدينة، وبعد أشهر من ذلك والانفجارات مستمرة من غير انقطاع، فقد رميت قذيفة في إحدى العمارات الكائنة بشارع قو في صفاقس في الساعة الثانية من زوال يوم ٧ / ٧ / ٥٢ أحدث انفجارها خسائر مادية كبرى، وجرح نفر من سكان العمارة.
واهتم الوطنيون كثيرًا بجميع وسائل المواصلات لما لها من قيمة رئيسية بالنسبة لجيش العدوان الفرنسي، فقاموا بقطع السكك الحديدية ونسف محطات القطار والجسور وقطع أسلاك التليفون.
فنُسف جسر على مقربة من مدينة قابس يوم ٧ فبراير، ويوم ١٣ فبراير نُسف جسر سكة الحديد بطبرسق.
وفي الساعة التاسعة بعد ظهر يوم الأحد ٩ مارس، أُلقيت قذائف من المفرقعات على محطة الرتل بمدينة سوسة، وكانت الأضرار كبيرة.
وفي مساء ١١ مارس قُطعت أسلاك سكة الحديد بمحطة الرتل في بلدة ساقية الزيت بضواحي صفاقس، وفي الليلة نفسها في الساعة التاسعة انفجرت كمية كبيرة من المفرقعات عند وصول الرتل القادم من بلدة «المتلوي»، وقال الأخصائيون الفرنسويون إنها قنبلة من عيار ٧٥. وكان الانفجار على بُعد كيلومتر و٤٠٠ متر من محطة صفاقس، وقد تسبب في أضرار جسيمة، وكانت الأضرار تكون أكثر لو وقع الانفجار عند مرور القطار من تلك النقطة.
وفي ليلة الأحد ٩ مارس كانت أحياء من مدينة بنزرت في الشمال تضطرم نارًا، وقد نشب الحريق بالمستودع البلدي للحيوانات فأحدث أضرارًا مادية جسيمة.
وكان نسف محطة القطار بمدينة قابس من أشد الأعمال وأروعها، ففي الساعة الخامسة وعشر دقائق بعد ظهر يوم الأربعاء ١٢ مارس حدث انفجار هائل بمحطة القطار بقابس بعد وصول «أتوراي» «قطار الديزل» بربع ساعة، وقد مات من جرائه أربعة أشخاص وأصيب ١١ شخصًا بجروح خطيرة جدًّا، ومن بين المصابين رئيس المحطة الفرنسي. وقد دمرت بناية المحطة، وكانت الأضرار المادية جسيمة، وقد كانت المفرقعات التي أحدثت الانفجار وُضعت في قاعة الانتظار التابعة للمحطة.
وعلقت جريدة «الصباح» التونسية على ذلك الحادث ووضحته بقولها: «الحقيقة هي أن العامل المكلف بتنظيف عربات القطار عثر على حقيبة من النوع العادي، فظن أن أحد المسافرين نسيها بالعربة، فحملها إلى رئيس المحطة وأبقاها هذا الأخير إلى جانبه، وبعد ثلاث دقائق انفجرت الحقيبة وأحدثت تلك الأضرار.
ويبدو من هذه الرواية أن صاحب الحقيبة كان بالقطار وتركها بقصد تحطيم الرتل، ولكن الأقدار شاءت أن تُنقل إلى المحطة وأن تتسبب في قتل ٧ أشخاص وجرح ١٥.»
وفي يوم ١٥ مارس حدث انفجار هائل في السكة الحديدية بين سوسة وبلدة فريانة قرب محطة سيدي سعد، فاقتلع قضبان السكة على مئات الأمتار.
وكان نسف الجسور لتعطيل حركات الجيش الفرنسي لا يقل أهمية عن نسف السكك الحديدية ومحطاتها، فبعد تهديم جسر «ديبيان» الذي تمر به السكة الحديد الرابطة بين تونس والجزائر، وبعد نسف جسر تبرسق وغيرهما؛ تمادى الوطنيون في تخريب الجسور، فعلى الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأحد ٩ مارس سمع سكان منزل قابس دويًّا هائلًا كان ناتجًا عن نسف جسر كبير يسمى «قنطرة شبة» بالطريق الرابطة بين قابس وصفاقس من جهة وقابس وبلدة قبلي في الجنوب من جهة أخرى.
وقد تحطم الجانب الأجري من كامل الجسر، وتقدر الخسائر بعدة ملايين من الفرنكات، وقطعت المواصلات بين قابس وقبلي، وأصبح من المستحيل على سيارات النقل الثقيلة وخاصة السيارات العسكرية والمصفحات الوصول إلى الجنوب التونسي.
وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على عدد من التونسيين، فأضربت مدينة قابس وضواحيها احتجاجًا على هذه الاعتقالات.
وتهدم جسر أول بالقرب من بلدة «فريفيل» مساء الخميس ١٣ مارس، وقد وُضعت مفرقعات تحته فنُسف بانفجارها، وعلى مسافة من ذلك الحادث نُسف جسر ثان لما انفجر ما وضع تحته من مفرقعات.
وأخذ الوطنيون يقطعون أسلاك التليفون والأعواد الحاملة لها في جميع جهات القطر، واستمر ذلك واتسع نطاقه إلى أن أصبح من المتعذر على القوات الفرنسية الاتصال بالقيادة العليا بمدينة تونس، وانقطعت السلطات الفرنسية بعضها عن بعض إلا بطريق اللاسلكي، حتى جن جنون الفرنسيين وأخذ الجنرال جارباي — القائد الأعلى للجيوش الفرنسية — يصدر الأوامر تلو الأوامر بالتشديد على التونسيين جميعًا، وأخيرًا قرر تحميل المدن والقرى مسئولية قطع أسلاك التليفون وفرض عليها غرامات حربية. ولما رأى أن تلك الإجراءات لم تأتِ بالنتيجة المطلوبة، فرض على السكان أداءً خاصًّا لحراسة التليفون، وعين عددًا من التونسيين المدنيين في كل مكان ليقوموا بتلك الحراسة وحملهم كل مسئولية، لما عسى أن يعتريها من إتلاف. فكان جواب الوطنيين على تلك الأوامر الظالمة المجحفة، أن انتشر قطع أعواد التليفون على نطاق لم يسبق له نظير. ولنذكر بعض ما وقع من ذلك في ثلاثة أيام متوالية؛ ففي ليلة الخميس ٨ مارس قطعت أعمدة التليفون بطريق «فريفيل»، وقطعت ثمانية أعمدة قرب منزل جميل. وليلة ٩ مارس قُطع عدد من أعواد التليفون بالقرب من مدينة قفصة، وتسعة أخرى على السكة الحديدية المؤدية إلى سوسة. وليلة ١٠ مارس من الشهر نفسه فُكَّت أسلاك التليفون بلدة الكنائس ومدينة المنستير، وقُطعت سبعة أعمدة تليفونية بين المنستير وقصر هلال، فتعطلت المخابرات بين البلدتين. وفي مساء ١١ مارس سبعة أعمدة تليفونية بالقرب من ساقية الزيت في ضواحي صفاقس، وقُطعت الأسلاك الكهربائية بطريقة «قرمدة» و٨ أعمدة بالقرب من المنستير.
ولما قررت الهيئات الوطنية مقاطعة الترام تجددت الحوادث لتعطيله أصلًا ولمنع الفرنسيين من ركوبه، ولنذكر بعض تلك الحوادث في أيام قليلة متتابعة؛ فقد قُذفت عربة «تروللي باس» تابعة لخط مونفلوري بالحجارة وبقارورة من النفط مشتعلة، وذلك في شارع قرطاج يوم السبت ٨ مارس، ويوم ٩ منه أُلقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» بشارع الباب الجديد في الساعة السابعة والنصف مساء، ورُميت في نفس الوقت عربة «تروللي باس» أخرى بالحجارة بشارع باب سعدون، وأُلقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» أمام المحكمة الفرنسية بشارع باب البنات، وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين تهاطلت الحجارة على عربات الترام بجهة باب سويقة، فتحطم زجاجها وأصيب الضابط الفرنسي «ريبرو» وعونان من الحراس المتجول بجروح. وفي صباح يوم الاثنين ١٠ مارس في الساعة السادسة والنصف، أُلقيت قذيفة على عربة الترام بشارع لندرة، وقذف الترام الرابط بين شارع فرنسا وضاحية فرانس فيل بقارورة ملتهبة من النفط، فانتشرت النار بعربتها والتهمتها التهامًا.
(٢١) الحالة العامة في شهر مارس
سألت أحد حراس الأمن — وكان قد ابتل بالمطر حتى أُثقل — عما إذا كان سيأوي إلى بيته في هذا اليوم مبكرًا، فأجابني بقوله: «ومن يستطيع أن يعرف ذلك؟ ليست الرغبة في العودة إلى منزلي هي التي تنقصني، ولكن …» ثم أضاف: «إن الصمت يطغى على كل شيء. وأشهد أن هذا هو نفس شعوري بالضبط، إننا محاطون بالصمت، بل إنه يُثقلنا حتى ليكاد يُزهق منا الأنفاس، وإذا قُدِّر لنا أن نسمع شيئًا فهي أصوات الانفجارات في الشمال وفي الجنوب، ثم يعود الصمت من جديد، صمت الدوائر الحكومية التي أصبح فراغها مريعًا، ولعلنا نستطيع القول: إن هذا الصمت هو سبب الانفجار.
فبين فرنسا وتونس يظهر أنه يوجد نوعان من المحادثات، وإن كنا لسنا على يقين من ذلك؛ أحدهما سري يقوم به أناس سريون أيضًا، وهدفه هو إيجاد الإصلاح والبحث عن اتفاق، ولكن الصمت حول هذا النوع من المحادثات ما يزال مخيمًا أيضًا، وهذا ما يبعث القلق والدهشة في كل مكان. وفي مقابل ذلك نعرف النوع الآخر من المحادثات، النوع المعروف المشهور والذي يتحدث به كل أحد في الطريق، وهو عبارة عن طلقات من النار والقنابل والرشاشات والقنابل اليدوية والهجوم والدفاع والتراجع والانتقام، وهو التسلسل الذي لا حد له ولا نهاية.
فمن الطبيعي أن يكون الأبرياء الذين كثيرًا ما يكون الدفع على حسابهم، فيوجد في هذه البلاد التونسية جنود فرنسيون لا يعرفون لِمَ تركوا مدنهم وقراهم بفرنسا، ويوجد تونسيون وطنيون يمرون من هنا وهناك وإذا السجون ملأى بالمعتقلين.
إن هناك تسابقًا طويل المدى بين حركة المقاومة الوطنية الشعبية وبين حركة القمع البوليسي، وكل حركة متعلقة بالأخرى دون أن تعرف أي منها كيف يوضع حد لحركة الفناء.
ولست هنا في معرض النقد لإجراءات الأمن المتخذة، ولكن من المفيد أن نعترف أن كل ما بُذل حتى الآن في سبيل المحافظة على هذا الأمن قد كان عبثًا ونفخة في وادٍ، بل الغريب أن حركة المقاومة تتضاعف وتنتشر بقدر ما تشتد قوات الأمن وتعنف، وشيوخ الاستعمار في هذه البلاد أخذوا يتفطنون لهذه الظاهرة الجديدة، وهي أن تونس لم تعد تُحكم بالقوة.
فما العمل إذن؟ هل نستمر على تقتيل بعضنا بعضًا؟ وعلى العيش تحت التهديد اليومي والخطر الداهم الذي يرقبنا في كل طريق وفي كل منعرج؟
هل تبقى الثروات التونسية والسكان في هذا الخطر المحدق الذي لا تغمض له عين، إلى أن يُقضى على كل وسيلة من وسائل التنقل والسفر، وعلى كل عمل في المصانع وعلى كل زرع في الحقول.»
كما صدرت الأحكام على الشبان السادة: محرز التريكي، أنور الملولي، علي المهذبي، محسن بو حامد، الطيب المظفر، الحبيب ساعد، الهادي اللوي بأربعة أشهر سجنًا و٨٠ ألف فرنك خطية، والصادق الهمامي بخمسة أشهر سجنًا و٨٠ ألف فرنك خطية، وكلهم متهمون في مظاهرة باب الديوان بصفاقس الواقعة يوم ١٦ مايو ١٩٥٢.