محاولة اغتيال الملك
(١) شعب تونس لا يستسلم!
على أثر الاعتداء على الوزارة الشرعية اشتد احتلال القوات الفرنسية المسلحة للقطر التونسي جهة جهة، وقرية قرية، ومدينة مدينة، وبلغ عددها عشرات وعشرات الآلاف، وعززتها النجدات المتوالية سواء من فرنسا نفسها أو من الجزائر، واستمر إمدادها بالذخيرة والأسلحة أشهرًا متوالية من غير انقطاع، واشتركت معها في العدوان على شعب تونس قوات مصفحة كبيرة جدًّا، وسلاح الطيران بأنواعه والأسطول الحربي الفرنسي، وتوالت الضربات وأصبح الضغط فظائع والفظائع إجرامًا، وكُممت الأفواه وتعطلت الحريات، وقُيدت الصحافة، وأصبح الملك مسجونًا في قصره، واعتُقلت الوزارة الشرعية، وأُبعد الزعماء، وامتلأت المعسكرات والثكنات بالوطنيين، وفُرض منع التجول، وويل لمن تكلم أو تحرك أو تنفس! وإذا أبت الجماهير أن تستسلم وتظاهرت في الشوارع، فالرصاص يأكل لحومهم والحراب السفاكة تُسيل دماءهم، ويكثر التقتيل فيهم، وتصير المعارك مجازر.
وتراكمت القيود على القيود، واشتدت السلاسل والأغلال وتوثق رباطها، وظن المقيم العام إذ ذاك أنه كبَّل شعبًا وأحكم تكبيله، فأخذ يتحداه بعد أن صيَّر حياته جحيمًا، وصرح أن الهدوء قد ساد بتونس والسكينة قد نزلت على أرضها والصمت قد خيَّم عليها، والشعب أعزل؛ لا ذخيرة ولا سلاح ولا مال ولا إعانة. ولكن ذلك الشعب الأعزل من كل سلاح صيَّر تونس بركانًا يفور وجهنم على المحتلين والغاصبين، ونشر في نفوسهم الحيرة وأنزل في قلوبهم الرعب، فإذا كان السلاح مفقودًا فليصنعه بيديه إذن؛ لأن إرادة الشعب من إرادة الله، وإرادة الله لا تُغلب. وأخذ شعب تونس يصنع القنابل التي كانت في أول الأمر بسيطة، دويُّها أكثر من مفعولها، ثم تطورت وأُتقنت. وكانت البلاد التونسية في النهار الوضَّاء تحت حكم الفرنسيين وجنودهم، حتى إذا جن الليل وساد الظلام يتحكَّم فيها التونسيون، فما هي حياة تونس خلال الأشهر التي تلت العدوان الفرنسي على الوزارة الشرعية في أواخر مارس ١٩٥٢؟ فإنها تظهر من بعض الحوادث كما هي، قوات أجنبية تهاجم وشعب يردُّ العدوان بما لديه من وسائل.
ولقد اعتقلت السلطات الفرنسية المدنية والعسكرية عشرات الآلاف من التونسيين؛ فمنهم من نفته، ومنهم من وضعته في المعسكرات والثكنات، ومنهم من سجنته وحاكمته، ومنهم من أطلقت سبيله بعد أن عذبته. ثم أرادت التضليل والمكابرة، فنشرت السلطات العسكرية بلاغًا في أواخر شهر أبريل قالت فيه: «إنه في يوم ٢٥ أبريل كان مجموع المبعدين التونسيين ١٣١٥، موزعين على الصورة الآتية: ٣٥ في رمادة، و٥٠٠ في زعرور، و٥٠٠ في بنقردان، ٢٨٠ في تبرسق.
ومن جهة أخرى فإن ألف تونسي قُدموا للمحاكم العسكرية، ولا يزالون في حالة إيقاف.»
هذا اعتراف الفرنسيين أنفسهم، ولو أضفنا لذلك مثله؛ إذ إنه لم يتحدث عن المحاكم الفرنسية المدنية ولا عمن اعتقلتهم السلطات المدنية خاصة، وأن الاعتقالات قد استمرت بعد ذلك مدة عامين تقريبًا!
ولم تحتفل تونس هذه السنة بعيد الشغل كسابق عهدها، ولم تجرِ المهرجانات العمالية البهيجة التي كان ينظمها الاتحاد العام التونسي للشغل.
وكانت معاملة التونسيين في المحتشدات قاسية وحياتهم فيها صعبة أليمة، فقد أقامت السلطات العسكرية الفرنسية معسكرًا بجهة باردو قرب القصر الملكي، ولم تتحدث عنه أصلًا في بلاغاتها الرسمية وخاصة بلاغ ٢٥ أبريل، فإنها نصبت هناك خيامًا لإيواء السادة الذين أُلقي عليهم القبض بمنوبة، وأضافت إليهم معتقلي الكاف وسوق الخميس وسوق الأربعاء والجديدة وطبرية، وتعددت الخيام حتى غدا المعسكر كسوق من أسواق البادية لكثرة ما فيه من أناس.
وظهرت قسوة الفرنسيين خاصة في معاملة المرضى، وكان أُلقي القبض على السيد علي بن سالم مدير مدرسة الضواحي بمنوبة — يوم ٢٦ مارس — واعتُقل بمعسكر زعرور، واشتد به المرض ولكن السلطات لم تسمح له بالمعالجة.
وإن الوطنيين التونسيين الذين لا يعرفون في المقاومة هوادة أو استسلامًا، قد تمادوا في كفاحهم داخل السجون والمعسكرات، وكان كفاحهم شديدًا جبارًا وإن اتخذ قالبًا سلبيًّا. لقد دعا القبطان المكلف بمعسكر جلال في جهة بنقردان، رئيس لجنة المبعدين الأستاذ الحبيب المولهي يوم ٢٤ أبريل، وأعلمه بأن المقيم العام قرر مبدئيًّا إطلاق سراح المبعدين السياسيين. ومن المفروغ منه أن ذلك الإجراء يشمل أولًا وبالذات المبعدين الذين قدموا مطلبًا كتابيًّا يعربون فيه عن إخلاصهم — لفرنسا بطبيعة الحال — ويتبرءون من الإرهابيين والحركات السياسية، ولا يقبل ذلك المطلب إلا بضمان شخصين، فجمع الأستاذ المولهي أعضاء لجنة المبعدين وأعلمهم بذلك، فرفضوا ما عرض عليهم بالإجماع، ولما علم القبطان الفرنسي بقرارهم ازداد شدة وقسوة، وأصدر تعليماته بتحديد التجول وإطفاء الأنوار بالمعسكر على الساعة التاسعة والنصف مساء، مع التحجير على المبعدين مغادرة زنزاناتهم مهما تكن الدواعي، وأمر الحراس بإطلاق النار من غير سابق إنذار على كل من يخالف تلك الأوامر، فلم يبقَ للسجناء إلا أن حرروا برقية احتجاج وسلموها للقبطان، فأخذها ومزقها ورمى بها.
وكان الأستاذ المولهي قد قدم من قبل للقطبان وللسلطان بعض المطالب الضرورية، فوعدت مرات بإرضائها ولكنها لم تفِ بها، بل حرمت المبعدين من بعض الحقوق التي كانوا يتمتعون بها.
ولما رأى الوطنيون تعكير حالتهم وخطورة الموقف، قرروا الإضراب عن الطعام لأجلٍ غير محدود، إلى أن تجيب السلطات مطالبهم التي قدموها من جديد، وشرعوا في هذا الإضراب يوم الأحد ٢٧ أبريل ١٩٥٢ في الساعة الثامنة مساء، وتمادى يوم ٢٨ كله، فلما رأت السلطات العسكرية أن الحركة جدية إجماعية صادرة من الأربعمائة مبعد كلهم، أعلم القبطان الأستاذ المولهي صباح الثلاثاء ٢٩ أبريل أن ساعة منع التجول قدمت إلى الساعة الثامنة مساءً، وبعد الظهر احتل الجنود بسلاحهم الكامل المعسكر وهجموا على المولهي واختطفوه واختطفوا معه أعضاء لجنة المبعدين وحملوهم معهم وهم ١٢ فردًا، وانهال الجنود على المعتقلين لكمًا وضربًا ودفعًا بعد أن أضعف الجوع أبدانهم وقضى على قواهم، ولم يراعوا شيخًا ولا مريضًا. وكان الصراخ وصيحات الألم تتعالى من الضحايا وهم يتساقطون على الأرض، فجُرح أكثر من عشرة منهم، وكان جرح أحدهم خطيرًا إلى درجة استلزمت عملية عاجلة.
واستمر المبعدون على الإضراب عن الطعام، فأُجبروا على البقاء في ميدان المعسكر تحت حراسة الجنود خارج الغرف، وفي اليوم الرابع من الإضراب — الأربعاء ٣٠ أبريل — أعلمهم القبطان بأن قائد جيوش الاحتلال قرر تمديد اعتقالهم لمدة شهر وأمرهم بالرجوع إلى غرفهم.
ثم إنه دعا المساجين واحدًا بعد الآخر، بعد أن التفَّ حوله عدد من العساكر وسألهم السؤال التالي: «هل تفطرون اليوم؟» فكان جواب ٣٩٠ من أربعمائة: «لا.» فأنزل العقاب باثنين وثلاثين من الوطنيين ونقلهم إلى زنزانات ليس فيها أبواب ولا شبابيك، وقام بدور هزلي لم ينطلِ على أحد؛ إذ حمل بعض الجنود أطباق الأكل إليهم؛ لكي يظن بقية المبعدين أن الوحدة قد انفصمت، وفي ذلك المساء أيقنت السلطات أن عزم المبعدين لا ينثني فطلبت الهدنة معهم وأجابت رغباتهم، ورجع الذين عوقبوا وفي مقدمتهم الأستاذ المولهي، وإذ ذاك فقط حُلَّ الإضراب.
وكان عذاب السجن أشد وأقسى؛ إذ يمرض فيه السليم، ويموت المريض من غير علاج، وقد توفي السيد محمد الكعبي بالسجن المدني بتونس في ٢٠ مايو، وأقام المعتقلون السياسيون هناك صلاة الجنازة على جثمان الشهيد.
وتعددت المآسي وتنوعت؛ فأُصيب الشاب عبد السلام الطرابلسي من سكان الحمامات (في شهر فبراير ١٩٥٢) برصاصات رشاشة، ونُقل إلى مستشفى التحرير بتونس بدون علم أهله، وبقي المسكين في المستشفى، وكان أهله يفتشون عنه من غير جدوى، وقد قاسوا الأمرين مدة مديدة ولم يجدوا من يرشدهم عن مصيره، وضاع أملهم في العثور عليه، وإذ ذاك فقط علموا بحالته.
وكانت تشكلت بتونس لجنة الدفاع والإسعاف الإنساني — من بين أعضائها الدكتورة توحيدة بنت الشيخ ودوران إنقليفيال — وطلبت مقابلة من المقيم، وقدمت له — يوم ١٤ فبراير — احتجاجًا عما أثبتته من أعمال التنكيل والتعذيب التي تجري على الوطنيين، قالت في تقريرها: «يسلط التيار الكهربائي على من ادعى عليهم أنهم يخفون السلاح لحملهم على الإقرار، ثم يطلق سراحهم من بعد أن تظهر براءتهم (تحقيق أجري بالوردانين).
اعتقال عشرات من الأشخاص في قاعات مراكز البوليس في ظروف صحية لا توصف مع الحرمان من الأغذية والفراش والغطاء، وتسليط العذاب عليهم بمهارة وانتظام.»
ويعتري أحيانًا ضرب من الجنون البوليس، فيستنبط أنواعًا من التنكيل جديدة؛ فقد عُلِّقت مناشير على جدران السوق بمدينة توزر — أول مايو — تدعو إلى الكفاح، فقامت السلطات الفرنسية إثر ذلك باعتقال حوالي سبعة أشخاص من بينهم إمام المسجد الكبير السيد بدر الدين بن الطاهر، ثم أجرت استنطاقات لجمٍّ غفير من أبناء توزر وعذبوهم عذابًا لا يوصف في مراكز الجندرمة والبوليس.
(٢) شهر رمضان شهر جهاد وكفاح
تعظم تونس شهر رمضان منذ العصور القديمة، فيكثر فيه التعبد وتمتلئ المساجد، خاصة في الليل، وتقوى العاطفة الدينية ويعم الصيام، وكان شهر رمضان دائمًا شهر الاحتفالات والسمر والسهرات المطربة، شهر الحلوى والمأكولات اللذيذة، وكادت تكون أيامه كلها أعيادًا، تزين فيه المدينة زينة كاملة، ويضاء ليله، وتكتظ المقاهي بالناس وتبيت الميادين العامة والشوارع الرئيسية مزدحمة بهم.
وقد قرر شعب تونس في هذه السنة أن يجعل من شهر رمضان شهر حداد على الشهداء وحداد على حرية فُقدت واستقلال ضاع وكرامة ديست وشعب يئنُّ تحت سوط العذاب، ففقدت تونس بهجتها ومرحها وأضواءها وخيَّم الظلام على لياليها، فلا زينة ولا أعلام، ولا جماهير ضاحكة في الشوارع، ولا غناء ولا طرب ولا موسيقى، بل السكون والصمت يتخلله دويُّ القنابل المنفجرة، وصيحات المعذبين في الأرض، ووقع أقدام الجنود والحرس الفرنسي في الميادين والشوارع المقفرة، وقرر شعب تونس أن يكون شهر رمضان للكفاح والجهاد.
وعرف الفرنسيون أن العاطفة الدينية تشتد في رمضان وتقوى، وربما تنقلب إلى ثورة جامحة، فأكثروا من الاحتياطيات، وعمت حركات جيوشهم وتنقلات جنودهم، وازداد نشاط البوليس وخاصة أمام المحافظة ليلة رمضان، من لوريات ثقال ودراجات نارية وسيارات «جيب»، وحركات أعوان البوليس وقد حملوا بنادقهم ورشاشاتهم، وضيقت الحراسة على المدينة كلها، ولكن الفرنسيين ما زالوا سادرين في طغيانهم؛ فقد انتخب المجلس الوطني الفرنسي «كلونا» «وبيو» كنائبين عن فرنسيي تونس في مجلس الجمهورية فحصل الأول على ١٩٧ صوتًا والثاني على ١٨٧. وهما لسان العداوة الناطقة والاستعمار الإجرامي والدعوة إلى إلحاق تونس بالتراب الفرنسي، فأحدث ذلك الانتخاب رجة جديدة في الأوساط التونسية وضاعف الغضب، وأضرم روح المقاومة.
وألقى الفرنسيون القبض على عدد وافر من الوطنيين احتياطًا لأنفسهم وطلبًا لفرض الهدوء، ولكنهم كانوا كالعطشان في الصحراء يجري وراء سراب يحسبه ماء وما هو بماء.
فألقت السلطات الفرنسية القبض على الأستاذ محمد جراد البطل الجسور والشاب الوطني الجريء الذي صفع مصطفى الكعاك عندما كان وزيرًا أولًا، واعتقلت السلطات الفرنسية معه عددًا كبيرًا من الشباب الدستوري الجديد، وأحيلوا ليلة رمضان على المحاكم العسكرية بتهم متعددة: عصابة، مفسدين، وقتل متعمد، ومؤامرة ضد أمن الدولة الخارجي بدعوى أنهم هم الذين كانوا يصدرون منشورات بإمضاء «اللجنة السرية للمقاومة»، وكانوا يصنعون قنابلهم بأيديهم.
(٣) عيد الفطر أو عيد القنابل
أقبل عيد الفطر وانسجم مع الجو العام الذي كان يسود تونس منذ أواخر سنة ١٩٥١، فكانت أيامه ولياليه صامتة خرساء، وأغلقت الدكاكين والمتاجر أبوابها، وأقفرت الأسواق والشوارع، وغارت معالم الزينة المألوفة فلم تظهر بأي شكل ولا في أي محفل، ولم يتبادل التونسيون التهاني، ولم يرتدوا ثيابًا جديدة، ولم يصنعوا ما تعوَّدوه من الحلويات الشهية.
وكان الحزن عامًّا، والحداد مخيمًا على القطر التونسي كله.
وكان السجن المدني في تونس يعج بآلاف المعتقلين من النساء والرجال والأطفال، فقامت إحدى السجينات في قسم النسوة وقالت لزميلاتها: هذا عيدنا فلنحتفل به، ولنبرهن على عواطفنا ولنعبِّر عن شعورنا، ولنشارك شعبنا، فتعالت الهتافات: يحيا الاستقلال، يحيا الحبيب بورقيبة، وثارت في صدور السيدات والأوانس السجينات العواطف والأحاسيس، فانطلقت حناجرهن بالأناشيد الوطنية، وتدخَّل الحراس في الأمر وهاجموا السيدات، فأثار هذا التدخل عواطف السجناء الرجال، فانضموا إلى النساء منشدين هاتفين.
فعاقبتهم إدارة السجن جميعًا، وحكمت عليهم بالحرمان من كل مئونة تأتي من الخارج، ومن زيارة أقاربهم وأفراد عائلاتهم.
وأعلن المسجونون كلهم إضراب الجوع ابتداء من مساء يوم الثلاثاء ثاني عيد (٢٤ يونيو).
وخشيت السلطات الفرنسية ثورة داخل السجن، فعززت الحراس بثمانين من أعوان البوليس.
ولم تنقطع المظاهرات الشعبية أسابيع بعد العيد، ففي الساعة الخامسة من ظهر الجمعة ٢٧ يونيو تظاهر عدد كبير من النسوة والرجال والشبان والأطفال أمام بيت الهادي بن رايس وزير التجارة في الوزارة الخائنة بشارع السيدة عجولة، ودوت الهتافات المعادية بسقوط الاستعمار وبسقوط الوزارة الموالية له.
وسعى البوليس الفرنسي الذي يحرس بيت الوزير الخائن في تفريق المتظاهرين بالقوة ولكنهم عجزوا، فاستنجدوا بقوات جديدة أتت مسرعة، وانسحب الوطنيون ليجتمعوا من جديد بعد دقائق أمام بيت خائن آخر وهو الوزير دنقزلي، فحمل عليهم البوليس هناك وألقى القبض على أربع نساء.
وتتابعت الهجمات على القوات المسلحة والبوليس، فقد شرع الوطنيون — في بلدة الحامة — في الساعة الحادية عشرة ليلًا في محاصرة مركز البوليس، وأطلقوا النيران عليها، ولم تعلن السلطات الفرنسية عن عدد المصابين من أعوان البوليس.
وكانت مدينة سوسة ميدانًا لنشاط الوطنيين في ليلة الأربعاء ٢٥ يونيو، فقد هاجموا مستودعًا للذخيرة (ميرادور) وأطلقوا النار على الحارس، ولكنهم انسحبوا بعد حين.
وأطلقوا النار أيضًا على أحد مدافع خفر السواحل، وطالت المعركة بين الوطنيين وبين الجند، واختفى المهاجمون في الظلام ولم يصَب واحد منهم بأذى.
وإن عيد الفطر من تلك السنة قد سمي عيد الجهاد، ولكنه كان في الحقيقة عيد الانفجارات.
محاولة اغتيال الملك
طلع صباح ١٧ رمضان (١٢ / ٦ / ١٩٥٢) وكان السكون يشمل مدينة تونس والصمت يخيم عليها وما زال دوي الانفجارات الليلية يرن في الآذان، وازدحمت الشوارع بعد ساعات بالتونسيين، وجوه عابسة وعيون يبرق منها الغضب ممزوجًا بحزن ونظرات مغلقة، يمرون وسط العساكر المدججة بالسلاح والبوليس المستعد للهجوم غير عابئين بتهديدهم ولا ملتفتين إليهم، وكانت تلك الوجوه مغلقة مقفلة كالأبواب والنوافذ يُقرأ فيها العزم وتتراءى منها البغضاء، وانتشرت إذ ذاك شائعة تسربت مع الحيطان وسارت في الشوارع وانتقلت من دكان إلى دكان، ومن بيت إلى بيت، ثم أصبحت الشائعة خبرًا يقينًا لا يداخله شك، فكانت همسًا وأصبحت صوتًا واضحًا وأضحى الصوت صراخًا وصياحًا والصراخ اضطرابًا وهيجانًا؛ نزل خبر محاولة الاستعمار تسميم جلالة الملك كالصاعقة.
ولم يستغرب شعب تونس فظاعة الحادث؛ لأن من يرتكب جريمة قتل الأطفال الرضَّع دوسًا بالأقدام لا يتحاشى عن ارتكاب أي شنيعة أخرى، خاصة وأن جلالة الملك رفض أخيرًا الإصلاحات الكاذبة المزعومة التي عرضتها فرنسا عليه، ولما وجده الاستعمار صعب المراس رغم تطاعنه في السن، مستعصي الانقياد رغم نحافة جسمه ولطف مزاجه، فليس من المستحيل أن سعى في التخلص منه بهذه الطريقة الملتوية التي تنافي الشرف وتلحق بأصحابها عارًا لا يُمحى.
وقد ظهر فيما بعد أنها مؤامرة دُبرت بليل ويقال إنه شارك فيها كبار الموظفين العالين الفرنسيين وأفراد من الأسرة المالكة.
سيدي رئيس الجمهورية
إني أتوجه إليكم بهذه الرسالة بكل احترام بصفتي رئيس الأسرة الحسينية، وبوجه خاص باسم شقيقي عز الدين باي ولي العهد، وباسم ابني عمي حسين ومحمد وهما خليفتانا المنتظران حسب ما تقتضيه المبادئ التقليدية التي حددها القانون العثماني والتي أقرتها المعاهدات التي تربط فرنسا بتونس؛ لكي نشرح لكم الأخطار البالغة التي تهددنا في الحاضر وفي المستقبل نتيجة للسياسة النظرية والعملية الحاضرة التي يبدو أنها أصبحت أساس العلاقات الدبلوماسية بين حكومة الجمهورية الفرنسية والأسرة الحسينية التي يمثلها جلالة الباي صاحب المملكة التونسية.
وفعلًا فإن التقاليد والعادات وكذلك القوانين المقررة المكتوبة تقضي بأن يكون تمثيل تونس عن طريق جلالة الباي أو ولي عهده، ولا يمكن بمقتضى معاهدات المساعدة والحماية المبرمة بين تونس وفرنسا أن يقوم طرف ثالث بهذه المهمة، فإذا ما أقرت فرنسا غير ذلك فإنها قد تقضي على روح تلك المعاهدات.
وإنه ليؤسفنا جدًّا أن نلمس ما نريد إنهاءه إليكم من أن ضعف ملكنا المحترم وتطرُّف حزب سياسي تونسي تطرفًا مفرطًا يوشك أن يجر — بدعوى حاجة تونس إلى إصلاحات — أسرتنا وبلادنا وشعبنا إلى كوارث داخلية وعالمية.
ولذلك يبدو لنا ضروريًّا أن نشير إلى مدى خطورة الأعمال التي قد تنتج في المستقبل من اتفاقات محتملة الوقوع بين حكومتكم وحكومة مملكة تونس.
أما نحن فإننا نرى أن الإصلاحات التي يريد الوزراء الذين يعملون تحت ضغط الحزب الدستوري الجديد إدخالها في البلاد عملًا بفكرة التطور الديمقراطي منافية لحقيقة مصالح تونس والأمة الحامية؛ لأنها لا ترمي إلا إلى تحقيق أغراض شخصية محضة وإلى إرضاء رغبات أنانية صرفة.
ونطلب منكم على عكس ذلك أن تزدادوا يقظة في القيام بحمايتكم لنا، وعسى أن تحمي قوتكم وحكومتكم شعبنا من استبداد المغامرين، وأن تمكنه من مواصلة تطوره المستمر ماديًّا، وفكريًّا، وأدبيًّا، والسلام الداخلي يسود القلوب والعقول.
لقد جنت بلادنا ثمرات وجود فرنسا والعمل المشترك المثمر، وهي في حاجة بوجه خاص إلى تحسينات في الميدان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ولا يمكن بحث هذه التحسينات بدون المساعدة الثمينة التي لم تبخل بها علينا فرنسا إلى الآن.
بدأ الصادق باي يذكر تعهدات فرنسا التي لم تسمح لغير جلالة الباي أو ولي العهد بالاتصال بها باسم تونس، ثم أشار إلى أن احتمال تخلي الأمة الحامية عن هذه التعهدات سيجعل المعاهدات القائمة لاغية وأن بعضهم سوف لا يتردد في استغلال هذا الموقف.
ثم أضاف قائلًا: إننا نقدر مسئوليتنا في الحاضر والمستقبل؛ ولذا نرى أنه من واجبنا أن نُنهي إليكم بكل نزاهة ما يهدد شعبنا وبلادنا من أخطار إذا استمعت حكومتكم إلى المطالب التي قد يقدمها لها أشخاص لا يمثلون إلا جزءًا ضئيلًا من الشعب التونسي.
كما إنه من واجبنا أن نشير إلى صفة هؤلاء الأشخاص الانفصالية، أولئك الذين يدعون في باريس أنهم يتحدثون عن مؤسسات بلادنا ويذكرون لكي تنجح قضيتهم التطور الديمقراطي، مع أن غرضهم الحقيقي هو السعي وراء السلطة المطلقة لا غير، حتى يتمتعوا بالامتيازات التي تنجم عن الإثراء على حساب شقاء شعبنا.
إن أولئك الأشخاص الذين لا يعرفون شيئًا عن حقيقة المبادئ الديمقراطية يديرون حزبًا أو يُسيِّرهم حزب نُسخت أنظمته من أنظمة الحزب الشيوعي الفرنسي، ويستعملون أساليب إرهابية مع من لا يخضعون لأوامرهم أو من لا يريدون الخضوع لها، وهكذا حدث مثلًا أن كان ٢٠٠ طالب بجامع الزيتونة ضحية لتسميم في المواد الغذائية ناتج عن سوء نية أعضاء ذلك الحزب وقد أحيطوا بستار من السكوت والكتمان.
وفوق ذلك فإن أولئك الأشخاص أنفسهم ينظمون إضرابات سياسية ويحملون العمال على تعطيل عملهم بتخويفهم بنشر أسماء غير المضربين لكي يصبحوا هدفًا لانتقام أعوانهم وبطشهم.
ولذلك فإننا نطلب من الحكومة الفرنسية أن تواصل مساعدتها وحمايتها مع كل ما في ذلك من مظاهر القوة والقيمة المعنوية حتى تبقى مثلًا لبلادنا.
كما نؤكد لها أن الوقت غير مناسب لإنشاء برلمان في تونس سيكون أعضاؤه هدفًا لضغط وإكراه يتنافى مع تطبيق الديمقراطية الحرة.
إن شعبنا العامل النشيط يحتاج بوجه خاص إلى العمل والأمن الأدبي والفكري والمادي، ذلك الأمن الذي ضمنته فرنسا إلى الآن، والتي تستطيع وحدها أن تضمنه في المستقبل.
ولذا فإن أسرتنا تعتمد على حمايتكم ومساعدتكم لكي يبقى الأمن محترمًا في تونس.
فما هو دور الصادق باي؟ وما هي مراميه؟ وما هي مسئوليته؟ سنتبين كل ذلك من سرد الحوادث نفسها.
وقع تعييني كطبيب أول لجلالة الملك منذ مدة وجيزة جدًّا، وكان يكون من سوء الطالع أن أجد نفسي في الأيام الأولى للقيام بمهمتي أمام تسميم الملك تسميمًا قاتلًا.
ولكن المصادفة ساعدتني، وإني لأبتهل إلى الله شكرًا وحمدًا على ما دلني في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان.
وكان ذلك يوم الجمعة ٦ يونيو، لقد دعتني الأميرة ر … إحدى كبيرات البلاط لمعالجة ابنتها المريضة، وبعد إتمام فحصها أخذتني الأميرة على حدة وقصت عليَّ حكاية لم أصدقها في أول الأمر.
فقصت عليَّ ما يأتي:
إن أحد الأصدقاء الأقربين قال لي أمس: اعلمي أننا سنسمُّ الباي الجالس على العرش، ولقد توصلنا إلى استمالة أحد خدام الباي الذي سيمزج سمًّا زعافًا مدقوقًا إما في طعام أو في شراب يقدَّم له … فقالت الأميرة لذلك الصديق: أنا أعرف طاهية بالقصر، والأضمن أن أكون أنا الواسطة، فاقتنع بعد هنيئة السيد ع … وقبل خدماتها وأكد لها قائلًا: بمجرد ما أستلم ذلك السم آتي به إليك، ثم أضاف قائلًا إن الربح سيكون خمسة ملايين فرنك.
فشكرت الأميرة على مكاشفتي بسرها وأسرعت إلى الأمير سيدي الشاذلي (نجل الملك الأكبر) وأعلمته بالقصة.
ولما رأت الأميرة أن ذلك الصديق لم يرجع، أرسلت إليه ابنها يوم الاثنين ٩ يونيو إلى دكانه بسوق النساء، فقال له: لم يصلني السم بعد، وذكر أثناء الحديث أسماء المتآمرين الذين أعادهم على الأمير الجليل سيدي محمد (نجل الملك الثاني) بعد أيام.
ورجع إليه ابن الأميرة يوم الأربعاء ١٢ يونيو فقال له: إن السم معي، خذه إلى أمك، فامتنع الابن وقال له الأحسن أن تسلمه لها أنت بنفسك.
ويوم الخميس ١٢ يونيو سلَّم ع … السم للأميرة التي أوعزت لي بالحضور، وبعد نصف ساعة كنت في بيتها صحبة الأمير سيدي محمد.
كانوا يحدثوننا منذ أسبوعين عن تسميم قريب لجلالة الملك، وقد كاشف أحد أعوان الاستعلامات إحدى الأميرات القاطنات بالمرسى بهذا الأمر، وعن ثمن الجريمة خمسة ملايين من الفرنكات والعون هو محمد ع … التاجر في الأقمشة …
وفي يوم الخميس منذ الساعة الرابعة و١٥ دقيقة بعد الظهر خابرني هاتفيًّا الحكيم عبد الرحمن مامي رئيس أطباء جلالة الملك، فدعاني للحضور على جناح السرعة بالمرسى، وكان ع … هناك وكنت حاسر الرأس فظنني رئيس مركز البوليس، واعترف بكل شيء، فهو من المشاركين في المؤامرة، وفاز بعد ذلك بمبلغ مالي قدره ٧٧٥ ألف فرنك.
وقد وجد سيدي محمد باي في محفظة نقود السيد ع … السم الذي أعدَّ لتسميم جلالة الملك بواسطة طاهية البلاط، وانتقل الجميع بعد ذلك إلى قصر قرطاجنة، حيث سُجِّلت تصريحات محمد ع … بواسطة شريط ووعد ع … بالحضور في اليوم التالي في الساعة الثالثة بعد الظهر لتقديم معلومات إضافية والكشف عن أسماء مدبري المؤامرة، إلا أنه لم يعُد بطبيعة الحال، واختفى منذ تلك الساعة.
فمن هو السيد محمد ع …؟ وما هي اتصالاته بمحمد الصادق باي؟ وما هي علاقاته مع الفرنسيين وخاصة إدارة الاستعلامات؟ فهو جزائري اسمه أحمد واشتهر محمد عاشوري، كان يشتغل في السوق السوداء مدة الحرب، وأصبح فيما بعد تاجر أقمشة وفتح دكانًا بسوق النساء، ومنظره وسخ قذر؛ لا يحلق شعره، ولا يعتني بثيابه البالية، وهو من أتباع الصادق باي وأعوانه وحاشيته، وهو منجِّمه الأكبر وكاشف الغيب له ومطلعه على المستقبل! وذلك ثابت لا يحتمل الشك أصلًا، فزمن كان التونسيون جميعًا يقاسون من منع التجول الأمرَّين حصل الصادق باي لمنجِّمه وخادمه محمد عاشوري على رخصة من الجنرال جارباي القائد الأعلى لجيوش الاحتلال (بتاريخ ٢٠ / ٢ / ١٩٥٢) تسمح حسب عباراتها ﻟ «م. عاشوري، متوظف صاحب السمو الصادق باي أن يتجول بحرية بالقطر التونسي»، وعاشوري معروف في الأوساط الوطنية بانتمائه إلى قسم الجوسسة الفرنسية وأنه أحد المخبرين عندها.
ودعا عبد الرحمن مامي بالدكتور عبد السلام خالد الأخصائي في التقطير والتحليل الكيماوي، ولما حلل تلك المادة الحمراء وجد أنها من نوع «الأكونيتين» الفتاكة، وزيادة في التحري أُرسلت كمية منها إلى باريس لتحليلها واحتُفظ بالكمية الباقية في القصر الملكي.
ولما تحققت المؤامرة قدَّم جلالة الملك قضية عدلية بالمؤتمرين على حياته بعد أن استشار رجال القانون من حاشيته، وكلَّف بالاشتغال بها الأستاذ فتحي زهير وأحد المحامين الباريسيين الكبار الأستاذ جورج إيزار.
شغلت مؤامرة التسميم النذلة المدبرة ضد القصر الملكي العامر النوادي والمجالس والرأي العام في الداخل والخارج، وقد تواصل الاستنطاق والمكافحة بين المتهمين والشهود عليهم، وأخذ البحث يكشف الستار عن بعض الأسماء المورطة في المؤامرة، وتتضح قائمة هذه الأسماء يومًا عن يوم بصورة تثير الاندهاش وتدل على اتساع نطاق هذه المؤامرة اللعينة.
أما العاشوري وهو رأس هذه المجموعة فلم يُعثر عليه حتى الآن، والمظنون أنه لن يقع العثور عليه البتة حتى يوم القيامة، كما أن سلسلة الانتحار أو كتم الأنفاس تتسع حلقاتها في هذه الأيام بمناسبة اشتداد الحرارة، وستتسع حركات السفر إلى الخارج طلبًا للراحة والاستجمام والهروب من العواصف العاتية التي تجتاح تونس هذه الأيام.
ونستطيع أن نفسر عدم التمكن من العثور على العاشوري، رغم التعليمات المشددة الصادرة إلى البوليس في هذا الشأن، بأن هذه الشخصية العريقة في صناعتها قد قيل إنها من المنجمين ومستطلعي الغيب وأصحاب العرافة وزجر الطير، ولها بناء من وسائل التبخر والاختفاء، وما يضمن لها الاحتجاب عن العيون مهما تكن نافذة وبصيرة، فقد يكون العاشوري قد لبس طاقية الإخفاء التي تتحدث عنها قصص ألف ليلة، فاختفى عن الأنظار!
وقالت الجريدة الاستعمارية «لابريس» (٢٢ / ٦ / ١٩٥٢): «وتؤكد بعض الأوساط أن عاشوري ليس بالمعتقل ولا بالمسجون، وليس بالجزائر، ولكنه قُتل ودُفنت جثته قرب المرسى؛ لأنه شاهد مهذار.»
إن بعض المعلقين في باريس يرون في هذا الحادث أنه عبارة عن مناهضة شق من العائلة المالكة لشق آخر منها، يحاول بها أحدهما القضاء على الآخر، ولسنا في حاجة لأن نقول أيهما يتجه ضد الآخر، وهذه الصورة في تعليل حادث التسميم محتملة جدًّا وقريبة من الحقيقة ولكن لا يظهر أن لها صلة بالحقيقة.
… وهناك تأويل آخر في باريس لهذا الحادث، وهو تأويل من لا يصدقون بوقوعه أصلًا، وهم يعتمدون في تأويلهم هذا على أن الأيام الأخيرة كانت مثقلة باستياء عميق اجتاح قسمًا كبيرًا من السكان في تونس، وهم الذين يتألمون في مصالحهم من جراء الاضطرابات الحاصلة في البلاد.
ومن هنا تولَّدت هذه المؤامرة وحُبكت حبالها للوصول إلى أقصى غاية منها، والعادة المعروفة في الشرق أن الناس لا يترددون في الذهاب إلى أبعد حد في آرائهم، على أن الأنباء الأخيرة الواردة على باريس لا تترك أي مجال للشك في وجود مؤامرة.
يبدو حادث التسميم كأنه أمر بعيد عن الواقع في عين الجالية الفرنسية بتونس، وهم يضعون هذه القصة الخرافية في موضعها الذي تستحقه والذي يتلاءم مع طبيعة بلاد تسيطر عليها طبيعة الذكريات الشرقية وعاداتها المستحكمة.
والأجدر بالحقيقة أن ننظر إلى هذه القضية من الوجهة الهزلية إذا أردنا أن ننتهي منها إلى الواقع والحقيقة، لأنها قصة مثيرة للضحك إذا لم تتسبب في تعقيدات في المحيط العالمي.
إن هذه الخرافة المصطبغة بصبغة القرون الوسطى تعبر أيضًا عن حالة النفسية المسيطرة على القصر الملكي، حيث تتولد المؤامرات عن المطامع الفاشلة، ونحن نعلم من قبل هذا الحادث الدور الذي لعبه في هذا القصر البنون والبنات وسلالاتهم إلى أن اختفى من المسرح الولد البكر الذي كان فيما سبق كثير العمل.
أما في الميدان المادي لهذا الحادث، فنلاحظ في تعجب ودهشة — بالرغم من خطورة الاتهام — أنه لم تقع الاحتياطات الأولية للتأكد من التطابق المطلق في الأدلة والبراهين التي لم تتنسق إلا في تصريح جانب واحد.
على أن الارتباك والحيرة الحاصلين في القضية يبرران فقدان هذا الانسجام، ولكنه يضر على الأقل بالحقيقة ويحرمها من أن تكون مبرأة من الشوائب.
وأخيرًا فإن الذي لا شك فيه في هذه المسألة هو أنها تصلح ذريعة وجيهة جدًّا لرفض مشروع الإصلاحات الجديد، فهل نفهم أن هذا هو الأصل الحقيقي للقصة كلها.
وقد أرجعت جريدة «الصباح» الحقيقة إلى نصابها وفندت أقاويل الصحافة الاستعمارية وأزاحت الستار عن نوايا القوم وخبثهم فقالت: «إن الرأي العام التونسي الذي يطالع بمنتهى الاهتمام كل ما يقال عن الحادث الهام لينظر إلى هذه التأويلات بعين مريبة جدًّا، ويتساءل عن أسبابها الحقيقية التي جعلت أصحابها يندفعون فيها دون تحرج، بل ويتفقون في جوهرها الذي جعلوه مجرد «عادة» من عادات الشرقيين استولت على الأسرة المالكة في هذه الظروف.
لقد قيل إن العدالة قد أخذت على عاتقها مهمة البحث والتحقيق في الحادث، وبالرغم من أن الرأي التونسي ينظر بعينه الخاصة إلى سبب هذا الحادث، ويفهمه فهمًا يعتبره هو الحقيقة بعينها، إلا أنه احتفظ برزانته وتثبته، ولم يندفع اندفاعًا طائشًا في التعاليق التي قد تضر التحقيق الذي استلمته العدالة، ولكنه في الوقت نفسه يفهم أيضًا التأويلات التي راحت هذه الصحف تنشرها وتتوسع فيها، وهو فهم يؤيد له فهمه المتعلق بسبب الحادث نفسه.
ولسنا في حاجة لأن نغرق في التفصيل والتدليل على أنه يتساءل لماذا يا ترى تحاول هذه الصحف أن تعزو سبب الحادث إلى القصر نفسه، وفي العائلة المالكة وحدها دون غيرها، فهل تفعل ذلك لكي تبعد الشبهة عن عناصر أخرى خارجة عن القصر، قد كان لها ضلع أو لعلها كانت هي السبب الأول والأخير في هذه المحاولة الفاشلة المفضوحة؟
بل ولماذا نحاول إلى جانب ذلك أن ننكر وجودها إنكارًا تامًّا ونكتب عنها بأسلوب يوهم أن الحادثة مختلقة من أساسها ولا أساس لها من الواقع؟
إن هذا التعجل والحرص الغريبين اللذين تبديهما بعض الصحف التي اشتهرت في المدة الأخيرة بمناوأتها للتونسيين واستفزاز عواطفهم واستغلال كل شيء للمسِّ بهم فقد جعلت الرأي العام التونسي يتأكد من تأويلاته هو لهذا الحادث الشنيع.»
لم يستغرب شعب تونس من خسة الاستعمار الفرنسي وانحطاط أنصاره وسفالة طبعهم وسفه أخلاقهم وصلفهم وكذبهم وتزييفهم، فلا عجب ممن اغتالوا الشهيد فرحات حشاد غدرًا ومثلوا بجثته، وقتلوا الشهيد الهادي شاكر شر قتلة وشوهوا جثمانه الكريم، أن يسعوا في ارتكاب جريمة أخرى ويسعون في تسميم جلالة الملك، وخاصة أن المجرمين معروفون لدى السلطات الفرنسية وأسماؤهم فوق مكتب المقيم الجديد «فوازار» الذي تنصب فيما بعد مكان السفاك دي هوتكلوك ولم يعتقل ولم يحاكم أي واحد منهم إلى هذا اليوم.
وقد صرح المحامي الفرنسي جورج إيزار — وهو رجل جدي — إلى الجريدة الاستعمارية «لابريس» (٢٧ / ٦ / ١٩٥٢) بعد أن جاء إلى تونس لدراسة القضية قال: «لقد اطلعت أمس على كامل الملف، وإن القضية تظهر لي جدية جدًا، ولو لم تكن كذلك لما قبلت التكليف بها»، وأضاف: «لا يمكن أن تكون قضية التسميم قضية خيالية أو ظاهرة من ظواهر الشعوذة الجماعية، إذ لو كانت من هذا النوع فلم اختفى العاشوري عن الأنظار؟»
ولما نقلت الألسن خبر تلك المؤامرة الدنيئة، انتشر السخط والحنق، واهتز الشعب اهتزازًا عنيفًا، وكانت الأعصاب متوترة من قبل، وزاد الصيام في حماس الجو، وما كادت تبرز الصحف — صباح ١٤ / ٦ / ١٩٥٢ و٢١ رمضان — ناقلة نبأ التسميم حتى أضربت العاصمة التونسية وضواحيها احتجاجًا واستنكارًا لهذا العمل الإجرامي الفظيع المدبر، وقد توقفت حركات النشاط توقفًا كاملًا وساد العاصمة جو رهيب غاضب، وامتد الإضراب العام من مدينة تونس إلى جهات القطر شيئًا فشيئًا حتى شملها كلها في آخر اليوم، وتهافتت الاحتجاجات من مدن المملكة وكثرت وتعددت، وكانت الصحف التونسية صدى موجة عميقة جامعة من الاحتجاجات، فقد كتب أهالي مدينة صفاقس قائلين (١٥ / ٦ / ١٩٥٢): «ما كاد خبر الاعتداء على القصر الملكي بالتسميم ينتشر في عاصمة الجنوب حتى عمَّها الحنق والاستنكار الشديد، وأضربت المدينة إضرابات شاملة احتجاجًا على هذا الاعتداء، وأن أهالي صفاقس يحمدون الله على نجاة مليكهم من هذه المؤامرة ويتقدمون لجلالته بخالص تهانيهم على سلامته.»
وبطلت كل سهرة وانطفأت جميع الأنوار في تلك الليلة من رمضان، وكان مظهر الإضراب في الليل مروعًا رهيبًا؛ إذ ساد العاصمة التونسية وضواحيها الظلام، وساعدت السحب الدكناء التي خيمت والبروق والرعود، فكست المدينة حلة من الإجلال الحزين.
واستمر الإضراب العام شاملًا البلاد كلها، فكانت جميع الأسواق مقفرة خاوية على عروشها، وكذلك فندق الغلة، وكل دكاكين المدينة، وقد شارك مجموع السكان في هذا الإضراب العام الذي ساده جو من السكون والهدوء، واعترفت الصحف الاستعمارية المعادية بنجاحه الباهر (تونس، سوار، ١٤ / ٦ / ١٩٥٢).
ثم انتظمت المظاهرات الشعبية المتوالية، فقد انتظمت في صباح ١٤ يونيو مظاهرة كبرى ضمت عددًا وافرًا من أبناء الشعب، واخترقت الأحياء القديمة حتى أشرفت على باب الجزيرة، فاعترضتها قوات الأمن الفرنسية واصطدمت معها وسعت في تشتيتها وألقت القبض على عدد من الشبان.
الأمير الشاذلي أكبر أنجال جلالة الباي قال لي
ليست محاولة تسميم الباي خرافة شرقية، إنما هي مؤامرة شارك فيها على الأقل خمسون شخصًا.
إن التونسيين عندما تحدثهم عن محاولة التسميم التي استهدف لها جلالة الباي يوم ١١ يونيو الماضي يجيبونكم في حذر.
إنك أنت أيضًا تعتقد أنها خرافة شرقية.
ومن الصعب أن تقنعهم بأنك إنما تسألهم للاستطلاع، إن صحافة تونس «الفرنسية» قد أظهرت الحادث في مظهر الدعابة والخرافة أو في مظهر قصة عائلية، فالرقابة لا تسمح بأن تنشر الصحف إلا سطورًا ليست ذات أهمية، فإذا فكرنا في القدر الذي كانت تشغله في الصحافة الفرنسية أقل تفاصيل لمحاولة مماثلة يستهدف لها رئيس الجمهورية لا يمكن إلا يعتبر الإنسان السكوت في هذه الحالة ذا دلالة.
ففي الحالة الحاضرة التي يسودها التوتر إلى أقصى حد لا يوجد تونسي لا تدل في نظره محاولة اغتيال الأمين باي على حدث سياسي خطير جدًّا. وهذا القول صحيح إلى حد أن الإضراب الذي أُعلن يوم ١٤ يونيو عندما انتشر الخبر نجح نجاحًا لم يسبق له مثيل، فقد كان إضرابًا إجماعيًّا، وقام الأستاذان «إيزار» و«زهير» (والأخير هو محامي جلالة الباي الخاص) باسم جلالة الباي بإقامة الدعوى، وإن في تولي الأستاذ «إيزار» الدفاع في هذه القضية دليلًا في نظر التونسيين على حقيقتها وخطرها، فالأمين الأول في نظرهم ليس صاحب السيادة القانونية فقط؛ بل هو بالإضافة إلى ذلك أحد أركان مقاومتهم؛ ولذا فإن محاولة القضاء عليه أثارتهم أكثر مما قيل.
فاضطررنا سعيًا وراء بعض المعلومات إلى الالتجاء إلى من استهدفهم هذا الحادث، فلا يمكن سؤال من ينكر وجود أمر مادي ملموس حول ذلك الأمر؛ ولذا ذهبنا نبحث عن المعلومات لدى الأمير الشاذلي النجل الأكبر لجلالة الباي.
فاستقبلنا في منزله بضاحية «المرسى»، وهو رجل أشقر طويل القامة ذو عينين براقتين، ما زال مظهره رياضيًّا رغم الأربعين، وأيد ذلك أسلوبه في إدارة الحديث في حماس وصراحة، ثم في تراجع وتحفُّظ يبررهما مركزه وموقفه.
قال لنا: هل رأيتم كيف يُقطع عني التليفون، أنا ابن جلالة الباي؟!
(ورفع سماعة تليفونه الصامت وقدمها لنا).
– إننا نقيم هنا منذ شهر أبريل، وقد طلبت مرارًا من الإدارة أن تعيد للتليفون الحرارة فوعدتني، ولكنها لم ترسل أي شخص، ففهمت … (ورفع يده بإشارة عجز).
– هل تتفضلون بمحادثتنا عن واقعة التسميم؟
فقال بشدة: أولًا: إنه حادث حقيقي؛ فهو ليس خرافة شرقية، إنه أمر واقعي، إنها مؤامرة شارك فيها في نظري خمسون شخصًا.
– كيف وصلتم إلى اكتشافها؟
– قبل بضعة أيام أخبرني الدكتور «مامي» رئيس أطباء صاحب الجلالة، بمؤامرة يجري حبكها ضد جلالة الباي بضاحية «المرسى»، وقال لي: إن بعضهم يعدُّ حادث تسميم، فلم أهتم بالأمر، بيد أن أميرةً تقيم في «المرسى» أخبرتني كذلك بالمؤامرة.
هي الأميرة رقية، إنها قريبة للملك الحاضر، ليس لها علاقات مستمرة بالقصر، ولم تكن علاقتها بالباي بصفة رسمية طيبة؛ إذ لم يبقَ في خدمته ابنها ياور الملك السابق المرحوم المنصف باي، ولكنها مرضت فأرسل لها جلالته طبيبه الخاص ومبلغًا من المال، فهل كان الاعتراف بالجميل هو الذي دفعها إلى كشف المؤامرة؟ إن الأمير الشاذلي لم يقل شيئًا حول كل هذا.
واكتفى بقوله: كان البائع «العاشوري» متصلًا بالأميرة، واتفق معها بأن يسلمها السم يوم الخميس حوالي الساعة الخامسة، فأعلمت الدكتور مامي عن طريق طفلة صغيرة، فخاطب الدكتور أخي محمد بالتليفون، وذهبا سويًّا إلى الأميرة، وكان «العاشوري» هناك فسأله أخي: «أين السم»، فأشار «العاشوري» إلى صدره، فخلعت ملابسه وعثرت على قرص صغير لونه وردي، وكذلك جواز مرور بإمضاء الجنرال «جارباي» يصرح «للسيد العاشوري الموظف لدى سمو الصادق باي أن ينتقل بكل حرية في البلاد التونسية»، وتاريخ تلك الوثيقة هو ٢٠ فبراير (١٩٥٢).
– هل حققتم معه؟
– لم أره إلا مدة خمس دقائق، ولكنه ذكر كل ما يعرف لأخي، ويبدو من كلامه أن أشخاصًا آخرين من القصر يشاركونه في المؤامرة؛ ولذلك أطلقنا سبيله.
– لماذا لم تسلموه للبوليس؟
– كان قد وعدنا بالعودة في الغد في الساعة الثانية بعد الظهر ومعه جميع المعلومات الخاصة بالمؤامرة، ولكنه لم يعُد، والبوليس يبحث عنه ولم يعثر عليه بعد، فإذا اعتُقل اعتقد أنه سيفصح عن كثير من الأمور.
– هل ذكر لكم من سلمه السم؟
– لا أستطيع أن أذكر لك أي اسم، لقد سلمنا هذه القضية للعدالة، ونحن نحتفظ بالسر حتى يمكن اعتقال كل المتآمرين.
– هل ذكر أسماء أشخاص فرنسيين؟
– نعم! نعم!
– أسماء خطيرة؟
– إنها … أسماء فرنسيين، لا أريد أن أكاشفكم بشيء، ولكني أؤكد لكم أنها مسألة خطيرة.
– ما الذي دعا العاشوري إلى إعلامكم بكل شيء؟
– لقد دفعه الخوف، ولكني لا أستطيع أن أخبرك بأكثر من هذا، فالبوليس بأيدينا … قد ينكشف ذلك يومًا ما ويعلم الناس الحقيقة، فهناك على الأقل خمسون شخصًا شاركوا في المؤامرة، فلماذا أبوح بالأسماء الآن، لقد قلت كل شيء لقاضي التحقيق، كما ذكر له أخي والأميرة «رقية» كل ما يعرفان.
– لماذا أطلقتم سراحه؟
– لقد ذكرت لكم السبب؛ أن البوليس ليس بأيدينا.
– وضرب الأمير الشاذلي مكتبه بالمسطرة التي كانت بيده في حركة جافة.
– هل قال لكم أن أحدًا دفع له مالًا؟
– لم يقل لنا شيئًا، ولكنه أشار إلى بعض الشهود أنه سيستلم خمسة أو عشرة ملايين.
– ماذا كان يحدث لو سلمتوه للبوليس؟
– إنه الآن هارب. ولكني لا أبحث عنه هو، إني لا أهتم إلا بأمر واحد، وهو أننا أنقذنا حياة صاحب الجلالة واتخذنا بعض الإجراءات بالقصر، ولكني أعلم الآن أساس المؤامرة، وليس من شأني أن أصرح بذلك، وإنما هو شأن العدالة الفرنسية.
– أصحيح أن الكيماوي الذي أتيتم به وعرضتم عليه السم فقد وعيه بعد أن ذاقه؟
– صحيح لقد وضع منه جزءًا بسيطًا صغيرًا على شفتيه وإذا به يسقط فاقد الوعي.
– لقد وقع تكذيب هذا الأمر.
– إنني أقول لك إنه صحيح، غير أن الصحف لا تستطيع أن تقول شيئًا هنا بسبب الرقابة؛ ولذا وقع التكذيب، لقد سقيناه قهوة لكي يعود إلى رشده.
– كيف تفسرون الوقائع؟
– فابتسم الأمير الشاذلي وبدا له السؤال سخيفًا إلى أقصى حد؛ إذ لم يكن يستطيع ولا يريد أن يجيب عليه، ونزلت المسطرة على زجاج المكتب ثم قال: إننا ننتظر، فالأمر بيد العدالة.
ولما سألناه عن انتحار الياور السابق لجلالة الباي الذي أصبح ياور الوزير الأول قال: كان أخوه صديقًا للعاشوري، وكان هو يردد ليلة موته: «كل الناس تحدثني دائمًا عن حادث التسميم، إني ليس لي أي شأن بالموضوع، إنه أخي.» ومهما يكن من أمر لقد دفن الآن … لقد قيل إنه انتحر بطلقتي مسدس، أليس ذلك صعبًا؟ وعلى كل لقد قيل إنه «انتحر».
ويبدو من الوقائع الملموسة أن التسميم كان سيتم على النحو التالي:
العاشوري يسلم السم إلى الأميرة «رقية» التي تسلمه إلى مساعد الطباخ، ومساعد الطباخ يتولى مع الشاويش مختار خادم جلالة الباي على المائدة وضعه في طبق جلالته، وقد أطرد الشاويش مختار وكذلك مساعد الطباخ.
أما القرص الوردي — ويقال إنه من مادة الأكونيتين — فقد أُرسل نصفه إلى باريس للتحليل، وبقي النصف الثاني بأيدي العائلة الملكية.
وختم الأمير الشاذلي حديثه بقوله: «إننا نثق بالعدالة الفرنسية، فلننتظر، ولكن يجب ألا يقال إنها خرافة شرقية.»
ونزلت المسطرة مرة أخيرة على المكتب تصحب نزولها ابتسامة انتهى على أثرها الحديث.
وتروج الآن إشاعات متعددة في تونس لا يمكن التأكد من صحتها، فإذا قبلناها أصبح كلام الأمير الشاذلي واضحًا غاية الوضوح، والرأي السائد أنه اعتداء ذو صبغة سياسية، فقد قيل إن العاشوري الذي هرب في نظر بعض الناس واغتيل أو سجن في بعض البيوت في نظر غيرهم، كان الوسيط بين مدبري المؤامرة، ويهمس الناس بأن مدبري المؤامرة هم موظفون عالون في الإقامة العامة، وبعض أفراد العائلة الملكية الذين تهمهم وراثة العرش.
ويقال إنها مؤامرة سياسية؛ لأن الأمير عز الدين والأمير الصادق وهما خليفتا الأمين باي حسب قاعدة الوراثة المعمول بها لا يمكن أن يقاوما السياسة الفرنسية في تونس.
والعاشوري كانت له صلة بالأمير الصادق الذي تربطه به، وكذلك بالأميرة «رقية» ميلهم للشعوذة وعلوم السحر، غير أن العاشوري الذي استند إلى علاقاته ليعلم الأميرة «رقية» بالمؤامرة كان يجهل إنها تعترف منذ عهد حديث بجميل الأمين باي عليها، فقد أبدت له استعدادها للمشاركة في المؤامرة؛ لكي تستطيع كشفها بسهولة.
وعلى كل فإنه باعتقال العاشوري وهو أمر مستبعد — حسب الرأي السائد هنا — ينكشف كل شيء حول هذه القضية الغامضة ويتبين أساسها.
وأُلقي القبض في حمام سوسة يوم ٢ مايو على السادة: يوسف الحوار وشعبان الحوار وعبد القادر دغرير والعجمي الكبش والصادق دغرير، وحُملوا إلى ثكنة سوسة حيث لحقهم ألوان لا توصف من التنكيل.
وفي ذلك اليوم نفسه اعتُقل بمدينة بنزرت طالبان من معهد ستيفان بيشون، إثر اجتماع شعبي كبير بالمسجد الأكبر، وهما: رشيد تراس ومحمد بن قارة.
وأجرت السلطات التفتيش في بيت الأستاذ أحمد الزمني مدير جريدة «الرسالة» يوم الخميس أول مايو، ثم أُلقي عليه القبض، وعلى الأخ محرز بن الأمين الكاتب العام للاتحاد المحلي على الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهو مريض، وعلى الأستاذ عبد الحميد الفقيه، مهندس الجسور والطرقات، وأخيه الطالب بمعهد الدراسات العليا، وظل البوليس يفتش عن شقيقهما الثالث.
واعتقلت السلطة ثلاثة شبان من أبناء قصر هلال.
ألقت السلطات الفرنسية القبض في مساء الاثنين ١٩ مايو في حي باب المنارة على السادة: الشاذلي حمادية، وأحمد الباي، وحمادي البكوش، ومحيي الدين قدور، وناجي البكوش.
اعتقلت الجندرمة في باجة ثلاثة تونسيين بتهمة إتلاف جهازين من أجهزة منجم سيدي أحمد بقرب الجبل الأبيض.
وحكمت يوم ٩ مايو: (١) على اثنين من وطنيي الكاف بثلاثة وأربعة أشهر سجنًا؛ للقيام بمظاهرة في الطريق العام يوم ٢٣ فبراير بالكاف. (٢) وعلى خمسة آخرين بتهمة تنظيم مظاهرة يوم ٢٠ مارس. (٣) وعلى ١٧ وطنيًّا بتهمة حمل السلاح وقطع أعمدة التليفون بمدد تتراوح بين شهر وخمس سنوات سجنًا وغرامات من ١٠٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ فرنك. (٤) وعلى ٢٣ وطنيًّا بتهمة حيازة سلاح وثلب أعوان القوة العامة وتحطيم أعمدة التليفون من شهر إلى ٣ سنوات سجنًا مع غرامة من ١٠٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠٠ فرنك وبراءة واحد فقط.
أُلقي القبض على الشيخ الحاج محمد زخامة بتهمة المشاركة في حوادث المكنين، وقد نُقل يوم السبت ٣١ مايو من ثكنة الجندرمة إلى السجن العسكري بالحاضرة.
اعتُقل بمدينة القيروان في مركز الجندرمة السادة محمد السيد ومصطفى كريم والطيب العدسي ثم أضيف إليهم محمود السيد بن خود، وصالح الصمني، وابن المجرابة وغيرهم.
في يوم ٢ يونيو أُلقي القبض على السيد العربي بن علي بن عبد الله رئيس شعبة فايض وسيق إلى بلدة الرديف.
توالت الاعتقالات بقرية مسجد عيسى؛ ففي ٣١ مايو حل بالقرية البوليس، وألقوا القبض على السيد علي بن عمر، وفي يوم ٢ يونيو هاجموا محل السيد أحمد بن عمر حمدة، وأخرجوه منه الصباح المبكر، ويوم ٤ يونيو ألقوا القبض على السيد حامد رزام أثناء قيامه بحصاد زرعه في هنشير السواسي، وقد حُشر جميع هؤلاء الوطنيين في مركز البوليس بسوسة.