ديليت
بدأت القصة بهذه الكلمات:
رأيته — للمرة الأولى — في شارع الميدان. ثبتَت ملامح وجهه في ذاكرتي، وإن اختفى كطيف. لم أستطع التعرف إلى ملامحه الجسدية، ولا الثياب التي كان يرتديها. احتفظت بملامح وجهه للنظرة العميقة من العينين الملتمعتين، كأنهما تأمراني بأن أودعهما ذاكرتي.
تعددت رؤيتي له في ميدان المنشية، على شاطئ الأنفوشي، أسفل النصب التذكاري لسعد زغلول، وراء نافذة القطار المتجه إلى القاهرة.
عرفت أنها ملامح الوجه نفسها، وإن تبدل ما كان يرتديه: جلباب، بدلة، عباءة، وثياب أخرى.
رافقَت الرؤية إشارات وتلميحات وتشويحات باليدين، وكلمات مرتفعة وخافتة صعب أن ألم بمفرداتها.
يترامى — من خلفي — وقع أقدام. ألتفت، لا أجد أحدًا. يطالعني صمت الشوارع الجانبية. أسرع في خطواتي، هربًا مما يشغلني من هواجس وأفكار.
ثمة شيء كالقلق، كالخوف، يتوارى في داخلي، لا أعرف ماهو بالتحديد، ولا إلى أين يتجه.
تنتابني — بلا سبب — حالة من الارتباك الشديد. تداخلني مخاوف مجهولة المصدر، أحاول التخلص منها، أطمئن إلى غيابها، لكنها — في لحظة لا أتوقعها — تعود، يلفني القلق والشك والتوجس.
بدت الكلمات مدخلًا جيدًا لقصة، ثمة شخصية هي الراوي، وثمة مكان وزمان، وحياة تشقي من حوله، وأزمة يعانيها.
لماذا اخترت الحكي بأسلوب الراوي؟ ولماذا خوف الإنسان؟
أشعر — في أحيان كثيرة، وحتى الآن — أن ذهني مزدحم بعشرات الرؤى والصور والوقائع والذكريات التي تحرضني على تسجيلها، على كتابتها في صورة إبداعية، أو في سيرة ذاتية، وإن كانت البداية — في الأغلب — شخصية عابرة، أو حدثًا بسيطًا. الشخصية التي أعرض لها بأسلوب الحافر على الحافر — في تعبير اللغويين — أولى بها سيرة ذاتية، أو ترجمة، لهذه الشخصية.
قد أستقي الشخصية التي أتناولها في قصة أو رواية لي، من أحد الأقارب أو الأصدقاء، لكنني لا أصور الشخصية كما عرفتها، وإنما كما تكتبها الرواية أو القصة، تختلط الملامح التي أعرفها بملامح الشخصية الفنية.
ثمة شخصيات أميل إلى الكتابة عنها بمجرد رؤيتها، كتلك السيدة التي رأيتها في محطة الترام، وهي تحمل حاجيات بيتها، لم تفارق ذهني حتى كتبت عنها — بعد عشرات الأعوام — في تبقيعاتي النثرية «مد الموج».
إذا أردت تصوُّر مشهد مكاني، فإني ألجأ إلى الورقة والقلم، أرسم المشهد بكل تفصيلاته، بحيث يعينني على التصور في أثناء الكتابة.
ذلك ما فعلته عندما تهيأت لروايتي «قلعة الجبل»، كانت عائشة عبد الرحمن القفاص تسكن حدرة الحنة، ذهبت إلى شارع الجاولي الذي تشير الكتب إلى تفرع الحدرة عنه، عرفت أنها تلاشت بتوالي السنين. لكن «الجودرية» ظلت قائمة، ربما لأن المسافة الزمنية قريبة من الحملة الفرنسية، وساكن بيت الجودرية الشيخ خليل البكري، وابنته زينب.
ذلك أيضًا ما فعلته في العديد من فصول «رباعية بحري»: قلعة قايتباي، حلقة السمك، قصر رأس التين، جامع أبو العباس، بيت المسافر خانة، قصر أم البحرية، متحف الأحياء المائية، وأماكن أخرى.
أذكر أني ترددت — مرات كثيرة — على القهوة التجارية، أستوعب قسمات المكان الذي كان له دور البطولة في روايتي «المينا الشرقية»، وصحبت صديقي الدكتور محمد زكريا عناني إلى شارع صفر باشا، ملنا إلى شارع جانبي هو أحمد كشك، لأقرن الصور التي أتذكرها في مقام سيدي منصور، في جانب الشارع، بما هو قائم، وطالت جولاتي في شارع محمد علي، وما يتفرع عنه من شوارع وحارات ودروب، أتأمل، أحدق، أسأل، أسجل، أتصور العالم الذي سيكون نبضًا لروايتي «سكة المناصرة».
قال لي نجيب محفوظ إن عنايته بالشخصيات الهامشية، والثانوية، لا تقل عن عنايته بالشخصيات الرئيسة: أم حنفي، بائعة الدوم، بائع الصحف، جرسون القهوة، الجندي جوني، شيخ الحارة … إنه يحرص على أن تكون ضمن ملفات الشخصيات الروائية، تتناثر في سياق العمل بما يضيف إليه. ولأن أم مريم مثلت إضافة غير محسوبة للأحداث، فقد أسقطها الفنان بالموت!
بالإضافة إلى النوتة الصغيرة التي كان يضعها نجيب محفوظ في الجيب العلوي للجاكت، فإنه كان يحرص أن يضع ملفات لشخصيات الرواية، وتطورات أحداثها، متى تظهر الشخصيات؟ ومتى تختفي؟ وإلى أي حد يظل الفنان ممسكًا بخيوط العمل، لا يفلته إلا وفق إرادة مسيطرة، هي إرادة الفنان.
وإذا كان نجيب محفوظ قد حدد سن الثامنة عشرة موعدًا لوفاة نعيمة في ثلاثية «بين القصرين» فإن سواها من الشخصيات خضعت لذلك التنظيم الصارم الذي وضعه الفنان، مثل ظهور الشيخ متولي عبد الصمد في بداية الثلاثية، تخاطب أحمد عبد الجواد — بجرأة تمليها الشيخوخة — وظهور الشيخ في نهاية الرواية، يسأل عن الميت الذي تشيعه الجنازة: من هو؟ وكان ذلك الرجل هو أحمد عبد الجواد. ومصادفات أخرى، متعمدة، بعضها يبلغ حد السخف، مثل وفاة أم مريم بأمر السماء. وظني أن الأمر كان قد اتخذه الفنان حتى لا تشكل المرأة نتوءًا في مسار الرواية، استلهامًا — ربما — من طريقة يوسف وهبي في التخلص من شخصياته التي أدت أدوارها.
وقبل أن يبدأ نجيب محفوظ في إعداد ملفات الثلاثية، فإني أجده قد تنقل — بعيني الفنان — في شوارع الحي وميادينه وحواريه وأزقته وأقبيته، وبين بيوته ومساجده وزواياه ودكاكينه ومقاهيه، يتأمل كل شيء بدقة، يبحث عن المعالم التي ستكون قوامًا لروايته.
لأن بيت بين القصرين كان يطل على شارعين هما بين القصرين والنحاسين، فقد اختار قصر بشتاك لسكنى أسرة أحمد عبد الجواد. تطل أمينة من مشربيته على الشارعين المتوازيين، يفصل بينهما سبيل، وثمة بائع العصير والمقهى ونداءات الجرسون والباعة.
هل كان ذلك هو السبب في عرض صلاح أبو سيف على محفوظ أن يكتب للسينما؟
قال أبو سيف إن اختياره لمحفوظ، وحرصه أن يدرس له فن السيناريو، مبعثه لغة السينما التي كانت تعبِّر عنها روايات محفوظ، وبالذات في روايات الواقعية الطبيعية: خان الخليلي، القاهرة الجديدة، زقاق المدق.
قدِمَت أسرة عاكف إلى خان الخليلي، فرارًا من غارات الإنجليز على حي السكاكيني، وغادرته بعد أن مات الابن رشدي، وعرف أبواه وشقيقه الأكبر أن الحذر لا يُنجي من قدر. وكانت المقدمة الموجزة في أولى صفحات زقاق المدق، أشبه برفع الستار عن ذلك المكان المتميز في القاهرة الفاطمية، وتتوالى الأحداث بحيث يشكل مصرع عباس الحلو نهايتها القاسية، ويسدل الستار بعد أن يودع الفنان الزقاق بكلمات مؤثرة، تعيدنا إلى كلمات التقديم. وبدأت «بداية ونهاية» بموت الأب، وانتهت بدفع نفيسة إلى الانتحار.
أما أمينة فقد طالعتنا في أولى صفحات الثلاثية، ثم اختتمت الصفحات بالمرأة نفسها، دورها المهم تخلل الأحداث — على نحو وآخر — حتى اللحظة التي تهيأ فيها ياسين لشراء ملابس المولود، بينما عني كمال بشراء «كرافت»، ترقبًا لرحيل الأم، بعد أن أدت دورها في الحفاظ على تماسك الأسرة.
المثل لا أقصره على محفوظ.
ثمة أدباء عالميون يحرصون على التصور المسبق من خلال ملفات، تتضمن الشخصيات والأحداث، فيأتي العمل — في النهاية — معبرًا عن معانٍ أو دلالات محددة.
ربما تمثل رواية «بداية ونهاية» مغايرة للإعداد المسبق الذي ألزم به الفنان نفسه في بقية رواياته. أعد الملفات بالشخصيات: الأم، وحسن، وحسين، وحسنين، ونفيسة، ومحمد أفندي، فريد، وبهية، وابن البقال، والرجل الثري، وناظر مدرسة طنطا، وغيرهم، وتصور الفنان للرواية نهاية كوميدية تخالف النهايات التي ودعتنا بها خان الخليلي والقاهرة الجديدة وزقاق المدق … لكن أحداث الرواية مضت في مسار يصعب تغييره، اختطت مسارًا مأساويًّا انتهى إلى دفع حسنين لنفيسة كي تُلقي بنفسها في النهر، وتبعها بالقول: فليرحمنا الله!
يصعب القول إن كان ألقى بنفسه في النهر أيضًا، أو أن أنانيته المسرفة منعته من إيذاء حياته!
نصوص كثيرة تباينت مع الفكرة التي كانت تشغلني. حلت شخصيات، واختفت شخصيات، وظهرت أحداث بدلًا من أخرى، تصورتها. شق العمل الإبداعي — في أثناء كتابته — طريقًا لم أكن تعرفت إلى ملامحه. ربما اتسعت الرؤية، توضحت الملامح والقسمات والزوايا والأعماق، شاهدت من التقيت بهم في مراحل عمري المختلفة، استمعت إلى أحاديثهم، وناقشتهم.
والحق أن حرصي على إهمال الملفات، وكل الخطوات التي ينبغي أن تسبق كتابة العمل الإبداعي أتت — أحيانًا — بنتائج سلبية.
اتصل بي الصديق الروائي صنع الله إبراهيم، غداة صدور روايتي «زمان الوصل»: هل مد ترام الرمل فذكرت محطة الترام في ميامي؟
تنبهت إلى أن فيكتوريا هي آخر محطات الرمل.
وفي «رباعية بحري» بدلت اسم التميمي بالمنزلاوي باعتبار أن التميمي ذو أصل فلسطيني، نسيت — للأسف — أن أراجع الحذف جيدًا، وصار للشخصية الواحدة اسمان.
وفي «زمان الوصل» بدلت، وحورت، في الأصل الواقعي للقصة، ومنها أسماء الشخصيات، لكن السهو اللعين كتب الاسم الحقيقي للشخصية مرة واحدة، وعانيت حرجًا قاسيًا، لم ينقذني منه إلا التسامح الإنساني!
وفي «رباعية بحري» قهوة باسم «الجمهورية»، ولأن أحداث الرواية قبل قيام ثورة يوليو، فقد عرفت الخطأ متأخرًا، وأن السبب — ربما — عدم إغلاق الراديو أو التليفزيون في أثناء انشغالي بالكتابة، تسللت كلمة «الجمهورية» إلى أذني، نقلتها إلى الذهن، أملاها على اليد، وكان المقصود تسمية قهوة تردد عليها الفنان سيد درويش.
هل أكتب الرواية التي توظف التاريخ بالعفوية نفسها؟
هل أبدأ الكتابة دون تصورات مسبقة؟
أنا أميل إلى القراءة. أحب القراءة، وهي تمثل لي تحريضًا على الكتابة. إذا قرأت عملًا جيدًا، غمرني شعور بالاعتزاز، كأني أنا الذي كتبته، أو تمنيت أن أكون أنا الكاتب.
ربما وجدت في بعض الأعمال ما يشعرني أن ما كتبه الكاتب هو لي، كنت أتمنى أن يكون ما كتب بقلمي، إنه هو العمل الذي تمنيت أن أكتبه، ألح على خاطري، أو أنه لم يرد في خاطري أصلًا، لكنه يبدو — عند قراءتي له — أمنية ضائعة، أحزن لأني لم أحسن التقاطها.
في الصغر، كان حبي للقراءة هو المدخل لحب الكتابة. كتبت لأني قرأت، حاولت المحاكاة، ثم حاولت أن أعبر عن ذاتي على مستوى التجربة والخبرة والتقنية.
مثلًا، العمل الذي يوظف التاريخ يحتاج إلى قراءات في الفترة التي يعرض لها، والشخصيات التي يتناولها. أنا أقرأ كل ما يتصل بالفترة التاريخية، والشخصيات التاريخية، أستوعب ما قرأت، أتمثل القيم والمعتقدات والتقاليد والعادات وطبيعة التعامل والأسواق والحالة الاقتصادية والنسق المعماري وألعاب الأطفال والملابس وألوان الطعام … إلخ. حتى قصاصات الصحف ألجأ إليها، أجد فيها الفائدة نفسها التي أجدها في كتب التاريخ. وفي فترة حديثة، لجأت إلى التكنولوجيا ممثلة في الإنترنت، أتصفح المواقع، أراجع البريد الإلكتروني، أتواصل مع الآخرين، أطلب المعلومة في المواقع المختلفة، أناقش، وأحلل، وأحاول تبين المعلومة الصحيحة.
خلاصة الأمر أني أتوحد مع الفترة بأحداثها وناسها وشخصياتها، ثم أخلو إلى الأوراق والقلم دون أن أعد للعمل الفني ما ينبغي أن يكون عليه.
كنت أشعر — أحيانًا — أني صبي في ورشة، أسطواتها هم: دوستويفسكي، وبلزاك، وفلوبير، ونجيب محفوظ، ويكنز، وكافكا، ومارسيل بروست، وكامو، وغيرهم، وكنت أتلمس التعلم في إنجاز كل واحد من هؤلاء المبدعين، الأسطوات: اللغة، التقنية، إجادة التقاط التفصيلات … إلخ.
قلة من أدباء الأجيال السابقة — عربًا وأجانب — كان لهم تأثير حقيقي على كتاباتي، أو غيروا نظرتي إلى العالم، أو إلى تقنية الكتابة الروائية. أثَّروا فيَّ — لفرط إعجابي بهم — تأثيرًا حاسمًا.
أحمل أجندة سنوية تاريخها ١٩٨٠م، اعتدت تسجيل ملاحظاتي، والأفكار التي تواتيني، وما أتصوره ثيمات إبداعية، مجرد كلمات قليلة، أفيد منها في التذكر، قدرتي مذهلة في النسيان، أدير قرص الهاتف، وأنسى من كنت أطلبه. لو أني أهملت العودة إلى الأجندة في أوقات متقاربة، ربما نسيت ما سجلته، وربما وجدت في عودتي إلى الفكرة ما يرغبني عنها، وأني الشخص غير المناسب لكتابتها.
تمنيت — ذات يوم — أن أتخذ القرار نفسه الذي اتخذه هيمنجواي بأن يكتب قصة عن كل شيء عرفه، وقصة عن كل شيء يعرفه. لكن الأمنية ظلت في إطارها، لا تجاوزه.
حتى الآن، فإن لدي الكثير الذي أريد أن أقوله: أفكار هلامية، وضبابية، وواضحة. ما يدخل في إطار الإبداع، وما يقترب من التنظير، وما لا يجاوز حد القراءة الإيجابية.
أنا أكتب ما يلح علي، ما يفرض نفسه. أكتب وأكتب وأكتب، لا أخطط لشيء، وقد تخطر على بالي أفكار تبدو فنًّا جميلًا، وحين أبدأ في تسجيلها على الورق، تتحول إلى ملامح باهتة أو فاقدة المعنى.
أذكر أن مجرد الكلمة «جدتي» كانت هي المدخل إلى نقطة الختام في أكثر من قصة لي. كان الذهن يخلو من معنى محدد، وحين بدأت الكتابة تخلقت الشخصيات والأحداث بما شكل عملًا إبداعيًّا، وأحيانًا فإني أبدأ في كتابة عمل بتصور البداية والنهاية، لكن جريان القلم على الورق يتعثر بعد الأسطر الأولى، ثم يتوقف تمامًا، وأتبين عبثية ما أكتبه، فأحتفظ بالأسطر القليلة لنفسي، أو أمزقها، كأنها لم تكن.
القول بأن الكلمة الأولى في «النص» يجب أن تُكتب وعين الفنان على النهاية، يحتاج — بالنسبة لي في الأقل — إلى مراجعة، ذلك لأني أحرص أن يكتب العمل الإبداعي نفسه، بصرف النظر عن نوع ذلك العمل.
لعلي أذكرك بأن مبعث إقدام فوكنر على كتابة روايته «الصخب والعنف» رؤيته — وهو يقود سيارته في الجنوب الأمريكي — فتاة صغيرة تركب مرجيحة في حديقة بيتها، وكتب جارثيا ماركيث قصته «قيلولة الثلاثاء» بعد أن شاهد سيدة وطفلة يرتديان ثيابًا سوداء، وتحمل كل منهما مظلة سوداء، وتسيران في الصحراء تحت شمس لاهبة.
تبينت — بعد اتساع قراءاتي وخبراتي ومخاطبتي للآخرين — أني أستطيع الكتابة دون إعداد، دون نقاط مسبقة.
أنا لا أضع ملفات مثلما كان يفعل نجيب محفوظ — على سبيل المثال — وما يفعله أدباء آخرون. لورانس بلوك يلح في ضرورة التخطيط للرواية، قبل أن يبدأ الفنان كتابتها، وأن تنمو — طيلة كتابة المؤلف لها — «كما تنمو الحبكة»، لكنه يدعو — أيضًا — لأن تنمو الرواية نموًّا طبيعيًّا من واقع ما يكتب، بدلًا من ارتباطها ببيئة هيكلية، «مثل من ينصب تعريشة لأجمل الورد البلدي.»
لا أضع — في الوقت نفسه — مخططًا عامًّا، لا أرسم الملامح الظاهرة أو الجوانية للشخصيات، ولا أتقصى ماضيها، ولا أخطط للأحداث التي أضمنها السرد، ولا حتى التقنية التي ربما ألجأ إليها، وما إذا كنت سأكتب بصوت الكاتب الذي يعرف كل شيء، أم بصوت الراوي المخاطب، أم الراوي المشارك، أم أكتب بصوت الجماعة، أم ألجأ إلى تقنية تعدد الأصوات، أم ألجا إلى المونولوج الداخلي؟
أحيانًا يعروني قلق أو خوف، وأنا أفكر في الحرف الأول، الكلمة الأولى، الجملة الأولى. أعاني التوتر والارتباك والشرود، يجري القلم بالسطر الأول، فتغيب كل تلك المشاعر، بل إني أسلم مشاعري وقلمي للعمل الذي أكتبه، تتخلق من داخله الشخصيات والأحداث، حتى يكتمل في صورته النهائية.
حين يكون الذهن رائقًا، فإن الكتابة تبدو سهلة، طيعة، لا تحتاج الكلمات — عندما أراجعها — إلى تعديل، أفضِّلها كما هي. قال لي توفيق الحكيم وأنا أجلس إليه في بهو سميراميس: تفقد المعاني كثيرًا من جمالها بكتابتها.
كل المعاني التي تدور في مخيلتي تذوب وأنا أنقلها على الكمبيوتر، لماذا، وكيف كتبتها على الورق، قبل أن أبدأ في نقلها على الكمبيوتر، تنشأ مغايرة تدفعني إلى المراجعة.
أتوقف، أعيد النظر فيما بذلته للبحث عن المفردة، ولصياغة الكلمة، والعبارة، بما يعبِّر عن المعنى. أشعر كأني ألقيت سنارتي في موضع يخلو من السمك، أرجئ المواصلة، وأغلق الجهاز.
إذا ومضت فكرة في أثناء الكتابة، فإني أسجلها على الورق في أسطر قليلة، ثم أعود إليها، إن خايلتني بقيمتها وإلحاحها، خلوت إليها، لا أترك القلم حتى أضع نقطة الختام.
أجلس إلى الكمبيوتر، أنقل ما كتبت، ثم أعود إليه بالقراءة والمراجعة، أضيف ما ينبغي إضافته، وأحذف ما ينبغي حذفه، علاقة تتكرر بإعادة القراءة مرات. أشعر — أحيانًا — أني كتبت شيئًا جيدًا، وأشعر — أحيانًا أخرى — بقراءة النص نفسه، أنه شيء بلا قيمة، ربما يتصل الأمر بحالتي النفسية، ودرجة رضائي عن نفسي، أو العكس. أجري الحذف والإضافة والتبديل والتحوير، حتى يبدو العمل قابلًا للنشر، فأضغط على الطابعة.
ربما أضفت الكثير مما لم أكتبه في مسودات النص، يعروني ما يشبه حالة إبداع مغايرة لتلك التي أخلو فيها إلى القلم والورق، هي تختلف عن المراجعة التي تعقب نقل الكلمات على الكمبيوتر، أعيش فيها النص تمامًا: الأحداث والشخصيات وفنية السرد، أجاوز الكتابة الآلية على الكمبيوتر إلى لحظات إبداع متجددة، أحذف شخصية لا تؤدي في الرواية دورًا على أي نحو، أختصر حوارًا تحول إلى ثرثرة، أختصر عبارات يزيد كم كلماتها دون أن تضيف إلى المعنى. ربما ينتهي العمل إلى نحو مغاير، حد التباين، مع الفكرة التي كانت تشغلني. تحل شخصيات، وتختفي شخصيات، وتظهر أحداث بدلًا من أخرى تصورتها. يأخذ العمل الإبداعي — في أثناء كتابته — طريقًا لم أكن تعرفت إلى ملامحها. أحيانًا، تتسع الرؤية، وتبين الملامح والقسمات، أشاهد من التقيت بهم في مراحل عمري المختلفة، وأستمع إلى أحاديثهم، وأناقشهم.
لن أستعير قول ناظم حكمت الذي يعني أن أجمل الكلمات لم نكتبها بعد، لكنني أشعر جيدًا أن ما أريد التعبير عنه لا زال في داخلي.
أحب أن يتأمل المبدع تجربته، ينوع على نغماتها، يحيل كل تجربة إلى مرحلة لها سماتها الفنية واللغوية.
ذلك ما فعله بيكاسو في مراحله المتعاقبة، وذلك ما فعله نجيب محفوظ منذ مجموعته «همس الجنون» إلى «أحلام فترة النقاهة»، مرورًا بالروايات الفرعونية، ومرحلة الواقعية الطبيعية، فالمرحلة الرمزية، ثم مرحلة الواقعية النقدية.
من المهم أن يمضغ المبدع تجربته، ولا يبتلعها.
مع ذلك، فإن الأدب — في تصوري — لن يتأثر بإمكانات الطباعة التي تحولت من الورق إلى الإلكترون. الكتاب — ورقيًّا أو إلكترونيًّا — وسيلة لنقل الأدب. التصور بغير ذلك هو تصور للعربة التي تجر حصانًا!
أحيانًا، أبتعد عن العمل الذي أتمه فترة ما، شهرًا أو شهرين، ثم أعود إليه قارئًا، مجرد قارئ، ألجأ إلى الناقد في داخلي، هو الذي يبدي الملاحظات، فأعمل بها، أو أطمئن لما كتبت.
لي صديق أديب، يعيد كتابة القصة مرات كثيرة بعد أن يتمها، يجري تعديلات وتحويرات، يضيف ويحذف، يطمئن إلى الكتابة الأخيرة، فيعتبرها مسودة نهائية.
زرت جمال الغيطاني في بيته. كان يكتب المسودة الثامنة لكتابة قصصية. عرفت أن هذه هي طريقته في المراجعة، يضيف ويحذف في كل مسودة جديدة.
خطأ الكثير من المبدعين أنهم يكتفون بالمسودة الأولى. يقول راسل جرينان: «أنا أشك ألا تكون هناك صفحة من بين كل ألف صفحة، على امتداد الأدب كله، لم يعد مؤلفها صيغتها مرة ثانية.»
•••
القول بأن الكلمة الأولى في القصة القصيرة يجب أن تُكتب وعين الفنان على النهاية، يحتاج — بالنسبة لي في الأقل — إلى مراجعة، ذلك لأني أصر على أن يكتب العمل الإبداعي نفسه، بصرف النظر عن نوع ذلك العمل.
قد أنطلق من لا شيء، أو من مجرد فكرة هلامية. لا أعرف أن ذلك يمكن أن يشكل منطلقًا للحبكة بوصفها أداة للتعبير.
أنا في حالة تجريب مستمرة، منذ عملي الأول الصغير «الملاك» حتى آخر ما كتبت. التجريب سواء على مستوى لغة السرد أو التقنية.
أخوض محاولات دائمة، متجددة.
وإذا كنت لا أتفق مع كروتشه بأن «الأجناس الأدبية غير قائمة»، فإني أومن بتداخل الأجناس الأدبية، فضلًا عن وحدة الفنون بعامة.
في «الأسوار» — وهذا مجرد مثال — إفادة من التقطيع، والفلاش باك، والمزج، والموتيفات الغنائية، والهارموني الموسيقي، والكولاج، والحوار الدرامي، وغيرها من تقنيات الأجناس الفنية. وأحيانا، فإن الواقع يختلط بالحلم والخيال والفانتازيا والتكوينات السوريالية.
من الصعب أن أنظر إلى القصة القصيرة كأنها فصل في رواية، أو النظر إلى الفصل في الرواية — في المقابل — باعتباره قصة قصيرة. لم تعد وحدة الفنون مما يثير الأسئلة، إفادة كل فن من الفنون الأخرى يطالعنا في معظم الإبداعات، لكن العمل الإبداعي يجب أن تظل له الملامح التي تؤكد مذاقه المختلف، وهويته الخاصة. إذا اختلطت الملامح، فإنها ستنتهي إلى التشوه.
قد تتضمن القصة القصيرة خصائص للرواية: السرد، اللغة، المونولوج الداخلي، تيار الوعي … قد تتضمن القصة القصيرة ذلك كله، لكنها ينبغي أن تظل قصة قصيرة بمقومات هذا الفن، وليس بالاتكاء الساذج على فن الرواية، وما يجب أن تشتمل عليه من مقومات وخصائص.
أعرف صديقًا من الأدباء الشباب، كتب ثلاث قصص قصيرة على فترات متباعدة، ونشرها في الصحف بهذه التسمية، وصادفَت القصص الثلاث إعجابًا من بعض أصدقائه القريبين. ولأن الزمن هو زمن الرواية — كما أطلق عليه الراحل جلال العشري أوائل السبعينيات — فقد جعل أديبنا الشاب قصصه الثلاث فصولًا، وأضاف إليها ما شكَّل — في تقديره — رواية!
مهما أفاد كل فن من الفنون الأخرى، تفاعل إلى حد التماهي في الفنيات، فإن أخطر ما قد يواجهه الفن بعامة، عدم التعرف إلى الحدود الفاصلة بين الرواية والقصة. الرواية ليست قصصًا قصيرة متجاورة، والقصة القصيرة — التي كتبها الفنان بهذا المعنى — يصعب أن تشكل فصلًا في رواية.
في «رباعية بحري» و«أهل البحر» لوحات — المعنى نجده في الفن التشكيلي — منفصلة، متصلة. ثمة وشائج تصل بين اللوحات المنفصلة، فتصنع ما يصح نسبته إلى الرواية.
عندما أردت أن أفيد من قصة قصيرة لي في تواصل روايتي «مواسم للحنين»، فإني نشرت القصة باسمها، وبالتاريخ الذي نشرت فيه، ثم بدأت كتاب الرواية، في تواصل مع شخصيات القصة وأحداثها.
صهرت «الصهبة» الحلم والواقع، ذابت التخوم، تلاشت، بحيث واجهت السؤال ملحًّا: أين الحلم، وأين الواقع، في توالي الأحداث؟
أذكر قول كونديرا: إن الرواية هي المكان الذي تستطيع فيه المخيلة أن تتفجر كما لو كان الأمر حلمًا.
أبدأ الكتابة باعتبار أن العمل تجربة جديدة، قد تمثل امتدادًا لأعمال سابقة، وقد تختلف تمامًا عن تلك الأعمال.
قد يحرك البداية سؤال، أو تصور، أو مجرد فكرة هلامية، لكنها تكتسب ملامحها في أثناء الكتابة. التعبير الذي أطمئن إليه أن القصة — أو الرواية — تكتب نفسها، لا أميل إلى إعداد ملفات. ثمة تصور للشخصيات الرئيسة، قد تأتي في أثناء الكتابة شخصيات أخرى لم تكن واردة، ولا خططت لها، أكتب بعفوية مطلقة. ربما أتوقف عند موقف، أو عبارة، أو حتى كلمة أجد أنها لا تحسن التعبير عن المعنى، أو أنها مفتقدة.
حتى لا أبتعد عن لحظات التدفق السردي، العفوي، فإني أجاوز ما يستوقفني، وأستمر في الكتابة. بعد أن أضع نقطة الختام أعود إلى ما كتبت بنظرة الناقد، أتأمل المواقف والشخصيات والعبارات والكلمات، لا أعيد الصياغة، وإن استغنيت عما لا يحتاج العمل إليه، أضيف حرفًا أو كلمة، لا أنصرف عما كتبت إلا بعد أن يطمئن إليه الناقد في داخلي تمامًا، مثلما اطمأن إليه المبدع أثناء الكتابة.
فكرة «النص» التي أجاوز خطوطها العريضة إلى أدق التفصيلات، لا أهمل جزئية من البداية إلى النهاية، تمتعني بالعالم الذي تتضمنه، ويدوم الأمر بين إضافة وحذف، حتى تبوخ الفكرة في نفسي تمامًا، وأهملها.
أحيانًا أبدأ الكتابة والكلمات في ذهني واضحة، لكن المعاني ما تلبث أن تغيب، وتشحب الكلمات حتى تتلاشى. أفقد الرغبة في المواصلة، فأضع القلم.
عاداتي في الكتابة؟
أستعيد قول برناردشو: القاعدة الذهبية هي أنه ليس ثمة قاعدة ذهبية. وقد تعلمت ألا أحاول الكتابة في ظروف غير مواتية: الرغبة في النوم، توعك المزاج، الانشغال بقضايا ملحة، خاصة أو عامة.
أكتب لأني أستمتع بالكتابة.
كان اختيار جارثيا ماركيث بين الكتابة والموت، وقد اختار الكتابة.
ظني أن ذلك كان اختياري منذ طفولتي الباكرة.
روايات ماركيث لا تضم سطرًا واحدًا لا يستند إلى الواقع، الواقع لا يهبنا فحسب ما ألِفت العين رؤيته، إنه يحفل بالكثير مما يبدو غرائبيًّا وغير مألوف. أذكرك بالرجل الذي أُوقف تنفيذ حكم الإعدام فيه بعد أن وُضعت حول رقبته أنشوطة المشنقة!
حين أكتب عن شخصية ما غير موجودة في الواقع، فأنا — في الحقيقة — أكتب عن العديد من الشخصيات الموجودة في الواقع، الخيال المطلق يعني أن هذه الشخصية لا وجود لمثيل لها في الواقع، وأنها مخترعة تمامًا، وهذا غير صحيح، لأن الفن يتحدث عن شخصيات تتكلم، وتصمت، وتحلم، وتتطلع، وتعاني الإحباط والعقد النفسية، وتنام، وتأكل، وتشرب، وتسير، وتمارس كل ما يفعله إنسان هذا العالم.
قد تبدي توصيفًا لمعنى أو قضية فيها اختلاف، ثم تجد أن توصيفًا آخر لمحدثك ربما يكون أميَل إلى الدقة. إذا كنت مكابرًا — لا قدَّر الله — فأنت تصر على التوصيف الذي طرحته، أما إذا كنت مجتهدًا، تشغلك الحقيقة في ذاتها، فلعلك تقول ببساطة: هذا ما أردت قوله.
أذكر أني وجدت في الواقعية الصوفية تعبيرًا متماهيًا، أو موازيًا للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية. وجدت في الواقعية الصوفية معنى أشد عمقًا للإبداعات التي تستند إلى الموروث الشعبي، بداية بالميتافيزيقا، وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلى الصوفية.
صديقي الدكتور شبل الكومي اقترح تسمية أخرى هي الواقعية الروحية. بدت لي تسميةً أقرب إلى الدقة، بل هي — في قناعتي — صحيحة تمامًا.
الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعي في الممارسات الصوفية وحدها، في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم، ما ينسب إلى السيد البدوي وأبي العباس والشافعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي والعدوي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات، وما ينسب إلى الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس. أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة، وأشد تحديدًا في الوقت نفسه.
مكاشفات وبركات الصوفية تتماهى مع بنية الواقعية السحرية، وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات، لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.
الصلة موجودة بين الفن السوريالي والأدب الصوفي. وبقدر التأكيد على وحدة الفنون، فإن الصلة موجودة كذلك بين الأدب الصوفي وما يسمى الواقعية السحرية، وجه العملة الآخر للفن السوريالي، والتيار الفني الذي حققت الرواية في أمريكا اللاتينية من خلاله تفوقًا لافتًا.
لكن بعض دارسي الواقعية السحرية يرفضون أن تجد تماهيًا، أو حتى مشابهة، مع الموروث الديني أو الشعبي، بعيدًا عن الأنثروبولوجيا على المستوى الإنساني. في ذكرياتها «بلدي المخترع» تؤكد إيزابيل الليندي أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس، أدخلتها في الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمي بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير. ويقول ماريو بينيدتي إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية، ليس مرده الواقع العجائبي، وإنما الواقع المروع. وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية — والتعبير له — غياب البساط الذي يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال، والعبد الذي يظل داخل الزجاجة مائتي عام، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم.
وثمة النظرة إلى الموت والموتى. إنها تكوينٌ مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد. نحن نؤمن بالخلود، وأن الموت انتقال من حال إلى حال، لذلك يأتي انشغالنا ببيت الآخرة، مقابلًا لإهمال بيت الدنيا. تدلنا الحفائر والتنقيبات على آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات، مصاطب المقابر، الأجساد المحنطة، الأوشابتي، إلخ. لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا، البيوت التي كان يعيش فيها قدامى المصريين.
بالطبع فإننا نؤمن أن الصلة بموتانا — أو صلتهم بنا — لا تنقطع، إن لم نرهم رؤية العين، فإنهم يزوروننا في الأحلام، أو ما يشبهها، ويحرصون على متابعة أحوالنا، ويشعرون لتلك الأحوال بالقلق والخوف والفرح والحزن، وهم في دار الحق، بينما نحن في دار الباطل.
باختصار، فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلى الضفة الأخرى، أو تحاول أن تنتقل إليها.
فماذا عن الغرائبية والعجائبية التي تسم الواقعية السحرية؟
إن ما تنبض به حكايات جداتنا من الغرائبية والعجائبية تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين. إنها تنطلق في الخيال إلى آفاق مطلقة، أما الحكايات الأخرى فإن آفاقها محدودة، يتحرك في محدوديتها بينوكيو وسندريلا وذات الرداء الأحمر وغيرها. ذلك هو سر الافتتان العجيب بالتراث الشعبي العربي، كما في ألف ليلة وليلة على سبيل المثال. ما يحرص أدباء أمريكا اللاتينية على تأكيده في إشاراتهم إلى البدايات، أن ألف ليلة وليلة كانت دليلهم إلى عالم الفن الجميل: البساط السحري، البلورة المسحورة، طائر الرخ، جزيرة الواق الواق، افتح يا سمسم، وغيرها من الصور والإشارات والتلميحات والرموز التي تصدر عن مخيلة لا حدود لانطلاقاتها.
والحق أني حين أتحدث عن الخيال، فأنا لا أعني ما يحتفي به السورياليون، إنما أعني الخيال الفني في كل مستوياته. وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبدًا إلى حدوده القصوى — على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ — فإن الواقعية السحرية — والسوريالية كذلك — تفجر الخيال إلى أقصى مداه، تأذن بتحرر اللاوعي إطلاقًا من الرقابة التي قد يمارسها العقل. وهنا يبين ما يمكن تسميته بالواقعية الصوفية.
إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة في اللاوعي، بحيث تظهر عالمًا ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى، الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعي، تشكل جزءًا في نسيجه.
أوافق على الرأي بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتيني أمريكي لظاهرة عالمية قديمة. الواقعية السحرية — أداتها قوة الخيال — تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش. يقول ماريو بارجاس يوسا: «لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكي لاتيني. لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة في محراب الواقع المعيش، وأصبحت — في الوقت الراهن — تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأي العام، وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم».
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة في الأساطير والملاحم والحكايات العربية، منذ أسطورة إيزيس، وقصة الأخوين، تواصلًا مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية: الهلالية، وعنترة، وبيبرس، وحي بن يقظان، ورسالة الغفران، والزوابع والتوابع، وألف ليلة وليلة، وبركات الأولياء ومكاشفاتهم.
وإذا كان كل شيء في أمريكا اللاتينية — كما يقول ماركيث — ممكنًا، وواقعيًّا، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة في بلادنا. الوجدان المصري — والعربي بعامة — يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية، مهما مالت — موضوعيًّا — إلى الخرافة. إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أمورًا حقيقية، ويجب تصديقها، وممارسة سلوكيات حياتنا في ضوء ذلك الاعتبار.
الإنسان العربي يمارس ما قد يبدو خرافة، دون أن يضعه في إطار معرفي محدد، بل إن البعض من المبدعين العرب يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل، أو ما أميل إلى تسميته — أكرر — الواقعية الروحية!
أنا أكتب لأني أستمتع بالكتابة.
أكتب فقرات كثيرة تشغل صفحات كثيرة، ثم يبوخ ما أكتبه بلا سبب، يبدو سخيفًا، وبلا معنى. ألملم الأوراق، أحتفظ بها، ربما يكون ما حدث تعبيرًا عن تغير مزاجي، أو أختصر الأمر، فأقذف بالأوراق في سلة المهملات.
إذا طالت فترة الكتابة، فإنه لا بد من «استراحة قلم» أو «استراحة كاتب»، يسترخي فيها الذهن تمامًا، حتى يعود إلى فعل الكتابة، وقد تجدد فيه ما يدفعه إلى المواصلة.
ظني أن متابعة مباراة في كرة القدم، أو مشاهدة فيلم في التليفزيون، أو استجابتنا لدراسة يغيب عنها المعنى المحدد … ذلك كله — وغيره — أشبه بالمحطة التي يتوقف المسافر عندها للاستراحة، قبل أن يستأنف رحلته.
يحل التعب. تناوشني الأفكار، لكن الصياغة تعوزني. أكتب على أي نحو، حتى أعود إلى ما كتبت في الصباح، أصل ما انقطع، أصحح ما ينبغي تصحيحه.
أترك الرواية، القصة، ناقصة في موقف ما، لكن استكمال الموقف يشغلني، السياق الروائي، القصصي، كله — من البداية إلى النهاية — يشغلني كذلك، أتجه إلى حجرة النوم والشخصيات والأحداث تتحرك أمامي، واضحة، أو شاحبة، أو تتلاشى، تغيب في النوم، عدا أوقات أرق، أستعيد ما كنت أكتبه على الكمبيوتر.
في الصباح، خلوت إلى ما كتبته. أعدت القراءة، لم يفاجئني الأمر. ضغطت — في يوم سابق — على المفتاح. لاحظت أن التاريخ في سياق الدراسة قد تبدل تمامًا، حل — بدلًا منه — تاريخ آخر. قبل أن أنقر على الديليت، راجعت مواد تتصل بدراستي. لاحظت أن الصواب هو ما كتبه الكمبيوتر، ما كنت أعددته قد كتب.
هل هناك من يكتب لي؟
الموسوعة الشاملة تعرِّف الكمبيوتر بأنه «كل جهاز إلكتروني يستطيع ترجمة أوامر مكتوبة، بتسلسل منطقي، لتنفيذ عمليات إدخال، أو إخراج، معلومات، وإجراء عمليات حسابية، أو منطقية، من خلال قيام الكمبيوتر بالكتابة على أجهزة الإخراج، أو التخزين، وعبر إدخال البيانات بواسطة مشغل الكمبيوتر عن طريق وحدات الإدخال، أو استرجاعها من وحدة المعالجة المركزية، فتتم كتابتها على أجهزة الإدارج.» وفي تعريف آخر — أشد تبسيطًا — أنه «أداة حسابية إلكترونية ذات سرعة عالية، ودقة كبيرة، يمكنها قبول البيانات، وتخزينها، ومعالجتها، للحصول على النتائج المطلوبة.»
من واجب الجهاز أن ينفذ الأوامر، يسجل ما أكتبه، ما أمليه عليه، لكن ليس من حقه أن يلقي الأوامر على نفسه، وينفذها.
قرأت عن الكمبيوتر الذي أمليه، فيكتب ما أقول، وعن الكمبيوتر الذي يتعرف — بوسائل متطورة — إلى ما يلوكه الدماغ، فيسطره على الورق.
مما ينسب إلى الخوارق والمعجزات، أو المكاشفات بلغة الصوفية، أن ينفذ المرء إلى عمق النفس الإنسانية، ومعرفة ما يفكر فيه محدِّثه، لا إجماع في الروايات المنسوبة إلى الأولياء، إنما هي أقوال ومزاعم من المريدين والأتباع والمحاسيب، تجد من يوافق عليها، ومن يحيلها إلى الخرافة.
هل يخترع العلم في الكمبيوتر من أعمال الحدس ما لم يثبت في البشر؟!
ثمة من يمتلكون جلاء البصيرة، فهم يعرفون الكثير مما يشغل الآخرين، والتفصيلات الدقيقة، المخفية، من حياتهم، يفاجئ المرء الذي لا يبوح بما يشغله، أو يتصور إجادة كتم أسراره.
الكمبيوتر إذن لا يكتفي بنقل ما أكتبه، وما أفكر فيه، ربما يفيد من الإنترنت في داخله، يفيد من الأرقام الصحيحة.
طول عمري أعجز عن فهم الأرقام، وما يتصل بها من اللوغاريتمات، وحساب المثلثات، والجذر التربيعي، وغيرها من الطلاسم التي تمنيت الموت — في أحيان كثيرة — وأنا أمسك الطباشير لأحل مسائلها كما طلب المدرس.
ما أعرفه عن الكمبيوتر، وما يتصل به، ليس نهائيًّا، هي معلومات مبتدئ، ظني أنها ستظل كذلك، أعرف ما يفرضه استبدال الكمبيوتر بالآلة الكاتبة.
الكمبيوتر هو البديل للآلة الكاتبة في حياتي. كنت ألجأ إليها في نقل المسودات، أو الكتابة مباشرة، خطي رديء، قد لا أستطيع قراءته، تعينني هند على قراءة ما يستعصي فهمه، أعيد محاولة القراءة، ثم أدعوها بالرجاء: هل تقرئين هذه العبارة؟
تقطب حاجبيها في محاولة للتذكر: إذا كان الكمبيوتر يستكمل ما تكتب، فأنا قرأت عن شخص صادَق شاعرًا، وأفلح — بتقنية متقدمة — أن يسيطر على الكمبيوتر الذي سجل عليه الشاعر قصائده. نسب السارق القصائد إلى نفسه، ونشرها في صفحات الإنترنت والمواقع الإلكترونية.
وأنا أرنو إلى بريق عينيها: عانيت من الآلة الكاتبة حد العجز عن المواصلة أحيانًا، عندما أعجز — في أوقات الليل — عن كتم صوتها، النقرات عالية، أتصور أن صداها يتردد في البنايات القريبة. وكنت أخطئ، فأعيد كتابة الصفحة، مرة واثنتين، وربما أكثر، تبدو الصفحة في غير الصورة التي تمنيتها، فأعيد الكتابة، أرجئ الجلوس إلى الكمبيوتر لانصرافي بتسويد كتابة جديدة، يتكرر إرجاء النقل على الكمبيوتر، تعلو كومات الورق، فيداخلني القلق، وربما اليأس.
قلت في حوار: إن مخترع الكمبيوتر جعلني في باله، وهو يفرغ لاختراعه المهم.
أعرف أن الكمبيوتر قادر على حل المسائل الحسابية أضعاف — ملايين المرات — ما يستطيعه الذهن البشري. قرارات الكمبيوتر بسرعة الضوء، هل قرارات الكلمات بالسرعة نفسها؟
خشيت أن تفر الحروف من إرادتي، مما يريد الذهن إملاءه، تتشكل في ما لا أتوقعه، في معلومات لم أكن أعرفها. ربما أجابت عن أسئلة تشغلني، لكن المفاجأة دفعتني إلى إعادة القراءة، التأكد مما جرت به السطور.
ضغطت على الماوس.
خالف «الوُرْد» توقعي، فلم تظهر القائمة. طالعني ما أتممت كتابته من القصة. كان الماوس يشير إلى آخر الكلمات. لم تكن هي ما كتبت، ولا الصفحة التي أغلقت الكمبيوتر دون أن أتمها، جمل وكلمات وحروف كثيرة، أزمعت أن أكتب بالمعنى الذي عبرت عنه، المعاني كما أردتها تمامًا، ولم أكن أكتب تعبيرات أخرى غير ما أكتبه.
وصلت ما كان مكتوبًا حتى تعبت، وضعت نقاطًا بديلًا للسرد. في الصباح، وجدت أن كل ما كنت أفكر في كتابته موضعَ النقاط قد كُتب فعلًا.
استعدت الكلمة الناقصة، وأنا أجلس إلى الكمبيوتر. طالعتني الحروف الثلاثة متصلة بأحرف شكلت كلمة، مثلت مع كلمات أخرى — لم أكتبها — جملة مكتملة المعنى.
أعرف أن الكمبيوتر يكتب ما أريده، ينقل كلماتي، هذه هي حدوده، لا يملك التصرف دون أمر، ولا المحاكاة أو التقليد. حتى الخطأ يكتبه كما أمليته عليه، كما جرت أصابعي بالنقر على مفاتيحه. إنه مجرد آلة معقدة، تنقل الكتابات والرسائل والمعلومات.
لم يعد الخطأ مقتصرًا على المصادفة، أو النسيان، أو ضعف اللغة، أتعمد الركاكة في عبارة، أغفل كلمة في السياق، أبدل المعنى، أقلبه، أغيره، يبدو صادمًا، بما يسهِّل تبينه، لا أضع النقاط فوق الكلمات، أحذف نقطة الجيم من كلمة ما، تصبح حاء، الكلمة ذات المعنى المغاير تفسد العبارة، أضيف إلى الكلمة حرفًا، أو أحذف حرفًا، يتبدل المعنى تمامًا، ربما استبدلت خطوط كلمة أو عبارة بخطوط مختلفة، الخطوط ليست متشابهة، تتعدد استعمالاتها بتعدد المسميات، ثمة النسخ والرقعة والكوفي والفارسي، وثمة نوعان من الخط، ومن تختلط كتابته، فلا تبين عن خط محدد، تنسب الخط إلى صاحبه، وإن صعبت نسبته إلى خط، أو امتزاج خطين، أو ثلاثة.
يفطن الكمبيوتر — لا يحضرني تعبير آخر — إلى الخطأ، يحذف، ويضيف، ويغير، بما يجعل المعنى متسقًا.
أول ما أفعل في الصباح، أني أضغط على «الباور»، أفتح الملف الذي تركته ناقصًا، أو محملًا بالأخطاء، لا يشغلني ما اعتدته من تكرار التصويب، والتعديل، وحذف ما ينبغي حذفه، وإضافة ما ينبغي إضافته. ربما تبينت ما أسميه بالسنفرة، أي تحلية الكلمة، أو العبارة، فتبدو مستقيمة. حتى الأرقام والمعلومات أطمئن — بالنظرة المتأملة — إلى اكتمال عافيتها.
ينبهني الخط أسفل الكلمة إلى الخطأ الطباعي، أو النحوي، أو الإملائي. أبقي الخطأ، فأتعرف إلى رد الفعل، تطالعني الكلمات — في الصباح — خالية من الأخطاء، وصحيحة.
أمسكت عن الأسئلة المحيرة: من؟ لماذا؟ كيف؟
أرجعت ما يجري إلى خصائص في جهاز الكمبيوتر لا أعرفها، ما تعلمته في الكمبيوتر لا يتيح لي فهم كل شيء.
الكمبيوتر كتب أفكارًا، ربما شغلتني، أو فكرت في كتابتها، وربما جاوزتها بالتعب، أو السأم. أنا أنتصر لقضايا محددة، وهو يكتب عن قضايا أخرى. فتاتي رومانسية، وفتاته تؤمن بالعلم. أكتب عن حبي القديم وأنا صبي، يكتب عن حبي الحالي لجارتي، وما يدور في داخلي من مخاوف، فلا أقتحم حياتها.
الكمبيوتر يقرأ أفكاري وأنا أجلس إليه، حتى الأفكار التي لا أكتبها، تشغله مساعدتي.
إذا كان الكمبيوتر قد استطاع أن يبرمج نفسه بنفسه، فإنه لن يكون غريبًا أن يكتب ما يدرك أني أريده. ذاكرة الكمبيوتر حلم العلماء، يستوعب ما يعجز الإنسان عن استيعابه، يضيف إلى الروبوت والاستنساخ والهندسة الوراثية وغيرها من منجزات العلم.
لا أذكر اسم الجهاز الذي قرأت عنه، وإن عرفت أنه يقدر على قراءة المشاعر والأفكار، ما يدور في ذهن الجالس أمام الكمبيوتر من أخيلة ورؤى وتصورات، تعبيرات الوجه تشي بكل ما يحمله الذهن، عدسة فيديو توجه نحو مشغِّل الكمبيوتر، تلتقط الحالة الذهنية، لا تفلت الومضات، ولا الجزئيات المتناهية الصغر. متى يشعر المرء بالانتصار، باليأس، بالحزن، بالملل، ماذا يأمل فعله. لا تكتفي بالتقاط الصور، لكنها تحللها، وتدرسها، وتقدم النتائج.
لم يكن ذلك — من قبل — تصرف الكمبيوتر معي: صدمني التحذير، قبل أن أبدأ تلخيص كتاب «مروج الذهب» للمسعودي: لا أحاول العبث بحذف ولا إضافة ولا تلخيص، والدعاء على من يتدخل في مادة الكتاب على أي نحو، بالمرض والعذاب والموت ومصائب أخرى.
اعتبرت الكلمات تخويفًا لسارقي الكتب في زمن المسعودي. السرقات الأدبية — كما تعلم — ليست وقفًا على زمننا الحالي، صدر عن المتنبي العظيم كتاب عنوانه «الإبانة عن سرقات المتنبي»، أرجع فيه معاصرو الشاعر وشعراء الأجيال التالية، الكثير من قصائد المتنبي إلى شعراء آخرين، وإلى فلسفة أرسطو.
تناسيت تحذير المسعودي، وبدأت في إعادة القراءة، قرأت الكتاب في طبعة «كتاب التحرير» الذي أصدر الكثير من كتب التراث المهمة، فضلًا عن كتب المعارف العالمية، بمبادرة من المثقف الكبير الراحل إسماعيل شوقي، قام بكل الخطوات، بداية من الاختيار إلى متابعة احتياجات القراء، ولقي — للأسف — جزاءً قاسيًا لقاء حرصه على وصل التراث القديم بثقافتنا المعاصرة.
أتممت قراءة ما يغري بالتلخيص، وبدأت الكتابة على الكمبيوتر، لكن البطاقة التي ظهرت — فجأة — تعتذر عن الخطأ، وأن اتخاذ بعض الخطوات سيعيد إلى شاشة الكمبيوتر ما كنت كتبته، لكن الشاشة ظلت بيضاء.
أغلقت الجهاز، وعدت إلى الكتابة، أرجعت الأخطاء الكثيرة التي لم أعهدها في نفسي إلى التوتر الذي نشأ عن خطأ الجهاز. نقرت على ديليت، وبدأت من الأول. بضعة أسطر، ثم تحول البرنامج — بلا مناسبة — من العربية إلى الإنجليزية، ليست اللغة الإنجليزية، وإنما الكتابة من الشمال إلى اليمين.
حاولت التعديل، نقرت على الأيقونات، فعادت الأسطر من اليمين، جريت ببضع كلمات قبل أن تعود البداية إلى اليسار. حذفت ما كتبت، وبدأت من جديد. توالت الأسطر، فأخرجت لساني للمسعودي وواصلت الكتابة، صفحتين، ثلاث صفحات، وتصورت التلخيص بعد أن أتم القراء والتلخيص، وأثبت أن كلمات المسعودي ليست إلا محاولة تخويف لا قيمة لها.
في الصفحة الرابعة انطفأ النور فجأة. لم أكن قد حفظت الكتابة، فأغلقت الجهاز، وشردت في تحذير المسعودي: هل ظل الكتاب — طيلة عشرات القرون — بلا محاولات للاقتباس، أو التلخيص، أو الاختصار؟
لما عادت الإضاءة، ترددت في إعادة تشغيل الجهاز: هل المسعودي جاد في تحذيراته، هل مواصلة التلخيص تصيبني بالعمى والشلل والعجز والموت، والمفردات القاسية الأخرى التي وعد بها المسعودي مَن يعبث بكتابه؟
قاومت التردد لثوانٍ، ثم عدت إلى الجهاز، ضغطت زر التشغيل، وفتحت ملفًّا جديدًا، جريت على الصفحات بأصابع خائفة، والتصور أمامي بأني سأنهي قراءة الكتاب، وألخصه، بما يجاوز تحذيرات المسعودي وتخويفاته!
•••
كما تعلم، فإن ترجمة كلمة الكمبيوتر إلى العربية: الحاسوب، العقل الإلكتروني، الحاسب الآلي، وصفه العلماء بأنه «جهاز إلكتروني يؤدي العمليات الحسابية والمنطقية، تلبية للتعليمات المعطاة له، بسرعة هائلة قد تبلغ عشرات الملايين من العمليات الحسابية في الثانية الواحدة، بدرجة عالية من الدقة، وله القدرة على التعامل مع كم هائل من البيانات، فضلًا عن تخزينها، واستعادتها عند الحاجة إليها.»
جيل الكمبيوتر الأول في ١٩٤٨م، أعقبته أجيال تالية. رفضته في البداية، ثم أحببته. أنقل ما أكتبه بالقلم على الورق، ثم كتبت عليه مباشرة.
حاولت أن أتعرف إلى تسميات: لوحة المفاتيح، ماوس، وندوز، ديسك، سي دي، ديليت، شيفت، وتسميات أخرى كثيرة، أدركت أني لا بد أن أحفظها، أعيها، حتى أجيد الكتابة على الكمبيوتر.
لا أذكر متى بدأت أنقل على الكمبيوتر ما كتبته — بالقلم — على الورق، أكتب الموضوعات الصحفية والرسائل على الجهاز مباشرة، يمليها الذهن على «الماوس». أعيد كتابة ما قرأته على الجهاز، أحذف، وأضيف، وأبدِّل، وأصوِّر، حتى أطمئن إلى سلامة ما كتبت.
كتابة الإبداع تختلف، لا بد من العلاقة الحميمة بين الذهن والذراع حتى أطراف الأصابع. يترك الماوس بإملاء من ذلك كله، العبارة ركيكة، السرد يحتاج إلى تقويم، المفردة لا تعبر عن المعنى الذي أقصده.
أرجئ الاستعادة والتأمل وإرجاء التصويبات والتعديلات إلى وقت تالٍ.
تقديم الأحداث وتأخيرها مشكلة أخرى تصادفني في عفوية الكتابة. أذكر ملاحظة صديقي محمود المنسي، بعد أن قرأ أصل روايتي «اعترافات سيد القرية»، الرجل الذي وقف على جثمان «زاو مخو» كان قد مات من قبل. أفادتني الملاحظة في تدارك الخطأ، لكنني لم أحاول إبدال طريقتي في الكتابة الروائية.
أفضل وقت الصباح، الذهن — قبل الاستيقاظ — يجتر ما نقلته على الكمبيوتر — ليلًا — قبل أن أغلق الجهاز، أعيد الترتيب والإضافة، أضيء الشاشة الصغيرة قبل أن تقتحم الذهن متاعب النهار، أكتفي بمراجعة ما كنت بدأته، أسد النواقص، أحذف ما يبدو زائدًا، تظل الصورة الأخيرة لما كتبت في بالي، ثم أعود إليه في وقت تالٍ، مراجعة سريعة، أصل العبارة الأخيرة بما تمليه الرواية لاحقًا. أحرص — كما رويت لك — أن يكتب العمل نفسه، أجلس إلى الورق بالفكرة التي تعاني الضبابية، أو عدم التحديد. الكتابة تكسبها الملامح والقسمات والتكوين الجسدي والملابس والتصرفات والأحداث. ربما خالفت الكتابة توقعي، يموت من تصورت حياته إلى ما بعد نهاية الرواية، يرحل من كان مرتبطًا بالمكان، تظهر الشخصية التي لم أكن أعددت نفسي لاستقبالها.
هذه هي طريقة تعامُلي مع الكتابة.
كنت أنقل على الآلة الكاتبة ما أنقله الآن على الكمبيوتر، الكمبيوتر وسيلة متاحة، والكثير من الأدباء يفضلون الكتابة عليه مباشرة. تعينهم إمكانات الجهاز على التعديل والتبديل، وهو ما تتيحه الآلة الكاتبة. كان المازني — كما تعلم — يكتب على الآلة الكاتبة مباشرة، لا يبدل إلا في القليل.
أكتب ما يمليه الإبداع، ثم أنقل ما كتبته على الكمبيوتر، اعتدت أن أكتب بيدي، أضع فجوات بين العبارات التي لم تكتمل، وخطوطًا تحت الكلمات الساذجة المعنى، وعلامات استفهام، أو تعجب، على هامش ما قد يحتاج إلى مراجعة.
أجلس إلى المكتب في بيتي — هو طاولة الطعام — تنقضي الدقائق، وتطول، دون أن يسعفني الخاطر بما أخطه على الورق. أتشاغل بالتطلع من الشرفة، أو مشاهدة التليفزيون، أو سماع أغنية في الكمبيوتر، أو أشرد في التأمل. إذا التقطت الخاطرة، وواتتني القدرة على كتابة السطر الأول، ربما كان ذلك مدخلًا حقيقيًّا للأسطر التالية.
قرأت عن أدباء عالميين، كانوا يفضلون الكتابة وقوفًا على طاولة مرتفعة (هوجو مثلًا)، وثمة من يفضلون التمدد في السرير، أو الكتابة على طاولة في مقهى، ومن هم — مثلي ومثلك — من عباد الله، يجلسون إلى طاولة أو مكتب، ومن يعانون فقد البصر يتجاوزونه بالإملاء على الآخرين (طه حسين مثلًا)، أو يكتفون بالخطاب الشفاهي.
رأيت من يفضلون الكتابة بعيدًا عن البيت، أو مكان العمل، بيرم التونسي كان يفضل الكتابة في قهوة بشارع السد، ونجيب محفوظ كتب رواياته الأولى — والعهدة على توفيق صالح — في قهوة مجاورة لوزارة الأوقاف. وأذكر أني اخترت بيت صديق في الشرابية لقضاء بضعة أيام، وجدت في البيئة الشعبية محرضًا على كتابة روايتي «الأسوار».
لأني لم أكن أعرف الكثير من مفردات البيئة الريفية، فقد اخترت لمفردات الشخصيات والأمكنة في روايتي «بوح الأسرار» أسماء من عندي، أو كما تقرها الفصحي. عرضت كتابة الكمبيوتر — بعد ذلك — على الصديقين حاتم رضوان ومحمد إبراهيم طه، أشارا بتصويبات تضع الرواية في بيئة الريف.
السبب وراء ترك كافكا رواياته غير مكتملة — في تقديرات — هو أنه لا أحد كان يطلبها منه، شحوب فرص النشر كان يرجئ استكمال ما كتب. هذا هو سر تكاسلي شخصيًّا، ربما عن استكمال الكثير من الأعمال التي أودعتها جهاز الكمبيوتر.
كما أشرت، فإني أشعر — في أحيان كثيرة، وحتى الآن — أن ذهني مزدحم بعشرات الرؤى والصور والوقائع والذكريات التي تحرضني على تسجيلها، على كتابتها في صورة إبداعية، أو في سيرة ذاتية، وإن كانت البداية — في الأغلب — شخصية عابرة، أو حدثًا بسيطًا. أرفض أفكار الغير بمشروعات إبداعية، لسبب أتصوره مهمًّا، وهو أني أفتقد المعايشة والتجربة والرؤية في تلك الأفكار.
صارحت عبد الحميد السحار أني لو لم أعرف استيحاءه شخصيات روايته «الشارع الجديد» من صديقه الضابط محمد فرج، كنت سأشير إلى شحوب الشخصيات، وأنها بلا حياة حقيقية، شخصيات حاول الفنان صياغتها، لكنها افتقدت مقومات الحياة، أو الإيهام بالحياة التي تعد ضرورة للعمل الإبداعي.
أولى قصصي القصيرة «يا سلام» عن عجوز، رأيته يعاني البحث — في ظلمة الشتاء — عن مأوى.
أسأل نفسي: لماذا تأتي الأفكار في لحظات قراءة، أو مشاهدة، أو سماع، أو لحظات تأمل؟
لماذا تغيب في لحظات أخرى أمارس فيها الفعل نفسه؟
ما المحرك للفكرة بحيث تنبثق في لحظة بذاتها، دون أن يسبقها إرهاص ما، دون أن تتصل ببدايات من أي نوع؟
أحيانًا، تكون البداية في عملية الكتابة أشبه بالدفقة، فلا أحذف كلمة واحدة، ثم تشغلني المواصلة، أبحث عن المفردات والتعبيرات التي تؤدي المعنى.
في المقابل، فإن البداية قد تكون أصعب ما في عملية الكتابة، أمزق السطر الأول، أو الأسطر الأولى، مرات كثيرة، قبل أن أطمئن إلى بدايةٍ أتصورها مقبولة، ثم أستكمل ما كتبت، فلا تعوزني الكلمات حتى أتمه تمامًا، أقوم بما يشبه الناسخ لما استقر في ذهني، لا أحذف ولا أضيف إلا لضرورة، وإن جرى الحذف والإضافة حين أراجع العمل بعد الكتابة.
لا يغضبني القول، بل لعلي أقره، أني أعيد كتابة الرواية الواحدة في أكثر من عمل. قد تتكرر الدلالة، ذلك لأني أومن بفلسفة الحياة التي تجد تكاملها في مجموع أعمال الكاتب. لكن الفنية تختلف — بالتأكيد — بين عمل وآخر. إن صورة كل عمل تتخلق من داخله، يكتسب في عملية الكتابة قسماته وملامحه، ويكتسب فنيته.
حين أتحدث عن فلسفة الحياة في مجموع الأعمال، لا أقصد فلسفة أرسطو، ولا ابن رشد، ولا كانط، ولا شوبنهاور، ولا نيتشه، إنما أعني فلسفة — وأضيف كلمة «حياة» — تولستوي، وتشيخوف، وهيمنجواي، وكامي، ونجيب محفوظ، وغيرهم. لست مؤهلًا للفلسفة بمعناها العلمي، الأكاديمي، ولا أمتلك القدرات التي تؤهلني للسباحة في مياهها، لكنني أمتلك — بتواضع — من الخبرات المعرفية والشخصية ما يحض على التفلسف حياتيًّا، وهو ما يغيب — للأسف — عن غالبية أعمالنا السردية.
المقولة، الدلالة تهمني في أي عمل أكتبه. تهمني متعة الكتابة في ذاتها أيضًا، لذة النص التي يشعر بها القارئ في أثناء القراءة هي لذة النص التي يشعر بها الكاتب في وقت الإبداع.
الأستاذ — مثلًا — في «الأسوار» هو التعبير عن المخلِّص الذي يبذل نفسه فدية عن آخرين. أما المهدي المنتظر في «إمام آخر الزمان» فهو يرمز إلى السعي لإلغاء الظلم، وتحقيق مجتمع الكفاية والعدل.
إذا جاءت بعض أعمالي تنويعًا على لحن واحد، بحيث تتشابه الدلالات، فإنها تختلف في التقنية. أكتب في الموضوع الواحد، الفكرة الواحدة، القضية الواحدة، بضع مرات، وإن كنت ألاحظ أن تناولي يأتي — في كل مرة — مختلفًا على المستويين التقني والدلالي.
الفنان الواحد لا يستطيع أن يتناول عملًا فنيًّا كان قد كتبه من قبل، ويُجري عليه التعديلات، مضيفًا أجزاءً، وممسكًا أخرى، ففي هذه الحالة — والكلام لعبد العزيز حمودة — لا يصبح عندنا عمل فني واحد، بل عملان مستقلان، لأن كل فرد، بل كل لحظة في الحياة النفسية للفرد الواحد، لها عالمها الفني.
لعلي أوافق على هذا الرأي، وإن كان من الصعب إطلاق هذه الموافقة — في الأقل — بالنسبة لروايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، الإضافات التي ضمتها الطبعة الثانية منها، إنما مثلت أيامًا أهملت تحقيقها في الطبعة الأولى، فأعدت تقديمها. أيامًا وجدت من المهم — لأسباب فنية، ولتعميق الدلالة — أن أكتبها، باعتبارها أوراقًا مستقلة، أيامًا مستقلة، أوردتها في سياقها التاريخي، فلا تبدو مقحمة في السياق.
تبدو الرواية — أحيانًا — كالسائر عندما يجد نفسه في مفترق طرق، يغالب الحيرة والتردد، لا يدري أيها يسلك، ذلك ما أواجهه في مواقف من الرواية، يصعب أن أتمثل الرواية من البداية إلى النهاية، تأتي المواقف باتصال الكتابة.
استبدلت الكمبيوتر بالآلة الكاتبة، أكتب بالطريقة نفسها التي أكتب بها على الآلة الكاتبة. عانيت — في البداية — تغيُّر مواضع الحروف والإشارات، عمق معاناتي أن إصبعي البنان كان هو وسيلتي الوحيدة للكتابة على الآلة الكاتبة، أتعامل معها بالجزء، بالقطعة، هو ما حاولت أن أفعله في الكمبيوتر، الاختلاف في مواضع «النقر» أفقدني السرعة التي كنت أعتز بها في الآلة الكاتبة، وإن صار الكمبيوتر هو ذهني، بما حمَّلته من كتابات ومعلومات ورسائل خاصة وبيانات.
لم أشِر — فيما كتبت — إلى الأم في القصة. طالعتني الكلمات: في اللحظة التالية لقول أمي لي إن رجلًا سأل عني، شغلني الأمر حتى امتصني تمامًا: من هو؟ لماذا سأل؟ هل أتى بالصداقة، أم أنه يحمل الخطر؟
لم يعد الأمر يقتصر على استكمال الكتابة، لاحظت التغييرات في العبارات المكتوبة. ما الذي كتبها؟ من الذي كتبها؟
هند تكتفي برسائل الإنترنت، وحوارات فيس بوك، تبادل المعلومات والآراء والأفكار والمشاعر بين طرفين، أو عدة أفراد. تحدثني عن القدرة على التعامل مع الآخرين، التواصل، والمصارحة، وسلامة التعبير، واختيار الكلمات السليمة المعنى، والبوح بالأسرار، دون خشية من المراقبة. تحدس — بتأمل الكلمات — ما إذا كان صاحب الرسالة يحتاج إلى ثقتها، أو العكس، تقبل دعوته للحوار، أم تهملها، يقصر كلماته على المعلومات والآراء التي لا تجاوز اهتماماتها: لا شأن لها بقضايا السياسة، ولا ما يتصل بها.
إن صادفت مشكلة، تنقر على ديليت، تصفي حسابها الشخصي — التعبير لها — تنهي العلاقة تمامًا، لا تقرأ كتاباتي، تحاور — معظم يومها — أصدقاء الشبكة العنكبوتية، يجمعنا بيت واحد، لكنها تعيش فضاءها الخاص، لا ترى أحدًا، ولا يراها أحد. ربما يتيح لها ذلك حرية التفكير، وإبداء الرأي، والصداقة، والعزلة، وإشباع الفضول.
أكتم ملاحظتي عن ميلها إلى البدانة، والهالة السوداء حول عينيها، وكلامها إلى نفسها، وتباين انفعالاتها بين الرضا والسخط، وشكواها من اضطراب النوم، وإجهاد العينين، والتوتر، والصداع، وآلام الرقبة والظهر … أعراض لا نهاية لها، ترفق البوح بتأوهات. أعرف أنه تأثير الرسائل التي تطالعها، ليست كلها مما يرضي، أغمغم بما يعني المشاركة، وإن لم أكن أتوقع أنها ستترك موضعها أمام الكمبيوتر.
ألفت الرد على المكالمات الهاتفية: هند قاعدة على النت.
إدمان فيس بوك.
أجد عذرًا لغياب اللفتات التي كانت تعمق إعزازي لها: إعداد كوب شاي استجابة لنظراتي، مساعدتي في صف الكتب على الأرفف، ملاحظة اتساخ الحذاء وأنا أتهيأ للخروج، رأيها في قصة لم أكن أنهيتها على الكمبيوتر، وقفتها داخل الشرفة تترقب عودتي.
قلت في لهجة تقريرية: فيس بوك موقع تجاري أرباحه من تبادل المعلومات الشخصية بين مستخدميه.
ووسطت الفراغ بجانب يدي: المجانية مستحيلة، ندفع خصوصياتنا ثمنًا لاستخدام الإنترنت.
وهززت إصبعي بمعنى التأكيد: أن أفتح صفحة على فيس بوك، معناه أني أفقد خصوصيتي تمامًا.
طلاق عاطفي، هذا هو الوصف الذي اخترته للعلاقة بيننا.
زوت هند ما بين حاجبيها في تأثر: قل تباعد … كلمة طلاق صعبة.
تطول جلساتنا أمام الكمبيوتر. هي في حجرة النوم، وأنا في حجرة المكتب، أعبر الطرقة إلى الحمام، تبدو مستغرقة في القراءة والمتابعة والنقر على الماوس، تنتبه إلى وقع خطواتي، تنظر بجانب عينها، وتعود إلى استغراقها.
المعلومات هي الهدف من الإنترنت. أما فيس بوك فللاندماج والتفاعل والدردشة والترويح والترفيه وتزجية الفراغ والقضاء على الملل.
انطلق فيس بوك دوت كوم في ٤ فبراير ٢٠٠٤م، اقتصر — في أسبوعيه الأولين — على إسهامات طلاب جامعة هارفارد، ما يقرب من نصف عدد الطلاب، ثم تضاعف العدد إلى الثلثين. بعد ثلاثة أشهر، أسهم في الموقع طلاب ثلاثين جامعة أمريكية.
كانت تلك هي البداية، توالي إنشاء الشركات والمواقع التي جعلت من التواصل الاجتماعي وسيلة، وهدفًا. ثم صار فيس بوك أعظم شبكة إلكترونية للتواصل الاجتماعي في العالم.
أشرت إلى معلومة قرأتها: إن الإنترنت ربما يمثل خطورة على العلاقات الزوجية.
خمنتُ من ارتفاع صوتها أنها تعاني توترًا: العلاقة الزوجية رجل وامرأة.
أردفَت وهي تمسح أنفها الصغير بإصبعها: فيس بوك وسيلة جيدة لرفع همس المرأة.
– قرأت أن طول الجلوس أمام الكمبيوتر يؤدي إلى الأزمات القلبية.
– أردتُ من فيس بوك أن تكون نافذة أطل منها على العالم.
ثم وهي تهز رأسها: أجد ذلك أحيانًا، ولا أجده أحيانًا.
دارت توترها بكلمات أقرب إلى الهمهمة: يغيظني من يكرر التعليقات السخيفة على تحديثاتي.
– هل تتخلين عن صداقته؟
– خسارة صفحة، تجر خسارة مئات الصفحات.
– كيف تختارين من تراسلينهم؟
وهي تعد على أصابعها: أقرأ رأيًا وجيهًا فأناقشه … رسالة أتوسم جدية صاحبها … أكتب تعليقًا على قضية مثارة.
وشردَت بنظرها إلى ما لم أتبينه: شعرت بالاستفزاز لدعوة إلى فيس بوك عدو المرأة … تلك كانت الصفة التي اختارها صاحب الدعوة.
وداخل صوتها ضيق: لم أجد سوى اتهام بأن فيس بوك يشغل المرأة عن بيتها!
ورفعَت حاجبيها في استغراب: أراد نصح النساء!
– أنت تذكرينني بالمثل: القرد يحب خنَّاقه.
في نبرة تسليم: هي لعبة قبلتُ شروطها.
– لماذا تشكين إذن؟!
– يغيظني المنطق الذكوري، أنا امرأة، فأنا عرضة للغزل أو للسخرية!
تفاجئني بعبارة غير موصولة بما سبق: نبهت البنت المسكينة إلى خطأ فعلتها. تحل ضبابية: من البنت؟ ما الخطأ الذي نبهتها هند إليه؟
تفطن إلى نظرتي المتسائلة، المتحيرة: البنت في أوائل العشرينيات، وجدت في كلمات الرجل الأربعيني ما دفعها إلى الاستغاثة من تحرش شاب في سنها، امتدت العلاقة بينها وبين الأربعيني، تطورت إلى حب من جانبه، لم يتصور أنها تعود إلى الشاب، نشر الشائعات في فيس بوك، اتهمها بما ليس فيها، لم يقتصر الأمر على ابتعاد الشاب، لكن البنت أنهت صلتها بفيس بوك.
يسبق قولها مصمصة من شفتيها: مسكين! … تصور نفسه كازانوفا!
اكتفيت بنظرتي المتسائلة، المتحيرة.
وهي تغالب ارتعاشة صوتها: يحاول الإيقاع بالبنات، تصدقه البنت، تطلب منه أن يلتقيا خارج صفحات فيس بوك، ربما تحولت علاقة فيس بوك إلى ارتباط رسمي، فاجأها بأنه متزوج، وله أبناء، ويعشق أسرته. ابتعدت، ولم يبتعد، ظلت محاولاته للإيقاع بالبنات.
واغتصبت ابتسامة: لو أني روائية، ربما سميت ما حدث «ناسخ كازانوفا».
أضافت في نبرة تذكر: لصديقك يوسف الشاروني قصة «العشاق الخمسة».
وظهرت غمازتا وجنتيها، والتمعت أسنانها البيضاء: تابعت مثيلة لها على الفيس بوك: مجموعة شبان يصادقون فتاة واحدة، يحاول كل منهم أن يستميلها، فتصبح حبيبته وحده. تدرك البنت اللعبة، فتوزع إيماءاتها على الجميع، ثم تفاجئهم بالزواج من رجل أعمال تعرفت إليه في الفترة نفسها.
روت عن حالات «فبركة» صور سيدات وفتيات، تظهرهن في أوضاع سخيفة.
الهدف من فيس بوك تبادُل الأخبار والمعلومات والآراء وصور الأحداث والصور الشخصية. ما ترويه يدفعني إلى النقر على ديليت، تطالعني الدعوة إلى دخول فيس بوك، ترافقها صور أصدقاء وزملاء ومعارف، تستغرق اللحظة قدر ما أقرأ الكلمات الداعية، ثم أنقر على ديليت.
أذكر وصف جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيلكس لموقع فيس بوك: إنه أشد أدوات التجسس التي اخترعها الإنسان رعبًا في تاريخ البشرية. فيس بوك — في رأي أسانج — أكبر قاعدة بيانات خاصة بالبشر حول العالم.
أزمعت ألا أمتلك حساب تسجيل في فيس بوك.
•••
خطي أسوأ من نبش الفراخ الذي يوصف به الخط الرديء. كان لي — ذات يوم بعيد — خط جيد، وكان الزنكلوني أفندي — مدرسي في البوصيري الأولية — يكلفني بنسخ أسئلة الامتحان بعدد التلاميذ.
منذ أدركتني حرفة الأدب، لاحظت أن خواطري أسرع من قلمي، ما أريد أن أكتبه يتلاحق بسرعة، قد لا تلاحقه سرعة يدي، فأنا أكتبه على أي نحو.
بدت لي الآلة الكاتبة اختراعًا أراد به صاحبه إنقاذي مما أعانيه من سوء الخط. يصعب أن أقرأ — أحيانًا — فأعيد الكتابة بالمعنى، أو أترك لزوجتي — وهي مدرسة سابقة — تفسير ما كتبت، وكانت — في أحيان كثيرة — تعجز عن القراءة.
القصة تكتب نفسها، بمعنى أني حين أبدأ في كتابة عمل ما، فإن صورته في ذهني لا تكون واضحة تمامًا. أكتفي بالفكرة دون تفصيلات، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة، لكنني أفضل أن يكتب العمل نفسه، أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة، حتى لحظة ترك القلم، ذلك تعسف لا أتصور أني أقدم عليه.
أنا من غلاة الحريصين على أن يكتب العمل الأدبي نفسه، لا أملي — من خارجه — حدثًا ولا شخصية ولا تقنية، إنما أبدأ الكتابة الإبداعية وكل ما في الذهن فكرة، هي — في الأغلب — غير متكاملة، وقد تكون ضبابية، يتخلق العمل الإبداعي في أثناء عملية الكتابة، يكتسب ملامحه وقسماته وأبعاده المختلفة. لا أمهد باستدعاءات من أي نوع، ولا أضع ملفات. كتبت القصة نفسها، عندما ألقت أنَّا كارنينا نفسها تحت القطار، فوجئت أنها اتخذت القرار. ظني أن الفنان نفسه أخذته المفاجأة.
ثمة من يحرص على التجذير، الإرهاصات، البدايات، تتضمن ملفاته التاريخ الشخصي والأُسري، بل والعائلي، لشخصيات الرواية. قد لا يلجأ إلى معظم، أو كل، ما يتضمنه الملف من معلومات، لكنها تظل في الخلفية وهو يخلو إلى أوراقه وقلمه.
حين أبدى أحد النقاد ملاحظة حول شخصية في مسرحية لسترندبرج، قال الكاتب العالمي موضحًا: ما حدث لأن جد هذه الشخصية كان يعاني مرضًا انعكست تأثيراته على شخصية الحفيد، إنها الجينات.
قال الناقد: لكن المسرحية تخلو من هذا المعنى؟
قال سترندبرج: في أوراقي ترجمة كاملة لكل شخصياتي المسرحية.
حدثَني نجيب محفوظ عن الملفات التي وضعها لشخصيات الثلاثية، وهو ما عني به — على نحو أو آخر — في بقية أعماله.
كما قلت، فأنا أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح، تتوضح معالمها أثناء الكتابة، لأنها هي التي تهب تلك الملامح، بإسهام من المخزون الذي أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات.
عندما أبدأ الكتابة، فإني أعتمد كثيرًا على الخبرات — خبراتي وخبرات الآخرين — الكامنة والمترسبة في أعماقي، لا أجهد نفسي في البحث، ولا أحاول انتزاعها، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق، تظهر في الوقت الذي تريده، وعلى النحو الذي تريده، دون تعمد ولا قسر من ناحيتي. ربما تكون الشخصية، أو الحادثة، غائبة تمامًا، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة. أفضل نصيحة تشيخوف بأن أبتعد عن وصف الحالات النفسية للشخصيات، وأحاول التعبير عن تلك الحالات من خلال ما يقومون به من تصرفات.
أرفض أن يكون فهم السيرة الذاتية من خلال قراءة العمل الإبداعي، استكناه معانيه ودلالاته، ربما بغير ما تحتمله، وأحيانًا بعكس ما تحتمله.
في «مد الموج» و«أغنيات» وربما في «حكايات عن جزيرة فاروس» لم أكن متأثرًا بالسيَر الذاتية المماثلة، كاعترافات جان جاك روسو، وحصاد سومرست موم، وقوة الأشياء ومذكرات فتاة رصينة لسيمون دي بوفوار، وحياتي لأحمد أمين، والأيام لطه حسين، والمرايا لنجيب محفوظ، وحملة تفتيش للطيفة الزيات، وأيام العمر للويس عوض، والخبز الحافي لمحمد شكري، وتربية سلامة موسي، وغيرها. اعتمدت — كما أشرت في مقدمة مد الموج — على أسلوب الومضة، مد الموج الذي لا يلبث أن ينحسر، وإن خلَّف تأثيرات مهمة.
لم أتعلم قواعد الكتابة على الآلة. ضيعت أيامًا أبحث عن الحرف التالي، هكذا، حتى تكتمل الكلمة، فالجملة، فالنص. استغرق الأمر — في بداياته — وقتًا طويلًا، ثم اعتدت — دون متابعة بصرية — ملامسة الأزرار، يلتقط إصبعي إشارة الذهن، يتنقل بين الحروف، حتى تتشكل كلمة.
مشكلة أخرى، عانيتها في تعاملي مع الآلة الكاتبة، أخطئ في عبارة، أو فقرة، ألجأ إلى «الكوريكتور»، تبدو الصفحة شوهاء، أقذف بها في سلة المهملات، وأعيد الكتابة، مشكلة كانت تتكرر كثيرًا، وكانت تستنزف الوقت. أتذكر فقرات يهمني أن أضمِّنها النص الذي كتبته، أقذف — مرغمًا — بالنص المكتوب في السلة، أعاود الكتابة لأضمِّن النص ما استعدته من عبارات، وكان البنط الموحد للآلة الكاتبة يحول دون أن تبدو العناوين مغايرة. كل الحروف متشابهة في الخط، وفي البنط، ربما استعنت بصديق يكتب العنوان ببنط أكبر.
رسائلي الخاصة وكتاباتي الصحفية، كنت أكتبها على الآلة الكاتبة مباشرة، ثم أصبحت أكتبها على الكمبيوتر.
كان لي — ذات يوم بعيد — خط جيد، وكان مدرسي في البوصيري الأولية — كما رويت لك — يكلفني بنسخ أسئلة الامتحان بعدد التلاميذ.
حتى الآن، أنا أكتب ما لا يتصل بالإبداع الأدبي على الكمبيوتر مباشرة، في القصة والرواية، وحتى الدراسة الأدبية، أحرص على تحقق الصلة بين الرأس والأصابع مرورًا بالذراع، أكتب بعفوية مطلقة، أجري على الورق بالمعنى الذي يشغلني، بالكلمات التي أريد تسجيلها، حاولت أن أعبر عن حيرة المرء في مواجهة ما لا يعرفه: لم أرتكب ما يدعو إلى المساءلة أو العقاب. أنا نقي، نقي، كما كان المصريون القدامى يقولون في محكمة الآخرة.
صار التوجس ملازمًا لي، أميل إلى الوحدة، إلى الاختلاء بنفسي، بعيدًا عن الناس، أطمئن إلى الونس في أهازيج السحر، وصياح الديكة، وتسبيحات ما قبل صلاة الفجر، ورفع الأذان للصلاة. الوقفة أمام البحر — في الليل — تتسلل بالرهبة، وربما الخوف، إلى نفسي. الظلمة الممتدة، والصمت، إلا من صوت ارتطام الموج بالمكعبات الإسمنتية، أو ملامسة المد لرمال الشاطئ.
يثيرني الزحام والأصوات العالية، أغالب الإحساس بالتوتر والاختناق، بالسير — منفردًا — في الشوارع الهادئة، والبعيدة. أرتجف للأصوات العالية والصرخات، في داخلي إحساس دائم بالقلق، شعور بأن شيئًا ما سيحدث، قد يكون في حدود توقعاتي، أو يفاجئني بما لم يخطر لي ببال. أعاني التلفت والتوجس، وتوقُّع ما لا أتبينه.
أشعر بالملاحقات التي لا أراها، ولا أعرف مصدرها، الخطر يترصدني وراء كل باب، وشجرة، وجدار.
لكي أسيطر على القلق في داخلي، أزمعت أن أكون أكثر حذرًا.
لا حدود فاصلة، حقيقية، بين الأفكار التي تشغلني، والإبداع الذي أكتبه. أصعب ما يعانيه الكاتب — في تصوري — حين تعجز اللغة عن نقل أفكاره على النحو الذي يريده، أحاول الكتابة، فيعاندني القلم، تفر الكلمات، ويستعصي التعبير، ويغيب المعنى.
المطاردة قدر الإنسان منذ الميلاد إلى الموت، قد تكون الظروف الاقتصادية القاسية، وقد تكون السلطة، أو الخوف من المرض، أو المؤامرات، أو المستقبل.
المطاردة «في حياة الإنسان» تصدق — في تشبيه كازنتزاكس — ما يتعثر فيه المرء من الفخاخ، يلتهم طعم كل فخ، ينجو بنفسه إلى الفخ الذي يليه، هكذا إلى فخ الموت الذي يدخله، فلا يتركه.
أحيانًا، فإن من يعاني المطاردة لا يكون قد فعل ما يستحق عليه هذا العقاب، أليست المطاردة في ذاتها، القلق والخوف والارتياب والتوقع … أليس ذلك كله عقابًا؟!
ثمة من يلاحقونني بمطاردتهم، يمنعني العجز من أن أرفع قدمي من الأرض، وأفر بنفسي، كأن قدمَي التصقتا بالأرض، تتحرك اليدان والبدن، لكن إحدى القدمين تظل في الهواء، لا تلحق بها القدم الأخرى، يظل الجسد كله ثابتًا، لا يتحرك، كأن القدمين شجرتان ساختا في الأرض، يبدو الخطر وشيكًا، لكنني أعجز عن الحركة، عن التقدم.
المطارد، من يتملكه إحساس المطاردة، يخشى هبات الريح، وسوسة أوراق الشجر، تحرُّك الظلال، تؤلمه ملاحقة المطاردة، يعمِّق الألم إحساسه بلا جدوى المقاومة.
حرصت على أن أوضح ما قد يعاني الغموض، ما كنت أنوي كتابته في الصباح قد كتب بالفعل. ربما نسيت في الإرهاق أني كتبت: ليس خوفًا ما أعانيه، هو قلق، القلق لا يعني الخوف، لا أرى أني أخاف شيئًا، لكن القلق يتملكني مما ألقاه من تصرفات. أعاني القلق، وإن كنت لا أعرف أسبابه على وجه التحديد، أحاول ألا أخضع نفسي للمطاردة، لا أتلفت، ولا أدقق في نظرات الآخرين، ولا بالمظاهر الخارجية، ولا أصيخ سمعي بلا مناسبة، ولا أتشكك دون سبب، ولا أعطي انتباهي للتصرفات الصغيرة، أحتفظ بمظهر اللامبالاة، أرفض إحساس الفرار من المطاردة والتعب والملل.
نسيت المطاردة متى بدأت، ربما من قبل أن أعي، وربما حتى من قبل أن أولد. اعتدت مفردات التجسس، التلصص، الاسترابة، التنصت، كلمات كثيرة تحمل المعنى الذي يرهقني. ثمة من يطاردني في الصحو، والمنام، وأثناء مشاهدة التليفزيون، وأوقات القراءة، والخلو إلى نفسي، وعند الإطلالة من النافذة، والصعود على السلم، والسير في الشوارع.
صرت حريصًا على الاعتذار، أعتذر لكل ما قد يحتمل المعنى الخطأ، أو يغيب معناه الحقيقي. أميل إلى الشرح التفسير وكثرة الاستطرادات.
أصطنع ابتسامة أداري بها ارتباكي وتوتري: أثق في فهمك لي، لكن يهمني أن أوضح نفسي.
لا تعكس كلماتي ولا تصرفاتي ما أعانيه من مشاعر، يصعب أن أجد فيها معنى محددًا.
لما تأخرَت تهاني حسين عن الحضور، فكرت في أن أهمل الموعد، وأنصرف. ثارت الأسئلة في داخلي حول بواعث تأخرها، أو إن كانت ستأتي أصلًا.
أنا دائم الندم والاعتذار والخجل والقلق والتشكك والخوف من ردود الأفعال، والأفعال المفاجئة، ومن المطاردة. لا أتطرق — مع أصدقائي — إلى موضوعات كثيرة تهمني، أخشى سوء الفهم، أو سوء الظن، أو ردود الأفعال التي قد تكون قاسية.
أشعر أن من لا أحبهم، وأخشاهم، يحيطون بي في كل مكان، يراقبونني بلا سبب أعرفه. يتبعني وقع خُطى من يسير خلفي، أتوقع يدًا على كتفي، شفتين تلامسان أذني بالهمس. لكثرة تلفتي، كنت أصطدم بالقادمين من الاتجاه المعاكس.
ترهقني المخاوف والتوقعات، أخترق الشوارع بلا هدف محدد، أسير، وأسير، لا أنظر ناحية شيء ما، ولا أتلفت، أتفادى السير في الشوارع الهادئة، أو الخافتة الضوء، يلفني ما يصعب تبينه، أطيل التوقف عند كل ناصية، أبحث عن النظرات المتلصصة، والمتابعة، والمراقبة، أتمتم بآيات من القرآن، أو أدعية، أو أكلم نفسي بما يفد إلى ذهني، أو أغني، أدندن بمقاطع من أغنية أتذكرها.
طالعَتني الشاشة الصغيرة — في الصباح — بأسطر من رباعيات الخيام:
لا صلة للكلمات بما يعانيه الراوي، هل هي مداعبة، أم تحريض للراوي كي يجاوز الظروف؟
تناسَيت المعنى، وأمسكت بالماوس: أشعر بالخطوات التي تتبعني، يجتذبني وقع الأقدام. يخيفني ذلك الذي يترصد حركاتي بمراقبة لا تنتهي. أتظاهر بالتلفت حولي، وإن نظرت بجانب عيني، أتبين ما إذا كان الخطر على مقربة، أم أنه الوهم.
ألتفت — فجأة — إلى الوراء، ربما ألحظ من يراقبني، أو يتابع خطواتي. أعرف أني إذا عرفت حقيقة الأشياء، فلن أخاف منها، لن يشكل الخوف قلقًا.
الشك والتوجس والقلق ومشاعر أخرى كثيرة، تملأ كياني، تسيطر عليه، لا أقوى على الفعل المحدد، يصطدم اعتزامي بما لا قبَل لي عليه.
أعني بكبح انفعالي. أداري ضيقي، أو غضبي، بابتسامة شاحبة غير ذات معنى، كأني ألصقتها بوجهي دون أن تعني شيئًا محددًا، وكنت دائم المدافعة عن أخطاءٍ أتصور أني ارتكبتها.
في داخلنا — هذا ما ألاحظه — خوف من شيء ما، الخوف ماثل في نهاية الأفق، أو يطاردنا. ربما ظهرت ملامحه، أو غلبه الشحوب، لكنه يظل في موضعه، ثابتًا أو متحركًا، يترصد اللحظة المناسبة.
في لحظة ما، يتوقف القلم، وربما الذهن، عند نقطة ما، يستعصي التعبير، أجاوز الأسطر إلى أسطر تالية يسهل كتابتها، تستكمل المعنى في الشخصية، والحدث. أعود — فيما بعدُ — إلى الأسطر التالية، قد لا تكون الساعة نفسها، ولا اليوم نفسه، تفاجئني في وقت تالٍ، وأنا أقود السيارة، وأنا أتناول الطعام، وأنا أقرأ كتابًا، وأنا أطل من شرفة البيت … أسجل الكلمات الناقصة على أي ورقة أجدها، كتبت الكلمات الناقصة — ذات صباح — على ظهر تذكرة أوتوبيس … لكنني قرأت تلك الليلة، ما أغلقت عليه الجهاز: أتمنى أن أتغير من الشخص الذي أنا عليه، إلى شخص آخر، يمتلك من الجرأة ما لا أمتلكه.
أشك في واقع الصداقة التي يعبر عنها ممدوح بكار، هل هو صادق في مشاعره، أو أنه يضمر عكس ما يبديه.
أعرف أنه رآني في شارع الميدان، وإن تجاهل ذلك، تظاهر بأنه لم يرَ شيئًا، واندس في الزحام، ربما أن وشاية فعلت مفعولها في نفسه، فتغيرت، أسقطني من قائمة أصدقائه، استغرقني التفكير: ما الذي أقدمتُ عليه، وأفلحوا في استغلاله، وإيغار صدره ضدي؟
ألح شارع الميدان في العديد من كتاباتي، هو المعنى عن الزحام: المقاهي والحلاقين والدخاخنية وتجار قشرة الذهب والمانيفاتورة والجلابيب والعباءات والقفاطين والملاءات اللف والعمائم والطرابيش واللاسات والرءوس الحاسرة والمتصوفة والمتسولين وباعة الأرصفة وعربات اليد والأقفاص والأجولة والأسبتة والبراميل والطبالي والذبائح المعلقة في الخطاطيف والأخذ والرد والفصال والنداءات والصياح والصراخ ورفع الأذان والجنازات والجلوات والأدعية والابتهالات والحميمية والفرار والاختفاء وروائح البن والفول والفلافل والشواء والقلي والعطارة والبخور والزفارة والمياه الراكدة والعطن والكلاكسات وهدير المحركات والجنازات المتجهة إلى جامع الشيخ.
في قصتي «الأستاذ يعود إلى المدينة» مضى الرجل ذو البالطو الأصفر بالوليد ناحية شارع الميدان، وفي قصة «مقام المراقبة» احتمى محسن بزحام الشارع، وجامع الشيخ إبراهيم آخر الشارع شهد — في العديد من إبداعاتي — نهاية جلوات الموالد، والصلاة على الراحلين إلى مقابر العامود، وكانت الشرفة المطلة على الشارع موضع جلسة الأب في رواية «الشاطئ الآخر»، وفي «رباعية بحري» ساعد تاجر منيفاتورة — دكانه في الشارع — أنسية وسيد الفران على حياتهما الزوجية، وغادر البقال اليوناني «أهل البحر» محله — في قلب شارع الميدان — إلى بلده، عقب حرب ١٩٥٦م، ونتعرف في «غواية الإسكندر» إلى دور جامع الشيخ إبراهيم في الحياة السكندرية. وثمة زحام شارع الميدان في العديد من رواياتي ومجموعاتي القصصية.
ومع أن الدولة أطلقت على الشارع اسم السياسي الراحل محمود فهمي النقراشي — عقب اغتياله في ١٩٤٨م — فإن الناس أبقوا على التسمية القديمة، وهو ما حدث — كما تعلم — حين بدلت الحكومة تسمية ميدان العتبة، لكن الناس لم يبدلوا التسمية التي اعتادوها.
أوافق كافكا في قوله: «إن العمل الذهني يفصل المرء عن الجماعة الإنسانية، لكن العمل اليدوي يقود الإنسان إلى الناس.» مع ذلك، فقد حاولت — دومًا — أن أقترب من الناس، أن أحيا مشكلاتهم وما يعانون.
طلب باحث شاب أن أساعده في رسالة جامعية، عن شارع الميدان.
– عن الحياة في الشارع؟
– عن البنايات … الرسالة لكلية الآثار.
أضاف لدهشتي المتسائلة: شارع تاريخي، له خصوصية.
توالت الصور، سرحت وراءها، لم أفطن إلى ثبات الماوس لا أحركه، لا يضيف شيئًا. أغلقت الجهاز. بدت الكلمات — في الصباح — على الصورة التي تركتها: أزمعت — للتخلص مما أفكر فيه — أن أعتبر هؤلاء الذين أجد في أعينهم نظرات العداء، غير موجودين في الواقع، هم مثل الأشياء التي لا تستوقفني. أعبرها، وأواصل حياتي، لكن الصدام فرض نفسه في أحيان كثيرة: ملاحظة، سؤال، عبارة محملة بما يجب الرد عليه، أو كشفه.
ترددت في الجلوس على الكرسي الخالي على رصيف المقهى. تلفتُّ حولي كمن يتوقع شيئًا.
وضعت في الصينية ما لم أحصه من النقود. اندفعت أعبُر الطريق دون أن أفطن إلى السيارة التي تعالت فراملها وشتائم السائق. مِلت في ناحية الشارع.
اعتدت الهرب. أهرب بالجري، أو وأنا جالس في مكاني.
القلق — لا أدري بواعثه — يتسلل إلى أعماقي. علاقتي بالآخرين يحددها اقترابي من القلق، وابتعادي عنه. يسيطر على أفكاري وتصرفاتي قلق مجهول، أشعر بتماوج في بطني، يتصاعد من أسفل إلى الحلق، شيء كالغثيان، أخشى أن ينتتر القيء — فجأة — من فمي.
يشغلني أن أشعر بالطمأنينة في مكان ما.
حذرني أبي من قلق لا سبب له في الواقع، لكنني لم أستطع التخلص من هواجس المخاوف التي تملكتني.
أشعر بدبيب القلق يتصاعد في داخلي، تطاردني الهواجس والظنون، أنتفض لسماع سرينة سيارة شرطة، أتساءل — بيني وبين نفسي — ما إذا كنت قد فعلت ما يدفعها إلى البحث عني؟
يزداد القلق مع قدوم الليل، أشعر أني على حافة زلِقة، تطل على ما يصعب تبينه، دوام المراقبة يعني أن أكون دائم الحذر، أعيش التوقع.
أتنبَّه لوقع أقدام خارج الحجرة، أحدق — بالتوقع — ناحية الباب، لكن الخطوات تتلاشى، ويعود الصمت.
أرتجف لترامي صوت ارتطامٍ عنيف.
قالت أمي وهي تغالب إشفاقها: هذه نافذة المطبخ، نسيتها مفتوحة.
ألزمَني الارتباك والتعب موضعي على سلم الحقانية. كانت رؤيتي له قد تعددت في انحناءة الميدان إلى شارع السبع بنات. ظللت أنتظر حتى أدركني الملل وما يشبه اللامبالاة. أزمعت أن أعيش حياتي، كأني سأموت في اللحظة التالية.
قمت متثاقلًا، أحرص فأواصل السير، لا ألتفت ورائي. أطيل التوقف، أنظر إلى داخلي وما حولي، أراقب نفسي والعالم المحيط بي، أخشى مراجعة ما أقول، إخضاعه لاستنتاج غير صحيح، أو مختلف، ولم يخطر لي ببال.
لاحظت أني لم أكن خائفًا هذه المرة، استجمعت شجاعتي، وألقيت — بيني وبين نفسي — أسئلة، وأجبت عليها. قوة هائلة مسيطرة، دفعتني إلى الكلام، إلى التوضيح ومحاولة الإقناع.
صعدت سلالم البيت. ترامى — من أسفل — وقع أقدام، ربما في مدخل البيت، خمنت أن من لا أعرفه يصعد إلى حيث أقف في الطابق الثالث.
أدرت المفتاح، تركت باب الشقة مفتوحًا، جلست على الكرسي المقابل، أنصت لتعالي اقتراب الخطوات، ينفتح الباب، فيطالعني من سبقت رؤيتي له، أو من تغيب ملامحه، لكن الخطوات ابتعدت دون أن يحدث ما أتوقعه.
تبدل إحساسي بالقلق إلى ما يشبه الخوف، ولعله الذعر، ما لا أعرف طبيعته، ولا إن كان سيطالعني حالًا، أم أنه يترصدني حيث يختفي التوقع.
أبطأت من خطواتي، ثم توقفت تمامًا، أصخت السمع لتبين إن كان أحد يتبعني.
ظللت أرهف السمع، أتوقع إيقاع الخطوات، أعرف معناها وما تطلبه، قبضتاي مضمومتان جانبي، وإن تهيأت للتخلي عن الوقوف على الحافة، وتلقي عشرات الأسئلة، وسمو الهمة، وطيران القلب، ورفيف الأجنحة، وترنم الطير، وحفيف الشجر، وخرير الماء، والهمسات، والتسبيحات، وصفاء الذكر، والأدعية، والأناشيد، والأغنيات العلوية، وسطوع الضياء، ومناجاة الأسرار، وغياب الوحشة، وامتداد الظلال، والظلمة التي لا تنتهي.
تنبهت — بعد أن أنهيت مراجعة القصة في خمس جلسات — أني سجلت ما أعانيه، الخوف عقدة ترافقني منذ طفولتي. حاولت — في أكثر من مناسبة — أن ألتقط خيط البداية، ربما صحوي ذات يوم فأجد الشقة خالية إلا مني، ربما دفع المدرسة في روضة مصر الفتاة لي في غرفة الفئران، حكايات أبي وأمي وكبار عن المردة والغيلان ومخلوقات الأرض، الحمار الذي يطول عنقه، فيبلغ رأسه السماء، عفاريت القيالة في المقابر والخرابات، اختطاف جني البحر البنات في سَيرهن على الشاطئ، انشقاق الأرض، تأخذ من تبتلعه في باطنها إلى حيث لا يعرف أهله، تحول الأجساد — بأعمال السحر — إلى قردة وحجارة لا تنطق، الأرانب الصغيرة، مأواها الخرابة المطلة على شارع محسن باشا، تواجه المارة بأذًى لا يمكن تحمله، الغولة — في ردها على من يلقي السلام: لولا سلامك، سبق كلامك، لكلت لحمك قبل عضامك …
أرفض الحيادية في الفن، ولا أتصورها، لا أعني التقريرية والجهارة، أعني التعبير عن فلسفة حياة الكاتب من خلال إبداع يتسم — ولو في ظاهره — بالعفوية.
المقاومة هي العنوان العريض لفلسفة حياتي، ذلك ما تبين عنه إبداعاتي — بصوت هامس ما أمكن — وهو ما تبين عنه كذلك كتاباتي الأخرى. ثمة مقاومة الخوف والمطاردة والسلطة الظالمة، وفي المقدمة مقاومتي للعدوان الذي نعانيه، وهو العدوان الصهيوني على أرضي وموروثاتي وهويتي، لا يقتصر ما كتبت على مجموعتي القصصية «حارة اليهود»، لكنه يشمل إبداعات أخرى غيرها، حارة اليهود تجميع للأعمال التي تعني بالمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني من مجموعات قصصية مختلفة، بالإضافة — طبعًا — إلى انعكاس المقاومة في العديد من الأعمال الروائية.
المقاومة — عندي — ليست مجرد شعار أحاول أن أطبقه في حياتي. إنها ترتبط بالإصرار على التطبيق، لا يظل الشعار في حدودٍ بلاغية، لكنه يترامى في آفاق لا حدود لها. إذا واجه المنع والمصادرة فإنه يظل قائمًا، أدافع عنه ما وسعني، أقاوم القهر والزيف والفساد والمصادرة، أشفق على سناء سقوطها في رواية «العيب» ليوسف إدريس، لكنني أجتهد — من يدري؟ — كي لا أتعثر في خطواتي، أو يخضعني ما لا أستطيع مغالبته.
في المقابل، فإني أوافق على الرأي بأن الأدب ليس معملًا لماكينات الدعاية، لكنه ممارسة مستمرة، وبدون هذا العنصر من التحمس، من جانب من يكتب، ومن جانب من يقرأ، لا قيمة لأي عمل أدبي، ولا معنى له على الإطلاق.
•••
الإبداع الحقيقي هو الذي يُحدث تبديلًا ما في فهمنا لأنفسنا وللآخرين.
أنا لا أكتب الواقعية الروحية لمجرد الانطلاق في الخيال، لكنني أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية، سواء في اللحظة المعاشة، أم في أحداث تاريخية.
المطاردة قدَر الإنسان منذ ما قبل الميلاد، إلى ما بعد الممات، اختياري للنهاية الصوفية ملاذ من عناء المطاردة.
الصوفية ملاذ من الحيرة والظروف القاسية. إن كنت تريدني حقًّا، فلمَ هجرتني، نداء الغوث لشحاذ نجيب محفوظ، اختار الطريق التي يسير فيها من رأى اليقين رؤية صحيحة، وسعى إلى رحمة من ربه. شغل النفس بضروب العبادة والمجاهدة والمراقبة والمحاسبة، حفظ الكثير من الأقوال والروايات والأحاديث والمأثورات، استغرقته حياة التأمل والزهد والعبادة. توسل بالأنبياء والأولياء والأقطاب والصالحين، رنا إلى الرياضات والمقامات العالية والمكاشفات والكرامات العجيبة، تقلب في أحوال القرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والطمأنينة والسلام والمشاهدة واليقين والإشراقات الربانية.
الصوفية — كما تعلم — تكوين مهم في حياة بحري.
يعاودني الحنين إلى بحري، فأعود للكتابة عنه. تتقارب زياراتي، أجول في شوارعه، أقرأ الفاتحة لأولياء الله في المقامات والأضرحة، أرنو إلى أفق البحر، أتابع عمليات الصيد في امتداد الشاطئ. تصورت أن كتابي «الحنين إلى بحري» هو المنتهى، لكن الصور تتوالى، كأنها لا تنتهي، أو لا تريد أن تنتهي.
مثلت البيئة التي عشت فيها طفولتي وصباي وشبابي الباكر عالمًا أحببته، وحرصت — لما اضطرتني الظروف أن أبتعد عنه — إلى العودة إليه. لصخرة الأنفوشي وجود في الكثير من أعمالي: رباعية بحري، أهل البحر، صخرة في الأنفوشي، هي شخصية رئيسة، عاشت الأحداث، وبدلت مسارها. لصحن أبي العباس موضعه في معظم كتاباتي التي تناولت الحياة في بحري. من الصعب أن أهمل المشوار الذي قطعه محمد قاضي البهار — وهو يغني — من البيت في الموازيني، حتى يسلم نفسه لأمواج البحر. شارع إسماعيل صبري قاسم مشترك في معظم النصوص، صيد السمك وطير البحر والحلقة والحواري والأزقة والجوامع والأضرحة والمقامات وحلقات الذكر والموالد والجلوات والأدعية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والتواحيش وشارع الميدان وميدان المساجد … أفتقد ذلك كله في سني المغايرة، أتمنى أن أعود إليه، أجده — على نحو ما — في الأحياء ذات العبق الشعبي.
صديقي الراحل الداخلي طه كان يرافقني إلى الموسكي، قبل أن نبلغ الصاغة، يبطئ خطواته، ويقول: عش فيما تحبه.
أسلم نفسي لشوارع وحارات وعطوف ودروب وأزقة وبنايات تضعني في دنيا أحبها، أشم أنفاس الزحام، وباعة الكتب والمسابح والترمس والليمون وأكشاك الختان وخيام الصوفية والهتافات المفاجئة الصادرة من أعمق النفس: حي! أستعيد في الدراويش ما لم أنسه داخل أبو العباس، ولصق الجدران، وفي ميدان المساجد، وأمام مقامات ياقوت العرش ونصر الدين والبوصيري وكظمان والطرطوشي وابن الخطاب ومحمد شرف الدين ومنصور والرازي والحافظ أبو الطاهر السلفي والموازيني والواسطي وغيرهم.
في مصر الجديدة تطالعني شوارع جانبية، أعرف أنها المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى هذا الشارع أو ذاك. في بحري الوضع يختلف، ما يقرب من العشرين عامًا تجولت في ميادين وشوارع وحواري وأزقة، كأنها بيتنا، بمعنى أنها صارت عندي مثل البيت الكبير الذي أعرف كل قسماته وملامحه. الذكريات تتجاور، تتلاحق، أبطالها بشر وأماكن وأحداث، يتشكل من مجموعها البانوراما التي أحببتها، وانعكس هذا الحب محاولاتٍ للتعبير.
مفردات الحياة في بحري: أمواج وبلانسات وحواري وأزقة ومقاهي ومآذن وقباب وأضرحة ومقامات وموالد وأذكار وأهازيج ودعوات وحلقة سمك وعلماء دين ومتصوفة ودراويش وصيادون وعساكر سواحل وبحارة أجانب وحرفيون وفتوات.
البحر هو مدينتي، الضفة الثانية لمدينتي الإسكندرية؛ اليابسة والبحر. بحري مكان محدود المساحة، كيلومتر ما بين الميناءين الشرقي والغربي وامتدادهما إلى خليج الأنفوشي، لا محدودية المساحة يصنعها البحر، وزخم الشخصيات، وتنوع ظروفها الاجتماعية والثقافية. بحري مكان محدد، ومحدود، لكنه — بالبحر الذي يطل عليه — بالغ الاتساع. الحياة فيه — مثل البحر تمامًا، وربما نتيجة ملامسته البحر — متجددة دومًا، على حد تعبير ألدوس هكسلي. لا نهائية البحر ليست في الأفق وحده، بل إنها أبعد ما تكون عن المجاز، فالبحر يتصل بالمحيط، والمحيط يتصل ببحار ومحيطات أخرى.
ولدت في بيت يطل على البحر من معظم جوانبه.
أنا أكتب عن حي بحري، شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية، عشت معتقدات ناسه وعاداتهم وتقاليدهم. عمق من هذه الصلة ما يتسم به الحي من روحانية عالية، متمثلة في عشرات الجوامع والمساجد والزوايا، وما يتصل بها من مظاهر الحفاوة الدينية، كموالد الأولياء وزيارة الأضرحة والمقامات، وحلقات الذكر … طقوس لا حصر لها، يكاد يتفرد بها حي بحري، ربما تجد بعضًا منها في أحياء أخرى، وفي مدن وقرى أخرى في مصر، وفي الوطن العربي، لكن من الصعب أن تراها — مجتمعة — إلا في بحري، ذلك الحي الذي أدين له بالفعل بمعظم ما كتبت.
كتبت عن البحر في مغايرة لمن عنوا بتناول الحياة عنه، وعن ناسه. الراحل صالح مرسي — على سبيل المثال — سرد قصصًا حقيقية ومتخيلة — بحكم عمله سنوات طويلة في البحرية المصرية — عن الحياة في البحر. وفي المقابل، فثمة من كتب عن الإسكندرية اليابسة، وتأثرها — على نحو وآخر — بالبحر الذي تتشكل في قلبه شبه جزيرة عرضها ما بين كيلومتر واحد، وستة وعشرين كيلومترًا، هي المساحة ما بين رأس التين والمنتزه، فضلًا عن المناطق الصحراوية والزراعية التي أضيفت إلى كردون المدينة.
الأعمال التي تناولت فيها البحر، عنيت بالصلة بينه وبين اليابسة، هؤلاء الذين تتوزع أحوالهم المعيشية بين الحياة في البحر، والحياة في اليابسة، وتنشأ — من خلال ذلك كله — قصص وحكايات ومعتقدات وخوارق ومعجزات وكرامات ومكاشفات، هي التعبير عن تلك الصلة بين البحر واليابسة. ظني أن هذه الصلة تطرح تجلياتها — بصورة واضحة — في رباعية بحري وأهل البحر، ثم في الأعمال الأخرى.
البحر يثور، أو يصبح حصيرة، لكنه لا يتغير. نحن الذين نتغير، تبدل الحالات النفسية، تقدم العمر، الدنو من النهاية.
وهبني البحر رحابة الأفق. أرفض أن تقيد حركتي ولا آرائي، ولا أن تحد انطلاق مخيلتي محظورات من أي نوع. الأصل في الإبداع هو الحرية، وإن أشار البعض إلى أنه عندما يدور الصراع في داخل الفنان، بين حرية الإبداع وأخلاقيات المجتمع، فإنه يجب أن ينتصر للخيار الثاني.
الفنان فرد كمبدع، وهو — كمواطن — عضو في مجتمع يصعب أن يهمل معتقداته وتقاليده وأعرافه. لكنني أكتب أعمالي كما لو أني — للأسف — لست مواطنًا عربيًّا، كما لو أني لا أحيا في الوطن العربي. العفوية التي أحرص عليها — في أثناء عملية الكتابة — توازيها حرية في التفكير والمقولة.
أنا أكتب حتى ما قد يرفضه الرقيب في داخلي، انعكاسًا لمطالب الرقيب المجتمعي. لا يشغلني إن وجد سبيله إلى النشر، أم أودعته أدراج مكتبة. وما أكثر ما تحتفظ به هذه الأدراج من أوراق.
لبحري رائحته، خليط من اليود والملح والطحالب والأعشاب، فضلًا عن رائحة الأسماك في الحلقة، عندما يكون في محيطها. أفتقد هذه الرائحة في أي موضع أنتقل إليه، داخل مصر أو خارجها، تتصاعد رائحةٌ ما تعيدك — على نحو ما — إلى الرائحة التي اعتدتها.
شيدت عمارات جديدة من طوابق مرتفعة، وبتصميمات حديثة، بدلًا من الشوارع الضيقة، متلاصقة البيوت، متقاربة النوافذ، والشوارع الأشد ضيقًا لا تكاد أشعة الشمس تنفذ إليها. أستعيد — ولو بإغماض العين — ما أزيل من بيوت قديمة بطرزها المتلاشية، الجدران من الحجارة، والأسقف الخشبية على كمرات حديد، والنوافذ الخشبية عالية، ونشع البحر على الواجهات يختلف عن النشع الذي تحدثه الحمامات في بناياتنا الحديثة.
بحري ليس مجرد مساحة من الأرض يحدها البحر، إنه التعبير الأعمق عن المحلية التي ترقى إلى المستوى الإنساني.
الحنين الذي يشدني إلى بحري هو الحنين نفسه الذي يجتذبني إلى البيت. الحي المطل على البحر من جهات ثلاث، يضم البيت المطل على البحر من جهات ثلاث كذلك.
•••
أبدأ في تجربة كتابة رواية جديدة فور أن أنتهي من كتابة أحدث رواياتي. يدفعني إلى ذلك إحساس مؤكد أن أفضل ما كتبته — أو ما كنت أريد أن أكتبه — لم أكتبه بعد!
بالمناسبة، فأنا لا أكتب ما يطلبه الآخرون، حتى لو كنت مقتنعًا بالمطلب، وأشعر أن في داخلي — دومًا — طاقة إبداعية، ربما تجري بالحياة في أوراق كثيرة.
حين جرى القلم — في ذلك المساء — بالكلمات على الورق، لم أكن أعددت نفسي للكتابة، ولا تصورت معنى محددًا.
من الصعب أن أجيب عن السؤال: ماذا تنوي قوله في هذه القصة، هذه الرواية؟
الفكرة على الرمال تتطلع إلى ملامسة أمواج البحر، هي — في غموضها — مثل الأصداف التي توشوشها كي تبوح للغجرية بسرها، قسمات السر تبين في عملية الكتابة، الأمواج والجزر والقوارب والشباك والمخلوقات التي تتهيأ للتعرف إليها.
الكاتب لا يملك جواب السؤال: ماذا بعد؟ تغيب التوقعات في مدى الأفق.
أبدأ الكتابة: الرواية، القصة القصيرة، أتصور وفاة شخصية خلال الأحداث، أو في نهايتها، تفاجئني الشخصية باستمرار حياتها، ترفض الموت، وتصر على الحياة. تتبدل الأحداث بتباين السيرة الشخصية. مَن تصورتُ بقاءه يدركه الموت، ومن أعددته للانتصار يواجه هزيمة قاسية.
أذكر رواية نجيب محفوظ «بداية ونهاية». نجيب يضع الملفات لشخصيات روايته وأحداثها، قبل أن يبدأ في الكتابة. تصور النهاية مبهجة. أزمع أن تكون رواية كوميدية، لكن مسار الرواية تبدل بتوالي الأحداث، تنازل حسين عن حبه لبهية، ليطالعه الناظر الطيب في مدرسة طنطا، بطلب تزويجه ابنته، وتطارد الشرطة أكبر الأبناء حسن إلى الضياع، ويدفع حسنين أخته نفيسة إلى الانتحار غرقًا، ويتهيأ لفعل مماثل قائلًا: ليرحمنا الله!
قد يستغني الروائي عن الملفات، لكن التصورات المسبقة ترتسم أمامه، المغايرة تبين في مسار الأحداث، يكتب العمل الإبداعي نفسه.
حين أزمعت أن أكتب عن الحياة في معتقل، راجعت الكثير من حالات التعذيب: نزع الأظافر، التعليق من المعصمين في السقف، الضرب على القدمين، إطفاء السجائر في الجسد العاري، زخات الكرباج على الجسد في حضن العروسة الخشبية، الحبس في زنزانة يعلوها الغائط …
تبينت — من قراءات وروايات أصدقاء، ومشاهد في الأفلام — أن وسائل التعذيب لا حصر لها، لكل عصر وسائله التي تؤذي الإنسان، وتقتله بشناعة.
لا أكتفي بقراءة الصحف، لكنني أقص المواد التي أتوقع أنها ستفيدني بما أحتاجه من معلومات.
لا أذكر متى بدأت في استخدام المقص، تفيدني القصاصات منذ فترة باكرة. غالبية ما أكتب من روايات وقصص يعبر عن الصلة بين اليابسة والبحر، المراحل التاريخية التي وظفتها في العديد من أعمالي، كل ما أجد فيه عونًا لي من جريدة أو مجلة، أقصه، أحتفظ به، حتى تتحقق الفائدة يومًا.
تكرر المشهد إلى حد الملل: الصيحات والأوامر والتنبيهات والتفتيش والعنابر والزنازين والأبراش والكنس والمسح وحمل الغائط وجرادل البول والأقدام الحافية واللطم والصفع واللكم والركل وضربات القوايش والشوم على الأجساد.
حتى التوقع بالأذى لم يعد يحرك النفس: اقتحام الجنود للعنابر، تقليب كل شيء، مصادرة ما يبدو مهمًّا، حتى الأشياء التافهة قد تنطوي على المعاني المهمة.
كأنه قد استنام إلى المألوف، ما حدث هو ما يعيشونه الآن، وما سيتكرر في الأيام المقبلة. الوقوف على أرضية الصفر، تخيل النتيجة في أقصى مداها، الراحة من عذاب لا ينتهي.
حتى الجري الدائم، صورة الحياة في المعتقل، انعكس في تصرفاتهم داخل الزنازين، وفي المطعم، وفي قعدات الراحة.
وهو يرسم بعصا رفيعة — في أرض الساحة الترابية — خطوطًا وأشكالًا.
– ما قيمة العمر إن كانت نهايته في زنزانة أو داخل أسوار؟
وتقلصت ملامحه بالأسى: حرام أن ينتهي ما بذلناه إلى لا شيء!
قال جابر عبد المعطي مهونًا: ليس المهم أن نقطف نحن الثمرة.
الأسوار تحيط بالساحة الترابية الممتدة. البوابة الكبيرة — في المنتصف — مغلقة، وعلى الجانبين برجان خشبيان، فوقهما جنديا حراسة، الزنازين على جانبي الطرقة الضيقة.
تتوالى الأسئلة عن الاسم والسن والمهنة والنشاط السياسي والرأي في الأوضاع القائمة. ينزعون كل ما يرتدون، عدا الملابس الداخلية، يسدلون على أجسادهم — بصرف النظر عن النحافة أو البدانة — قمصان الخيش، يرتديها المتصوفة باختيارهم، ويفرضها المعتقل على نزلائه.
يتحولون في الطوابير إلى أرقام، وفي نداءات الجنود المستهزئة إلى نساء، أسماء نساء. ينسون أسماءهم تمامًا، ويكتفون بأرقامهم، كل يحفظ رقمه جيدًا، يرد على مناداته به. من ينسى رقمه الذي تحدده إدارة المعتقل، أو اسمه الذي يخترعه — مرغمًا — بنفسه، تغلق عليه الزنزانة الانفرادية. قائمة الممنوعات طويلة: القراءة، الكتابة، الاستماع إلى الراديو، مشاهدة التليفزيون، قراءة الصحف، تبادل الرسائل، استقبال الزوار، تلقي طعام من خارج الأسوار. تبادل الكلام، الأسئلة والملاحظات يتجه بها النزيل إلى الضابط، لا ينظر حتى إلى الواقف جواره.
يجدون فرصة للحكي في فراغات الاستجواب والتعذيب والنوم والعمل.
كان الوقت ليلًا، نسي جابر عبد المعطي …
تبدَّلت الكلمات: كان الوقت ليلًا، نسي جابر عبد المعطي اليوم والساعة، وإن ظل ما جرى في ذهنه لا ينساه.
أشعر أن الكلمات التي يفاجئني بها الجهاز، تسد ما تركته من فجوات، تنطوي على رغبة في المساعدة، وصداقة.
قبل أن تطالعني الفقرة التي سدت فجوات الأسطر، كنت أناقش ما إذا كان ينبغي أن أعيد كتابة الموقف من أوله. سدت الفقرة ما كنت تركته من فراغ، وصلت ما سبق بما لحق.
أكره الكتابة في الصمت. أدير الماوس على أغنية لصوتٍ أحبه: أم كلثوم وعبد الوهاب وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ ونجاة. أولي بعض اهتمامي — سمعًا ومشاهدة — برامج التليفزيون. أتجه — بانتباهي الكامل — إلى المواد التي تهمني، تحدث أخطاء في تقاسُم الاهتمام بين ما أكتبه، وما أشاهده، أو أستمع إليه. التقطت كلمة الجمهورية، نقلتها على الكمبيوتر تكملة لمقهى الفن، صار مقهى الجمهورية، الأحداث قبل ثورة ١٩٥٢م، كتبت عن محطة الترام في ميامي، نبهني إلى الخطأ صديقي الروائي صنع الله إبراهيم: آخر محطات ترام رمل الإسكندرية في فيكتوريا. أضاف دعابة موجعة: هل أنت سكندري بالفعل؟!
توالت الطرقات.
أدرك أنهم قدموا لاعتقاله. تنبهت نظراته إلى النافذة المفتوحة. قفز منها، وفي باله سطح البيت المجاور. أخطأ القفزة، فكسرت قدمه، عجز عن التحامل عليها. ظل في موضعه حتى تنبهوا إليه. لم تفلح حيطة جابر في الفرار من المطاردة، أقام في بيت من بابين، أحدهما يطل على شارع شريف، والثاني يطل على شارع توفيق. لما تنبه إلى وقع الأقدام، أسرع إلى الباب الخلفي. كانوا قد غطوا الباب بأجسادهم، ووقفوا في انتظاره.
رفت على شفتيه ابتسامة حزينة للسؤال: لماذا جاء؟
يعرف أنه أودع المعتقل لتشابه في الأسماء، اسمه الثلاثي سيد عبد الناصر الغمري، هو الاسم نفسه لمن لا يعرفه، من يبحثون عنه، ويطاردونه.
نسي كل ما جرى قبل تلك اللحظة. عدا الضوء الشاحب من المصباح المدلى فوقه. استنامت الحجرة إلى ظلمة شفيفة، تبين — بجانب عينه — خلوَّها إلا من المكتب المعدني الصغير، يجلس وراءه رجل أربعيني، أسمر البشرة، يرتدي بنطلون جينز، وسويتر، واستبدل بالحذاء شبشبًا منزليًّا.
قلَّب الرجل في الأوراق أمامه، رفع عينين متسائلتين: الدكتور سيد عبد الناصر الغمري؟
هز رأسه مؤمنًا.
– لماذا أتيت إلى هنا؟
– لا أعرف.
– إجابة لا ترضيني.
– لا أعرف بالفعل.
علا صوته: هل اشتقت لتغيير المكان فأتوا بك؟
استنطق بما لم يقله، ولا دار بخاطره أنه يقوله.
ما قرأته لا صلة له بقصتي كما بدأتها. جرى الماوس بالأسطر، طالعتني أسماء لم أكتبها، ولا عرفتها من قبل. بدأت من أول سطر. كان هيمنجواي يترك — آخر الليل — ما كتبه على الآلة الكاتبة (لم يكن الكمبيوتر قد ظهر في حياة الأدباء بعد) ويعود إلى قراءته في الصباح، ليس الفقرات الأخيرة وحدها، وإنما كل ما كتبه منذ الحرف الأول، والكلمة الأولى، والجملة الأولى، يطمئن إلى خلو السرد من أية نتوءات أو فجوات. وأكد بلزاك أنه كان يعيد قراءة العمل بعد أن يتمه، ربما صادف في اليوم الثالث زيادة حرف واو العطف، ثم يعيده عقب الأيام الثلاثة التالية. قول لا يخلو من مبالغة، وإن كان المعنى ضرورة المراجعة والتقويم والغربلة، والحرص على جماليات العمل في ترامي آفاقه.
استغرقتني القراءة، وصل ما كان بالأحداث التالية، طال تأملي وصية الرجل، وتصورات ما يحدث وراء الجدران، الموقف كالسؤال اللغز الذي يفضي إلى طرق متعددة. فضلت أن أرجئ الأمر إلى الصباح، أعدت قراءة ما لم أكن نقرت حروفه على الكمبيوتر، أسرة السجين التي أوصي بها، الزوجة والبنات الثلاث، لماذا ثلاث؟ وهل يغيب الولد؟
تعرفت إلى الملامح الظاهرة، والجوانية، والشقة، والحي، وكلية الطب التي بلغت فيها هند الكبري السنة النهائية، وكلية الحقوق التي تلتحق بها البنتان الوسطى هيام، والثالثة هيفاء.
هل ما قرأته إشارة إلى المعنى الغائب، أو أنه تحفيز لإعادة ترتيب المواقف؟
همس الغمري: أنا أعرف نفسي … إذا تعرضت لمثل هذا (وأشار ناحية الغرف المغلقة) فإني سأموت.
وصمت، كمن يعاني، ثم أضاف: إن حدث، أملي أن ترعى أسرتي.
لم يتحدث عن أسرته، ولا أين تقيم، ولا الظروف التي تعيشها. لم يكن الوقت يأذن بسؤال، اكتفى بهز رأسه، والتصورات تقتله: ماذا يحدث وراء الجدران؟!
أجلس إلى الكمبيوتر، أول ما أفعله نصيحة همنجواي، فأقرأ ما كتبت من البداية. حتى لحظة إغلاق الجهاز، أصل ما كتبت بما أعد نفسي لكتابته.
أحرك الماوس صعودًا وهبوطًا، أتوقف عند الحروف والكلمات والجمل والأسطر، أتأمل إن كان المعنى متسقًا أم أنه في حاجة إلى تعديل؟ أضيف أو أحذف، أستعيد ما قاله الفرنسي بلزاك إنه كان يقرأ الجملة بعد أن يكتبها، يتأملها ثلاثة أيام، يحذف بعدها حرف الواو. يراجع ما فعل ثلاثة أيام أخرى، ثم يعيد الحرف إلى موضعه.
صيغة مبالغة كما ترى، لكنها تعني ضرورة المراجعة، فلا تخلف الكتابة نتوءات ولا فجوات.
لو أن أسامة الشاذلي يعرف سببًا لكل ما حدث، لكل ما يحدث، منذ اقتحامهم البيت، الإذن له بأخذ بيجامة وشبشب وفوطة وفرشاة أسنان، وضع العصابة على عينيه، تقييد معصميه بالكلبشات.
تعددت الأماكن التي انتقل إليها، ما اقتيد إليه في الليل، فهو لا يذكر ملامحه، وسجن الحضرة الذي أمضى فيه عشرة أيام، وكون صداقات لم يستمر غالبيتها. انضم إلى النزلاء، شاركهم أيامهم. لم يشر إلى الكلام الذي دفع به إلى الساحة الرملية، والعنابر المحيطة بها.
حدق في العينين اللتين تطقان شررًا: يعطونك الحق بضربي، ليس من حقك أن تشتمني!
قال الضابط: عندما أصفك بابن المرة، فهذه ليست شتيمة. ألست ابن مرة؟!
تهاوت الهراوة — في اللحظة نفسها — على كتفه. اهتز في وقفته، تخاذلت ساقاه، بدا كأنه يهم بالسقوط.
لو أننا تعاركنا وجهًا لوجه، بلا سلاح في يده.
أخفق الشاذلي في تجنب ما وُجه إليه من ضربات، هي تحيط به فلا يدري من أين تأتي، ولا من يضرب. حل الانكماش والعجز والجمود والألم، لم يعد قادرًا على تمييز شيء، أظلمت الدنيا من حوله تمامًا.
انتفض من انحنائه تحت الضربات المتلاحقة. اندفع — دون توقع — ناحية المقدم مكرم ساري، واحتضنه. المقدم — في وقفته المنفردة — يصدر الأوامر، تتحرك أيدي الجنود بالهراوات والقوايش، حتى يقول المقدم: كفاية.
أخفق المقدم في التخلص من حضن الشاذلي، ولم يفلح الجنود في إبعاده، تشنج — بكل جسده — في المقدم الذي أذهلته المفاجأة. خالط كلماته المتقطعة نشيج: قل لهم يرحموني!
ما كاد الجنود يدفعونه بعيدًا حتى عادت الهراوات تنزل عليه بضربات أقرب إلى رد الفعل القاسي. لم تفرق الضربات في مواضعها، حتى الرأس — الذي تحذر إدارة المعتقل من خطورة ضربه — نالته ضربة موجعة، ابيضت بتأثيرها عينا الشاذلي، واهتز في وقفته، ثم سقط.
اعتقل بدلًا من شقيقه الذي لم يكن موجودًا في البيت. عرف شقيقه بأنهم يبحثون عنه، فاختفى.
قال الضابط وهو يدفعه داخل السيارة: أنت ضيفنا حتى يظهر أخوك.
واجه محيي البهتيمي وقفة الحراس بصدره العاري، وقال: لماذا لا تطلقون الرصاص، نموت بدلًا من هذا الموت البطيء؟
حدَّقت، أعدت القراءة، هذه ليست الكلمات التي أنهيت بها ما كتبته. أتذكر عبارة «الموت البطيء»، اقتطعتها من السياق، من العبارات التي تلي ما سبق. ذلك ما قصدته، كي لا أفصل بين أوقات الكتابة.
حل الصمت، امتزج بخوف التوقع من اللحظة التالية. لم يطلق الحرس الرصاص، ولا شهروا بنادقهم للتخويف. ارتفعت — في أيديهم — الشوم والقوايش وأغصان الشجر، وانهالت على جسده، تصيب ما تصل إليه، لا يشغلها صراخ البهتيمي، ولا تألمه، ولا جريه المتخبط في الساحة الرملية. ولم يعد — منذ غادر زنزانته الانفرادية، في اليوم السابع — يتكلم عما جرى في ذلك اليوم.
ثمة من تنازلوا بقبول ما تصوروا أنه الباب إلى الدنيا الواسعة، لكن القسوة ظلت على حالها، استبدال الأرقام بالأسماء، لا أحد ينادى باسمه، إن نودي الرقم عرف أنه هو المقصود، يقول: أفندم! الطابور في التمام، وفي العمل، وفي الإغلاق، وفي أوقات الراحة.
الدورة لا تنتهي، ما يحدث في الصباح، يصل إلى المساء، فإلى الصباح التالي، ما بينهما لا يتغير: الطوابير واليمك والجراية وعمليات التعذيب والتفتيش المسائي وإغلاق الزنازين. يحمل الصبح معه توقعات ألفوها في الأيام السابقة.
كتبت كثيرًا عن وقت الشروق: إطلالة الشمس من وراء الأفق، تخترق الظلمة، يشف الضوء بألوان متماوجة، النوارس تعلو صيحاتها، يترامى امتزاج اليود والطحالب والأعشاب. هدير الأمواج رتيب في اندفاعها نحو الشاطئ، زبد الماء يلتمع تحت انسكابات أشعة الشمس، الرذاذ يقذف في الأفواه طعم الملح.
طلوع النهار — في المعتقل — يحمل الخوف والأسى والحزن، نهار مختلف، نعيق الغربان يقبض النفس، المرئيات تختفي في الضوء الشاحب، يلف البنايات والكائنات والخلاء المترامي الآفاق.
خطورة الحياة — خلف الأسوار — تتجاوز غياب الإحساس بالمكان، لا تعرف أين أنت، إلى غياب الإحساس بالزمان، لا تعرف إن كان اليوم جمعة، أم أحد، أم أي يوم آخر من أيام الأسبوع، تتجدد الأيام كأنها لحظات طويلة، متشابهة، ممتدة.
إذا لم يكن قد أتيح لي أن أعيش تجربة الاعتقال، فإني تعرفت إليها من خلال حكايات الأصدقاء (أذكر طاهر عبد الحكيم، ومحمد صدقي، ورفعت السعيد) روى لي أصدقائي حكايات عن الوقائع التي عاشوها أيام المطاردة والاعتقال، والتي فرضتها حقيقة اشتغالهم بالعمل السياسي، الثوري، عشرات الحكايات، وقراءات الكتب والصحف، طوفان من قصص التخويف، والترويع، وتكميم الأفواه، والملاحقة، الرقابة، القمع، تأليه الفرد، والاعتقال، والتعذيب، والتمثيل، والتشريد، والسحل، والتنكيل، والقهر، وسحق الإرادة.
قال طاهر عبد الحكيم: أظن أني فقدت حاسة الشم لاعتيادي رائحة الزنزانة.
وارتعشت أهدابه: فظيعة!
وقال محمد صدقي: يقتحمني الألم حين يصفعني من يعرف أني لن أرد له صفعته.
امتلأ الذهن بالأسوار والأقبية والزنازين والسجون والمعتقلات وحفلات التعذيب والقضاة والكلاب والعرائس الخشبية والقيود والبوح والخوف والخنوع والعجز والتمني والأوامر والكرابيج وحملات التفتيش.
أيقنت من حكايات أصدقائي أن الإنسان يمتلك قدرة هائلة على تحمل الألم.
أفدت في روايتي «الأسوار» من شخصية محمد صدقي في انتظاره القلق للطرقات الملحة، يعقبها اصطحابه إلى المعتقل. محمد صدقي دخل السجن بتأثير مزحته الخاصة — التعبير لكونديرا — ودخل المعتقل بإلحاح المطاردة الذي سيطر على ذهنه وتصرفاته. حاصر نفسه، والقريبين منه، بخوف مماثل لما عاناه رسكولينكوف في رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب». ما كتبه رفعت السعيد عن شهدي عطية الشافعي والصيدلي محمد فريد والعشرات من المعتقلين السياسيين، فضلًا عن روايته الجميلة «سكان الطوابق العليا» كان زادي وزوادي في التعرف إلى تجربة الحياة في المعتقلات المصرية.
فِعل الفرار من المطاردة سلبي.
فعل المقاومة إيجابي.
في بدايات حياتي الصحفية أجريت حوارًا مع شاب في الثالثة والعشرين، دخل المعتقل لتعدد سوابقه، يأخذ سيارة من جانب الطريق، يدعو فتاة لمرافقته في نزهة، ثم يعيد السيارة إلى موضعها. ألقي القبض عليه، دفعه التعذيب لأن يعترف بما ارتكبه، وما لم يرتكبه. اعتُبر — في ظل الأحكام العرفية — مجرمًا خطرًا، سيق إلى المعتقل مقيد اليدين والقدمين، ومحاطًا بالعشرات من الجنود المدججين بالسلاح. روى لي تجربته في المعتقل، منذ احتوته الجدران، حتى غادرها في ظروف غريبة، قاسية. ظلت الوقائع في بالي — بعد أن نشرت الحوار — أعوامًا طويلة.
الشاب المعتقل هو حلمي عزت في «الأسوار».
الشعور الحقيقي بالراحة، لا يتحقق إلا إذا أغلقت أبواب العنابر والزنازين، يهدأ وقع الأقدام، يخف حتى يتلاشى. تغيب التوقعات إلا عندما تلحظ النظرات المتسللة من الثقوب الصغيرة ما يدعو إلى التفتيش المسائي وعمليات التعذيب المفاجئة.
النافذة الصغيرة، ذات القضبان الحديدية، أعلى العنبر، تنقله إلى دنيا غير الدنيا، إلى ما يختلف عن الحياة في الخلاء والعنابر والأسوار والجدران والزنازين وصوت فتح الأبواب وإغلاقها والتعذيب والتخويف، تبدلات السماء ما بين الصحو والزرقة، والسحب المتكاثفة، وزخات المطر، وبائع الفول على ناصية الميدان، ورفع الأذان من مئذنة أبو العباس، ورنين القشاط على الطاولة، وطشطشة الفلافل في دكان البغدادي بشارع عبد المنعم، ومغالبة الدمع لسماع أغنية كلماتها مؤثرة، ونظرة مستحية لعبارة غزل، وبائع فل يتقافز في زحام السيارات، وعجوز أسلم ذقنه لحلاق أول كوبري التاريخ، وامتزاج روائح البخور والشواء، وأهازيج السحر، وتواحيش رمضان، وعسكري سواحل يتململ في وقفته على الكورنيش الحجري، وحلقة ذكر على رصيف البوصيري، وقطة تتمسح بساق رجل يقرأ الجريدة في جلسته على المقهى، ومواكب الجنازات في الطريق إلى مقابر العامود، وعربة رش يلاحقها الأولاد، يبللون أنفسهم بمياهها، وشاب وفتاة، يتلاصقان، يتأملان — من جلستهما على الكورنيش الحجري — أفق البحر في الناحية المقابلة.
الشعور بالعجز هو ما يؤلمه، يرفض ما يعيشه، يخرج عن صمته وتخاذله.
ما فائدة أن يظل حيًّا؟
سبق رسمي بشاي بالقول: إذا كان الموت هو الخلاص، فلماذا نخاف الموت؟ لماذا لا يتقدم أحدنا؟
رسمي بشاي، ذاكرته مثبتة على ليلة اقتحام شقته، الطرقات المتلاحقة، وقع الأقدام بين الحجرات، تطويح الكتب والأوراق، تمزيق الوسائد والمراتب، صرخات الفزع المكتومة في أعين أمه وإخوته.
بعد أن أنقذ النزلاء حياته، عاد الصول شاهين إلى الساحة بهراوته، قفز رسمي بشاي — لما رأى الهراوة ترتفع لتنقض — على الصول. انتزع الهراوة من يده. اطمأن إلى إمساك قبضته بها، وراح يكيل الضربات للرجل، حتى تدخَّل الحراس. هوى الصول بهراوته على كتف النزيل، حاول أن يتفاداه، فأصابت رأسه، سقط من طوله، تكوم على الأرض حول نفسه. أدرك ما أقدم الحراس عليه في دبر رسمي بشاي، حين هرق منه دم كدم الحيض.
التعذيب مؤلم، توقع التعذيب أشد إيلامًا. القتل نهاية قاسية، الأخطر أن نعيش في ظل توقعه.
الموت مخرَج وحيد من هذا الحصار. في توالي عمليات التعذيب، جرب القدرة على التحمل، مدى الألم الذي تبلغه ضربات الشوم والهراوات على جسده.
الموت وسيلة سهلة لإنهاء عمل إبداعي، حيلة يوسف وهبي القديمة في مسرحيات رمسيس. يتوالى سقوط الأبطال موتى أو مقتولين. الموت حقيقة في الدنيا، لكن الفن له حقائقه المغايرة. قليلة هي الأعمال التي يصحو فيها المرء في العمل الإبداعي ميتًا، الشخصيات الفنية تميتها الدراما، تنامي الصراع، أو الأحداث، يعاني المرء مرض الموت، يواجه صراعات دموية، يخوض حربًا، المهم أن يأتي الموت نتيجة حادث ما.
لماذا يموت بسبب؟
لماذا لا يموت بلا سبب؟
معنى كل التصرفات واحد، النهاية واحدة. الهرب فكرة ثابتة في نفسه، يهمه تنفيذها، بمفرده، أو مع آخرين.
– على أحدنا أن يبدأ.
يدرك أن سني الاعتقال أضعفت قدرته على الحركة، وربما على التفكير الصحيح، لكن الخطوة الأولى، التصرف الأول، بداية لخطوات وتصرفات تالية، يشاركه فيها بقية النزلاء.
لن تتوقف الساقية عن الدوران ما لم يرفع الثور العصابة من عينيه، ويرفض حياته. الثيران كثيرة، على أحدها البداية، يحرض بقية الثيران، فتتبعه.
تململ في جلسته، ثمة ما يضغط عليه ليفعل شيئًا، شعر أن ذراعيه تخذلانه، جسده كله يخذله، لكنه تحامل على نفسه، ومضى نحو الأبواب العالية، المغلقة.
•••
قالت هند: لماذا لا نفيد من الإنترنت؟
أردفت في نبرة ناصحة: يقال إن الإنترنت صوت مَن لا صوت له.
وأنا أرنو إلى طلَّتها الآسرة، وعينيها الشديدتي الجاذبية، وشفتيها الحمراوين كحبَّتَي فراولة: رأيت في ملامحك رأس الذئب الطائر.
– ماذا تقصد؟
– أنت دائمة الشكوى من المضايقات.
– صفحتي على فيس بوك. المواقع كثيرة.
وزال إرهاق ما تحت عينيها بلهجتها المتحمسة: أعرف أسماء فنانين وكتاب صنعوا نجوميتهم على تويتر.
وأدارت وجهها — بعفوية — نحو النافذة المطلة على الطريق: تويتر لا يقتصر على الدردشة، يُعنى بالأحداث التي نعيشها.
دارت المعاني في ذهني، لكنني خشيت ألا أحسن التعبير عنها: قد يصح هذا القول عن آخرين، مهنتي الكتابة.
لعلي أعرف ما يحدث لشخصياتي مقدمًا، متى ولدت الشخصية، وكيف تعيش، ومتى يأتي وقت رحيلها. تفاجئني الشخصية بغير ما أعددته لها، تظل حية بينما أردت لها الموت، يتزوج المرء، وينجب أبناء، بما يخالف تصوري، اجتماعي الطبع، ومتشعب العلاقات والصداقات، وليس أميَل إلى الوحدة كما ارتسم في مخيلتي. يقدم على تصرفات، ربما لا تعبر عنها شخصيته.
إذا كان الكمبيوتر يفيدني بمعلوماته، فلماذا لا أحاول تحقيق الفائدة نفسها، وربما أكثر، باستخدام الإنترنت؟
لبابا الفاتيكان بنديكت رأي: الميديا الجديدة تخلق أنماطًا أعمق من العلاقات عبر المسافات.
نحن نعيش مجتمع المعلومات، المعرفة، التعلم. نردد مسميات المواقع والمنتديات والمدونات والشبكات والمجموعات الإخبارية والأشرطة الممغنطة وأسطوانات الفيديو والأقراص المدمجة والأقراص الضوئية وغيرها.
حين اخترع الفرنسي تيم لو لي شبكة المعلومات العنكبوتية الكونية، أراد أن ينشر المعلومات، تتاح لكل من يطلبها، لكل من يعاود الضغط على زر الماوس. ما أكتبه على الكمبيوتر تنقله الشبكات العنكبوتية، عبر الكابلات الأرضية، والكابلات البحرية، والألياف الضوئية، والأشعة الميكروفية، والأقمار الصناعية.
أشعر بأني في أكثر من مكان في الوقت نفسه، الكون كله على أطراف أصابعي.
تزال سدود، وترفع بوابات، أمام التيار الجارف للمعلومات، معلومات تبدأ بالنقر على أيقونة التشغيل، لا يتوقف إلا بالنقر على أيقونة الإنهاء. كثرة المعلومات أفضل من قلتها، طوفان المعلومات خير من جدبها.
لست أذكر الكاتب الذي تمني لو يسعفه العمر، فتتاح له الظروف بأن يسافر إلى كل مناطق الدنيا، ويعوم في كل البحار، ويشرب من كل الدنيا. تمنيت أن أكون أنا صاحب هذه الكلمات.
تسميات أخرى كثيرة.
لم أفاضل بين مواقع جي ميل، هوت ميل، ياهو، جواب، مكتوب. قالت لي هند إنها تفضل هوت ميل. وجدته سهلًا بالفعل، وإن يغيظني تبدل نماذجه بما يصعب عليَّ استخدامه، بالإضافة إلى أني لا أعرف شيئًا حقيقيًّا عن المواقع الأخرى.
أزمعت أن يكون استعمالي الإنترنت مقتصرًا على البريد الإلكتروني، أعرف أن البريد هو الشمندورة، العلامة التي لا يجاوزها من لا يحسن السباحة.
دخلت على النت: لجمع المعلومات، ومتابعة الأحداث، والتعرف إلى المعاني غير المفهومة.
ألغى الإنترنت ما كان محسوبًا، توهمت أن الكم الهائل من المعلومات سيتيح لي الاتصال والتواصل، الحصول على المعلومة الصحيحة، وحل المشكلات التي تعترضني.
العكس هو ما حدث.
الإنترنت — كما تعلم — فضاء افتراضي، لا موضع محددًا إلى لا مواضع محددة. أضغط على الزر، ينهمر شلال من المعلومات والأفكار والآراء، ربما أكثر مما أحتاج إليه. أو أنها بلا فائدة، تهاوت الجدران والسدود، جرف الطوفان كل شيء أمامه: توهم بوش الابن أنه يستوحي قراراته من السماء، حريق المسجد الأقصى، أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التشادور الأفغاني، ممارسات طالبان، تنظيم القاعدة، هتاف الشيخ في شاشة التليفزيون: النار، الكلمات الموبخة لإمام جامع عبد الرحمن بن هرمز، حصار جنود الجيش قصر رأس التين نهار السادس والعشرين من يوليو ١٩٥٢م، الاقتحام الروسي لتشيكوسلوفاكيا والمجر، قتل المصلين عند صلاة الفجر في جامع الخليل، حكايات جدتي عن عالم ما بعد الرحيل، المذابح المتبادلة بين السنة والشيعة في الهند، استباحة الحاخامات اليهود قتل المسلمين، إعلان عبد الناصر تأميم قناة السويس، المنازعات الطائفية لبواعث مصدرها متطرفون من القبط والمسلمين …
أعاني التشوش والارتباك، أعرف أن مزود الخدمة يعطي مساحة محددة للبريد، كأني أواجه محاولة إغراق لا حيلة لي فيها.
أقرأ المواقع الإلكترونية، أفتح الرسائل التي يبعث بها من لا أعرفهم، أصحاب مواقع خاصة أو عامة.
ما أعرفه أن كل الاتصالات والرسائل الخاصة والعامة مسجلة في مكان ما من العالم.
المحطات السرية التي تراقب الشبكة العنكبوتية، الاتصالات الدولية، تغيب صفتها كما كنا نسمي المطارات السرية عقب حرب ١٩٦٧م، أقرأ عن مواقعها في واي هوياي بجنوب نيوزيلندة، جيرالديون في استراليا، منطقة موربنستو بمقاطعة كورنوول البريطانية، منطقة شوجرجروف جنوبي واشنطن، جنوبي غرب مدينة ستايل، وغيرها. لا تقتصر عمليات المراقبة على المحطات الموجهة إلى الفضاء، الأقمار الصناعية وشبكات الاتصال عبر العالم، تمتد إلى الاتصالات الأرضية أيًّا كانت الوسيلة، لا تفلت الأفراد والهيئات والحكومات الذين لا يستخدمون الشفرة، الكود، لحماية الشبكات والأجهزة، هي أهداف سهلة للتجسس، وما يليه من عمليات يصعب تصورها.
كتمت ما شاهدته من موضعي أمام الكمبيوتر، لم أبح حتى لهند، عشرات الأجسام المضيئة تتحرك في السماء. لعلها أقمار صناعية، تلتقط، تصور، تسجل، تخاطب قوًى مجهولة لا أعرفها.
خلاصة الأمر أن الصعوبة، وربما ما يفوقها، في السيطرة على المعلومة بعد أن تصدر من الكمبيوتر، ما أملكه هو تحديد ما أذكره من بيانات شخصية، تتحول — في اللحظة التالية — إلى بيانات عامة. قد يكتم السر من أطمئن إلى صدقه، أو أقسم بعدم البوح، لكن الإنترنت لا يقسم، ولا شأن له بحرصي على السرية. هو يعمل وفق ما يطلبه أبوه الذي أنجبه، وليس من تصور الجهاز صديقًا شخصيًّا، صديقًا دائمًا.
مغريات كثيرة، أتأملها جيدًا، أنقر على ديليت، أكتفي بالإنترنت دون وسائط أخرى.
تطالعني على الإنترنت أسماء أصدقاء تدعوني إلى مراسلتها على الفيس بوك. أنقر على ديليت.
حذرتني هند من غياب السر الشخصي، افتضاحه، هو مشاع بين كل المواقع. ما أظنه ليس سرًّا، ربما طوعه من لا أعرفه فيما لم أفطن إليه، يضعني في موقف لا أريده.
نصحتني أن أتوجه إلى المواقع الافتراضية، لا تفترض الكشف عن الهوية، تجري الحوارات والمناقشات، دون أن يواجهك السؤال: من أنت؟
قرأت عن فيس بوك، بدا — في كل مواقعه — بوابة إسرائيلية. التحذيرات معلنة بأن الاختراق وسيلة ثابتة في الفيس بوك، ما تجري به على شاشة الكمبيوتر، تلتقطه — حالًا — جهات تخضعه للدراسة والتحليل، تبني أحكامًا وتصورات، تنسج خيوطها في مؤامرات لا تنتهي.
قالت هند بلهجة يشوبها التأسف: سامحني … صارحت أصدقائي بأن علاقتنا ليست على ما يرام.
في دهشة: هل علاقتنا كذلك بالفعل؟
– يتهمونني بأني أناقش مشكلات الأصدقاء، ولا أطرح مشكلاتي.
افتعلت ابتسامة: صرت مشكلتك؟!
– حين شكوت أمس من أني لم أقدم العشاء في موعده، بدا ذلك فرصة لطرح مشكلة شخصية.
أكتفي بهوت ميل، عليه عنواني، وإن تلقيت رسائل ياهو، ورددت على ما تحمله من أسئلة.
يصعب أن أتصور نفسي في مهنة غير الكتابة. إنها المهنة التي خلقت لي، وخلقت لها، فضلًا عن الاختراعات التكنولوجية التي أكاد أثق بأنها اخترعت من أجل أن أنعم بمهنة الكتابة، الآلة الكاتبة في البداية، ثم الكمبيوتر والطابعة، فالإنترنت بآفاقه التي لا حدود له.
شاهدت — فيما بعد — تويتر، ثم يوتيوب، لهما آفاقهما الواعدة، لكنني ظللت على خشيتي من خطأ المعلومة، أو التدخل بما يسيء.
تلاحقت الصور، تشابكت، مئات الصور غير المترابطة، لا أعرف الصلة بين كل صورة والصور الأخرى: نسوة يغسلن الأوعية على ضفة ترعة، برج التجارة العالمي، مباراة في كرة القدم، فتاة ممتلئة تقذف القرص، حدائق هايد بارك، نفق الأزهر، تمثال الحرية، معتقل جوانتانامو، سكة زراعية، رجال يمضغون القات، طواف حول الكعبة، قهوة الفيشاوي، معابد الكرنك، شارع الشانزليزيه، سجن أبو غريب، ساعة بيج بن، سوق الحميدية، قلعة قايتباي، صخرة الروشة، لومومبا يساق إلى الإعدام، سلالم حي القصبة، عبد الناصر يؤمم القناة، صحن أبو العباس، معارك بين متظاهرين وقوات الشرطة.
لا أذكر متى كتبت: خُلق الإنسان ليقاوم.
نظرة بعض المثقفين إلى الأديب أو الشاعر أنه لا يُعنى بغير الإبداع، فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه في شيء. إنه يؤثر الحياة في جزيرةٍ صنعها لنفسه، يكتفي فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه، أو ينصرف إلى تأملات في فضاء هذا الإبداع، أو ينشغل بالكتابة الإبداعية … هذا هو عالمه المحدد والمحدود، أشبه بسياج البيت في أيام طه حسين الذي كان الصبي يتصوره نهاية العالم.
تلك — بالتأكيد — نظرة خاطئة.
الأديب له اهتمامات كل المثقفين، فضلًا عن هؤلاء الذين قد لا تعنيهم قضايا الثقافة، وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية مثل التردد على المسارح ودور السينما، أو متابعة برامج التليفزيون، أو مجرد الجلوس على المقاهي.
يتابع المبدع — على سبيل المثال — مناقشة حول مباراة في كرة القدم، يحاول المشاركة برأي … لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم!
الأقسى عندما يبدي المبدع رأيه في بعض قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن السباحة فيه!
المبدع هو أشد الناس التصاقًا بقضايا مجتمعه، وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يمتلك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة، الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.
خلق الإنسان ليقاوم.
دفعني إلى كتابة الكلمات، وكلمات أخرى كثيرة، تحض على رفض الصمت، والتخاذل، وضرورة التماسك، والمقاومة، ما تناوله مقال عن السلام خيارًا وحيدًا أمام العرب الفلسطينيين. أثارني الإملاء الذي اصطبغت به لغة المقال. الحدوتة القديمة تشير إلى السكك الثلاث: سكة السلامة، وسكة الندامة، وسكة اللي يروح ما يرجعش. إذا ترصد العداء، فإن المعنى يغيب من سكة السلامة، والأفعال التي يمليها الانفعال ربما تفضي إلى سكة الندامة، السكة الثالثة ضفتاها الضغوط والابتزاز والإلحاح والقهر. المقاومة — في مواجهة ذلك كله — هي قدر الإنسان، يقاوم ليحيا.
خلق الإنسان ليقاوم.
أعدت قراءة الكلمات، تدبرتها، أردفتها بعبارات توضح المعنى، نقرت على الفرفورد، لكل العناوين المثبتة، ولما صادفته من عناوين ومواقع، كأن ما كتبته رسالة حرصت أن تنقل عبر تكنولوجيا اللامسافات إلى كل الأماكن المتاحة. أكرر «التيمة» في العديد مما أكتب لتعميق المعنى، وإفساح مدى دلالاته، زيادة العناوين محاولة لبلوغ الرسالة حدها الأقصى.
إذا كان دور المثقف هو أن يعارض، فإن دور المبدع — بالضرورة — أن يعارض، يقاوم، كل أدب هو نوع من المقاومة. الوعي هو الفهم، وهو ما يحض على التخلص من المطاردة، ومحاولة المقاومة، لا قيمة لأي تصرف يغيب عنه الوعي.
يقول سارتر: «الكلمات مسدسات محشوة بقذائفها، فإذا تكلم الكاتب فإنما يصوب قذائفه، أو يجب أن يصوب تصويب رجل يرمي إلى أهداف، لا تصويب طفل يغمض عينيه، ويطلق مصادفة من غير أن يكون له هدف، سوى السرور بسماع الدوي.»
أوافق على القول: نحن نعامل الحيوانات — يعني الحيوانات المستأنسة — معاملة سيئة، لأننا نحتقرها، ونحتقرها لأنها لا تقاوم.
الإنسان منذ البداية إلى النهاية، منذ الميلاد إلى الممات، يقاوم المرض والموت وقهر السلطة والفساد والزيف وكل السلبيات التي تواجهه.
المثل الأمريكي اللاتيني يقول: العدو حين يصبح تحت سقفك، يضعك في الشروط التي يحددها. لكن ديمتري — في رواية دوستويفسكي «الإخوة كارامازوف» — يشير إلى المعنى المغاير «إني قادر على تحمل كل شيء، وكل معاناة، ما دمت قادرًا على تذكير نفسي بأنني حي، ومهما عانيت من ضروب العذاب، فأنا مازلت حيًّا، وحتى إذا رأيت الشمس، أو لم أشاهدها، فإنني أعرف أنها قابعة هناك، ومجرد معرفتي بأنها هناك تكفيني.»
لا يخلو من دلالة قول المرأة في قصة هيمنجواي «ثلوج كليمانجارو»: «لا يمكن أن نموت إذا لم نستسلم. الإنسان — والكلمات لهيمنجواي — يمكن أن يهزم أو يدمر، لكنه لا يستسلم.» وكما يقول الملك إدوارد الثامن: «أنا لا أرفع يدي إذا وجدت مسدسًا فوق رأسي، أنا أقاوم.» لعلي أجد في الذاكرة أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء، الذاكرة مقابلًا للنسيان. في قصتي «محو الذاكرة» أصر السلطان أن يلغي كتب التاريخ، يمحو وقائعه من أذهان شعبه، عوضت الجدات مؤامرة السلطان برواية الوقائع والحواديت والحكايات للأجيال الطالعة، فيظل التاريخ متصلًا في ذاكرتهم.
صارع الصياد سنتياجو سمكة القرش. ظفرت بصيده، التهمته، صارت السمكة التي صادها مجرد أشواك، لكنه ناضل، قاوم، بما ألغى إحساسه بالعجز. قاوم ما وسعه بقدر ما تملكه إرادة إنسان وقوته. لم يفلح سنتياجو في إنقاذ رزقه الممثل في السمكة الهائلة من أنياب سمكة القرش. لم تلفظ القرش إلا بقايا السمكة، هو انتصار لسمكة القرش، وهزيمة للصياد العجوز، لكن المعنى ظاهري، فالهزيمة ليست نهائية، والعجوز سنتياجو لم يفقد الإرادة ولا الإصرار في أن يعود إلى صيد البحر، وينتصر في معركة جديدة ضد سمك القرش.
في قصتي «أطياف» ينهض الرجال الذين قتلوا في المعارك ضد الغزو البرتغالي، يحملون أسلحتهم، ويتجهون إلى جبهات القتال الجديدة، أما في قصتي «الباب» فإن الشاب يضحي بنفسه، كي يفتح الباب لمعتقلي السلطان، وفي «الحكواتي» يلح الراوي الشعبي على الحكايات القديمة، الداعية إلى المقاومة. بل إن المقاومة إلى حد القتل واردة ضد من يحاولون حجب العدل عن حياتنا (قصة: «في حضرة الديوان»).
وفي رواية «رحلة إلهامي إلى الموت» لليوغوسلافي رشاد قافيتش، يقول قاطع الطريق: «لولا أنكم خراف لما كان الجلالي ذئبًا.»
والأمثلة كثيرة.
يقول أبو علي الجرجاني: «الخائف لا يستريح من الهرب.» ويرى علماء النفس أن الحروب والمعارك ومصارعة الثيران ورحلات الصيد المحفوفة بالمخاطر، وغيرها مما تناوله هيمنجواي في أعماله، إنما كانت تستهدف قهر الخوف من الموت، التغلب على مطاردة الموت الذي يترصد لنا في انعطافةٍ ما من الطريق. وعلى حد تعبير داروين: «فإن الذين يستطيعون الانتصار هم الذين يؤمنون في قرارة أنفسهم بقدرتهم على ذلك.»
«قال صلاح الدين الأيوبي: والذي نفسي بيده، إني لا أحب الصلح، ولا أعمل له، ولا أرضى به.
قال القاضي بهاء الدين شداد: ولمَ ذلك يا مولاي؟
قال صلاح الدين: لأني أعلم أنه متى صالحناهم لا نؤمن غائلتهم، فإني — لو حدث بي حادث الموت — لم تجتمع هذه العساكر التي تجتمع اليوم، وإن اجتمعت فيكون ذلك بعد أن يقوى الفرنج، والمصلحة عندي ألا نزال على الجهاد، وأن نصبر عليه، حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت.»
علائم الغضب — التعبير لسارتر — لا يستطيع اللين أن يمحوها. إن العنف وحده هو الذي يستطيع أن يهدمها، ذلك أن المستعمَر يشفي من عصاب الاستعمار، بطرد المستعمِر من أرضه بالسلاح.»
المعنى نفسه ينسحب — بالطبع — على ظلم ذوي القربى.
عانى الشعب المصري — عبر تاريخه — اتهامات بالذلة والمسكنة والتقاعس والعزوف عن المقاومة. أذكرك بقول أحمد بن إبراهيم الحنبلي: «وكانت عادة المصريين أن يوقعوا للغالب.» ويقول إدوار ديسي (١٨٨١م): «منذ أمد طويل خضع المصريون للاستعباد، واعتادوا عليه، ولم يحن الوقت بعد، بل ربما لن يحين أبدًا، ذلك الوقت الذي يستطيع فيه المصريون أن يرفعوا صوتهم، أو أن يشاركوا في تقرير مصيرهم.» يضيف ديسي: «لنتقدم ونحتل مصر. ما من قوة سوف تقف أمامنا، لا الخديوي ولا الأمراء ولا أية مقاومة شعبية. أما الفلاحون وهم ٩٥٪ من السكان، فسوف يستقبلوننا بترحاب استقبالهم للمنقذ المخلص.» حتى جلال الدين السيوطي يتهم المصريين بأنهم «شعب كتب عليه الذلة والمسكنة والخضوع لغيره في مختلف العصور.»
أشير — في المقابل — إلى قول راسل باشا: «المصريون مثل رمال الصحراء الناعمة، تستطيع أن تسير عليها طويلًا، لكنها تثور فجأة، وتهب، وتبتلعك.» القول المماثل — تقريبًا — للصحفية الأمريكية جريس تومسون: «إن المصريين مثل رمال الصحراء، قد تستطيعين أن تسيري عليهم، لكنهم — يومًا ما — يهبون كعواصف الرمال، ويبتلعونك.»
النضال المقاوم الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية هو الشاغل الأهم لكل المبدعين، انطلاقًا من الوعي بالقضية، بواعثها وظروفها وواقعها ونتائجها المحتملة. الصراع العربي الصهيوني في فلسطين يعني المواجهة بين الحضارة العربية والهمجية الصهيونية، بين إرادة الحياة على هذه الأرض مقابلًا لإرادة الغزو والاحتلال والاستيطان، التعامل مع تطورات الأحداث بمنطق نكون أو يكونون، والقيام بدور المحفز والمحرض، ومحاولة التوصل إلى آراء إيجابية ربما أسهمت في توضيح ما يفيد منه أصحاب القرار.
ذلك موقف كل المبدعين.
المبدع قائد ثقافي في مجتمعه، وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر، ولا التغني بقطر الندى، لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر، والخطر الذي نحياه — كما قلت — لا يقتصر على قطر بذاته، لكنه يشمل كل المنطقة العربية. إنهم يصرون على اجتثاث الوجود العربي من أرض فلسطين، بداية لتحقيق استراتيجية دامية، تمتد إلى بقية الأقطار العربية.
نحن نواجه أشرس غزوة استعمارية منذ الحروب الصليبية، بل إن الخطر يتحدد في صراع الوجود الذي أصبح واجبًا على كل شعوب المنطقة أن تدرك أبعاده جيدًا، وتتحرك في اتجاه الحفاظ على الأرض والكينونة والهوية!
بالطبع، فإن المبدع، القائد الثقافي، في المقدمة من مواطنيه، وإبداعاته في هذه المرحلة — على حد تعبير سارتر — مسدسات محشوة بالأفكار … أو هذا ما يجب أن يكون!
قاوَم المصريون بالمثَل والأغنية والاستعارة والنكتة والرمز والمجاز والشائعة، وبالسلاح في أحيان كثيرة. وعندما خرج الشباب في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن إلى شوارع المدن يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام، فإنهم كانوا يقاومون نظمًا تمتلك كل أساليب القوة والبطش، لكن إرادتهم المقاومة أملت عليهم المظاهرات التي خرجوا لها، تغافلوا الشهادة، ولعلهم اعتبروها جزاءً مناسبًا لتحرير الوطن.
صارت المقاومة اختيارًا وحيدًا للقوى الوطنية العربية، وهي تشمل، في الحقيقة، كل القوى التي تشغلها هموم الوطن، ضد الاستعمار والاستيطان والاستعباد والقهر.
كان المسيح يعرف أنه سيموت قبل أن ينبلج صباح اليوم التالي، كما كان الحسين يعرف أن استشهاده في كربلاء. وحين غادر جيفارا منصبه المدني في كوبا ليناضل ضد قوى الاستعمار والديكتاتورية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإنه كان يدرك المصير الذي ينتظره في نهاية الأفق، وأهمل الليندي تحذير سلاح الطيران بأنه ما لم يهجر القصر، فستقوض الطائرات بنايات القصر عليه، وعلى كل المعتصمين داخل القصر، والجندي المصري الذي ألقى جسده فوق الأسلاك الشائكة كان يتصور الخطوة التالية، وهي أن يمر رفاقه من فوق جسده الذي ستمزقه الأسلاك الشائكة في طريقهم إلى داخل الأرض المحتلة، أما الشاب الذي يحيط خصره بسلاح ناسف، فهو على يقين أن تفجير السلاح سيحيله أشلاء قبل أن يلحق الأذى بالآخرين.
المقاومة هي التعبير الإيجابي عن إرادة الإنسان. وأحيانًا، فإنه مطالب بأن يناضل ضد اللامعنى والتخاذل والصمت.
منذ وعيت، وأنا أنتمي إلى حزب مصر. وهو ليس الحزب السياسي الذي جرى حلُّه، إنما أعني حزبًا آخر أفراده من متصوفي المعشوقة التي يجدون كل الشرف في لثم رداء ثوبها. لعلي أذكر من هؤلاء العطار والطهطاوي وعرابي والنديم ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول والنحاس ومختار وعبد الناصر وسيد درويش وأم كلثوم وجمال حمدان ونجيب محفوظ وعشرات غيرهم، كانت مصر — بالنسبة لكل واحد منهم — هي الأمل والألم والمقصد والماضي والحاضر واستشرافات المستقبل. وبتعبير محدد، فإنني أرفض الانتماء إلى أي حزب سياسي لأني أرفض الوصاية ككاتب. إن مصر — القيمة والمعنى والرمز — أكبر من كل الأحزاب.
مجايلة المقاومين لا تعني الفصل بين جيل وآخر، لا تعني نسبة الانتصار إلى الجيل الذي بلغه، لكنها سعي كل الأجيال السابقة في اتجاه الهدف. إن كل جيل يؤدي دوره بالوسائل التي تتاح له، بالإمكانات التي يحصل عليها، بالقدرات التي يمتلكها. الحلقات متصلة، من غير المتصور أن أفصل حلقة عن سابقاتها، ولا عن الحلقات التالية.
يؤلمني القول: هذه ثورتنا، لا شأن لكم بها.
إنه تجاهل لمقاتلي الصفوف الأولى، هؤلاء الذين اختبروا بشاعة النظم وقساوتها، وكشفوا سلبياتها، وأدانوها، وبذلوا التضحيات حتى جاء التحرك الأخير في موعده تمامًا.
من حق المقاتل أن يستريح في نهايات حياته، يخلو إلى نفسه، أو إلى جلسات المؤانسة والسمر واستعادة الذكريات، لكن المقاتل الحقيقي يسترشد بقول أمير الريف عبد الكريم الخطابي: لا يهمني متى وأين سأموت، حتى لو أقعدته الظروف — في طريق المقاومة — تتعدد الوسائل التي تتيح الفعل الإيجابي، إن لم يكن لذات المرء، فالآخرون يتحركون بإدراكهم لكلماته المحرضة ونصائحه وتوجيهاته.
قال لي محمد الحديدي: لا تترك الوهم يأخذ عقلك. نحن أسرى قوى عالمية.
الكلمات ذكرتني برسالة على الإنترنت، تتحدث في السياسة والتاريخ وغياب العدالة والمقاومة، سقطت راية المقاومة من يد جيفارا حين رفعها في أفريقيا، وسقط جيفارا عندما حاول نشر المقاومة في أمريكا اللاتينية، وانتهت المقاومة في فلسطين إلى حكومة من ذوي الياقات البيضاء، والمقاومة التي يمثلها حزب الله في لبنان، تحولت إلى عبء على الحياة اللبنانية، إذا لم يعجبني هذا العالم، فبوسعي أن أتركه.
لم أكن تركت زر الماوس نحو أيقونة الإنترنت: هل تداخلت الأيقونتان؟ هل يمكن أن تتداخل الأيقونتان؟
أعرف في الجهاز ما يعينني على تشغيله، مثل قيادة السيارة تمامًا. إذا حدث عطل فإني أترك كل شيء، وأتصل بمن يساعدني على علاج الخطأ، موضع الإنترنت في الكمبيوتر مشابه لموضع أجهزة الاتصالات — الإذاعة والتليفزيون والفضائيات — في السيارة.
مديحة أبو حسين؟
عمر! … كدت أنساها تمامًا.
من هو فاعل خير؟
كيف عرف بالعلاقة القديمة في انتظار خروج البنات من مدرسة نبوية موسى، والجلوس تحت شجرة في حديقة الشلالات، والتمشي على شاطئ البحر، وراحة اليد تخفي سنة مكسورة، ودخول عرض الثالثة في سينما بلازا، ومغالبة الارتباك للبوح بما يثير الحواس، والتردد على شقة عاطف حسني زميلي في العباسية الثانوية في غياب أبويه.
الكمبيوتر كتاباتي الخاصة، الإنترنت كتابات الجميع، ساحة ممتلئة بالأفكار والمعلومات والوثائق والبيانات والإدانات وخطط العمل والتجريح والسباب والشتائم والآراء والإباحية والمعاكسات والاحتيال والابتزاز والتهديد والتجسس واحتمالات الفعل ورد الفعل.
تتعدد الهويات الكاذبة للمتسللين إلى البريد الإلكتروني. ربما تناثرت الشخصية الواحدة إلى عشرين، أو ثلاثين، لكل هويتها التي لا تشابه الهويات الأخرى، وإن فطنت العين الذكية — باتساق العبارة والمعنى المستهدف — إلى الوجه الحقيقي.
لم يعد القول إن العالم قرية صغيرة صحيحًا، هو أشبه بغابة تعاني الصراع والتآمر والاقتتال والسطو على ما في يد الغير.
لا أمتلك من المال ما يحفز على استخدام الشبكة العنكبوتية في جمع، أو نقل، أو تحويل الأموال. يعرفون — لا بد — سني، فأنا لا أصلح للتجنيد في جماعة مقاتلة، للفرجة على أفلام إباحية، للقيام بأنشطة غير مشروعة.
ما أكتبه على الكمبيوتر هو لي، أنقله — عبر الإنترنت — فيصبح لهم، يقرءون ما أكتبه.
توقعي أني سأجد الكمبيوتر — ذات صباح — مضاءً. تضاف معلومات، فلا بد أن يفتح أولًا.
أجد في تعديل البيانات، أو استكمالها، عونًا أتمناه، لكن المعلومات المغلوطة تضايقني، تثيرني، تجعل العنوان لشخص لا أعرفه.
ثمة من يستهدف عنواني على الإنترنت.
لم يعد التعديل والتصويب وتقديم المعلومة الصحيحة، هو ما أتوقعه عند فتح الجهاز. غاب ما اعتدته من الصداقة. حل — بدلًا منها — مؤامرات لا تنتهي، استئذان في إغلاق الجهاز، مسح مواد أريدها، رفع سرية كلمة المرور، تسريب ملفات كاذبة، انتحال الشخصية، المضايقة، الابتزاز، التشهير، التسلية، العبث، الضغط، الابتزاز، بث معلومات مخالفة للحقيقة، فيروس يدفعني إلى إغلاق الجهاز.
كان ينبغي أن أهيئ نفسي لتوقعات غائبة.
ما يضاف إلى كلماتي على الكمبيوتر باعثه الصداقة، كلمات الوسائط الأخرى تصدر عن الصداقة والعداء والتهديد والابتزاز والرفض والسخط ومعانٍ أخرى كثيرة، أعجز عن فهمها.
أنقر ديليت على موقع البريد الذي يبتزني، أطمئن إلى محوه، لكنه ما يلبث أن يعود بعنوان جديد، أعرف حين أنقر الماوس على العنوان الذي لم يسبق لي تصفحه، تفاجئني الكلمات نفسها، أو كلمات مشابهة، لكن المعنى هو هو لم يتغير.
فارق بين أن أستكمل الفقرات بما يساعدني، وبين أن تتسلل قوى شريرة بالتدمير، ليس للإنترنت وحده، وإنما لكل ما في جهاز الكمبيوتر. تتحول الكلمات إلى مجموعة من الحروف غير المتصلة، تتناثر، تتبعثر، تسقط كحبات مطر — بسرعة هائلة — إلى أسفل، تشكل تلًّا صغيرًا، كومة من الحروف.
تزايدت الفيروسات الإلكترونية، لا أعرف كيف أواجهها. هل يساعدها الإنترنت، أو أنها تتسلل من أماكن لا أعرفها؟
تسلل الفيروس إلى عنوان ما، يعقبه التسلل إلى بقية العناوين، الفيروس لا يختار ولا يفاضل، كلما اتسعت دوائر نشاطه، صار يؤدي عمله بصورة صحيحة.
الاسم الجميل يخفي ما يحمله حصان طروادة من خطر التدمير، شفراته تغير أشكالها ومسمياتها، تخفيه عن البرامج المضادة للفيروسات.
أسماء لا حصر لها من الفيروسات الإلكترونية: الديدان، تروجان، حصان طروادة، تبحث عن ثغرة تتسلل منها إلى المناطق المهمة في تشغيل الكمبيوتر. فيروس الحب بلغت أضراره المادية ٨٫٧ مليون دولار، استمر انتشاره خمسة أشهر، ونتج عنه ٥٥ نوعًا.
أعرف أن الخطر سيظل قائمًا. لن يقتصر على شكل ما، ولا يقف عند حد معين، سيواصل التحور والتشكل، لعبة يجيدها الآخر الذي أعرفه من تأثيراته، وأعجز عن مواجهة التأثيرات. يصعب الحل إن كان الفيروس حديثًا، تفاجئني تأثيراته المدمرة مثلما تفاجئ الكمبيوتر.
طالعتني العبارة: احمِ نفسك الآن. أيقنت أن عنواني يواجه حملة قاسية، ربما تفجره. أتوقع فيروسات، برمجيات خبيثة، رسائل إلكترونية كاذبة.
أتلقى التحذير. أبدل — حالًا — كلمة المرور والمتصفح ونظام التشغيل، أكرر الفعل عقب التحذيرات التالية.
أحاول — دومًا — مواجهة الخطر، وضع برامج مضادة لبرامج التجسس، وللفيروسات الإلكترونية. الفلاشة تعيد ما ضيعته الفيروسات. لو أن كل ما في الجهاز دُمِّر، أستطيع أن أعد الكمبيوتر لبداية جديدة، يسري ما كان في الكمبيوتر من حياة.
تُعرَّف جرائم الكمبيوتر — في القانون — بأنها ذلك النوع من الجرائم التي تتطلب إلمامًا خاصًّا بتقنيات الحاسب الآلي ونظم المعلومات، لارتكابها، أو التحقيق فيها، ومقاضاة فاعليها. كما يمكن تعريفها بأنها الجريمة التي يتم ارتكابها إذا قام شخص ما باستخدام معرفته بالحاسب الآلي بعمل غير قانوني، وثمة تعريف بأنها عمل غير قانوني يستخدم فيه الكمبيوتر كأداة، أو موضوع، للجريمة.
الروائي راهب — المعنى وليس العمل — محب للعزلة، يميل للتأمل، منضبط، يحرص على النظام، يهمل وقت الفراغ، أو وقت الفسحة، يستنيم إلى الدافع الرومانسي.
هذه هي الصفات التي يرى النقاد أنها لا بد تتوافر في الروائي، لكي ينظم وقته وأوراقه وتأملاته وأفكاره، ويجوِّد كتاباته.
ما يهمني هو التركيز على القراءة والكتابة، لا يشغلني ما قد يحيط بذلك من مظاهر وظواهر. الإجادة — وحدها —هي الوسيلة والهدف.
من الصعب — أو من السذاجة — تصور أنه ما على الكاتب إلا أن يجلس وبيده القلم، وأمامه الأوراق البيضاء، ثم تتدفق الكلمات دون مشقة. تلك الجلسة المنفردة، تسابقها قراءات وتجارب، وتعرف إلى خبرات ومشاهدات وتأملات وإلحاح من الجنين الإبداعي — إن جاز التعبير — لكي يخرج إلى النور.
الإبداع معاناة.
ألجأ إلى ديليت في الكثير مما يطالعني. أخاف الدعوة إلى المدونات، فيس بوك، تويتر، أصدقاء أعرفهم، لكنني أرفض الوسيلة، ما أسمعه عن مشكلاتها يصدني، أجري بالماوس على المجهول في عناوين الإنترنت. لن تقتصر النتيجة على التوقعات السخيفة، تسبقها، ترافقها، تلحق بها، فيروسات بلا حصر، لا يجدي معها مؤشر الديليت.
بدت هند مهمومة كما لم أرَها من قبل: الحمد لله أني لم أضع صورتي في الصفحة.
وفاضت ملامحها بالقلق: قرأت عن بنت رفضت غواية شاب، فوضع صورتها على موقع إباحي.
سرحت في عدم تصور لما يحدث.
رفعت هند نظرة متسائلة: أنت عدوهم … لماذا يهاجمونني؟
وأنا أتكلف ابتسامة: أعرف أنك تحبين المعارك.
– هذه ليست …
واستطردت في صوت متحشرج: إنها تعبيرات سخيفة.
– انقري على ديليت.
– يهاجموننا معًا … صلتي بك ليست سرًّا.
وهزت رأسها: افتح صفحة على فيس بوك، فلا أصبح بلجيكا التي هاجمها الألمان ليهاجموا باريس التي هي أنت!
نصحتني هند أن أتخلى عن فكرة تغيير العالم، اقتصر على العناية بحياتنا الأسرية، تلك هي الطريق التي ينبغي أن أسير فيها، لا أنشغل بقضايا قد لا تهمني، أهمل السياسة، وأخوض حوارات في المشكلات الشخصية وزحام المواصلات وأفلام السينما والمعلومات وكرة القدم.
أعرف أن فيس بوك ليس شرًّا كله، هو وسيلة النشطاء للتغيير، وللمقاومة.
ثورة الاتصالات أتاحت للعالم الافتراضي أن ينتصر على عالم الواقع، انتصر عالم القيم، والمثل العليا، والثورة على عالم التخلف والفساد والديكتاتورية.
هذه الشبكة العنكبوتية الاجتماعية، الهائلة، ناقشت السلفي والمتوارث والتابو، طرحت رؤًى جديدة تستهدف التغيير، أدواتها المعلومة، والرأي المناصر، والرأي الذي يناقش، ويبذل النصيحة، أذابت المسافات، قربت الرؤى، حققت التلاحم، بدا تغيير ما هو قائم ملحًّا، وضروريًّا.
إذا كان اختراع مارك زوكربرج للإنترنت حتى يصبح العالم أكثر انفتاحًا وترابطًا، فإن البعض بدَّل المعنى بتحويل فيس بوك إلى أدوات للتهديد والضغط والابتزاز.
لكل شيء جدواه الصحيحة.
حتى الحشرات والفطريات والفيروسات، إذا كانت تسبب المرض، فإنها — في تجارب العلماء — تحمي من المرض، يخضعونها للتجارب، بحثًا عن البلسم الشافي، ومن السموم الناقعات دواء …
أليس كذلك؟
فيروسات الكمبيوتر تختلف. إنها تتسلل، متسترة ببرنامج آخر، مضيف، ببرامج أخرى، تظهر في أول مناسبة، أو تظل مختفية، حتى تجد فرصة للإيذاء. تعطب الأجهزة والبرامج والملفات والمعلومات، هنا المعنى، دورها يقتصر على الإيذاء، على الإخفاء، والتلاشي، والمحو.
فيروسات أخرى، كثيرة. بل إن عدد برامج الفيروسات — في تقدير المتخصصين — سيتجاوز مائة مليون برنامج في مدى قريب.
القانون يعرِّف الخصوصية بأنها «حق الفرد في حماية أسراره الشخصية، والمعلومات الشخصية والعائلية، إضافة إلى مراسلاته، وسمعته، وحرمة منزله، وملكيته الخاصة.»
برامج التجسس تتعرف — بفتح البريد الإلكتروني — إلى المعلومات المودعة في الجهاز، تسرقها، أو تدمر الجهاز كله.
كيف أوقف اختراق الكمبيوتر؟
كيف أمنع محاولات التجسس؟
هل تدمر الفيروسات جهازي تمامًا؟
ظل الخاطر ماثلًا، متجددًا، بطء الجهاز دون سبب، امتلاء القرص بحجم زائد لا يمثله، ظهور نوافذ غريبة أثناء تصفحي الجهاز، ظهور رسالة خطأ عند فتح البرنامج، الملف، اختلاط الملفات، ظهور مفاجئ للملفات، اختفاؤها بالمفاجأة نفسها.
أتوقع التلصص، اختراق الجهاز، سرقة حساباتي الشخصية، النقل أو المسح، أو إضافة ما لا أعرفه من الملفات والبرامج، يظل ما لا حصر له من الفيروسات يتهددني.
عرفت أنهم جعلوا من صفحة هند على فيس بوك جسرًا يعبرونه في اتجاهي، هي — كما وصفت نفسها — بلجيكا بين الألمان والفرنسيين.
أشعر بما يريب، أقطع الاتصالات بالإنترنت حالًا، أحاول منع الهاكرز من التسلل إلى الجهاز، وممارسة جرائمهم، محاولة التسلل بالتزوير، سرقة الحساب الشخصي، إقحام معلومات على الجهاز.
زاد الشحوب في بشرة هند، واتسعت الهالات السوداء حول عينيها، واستدارة التجاعيد حول الشفتين.
حين فتحت حسابها الشخصي، كانت تعرف أن صورها، وما تظنه أسرارًا، سيتاح لمن يقرأ الصفحة: لم أكن أعرف أنه سيصبح عرضة للابتزاز وقلة الأدب.
– تصورت أنكِ ستلجئين إلى ديليت؟
– من يستخدم الإنترنت يدفع المقابل. أما الفيس بوك فيبيع المستخدم لأنه لا يدفع مقابلًا!
علت خدَّيها حمرة: يهاجموننا معًا!
تعددت جلساتي إلى هند، طالت، تكلمني عن الحملات التي تستهدفني في حسابها على فيس بوك، تكتب ما لا أتبينه على لوحة المفاتيح، تقول: أرد على الكلمات السخيفة. أشعر أن «هند» قريبة مني، تختلط الأزمنة والأمكنة والقسمات والملامح، تجلس هند أمامي على طاولة قاعة القراءة بدار الكتب، يستغرقنا الكلام، حتى ينبهنا الموظف إلى انتهاء الموعد، تقول هند — وهي تعيد الكتاب — إنها قد تفهم روايتي «الأسوار» في قراءة تالية، أرد على تلويحة يدها المرحبة وأنا أدفع العربة الحديدية خارج مطار القاهرة، تسلم راحة يدها لضغطة يدي وأعيننا تتابع إغواء تحية كاريوكا لشكري سرحان في شباب امرأة، تشير إلى ما جذب انتباهها، تهمس بالسؤال، يرتمي رأسها على صدري خوفًا من النباح المفاجئ لكلب في موضع قريب، تتسع ابتسامتها، يتقلص وجهها بتكشيرة، تعبر بيديها، تضحك، تطلق أف متشكية، يداخلني شعور بالمفاجأة لصوت موظف الاستعلامات فلان: المدام تنتظرك، نخفض رأسينا للأغصان المتدلية من الأشجار على رصيف شارع النيل، أقف إلى جانب السيارة، أرقب نزولها من درجات البناية العالية، المطلة على ميدان الفلكي، نقلب ألبوم الصور الشخصية في استرخائنا على السرير، أصدقاء، وناس لا نتذكرهم، تظهر ملامحها الأسى: هل يضيع وقت انتظار الإنجاب في التردد على الأطباء؟
لم أعد ألحظ إن كان الكمبيوتر يستكمل الناقص مما أكتب، يعدل، يحذف، يضيف، النقر على ديليت يقصر مواد الإنترنت على ما يهمني، وما إن تعرفت إلى مصدر الرسالة جيدًا. هند ترفض إلغاء حسابها على فيس بوك، إنها وسليتنا في الهجوم الذي يمتد إلى صفحات أخرى.
غابت كلمات العزلة والغربة والاغتراب والملل، حواراتنا فيما تقرؤه هند — تدعوني لقراءته — وما يجب قوله للرد عليه، صفحات تقتصر على العبارات المحملة بالابتزاز والتهديد والوعيد والتخويف. أشعر — ربما تشعر هي أيضًا — أننا نواجه احتمالات مشتركة، تغيب ملامحها في أسماء ومهن، أشك أنها صحيحة، لكن تأثيراتها تنعكس في شَدَّة القوس التي نعيشها.