بين يدي هذا الكتاب
هذه المادة المجموعة بين دفتي هذا الكتاب، كُتبت، في الأصل، سلسلة مقالات لصحيفة «الثورة» العراقية، ونُشرت في حلقات متصلة كملف عن الأدب المغربي الحديث.
لقد كان الحافزُ الأول لكتابة هذه المادة إطلاعَ القارئ العربي في مَشرق العروبة على الإنتاج الأدبي للأدباء المغارِبة في مختلِف الأجناس الإبداعية، وحقل الكتابة الأدبية عامة، وربط الصلة بينهم، أدباءَ وقراءً، وبين أدباء المغرب، شعراءَ، قصَّاصين وروائيين ونقَّادًا، وعطاءاتهم المختلفة، في مَضامينها وأنساق تعبيرها الكتابية.
وقد كان الحافز الثاني هو هذه الغربة التي يعاني منها الأدب المغربي في الوطن العربي، غربة التجاهل من ناحية، وعدم التعرف عليه من ناحية ثانية. وإننا إذا ما استثنينا بعض الأسماء المعدودة التي استطاعت، بقدرة قادر، أن تشق الحصار المفروض على أدبنا، وتتسلل إلى بعض المجلات أو دور النشر بين بغداد والقاهرة وبيروت ودمشق، فإننا سنجد غالبية هذا الإنتاج يطويه النسيان أو يُعامَل بنظرة استعلائية أو تهميشية.
إنني لا أريد أن أثير هنا جدل المشرق والمغرب، أو أقع في أحبولة أية نظرة قُطرية ضيقة، ولكنني، في الآن عينه أحب أن أنبه إلى ضرورة تجاوز الكثيرين لأفقهم المغلق، الأفق الذي يجعلهم يحصرون الحركة الثقافية والإبداعية في المشرق العربي وحده، دون أن يتوفروا على النظرة الشمولية التي تمكِّنهم من استيعاء أدب المغرب العربي وثقافته، وديناميكية الإنتاج المغربي فيه.
على أنني أعتقد، من نحو آخر، أن القيمة الإبداعية لهذا الأدب، ومدى قدرته وطموح منتجيه، في وعي واقعهم الاجتماعي، وتقديم الصيغ الفنية العالية الناضجة والمتطورة، هي الكفيلة، في نهاية المطاف، لجعل هذا الأدب قادرًا على امتلاك إمكانية الامتداد من المحيط إلى الخليج.
لقد حاولت هذه المقالات، إذن، أن تعالج مجموع الأجناس الأدبية في الأدب المغربي الحديث، وأن تضيف إلى ذلك، كما سيلاحظ القارئ، مداخل نقدية لعدد من القضايا المطروحة في صلب هذا الأدب، وكانت الغاية هي حصر الظاهرة الإبداعية، وخطوط استقامتها أو اعوجاجها، متتبعين للنشوء والارتقاء تتبعًا تاريخيًّا ونقديًّا، ولكن لم يعْنِنا تاريخ الأدب مطلقًا بقدر ما كان الشاغل هو استقصاء خصوصيات هذا الإبداع، قيمه الجمالية ومعماره النصي، وفي مستوى أخير المضامين التي انشغل بها. وكان الحرص شديدًا على ألا يتم التقويم النقدي على محاور الأسماء، ولكن بمحاولة رصد التيارات أو إنجاز عملية تحصيل وتصنيف لها، مرة على أساس تعقيب تاريخي حين تدعو الضرورة إلى ذلك، ومرات على أساس فني، نصي، بحت، وهو ما أراه الأصوب والألزم.
ولأن هذه المادة عن الأدب المغربي الحديث والمعاصر تريد مخاطبة القارئ العربي في المشرق، والحقيقة أنها تخاطب شقيقه أيضًا في المغرب العربي، فقد جاءت متسلسلة بما يجعلها متكاملة؛ إذ إنني في الأقل أردت لها هذا الهدف، لتكون بانوراما تعريفية ونقدية، ومِن ثَم فقد تعمَّدت فيها اليسر ما أمكن، وتعمَّدت ألا أزج بها في معمعة الاصطلاحات النقدية المركبة، أو أخضعها لمنهجية مربكة، أردت لها أن تأخذ طريقًا هينًا ولكن بلا تهاون أو تساهل، ودونما تسامح في الرؤيا النقدية النصية التي تبلورت عندي من عشرة ليست قصيرة بالأدب المغربي، وممارسة متواضعة لحقل الدراسة والنقد الأدبيين، العربي منه والأجنبي. ولسوف يلتقي القارئ وهو أمام هذه المادة بجملة من المفاهيم والتقييمات النقدية، لا بد أن نباهته ستجعله يعود بها إلى أصولها، ولم يكن متيسرًا في حدود المقصد الأول البلورة الكبيرة لتلك المفاهيم، ولا شحن كل مقالة على حدة بسلالم من الهوامش والإحالات أرى أن مكانها الطبيعي دراسة أكاديمية مختصة، وقد كان صنيعي هذا بالذات، ولكن في غير هذا المكان.
ونحب أن أنبه من نحو آخر إلى أن مادة هذا الكتاب، التي تدرس الأدب المغربي المعاصر أو الحديث، تغطي تقريبًا مدى العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن، من الناحية الزمنية، وما كان لها أن تتسع للفترة السابقة، ولا أن تستوعب كل الأسماء التي شاركت في حقل الكتابة الأدبية والنقدية بالمغرب. وقد ألغيت مساهمتي الشخصية عمدًا، وتركت أمري إلى الآخرين، ولكني أزعم أن أهم التيارات وأبرز الأسماء الفاعلة في الإبداع المغربي وجدت مكانها في هذه الصفحات، وما كان همي القيام بأي ترضية لهذا الطرف، ولا التحامل على ذاك؛ لأن منهج معالجتي في هذه المقالات هو غير هذا السبيل تمامًا، ولأن الغاية كانت هي توفير المدخل الضروري لتعريف القارئ العربي على أدبنا المغربي المعاصر.
وإذ تحدثت في بداية هذه المقدمة عن حوافز كتابة هذه المقالات، فإنه عليَّ إخلاصًا للحقيقة أن أقول بأن الحافز الأعمق جاءني من الشاعر حميد سعيد، الذي استطاع خلال إقامته بالديار المغربية، وعمله هناك، أن يربط أشد الأواصر مع أدباء ومثقفي المغرب، وأنه يشعل «حرائق الحضور» بين مشرق العروبة ومغربها، فإليه أُهدي هذا الكتاب.
باريس، كانون الثاني (يناير) ١٩٨٣م