الإطار المفهومي لأدب المغرب العربي
أحتاج إلى التنبيه، في مطلع هذه المقالات التي تتناول أدب المغرب الأقصى، لمسألتين هامتين في تقديري؛ أولاهما تخص ضرورة التقديم لها بعرض مركَّز أعتبره بمثابة الأرضية والنظرية والمفهومية التي ارتكز عليها الأدب وتولَّد وتطور في ظلالها. ويقصد هذا العرض أن يكون شاملًا للمغرب العربي كله، وليس الأقصى منه وحده، وذلك لمتانة الروابط التاريخية-الثقافية، ولسيادة ظروف سوسيو-ثقافية في ظرف شبه موحد، وفي مناخ متكامل، وسيوفر علينا هذا الأمر مسألة العودة إلى هذه الأرضية حين يستدعي الأمر ربط الصلة بالأدبين الجزائري والتونسي. أما ثاني المسألتين فتخص المنهج الذي نتناول به الأدب المغربي، وباقتضاب أقول: إن المطلب هو وضع اليد على الظواهر الأساس وجرد المفاهيم وحصر الرؤى الكبرى التي تبلور عليها هذا الأدب عبر مختلف الأجناس الأدبية كتعبيرات إبداعية، والتماس التشكُّلات الفكرية وما اتصل منها بالنقد الأدبي وبحقل البحث الإبستمولوجي.
أحب بعد هذا التماس العذر لدى القارئ، فسأجدني مضطرًّا، بحكم المساحة الصحفية المحدودة، والتعددية التي تستدعيها بعض القضايا، سأجدني مسوقًا إلى الاختصار الشديد والقول المركب، وربما إلى الابتسار. ومع هذا فربما كان شفيعي تمتين الآصرة القومية على الصعيد الثقافي هنا بين مغرب ومشرق يجمعهم مصير حضاري واحد.
ملاحظة أخيرة؛ يود كاتب هذه السطور، وهو عضو في الحركة الأدبية والثقافية المغربية، أن ينبه أن إعداد هذا الملف عن الأدب المغربي حمَّله مسئولية محفوفة بالصعاب، ليس أقلها الحساسيات التي تثار بسبب الأسماء؛ ولذلك فقد عمد قصدًا إلى إلغاء مساهمته الخاصة في الحقل الأدبي، وإلى التركيز أكثر ما يمكن على المفاهيم والقضايا الأساس التي تصوغ أدب المغرب الحديث.
نحن في حاجة، ولو أن هذا الأمر يبدو من جنس البديهة، إلى أن نحدد بأن ثقافة المغرب العربي هي جزء أصيل وراسخ ومكمل لمجموع الثقافة في قديمها وحديثها واستمراريتها، عربية بالأساس، في المغرب والجزائر وتونس.
غير أن هذا التحديد يخرج عن مستوى البديهة، كما يعتقد عادة حين يتعلق الأمر بأقطار عرفت الإسلام دينًا والعروبة لغة وثقافة، واندرجت في تقاليدها ووجدانها الجمعي وتعبيراتها الفكرية والإبداعية ضمن المناخ العام والتقاليد الكلية للثقافة العربية الإسلامية السائدة في المشرق العربي. كما يخرج عن البديهة، أيضًا ضرورة الربط المستمر والمساوق لحركات النهضة والتطور التي عرفتها هذه البلدان ومثيلاتها في أقطار العروبة الأخرى.
التأكيد على هذه المسألة مطلوب، وذلك ردًّا على كثير من الآراء، وجزء كبير منها منطلق من وحي نزعة استعمارية قديمة أو استعمارية جديدة، تتخذ أكثر من شكل وصيغة، هذه الآراء التي لا تريد لهذه المنطقة أن تكون أكثر من مجرد بلدان إسلامية، شأنها شأن أي بلدان أخرى دخلها الإسلام فاتحًا أو اعتنقته لاحقًا، وهي بعد هذا نزعة تجزيئية وتقسيمية لا تخفى. التأكيد ضروري إذن حتى لا يغيب عنا لحظة واحدة الطابع الاستمراري والمتكامل، والإسهامي لثقافة المغرب العربي في مجمل الثقافة العربية، مقاصدها وما عرفته وتعرفه من نتاجات فكرية وعطاءات إبداعية.
وإذا كان يتبلور لنا، رغم بعض التعميم المقصود، المفهوم الذي تكتسيه هذه الثقافة، والذي هو عربي في جوهره، فإننا لا نستطيع أن نتغافل أو نعزل التكوينات الخصوصية في هذا النسيج العام. إن الطابع القومي والشمولي لا ينفي هنا خصوصية مجمل الثقافات والأطر الفكرية والعطاءات الخلاقة لشمال أفريقيا، ولا محصلة التقاليد التي تكوَّنت عبر السنين والأجيال، وشكلت الثقافات الوطنية لكل بلد على حدة. وإذا كانت الخصوصية تعني في أحد جوانبها القدرة على اكتساب السمات الذاتية والخصائص الجوهرية التي تتكوَّن عبر ممارسات طويلة ومن وحي الالتصاق بواقع موضعي معطى وبالاستيحاء من مشاعر تتمازج في بيئة بعينها، فإن المغايرة هي الأخرى، والتي بات التهليل لها سائدًا في الفترة الأخيرة، لا تعني أو لا ينبغي أن تفيد الانفصال والانسلاخ عن الجسد العربي المتكامل، وإذا كانت المغايرة في سياق الثقافة العربية شرط وجود ومؤشر تفرُّد فإنها في الآن عينه ليست بالضرورة، وما ينبغي أن تكون، سلاحًا لشق الصف الحضاري الذي تشكله أمتنا العربية، وتكون المغايرة بمعنى آخر ضد التدجين وسيادة أنماط واحدة من الفهم والتأويل … إنها اكتساب الشرعية لمزيد من إمكانات التعبير والإبداع في المسلسل العام للثقافة العربية، كما أنها بصفة خاصة بالنسبة لبلدان المغرب العربي ذلك الموروث التاريخي والثقافي والاجتماعي المعبر عن تفتح حيوي والمتجسد في التعبير الكتابي والشفاهي واليدوي لمجموع بشري وموقع جغرافي محددين.
إن بلدان المغرب العربي عرفت من قديم كما تعرف اليوم في مرحلة أولى هذا الارتباط الوثيق بمصادر الثقافة العربية-الإسلامية، والاستمداد المستمر من ينابيعها وأجوائها الخصبة في العواصم والمنابر الكبرى لهذه الثقافة، وحين تشكلت الثقافة الأندلسية-المغربية بمدارسها اللغوية والفقهية، تم ذلك في إطار الرؤية الشمولية التي تربط العضو الواحد بكافة أطراف الجسد، والتي تؤمن بضرورة التلاقح المستمر، وبالتواصل الذي لا ينبغي أن تنفك عراه بين مغرب ومشرق، ألسنا نعرف أن الخلافة الإسلامية ظلت لزمن طويل واحدة رغم الانقسامات السياسية العديدة والشروخ التي مست الدولة العربية الإسلامية وفتتها دويلات وولايات؟
إن الارتباط بالإسلام كعقيدة في بلدان المغرب العربي شكَّل وما يزال يشكِّل حتى الآن مرتكزًا وخاصية جوهرية يصعب في الواقع فهم طبيعة أي بلد من هذه البلدان أو نوعية ارتباطها وصياغتها لمفهومها الخصوصي للعروبة دون إدراكها إدراكًا كليًّا يصل حدود السذاجة والفطرية أحيانًا، وذلك أن التأكيد على هذا الجانب مرة ثانية لا مناص منه لمن يريد التمكُّن من بعض المفاتيح الضرورية للدخول إلى هذا العالم الذي كثيرًا ما يُنظر إليه من قبل المشرق وكأنه تابع أو هامش، وأن هنالك تداخلًا عجيبًا بين صيغتي العروبة والإسلام هنا لا يقبل الفصل ولا يكاد يعترف بوجود الواحدة دون الأخرى، وهو تداخل إذا كان لأول وهلة يوحي لبعض الأذهان، وفي المشرق خاصة، بوجود إما قصور في الفهم أو أحيانًا يدفع البعض إلى الاعتقاد بانقطاع الآصرة القومية، فإنه في الحقيقة — أي هذا التداخل — يعبر عند الصورة الحقيقية والقصوى التي عبرت بها الثقافة العربية إلى أصقاع بعيدة عن موطن انطلاقها من ناحية، كما يكشف من ناحية ثانية عن تحصين أيديولوجي ومعرفي بهذه الثقافة المغموسة في المنابر الفيحاء للدين الإسلامي أن هذه العقيدة في النهاية هي التي استطاعت أن تذوِّب الكثير من التناقضات الطبقية وتخمد احتمالات التناحر الفئوي والعشائري وتخضع — وهو أمر تصعب الإشادة به هنا — المفاهيم لصيغة من السيادة والانتشار بما يرتبط مع فكرة الدولة، توجِّهها وتصهرها صهرًا يربط الخاص بالعام، ويمازج بين الخصوصي المغربي والمشرقي العروبي، بين رسوخ العقيدة وشمولية الثقافة العربية المتحررة كدولة وتفتُّح وتحرُّر على مستويات عدة.
مرة أخرى يستطيع غياب الفهم لعناصر هذه الظاهرة أن يسوق كثيرًا من مثقفي المشرق إلى عدم إدراك المغرب كوجود كامل في ارتباطه بالخريطة العربية الكلية وملامحها الثقافية المتعددة الأشكال، ولكن الخطورة من وجهة نظري تتجاوز حدود التهميش لما هو أسوأ، أي إلى وضع المغرب العربي في سياق علاقة التابع والمتبوع، والنظر إليه أي إلى إنتاجه الفكري وحقوله المعرفية والإبداعية نظرة الحجر والإشراف وبعين الإشفاق لا التقدير، هذه إحدى العقد المكينة التي ستولِّد رد فعل متطرفًا في تونس، حيث سيتوجه النزوع إلى اختلاق خصوصية متفردة شبه عصابية (التونسة) ردًّا على ضرب من التضخم المشرقي، ومن غير شك نفسها، وكمظهر من مظاهر السلطة الشرعية والسائدة-الدولة، نعم لأنها كفكرة جزء من الثقافة والفكر القائمين، ثم حين تتحول هذه إلى سلطة راسخة تعود لتستثمر مولدها، وأحد العناصر الأساس لاستتبابها، أعني العقيدة كما كرست في الشمال الأفريقي وكما سيتم التعامل معها من موقع التوجيه لا كمحصلة لاهوتية وحسب، ولكن كسلطة للقرار.
بيد أن هذا التكريس نفسه للعقيدة في ثقافة السلطة يواجه بحمية مغايرة تحاول الانفلات مما هو متداول ومن الاستلاب الممارس للدخول من باب العقيدة نفسها في مشروع آخر وجد نفسه يتجذر مع الزمن عبر الأحاسيس وألوان التفكير والممارسات اليومية والذهنيات الشعبية ليعمق من نحو الالتحام بين العقيدة والقومية، وليولد من نحو آخر بذور ثقافة مضادة، لا شك أن الفئات والأجنحة اليسارية في حركات ما بعد الاستقلالات الوطنية بصفة خاصة ستعرف كيف أن المغرب العربي الثقافي ظل لوقت طويل، لا نقول عالةً، ولكن مرتبط بمجرى الحركة الثقافية في الطرف الآخر من بلاد العروبة والإسلام (مصدر الوحي)، وهذا الحيز الجغرافي لم يرد أن يفهم نفسه خارج دائرة هذا الارتباط، وإذا ما أراد أن يثبت هويته ومهارته فلتكن في المشرق أيضًا. (ابن رشد، ابن خلدون … إلخ).
ولنطرح القضية الآن على مستوى آخر؛ إذ يذهب بنا أبعد في التحليل يكشف لنا عن مناطق أخرى في جغرافية التكوين الثقافي للمغرب العربي وتضاريس خارطته التاريخية، وعندئذٍ فإن التذكير بالحقبة الاستعمارية — وقبلها كانت الخلافة العثمانية قد وضعت تحت سيطرتها تونس والجزائر وامتنع عليها المغرب — لن يكون مجرد سرد للتاريخ أو معاداة لما هو معلوم، ذلك أن الثلمة الاستعمارية سيكون لها أثران خطيرا الأهمية والنتائج، فهي أولًا، ومن حيث لم يكن القصد ستؤدي إلى ترسيخ مظاهر الثقافة العربية في المغرب وزيادة تعلُّقه بكل ما هو عربي لتحصين نفسه والدفاع عن هويته، وثانيًا، ستعمل بالأدوات الاستعمارية المختلفة على إحداث شروخ في الكيان المتماسك وزعزعة القناعات الثابتة بوضعها على محك جديد، هو محك الرؤية الحضارية والتمدينية الغربية، ولكن ضمن شروط الهيمنة، شروط الاستعمار.
إنها هذه الوضعية التاريخية التي ستخلق ظرفًا جديدًا غير مسبوق سيعمل على التصدي لما هو قائم ومتمكِّن من الوجدان والذاكرة وراسخ عبر السنين والأجيال التصدي له بالعلم الأوروبي، بالفكر والثقافة الليبرالية، ولكن قبل هذا وذاك باللغة الفرنسية كوعاء وعربة هي ما سيقود ويحمل كل هذه المعضلات.
هنا سيخترق الخارجُ الداخلَ لا ليتفاعل أو يلحق به ولكن ليفتته، ليدمره ومن هذه اللحظة التي ستصبح تاريخية وحاسمة سيتحدد موقفان خطيران، وستبرز ثقافتان في المواجهة يمكن أن تنضاف إليهما ثقافة ثالثة، المستقبل هو ما سيحدد سماتها ويكوِّن مضامينها، وهي التي ستتشكل أيضًا، وفيما بعد وجه الطموح ومسرب الانعتاق من سلفية عتيقة ومن تبعية عمياء إلى الغرب للتوجه نحو تأسيس هوية لا تفتتن بالغرب، ولكن لا تعاديه، كما لا تقطع الصلة بالتراث ولكن تستفزه وتغربله، وإذا كانت هذه الطريق الثالثة إحدى الاختيارات الكبرى التي انتهجها الفكر العربي الحديث والمعاصر، فإنها في بلدان المغرب العربي ستكون نهجًا أساسيًّا لمشروع ثقافي طموح يضع الفكر إلى جانب التحصيل والتأمل النظريين في سياق الحركة الاجتماعية-التاريخية، ويجعله يتفاعل ويتلقح بمختلف عناصر هذه الحركة، كما يعمد هو بدوره إلى ممارسة تأثيره الخاص والنافذ في مجراها ومراحلها التي هي مراحل البحث عن النمو وتأسيس قاعدة النهضة والانطلاق مع فجر الاستقلالات، وامتدادًا في العشرينات الأخيرة.