التيارات الفكرية ونزاع السلفية والتجديد
لا ينبغي تصور الحديث عن الاستعمار من وجهة نظرنا كعقدة عصابية، أو اتخاذه ذريعة لتبرير كل تدهور أو نكوص في الواقع، بل الحقيقة أن النظر إلى المسألة الاستعمارية تستوجب وضعها ضمن حدي التحدي والاستجابة، ثم نتائج هذه العملية فيما بعد. وضمن هذين الحدين يمكن أن تتبلور أمامنا بانوراما الواقع الثقافي للمغرب العربي. المرحلة الاستعمارية، أولًا. ثم في مرحلة انطلاق الاستقلالات، لنصل إلى المرحلة الراهنة الخاصة بخلق الوثبات، وتأسيس الكيان الجديد، بملء التداخلات والتناقضات.
وإذا كان المفكرون العرب الذين حاولوا صياغة مفاهيم إبستمولوجية للتطور العربي، في العصر الحديث، قد التقوا، جلهم تقريبًا في محاور مشتركة من حيث تحديد الأفكار لهذا التطور ورموزه (السلفي، الشيخ، الليبرالي، العلماني، ثم التقني) عند ألبرت حوراني — عبد الله العروي، هشام جعيط، ومحمد عابد الجابري — فإن هذه التحديدات التي هي، في الحقيقة، بمثابة أطر كبرى فضفاضة، تخضع بدورها، لوتيرة الخريطة الفكرية في المغرب العربي (علال الفاسي في المغرب، الشيخ ابن باديس بالجزائر، جامعتا القرويين والزيتونة بتونس، هذا على مستوى الخطاب أو النموذج السلفي)، وتستجيب، أيضًا، وبالأساس للمفاهيم المطروحة، والعلاقات الفكرية-الاجتماعية، السائدة منها والآخذة في التبلور، وتجعلنا نتمسك بصلاحيتها إلى حد بعيد في رسم أطراف البانوراما المنشودة، وإن كان الرأي عندي يقتضي وجوب عدم التصنيف القطعي باعتبار ما حصل ويحصل من تماوجات وانتقالات سديمية أو محسوسة، وخاصة في المرحلتين الوسطى والأخيرة.
وبعبارة أخرى، فإن الهياكل والفعاليات الثقافية، ذهنيات وإنتاجًا وممارسات في بلدان المغرب العربي، يمكنها أن تخضع لذات التصنيف والتجديد الموجود في بلدان العروبة الأخرى، مع ظهور نزعة لتثبيت السلفية ليس على صورتها الأولى كموروث أصيل ونقي، أو كمرجع لنهضة معلومة (شأن نموذج الأفغاني ومحمد عبده)، ولكن كسلطة فكرية وسياسية، في آن واحد، وكمرجعية أيديولوجية لإعطاء السند لمنطق الدولة، ومنطوق للتسيير، سيما في المغرب، حيث ارتبطت كل الأسر الحاكمة بالعقيدة، وقامت على أساس ديني، فنشهد كيف يتم تطوير جامعة القرويين إلى أكاديمية للحديث، أي للعلوم الدينية الإسلامية، وكيف يتم استفزاز الفلسفة ويراد جعل الفكر الإسلامي بديلًا عنها على أساس أن الفلسفة مرادفة، في منطق الأيديولوجيا السائدة، للإلحاد ثم كيف تتأسس مجالس علمية دينية بالمدن كصيغة جديدة من صيغ التوجيه الروحي والتربوي للمواطنين.
فيما تلتبس الحركة الدينية في الجزائر بنزعة للتغيير، أو التصدي للتبعية، وحيث تختلط حركة التعريب بالتيار الديني أو تنفصل عنه في حدود، وحيث يولد هذا كله ردود فعل شوفينية، وانفصالية من طرف الجماعات التي الدعوة إلى ثقافة وطنية، وشعبية أصيلة!
لا بد إذن أن تتبين الخيط الفاصل بين السلفية كمرجعية تاريخية، وصمام أمان ضد الغزو الاستعماري، ولتحصين الهوية والعقيدة، حسب مقتضيات ظرف تاريخي معلوم، وبين السلفية الجديدة التي تتحول إلى تيار مناهض لكل تجديد، ولمنع شق سبل المستقبل في وجه الأجيال الجديدة التي برهنت على أنها قادرة على إنتاج ثقافة بل ثقافات متطورة، مستوعبة للتراث، وراغبة، على مستويات التنظير والتأمل والإبداع، في إيجاد صيغ بديلة لما هو مكرس في بلدانها.
الاختلاط ذاته الذي نلحظه في التيار السابق نجده يمس، إلى حد بعيد الفكر الليبرالي والعلماني في البلدان الثلاثة، ذلك أننا هنا لا ينبغي أن ننخدع بالتسمية، أو ببعض التسميات أو الشعارات البارقة. إن هذا الفكر لا يستوحي جوهر ليبرالية الغرب وعلمانيته، ولكنه يكتفي، على صعيدي الممارسة السياسية والاقتصادية، مثلًا، بالأشكال الخارجية الشكلية للظهور بمظهر العصر، بعبارة أخرى إنه فكر ليبرالي مستعار وليس معيشًا بوجدان ووعي، لأنه لكي يطال الجوهر في حاجة إلى تساوق تاريخي واجتماعي مناسب ومطرد، ولكنه في حدود الشكلية تلك، يظل أحد معالم اليقظة والتفتح، ومسلكًا من المسالك الكبرى التي تسير فيها أقطار شمال أفريقيا؛ إذ تسعى إلى إعادة صياغة وجودها وتاريخها على ضوء متطلبات العصر، ومقتضيات النمو والانعتاق من التخلف.
ويبقى السؤال الوارد بإلحاح أتكون مثاقفة المغرب العربي، ومثقفيه مثاقفة نظرية ثم ذاتية، تأويلية، أم إنها تستطيع أو استطاعت أن تتحول، مع الأيام وتنضج لتصبح واعية بذاتها، وفي ذاتها أي لتمسي حضارية تعيش أزمتها الخاصة في تقاطع الشرق-الغرب؟ هذه الأزمة التي يفترض لها أن تنجب وعيها الخاص، من وحي طبيعة العلاقة وملابساتها ونوعيتها (لننظر على سبيل المثال تأملات هشام شرايبي، عبد الله العروي، زكي نجيب محمود، مالك بن نبي، مصطفى الأشرف، وآخرين).
ومنذ اللحظة التي تنتقل المسألة إلى صعيد الأزمة تندرج مباشرة في فضاء الإشكالية، وعندئذٍ فلا مناص من الدخول في الدوامة المتباينة المسارب والنعوت، ما دام الفكر والإبداع والممارسة، كل هذه المعطيات تقيم علاقاتها مع الغرب، إما بفهم عميق أو سطحي أو مستعار أو توفيقي، أو تلفيقي وهو الكثير، أو تخضع نفسها للازدواجية الملتبسة، ازدواجية الأصالة والمعاصرة، إن هذه الثنائية العجيبة اختزلت تجربة الفكر العربي الحديث كله لجيل كامل، وهي في المغرب العربي اكتست صبغة خاصة، وعاشت تأويلات عدة لا تهم، هنا، معرفة ما إذا كانت وتستمر صائبة أو مغلوطة بقدر ما يهم أنها — أي الازدواجية — وجدت نفسها تلخص، من ناحية، غموض الحاضر والتباس الماضي، ومن ناحية أخرى، القلق من معانقة كلية لحاضر مستقبلي يصعب فيه إنجاز التوفيق ماضٍ لا يكف عن التراجع والبلاء.
جمع هذين الأمرين، معًا، جعل الجزائر، مثلًا التي عرفت أزيد من قرن كامل من الاحتلال الأجنبي وتعرَّضت لحملة شرسة لاجتثاثها ثقافيًّا ولغويًّا من الجذور، تطرح السؤال تلو السؤال عن الهوية الجديدة التي يمكن اختيارها، والتي لم يكن فيها مجال للتساؤل، ما دام أمر العقيدة مسلَّمًا به، ولكن لتطرح فيها مسألة أي انتماء يمكن أن تأخذ إزاء العروبة كقومية، وإزاء اللغة كانتماء آخر في ظلال هذه القومية، وكارتباط تاريخي تراثي-حضاري مكين، ومن جهة أخرى هناك التوسع الثقافي للآخر، للغرب، فرنسا، وقد اكتسحت النفوس والأذهان، وصنعت لها أكثر من موقع ومنبر كوَّنت لها أجيالًا متعاقبة ارتبطت مصالحها بمصالحهم، وثقافتهم ولسانهم بوجودها. إن المعضلة، هنا، أعقد وأكبر من مجرد منفى في اللغة كما اعتقد في وقت سابق الكاتب الجزائري مالك حداد، إنه تنازع الموت والبقاء، وصراع حضارتين وإن كانتا غير متكافئتين، وهو تعلق بوجود استمرارية، ببعض التغيير، ولكن دون هزات عنيفة تؤدي بكل ما هو قائم.
غير أن هذه المسائل كلها لم تكن مجرد أطروحات أو تساؤلات نظرية، بل إنها ما لبثت أن شرعت تنتج نفسها على مستوى القرار السياسي، والخطة التربوية، والبرنامج التعليمي، بغير عمق فكر يذكر، مع حرص على إرساء بعض الثوابت، باعتبار الإسلام هو دين الدولة، والعربية لغتها، والتراث العربي ميراثها. إنها قرارات السلطة الوطنية، ولا شك ولكنها حاولت وظلت تقفز على العديد من التناقضات أو تهجر فتح الحوار المباشر، والديمقراطي، حول مكونات الثقافة الوطنية الواحدة، المكونة من التعدد ضمن الوحدة. ولعل هذه إحدى أسباب الخلاف الكبرى بين فصائل الحركة الفكرية في مجموع بلدان شمال أفريقيا.
هكذا، إذن، نجد أن محاولات جرت في هذه البلدان إما لاختزال أزمات في فهم معضلة المجتمع والوعي وتأطيرهما بين حدي الأصالة والمعاصرة، أو برفع شعار نهضة ثقافية دون تمحيص وتحديد لمفهوم النهضة تحديدًا استراتيجيًّا.
وبالطبع، فليست هذه هي كامل أطراف وزوايا البانوراما التي أردنا وصفها بروح نقدية بعض الشيء، ومن منطلق ما يتحرك داخلها، فهناك هذا الوعي النقدي الجديد، وهو خط الفكر المتقدم، الذي تمثله وتدعو إليه وتمارسه مختلف حركات وتيارات التجديد الاجتماعي والثقافي، وهو ما يجد تمظهره في مواقف سوسيو-فكرية محددة، وفي مجموعة من المقولات والتصورات التي تطمح لأن تكون بديلًا مستقبليًّا.
إن المغرب عرف وما يزال يعرف، منذ منطلق السبعينيات، وقبلها بقليل — ولا يعنينا هنا الخوض في المعترك السياسي — إنتاجات ومحاولات في التفكير والتحليل على مستوى الأعمال النقدية-الأدبية، أو التأريخية، أو الثقافية العامة، وعلى مستوى الإبداع الأدبي، تتجه كلها إلى إخضاع الظاهرة المدروسة أو العمل المكتوب إلى شروط الواقع الموضوعي، وإلى رؤية تستوحي بعض مفاهيم الاشتراكية العلمية، وتريد المطابقة بين الفكر، وبين نزوعات ومطامح أفضل في الحياة.
إن هذا المسلك الذي نصفه هو في العمق جزء من صراع ثقافي يقع في الموقف المضاد، وهو جزء من الصراع الاجتماعي العام، ومن ضمنه كل أشكال الكتابة والتعبير التي تباشر فعلًا جهيرًا وحادًّا لتأصيل خطها، وتوكيد تصوراتها.
والمسألة، هنا، على أية حال لا تتعلق بالصراع الكلاسيكي المعروف، في الأدبيات النقدية، بين القديم والجديد، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه في جوهره صراع تاريخي.