القصة القصيرة بين الوعي الفني وتمثل الواقع الموضوعي
من الملفت للنظر أن تحتل القصة القصيرة صدارة الأجناس الأدبية المكتوبة في المغرب، وأن تتوافق في ذلك توافقًا شبه تام مع نظيراتها في باقي الأقطار العربية الأخرى.
وملفت للنظر، أيضًا، أن يعد الدارس لهذا الجنس الأدبي في المغرب نفسه مسوقًا، وبخطى مستمرة، إلى رصد الاقترانات والتوازيات، التي تتخذ أشكالًا مختلفة، مع القصة القصيرة، في المشرق العربي. والحقيقة أن الأمر يتعلق، أساسًا، بطبيعة الشروط الموضوعية التي تؤهل لولادة نوع أدبي، وبطبيعة هذا النوع نفسه وتحديداته كما يمكن أن نجدها متبلورة، بشكل مدقق عند «إدغار آلان بو» وعند اخنباوم من الشكلانيين الروس، ثم من منطلق التصور العربي البدئي الذي التبس بالحكاية، ثم بالقصة الغربية، وراح بعد ذلك ينسج أطره وتنويعاته الخاصة.
تأتي القصة القصيرة في المغرب في طليعة أشكال التعبير التي حاولت منذ العقد الرابع من هذا القرن أن تشرع لصياغة المشاعر والهموم الفردية والجماعية، بانقطاع وانتظام في آن واحد.
إنها تخرج من رحم النثر الفني الكلاسيكي أولًا، والخاطرة الأدبية بالذات، وتلتوي في مسارب البحث عن العناصر الحكائية، باعتبار عنصر الحكي مطلبًا أساسيًّا في النسيج الفني لهذا الجنس، بيد أنه بحث يظل مشدودًا «إلى الوراء»، أي إلى القيم الثابتة في الكتابة المرسلة بدل أن يمتد أو يتصاعد في الخط البياني الذي يصوغ الوحدات الثلاث المعروفة. ويهيكل المحكي على أسس الحبكة (العلة والمعلول)، كما يوضحها جيدًا هنري جيمس، والذروة، ثم الانطباع العام الذي يتركه القاص في وجدان المتلقي.
إنها مرحلة أولى مبنية على فهم محدود للقص القصير، ومستمدة من المقروء الوارد (وهو هنا مشرقي محض)، ثم واقعة في سياج القيم الخلقية والخطاب التبشيري. إن أسماء لقصاصين من الرواد مثل عبد الله إبراهيم، المدني الحمراوي، محمد الضرباني، محمد الخضر الريسوبي، ترد في سياق مرحلة من الكتابة القصصية التي اهتمت أو طالت، فحسب، قيمًا ومفاهيم دعاوية مرتبطة بوتيرة الواقع والتطور الاجتماعي والسياسي.
على محك المقالة القصصية، ثم من بعدها الصورة القصصية في العقد الخامس، ننتقل إلى درجة أخرى في سلم نشدان العناصر الفنية للقص، هذه العناصر التي تهيأ لها، تدريجيًّا، البروز ولكن الانشداد المستمر، والملازم لعنصري التاريخ والمجتمع كان يجعلها، دائمًا، تصطدم بعثرات العاهات الفنية، ويحيلها عند قاصٍّ مثل محمد عبد العزيز بن عبد الله، أو أحمد بناني، وإلى حد لا يستهان به عند عبد الرحمن الفاسي إلى كتابات نثرية رغم احتفالها باصطناع ملفق للهيكل القصصي الفني لصيقة بالوسواس التأريخي، أي سرد تاريخ تمجيدي خالٍ من الطبيعة السردية الفنية، أو بالهم الاجتماعي المباشر، أي ذلك الموجود وراء النص القصصي كمرجعية خارج نصه.
لا يستطيع الاستقلال الوطني الذي يأتي في نهاية الخمسينيات أن يفعل الشيء الكثير ما دامت وتيرة التطور الأدبي ليست محكومة حتمًا بالتطور الحدثي التاريخي، ولكنه، رغم ذلك سيساهم في إنتاج حلقات جديدة من البانوراما الاجتماعية، وسيفرد شرائح لم تكن متبلورة من قبل، وستجد القصة القصيرة نفسها تدريجيًّا عند قصاصي بداية الستينيات وهي تأخذ النمط التشيخوفي والموبساني.
إن موضوع أو حالة القصة القصيرة ستتبلور، وعلينا من هذه اللحظة أن نحسن التنصت لنبض الواقع، وبالنسبة للغرب فالقصد هو الغرب مترجمًا، سواء في بيروت أو القاهرة، وليس النص الغربي الأصلي كما قد تنصرف إلى ذلك الأذهان، وللمناسبة فنحن أمام كتَّاب غالبيتهم لا يحسنون إلا العربية.
حالة القصة القصيرة هي هذه القطاعات أو الفئات الوسطى من سكان الريف الوافدين على المدن، ومن العمال وصغار المستخدمين، والطلاب، الشرائح المأزومة التي تستقطب نماذج مأزومة ومحرومة. وسيجد القاص نفسه وهو يفعل وبمساوقة مع تحسن نسبي لثقافته القصصية، أن الموضوع وهو شيء أساس يمكن أن يرصد بأدوات تنتمي لجنس الحالة وتخدمها كذلك. إن الجملة القصصية ليست هي الجملة النثرية العادية، والبنية الحكائية في السرد القصصي ليست هي الحكاية أو النادرة مطلقًا، وإن رسم الشخصيات عملية لا يمكن إلغاؤها أو التساهل فيها ضمن كتابة تراهن على واقع يومي، وهم اجتماعي ملحاح.
وبالفعل فإن الوازع الاجتماعي المباشر، أو الصيغة الالتزامية، تظهر في أعمال كل من محمد إبراهيم بوعلو، ومحمد بيدي، والقطيب التناني؛ إن هؤلاء وسواهم إذا كانوا لم يوفقوا تمامًا في الانتفاض على الفكرة الجاهزة، وفي بلورة المفارقة الرهيبة، وفي تطويع أدوات القص كاملة، إلا أنهم، هم وآخرون، توفر لديهم اقتدار النقاط النموذج المطلوب للقص المحصور بين قطبي الصدمة والإشعاع، واقتدار التحايل على وزر العبء الاجتماعي المباشر بمحاولة توليفه، والإيحاء به ضمن البنية السردية وليس من خارجها. ورغم هذا فإن منسوب الخطاب المباشر والتبشيري يظل عاليًا في تكوين وحجم الكتابة القصصية القصيرة بالمغرب، وهي سمة مرتبطة بوتيرة الوضعية الاجتماعية والسياسية العامة للمغرب آنئذٍ، ولعلاقات الإنتاج والظروف السوسيو-ثقافية التي سادت المرحلة الممتدة من سنة ١٩٥٦م (الاستقلال) إلى سنة ١٩٦٥م (أحداث الدار البيضاء، وإعلان حالة الاستثناء بالبلاد).
هذه الظروف حكمت على كل أشكال التعبير الإبداعية بأن تكون متنصة لنبض الواقع ومرتهنة لاستعجالية الرصد والاستجابة المباشرتين أكثر من خضوعها أو استجابة جماليات الإبداع، ومتطلبات المهارة الفنية في كل حقل على حدة.
مباشرة بعد نهاية المرحلة المذكورة تبدأ القصة القصيرة في تسلق سلم تطور متميز، وفي استثمار مكونات ومعطيات مستجدة لا عهد لها بها من قبل، وسوف يسوقنا هذا التطور إلى تحصيل الظهور الفعلي لنماذج قصصية مكتملة فنيًّا تتبلور فيها الرؤى المتناسبة والأدوات المطلوبة للعمل الفني الصحيح، ولسوف نجد أن القصة القصيرة العربية، الواقعية منها بالذات، بمظهريها الاجتماعي والنقدي، كما سادت في الستينيات، في المشرق العربي؛ سيكون لهذه القصة أثرها النافذ في كتابة المغاربة، وسوف نجد أن الأجواء التي احتفل بها نجيب محفوظ، يوسف الشاروني، أحمد أبو المعاطي أبو النجا، مثلًا، في مرحلة متقدمة نسبيًّا ستأخذ سبيلها إلى القصصيين متأخرين عنهم في العمر والتجربة الفنية، ولكن مقتربين من حيث الرغبة في النمذجة الفنية لشخصيات وأزمات ومفارقات الفئات الوسطى، لكن الأزمات المادية هي الأكثر إلحاحًا هنا: إدريس الخوري، مبارك ربيع، عبد الجبار السحيمي، محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، حيث يتم استثمار عالم كامل من الحرمان المعيشي، وحيث تتابع أمامنا، وبعين كليود وسكوبيك، شخوص العاطلين، أو المعوقين من ذوي العاهات الجيبية أو الجسدية، من الفراشين والخادمات والمكبوتين نفسيًّا وجنسيًّا؛ هنا تستطيع الرؤية أن تتحدد في واقعية تسعى لتشكيل نفسها وعالمها خارج إطار الجاهز قبل النص، والقصة القصيرة منذئذٍ تبني وتقيم عمدها بأدواتها هي … إن الواقعية المبتذلة قد تراجعت وحلت محلها واقعية النص الفني الذي لا يصرخ هاتفًا للمحرومين والمعوقين، ولكن يحمل في داخله بذرته الخاصة، بذرة العاهة الاجتماعية، وبذرة الحرمان النفسي العارم.
إن قصص مبارك ربيع في مجموعته «سيدنا قدر» وإدريس الخوري ومجموعة «حزن في الرأس وفي القلب» وقصص عبد الجبار السحيمي في مجموعة «الممكن من المستحيل»، لتترجم الشكل والجوهر القيم فنيًّا وموضوعيًّا، التي سادت القصة القصيرة المغربية، ودفعتها في خط التهيكل المتماسك، تهيكل الرؤية الواقعية، بمحتواها الاجتماعي، وصياغتها الإبداعية.
بيد أن الواقعية هي صيغة فنية قبل كل شيء، هي فن كتابة المحكي وصياغة العالم مجسدًا، وفي القصة القصيرة هي اقتناص اللحظة الهاربة، والحالة الشاردة، هي التفاصيل اليومية العابرة، والحزن الأسيان على وجوه العابرين في الحارات، الواقفين أمام محطات الباص، أو المعلقين إلى هذا العالم بخيط رجاء واهٍ … إنهم الأفراد الخصوصيون في أوضاع خصوصية، وبكتابة خصوصية أيضًا، وهذا هو الأهم، لأن الواقعية أسلوب أكثر منها محتوى، وهذا هو ما يمثله محمد زفزاف في القصة القصيرة بالمغرب، إذ إن قصصه هو بالذات، وبنسبة أقرب مبارك ربيع، تشكِّل تيارًا بمفردها، وهو تيار سيحفر مجراه عميقًا على امتداد عقد من الزمن وزيادة، ليصل إلى نهاية السبعينيات، وبواسطته ومن خلاله نستجلي النموذج الأمثل للقصة المغربية.
وإذا كان للمنشأ المادي للقاص بعض الأثر على هذا التوجه، وإذا كانت عناصر التأثير من القصص الأجنبية، الفرنسي والأمريكي (أو. هنري، سالنجر … إلخ.) قد فعلت فعلها الأكيد، فإن حاسة رصد ما هو جوهري في طبق الحياة اليومية، والنسيج الاجتماعي الذي بدأ يتكاثف هو أهم عامل في زعمي، لقد بات الواقع أكبر وأعقد من أن يعبر عنه ميكانيكيًّا، أو هاتفيًّا، وتكالبت عوامل الإحباط المادي والسياسي والنفسي على جيل بدأ يشعر بالخيبة، الطبقة الوسطى الخائبة كليًّا تتسرب إلى المجرى الفني لقصاصين يعتبر كل منهم نفسه ضميرًا لمجتمعه، ويريد بالتالي، إخضاع هذه الضميرية لأدوات قصصية، إجرائية. في مجموعة محمد زفزاف «حوار في ليل متأخر» يلتقي قطبا خيبة متكاملة، وتشع النماذج الهامشية بملامحها وأوضاعها المادية الخربة في لقطات ومفارقات صاعقة.
وإذ تحفر الواقعية مجراها فإنها ما تلبث أن تهوي إلى العمق النفسي، محاولة تصعيد رؤيتها إلى أفق إنساني سيبحث عنه زفزاف، والخوري، ومحمد الهرادي، رفيقة الطبيعة وخناتة بنونة، سيبحث عنه محمد شكري (مجنون الورد) في شخصيات مدينة طنجة الصعاليك والملحميين، سيبحث عنه هؤلاء القصاصون جميعًا وآخرون من جبلتهم الفنية، وهو بحث عسير وشائك ما دام سيضعهم ولا يزال لامتحان إشكالية التوفيق بين ما هو ذاتي وموضوعي بينما ما يبرز الصيغة النموذجية للواقع في الخارج والواقع في النص … إنها إشكالية الواقعية كلها التي عرفها كل كتَّاب العالم العربي، وهي إشكالية لا تتطلب حلًّا لأنها مطروحة على أساس الصياغة المتواصلة لعالم لا يكف عن التبدل.
يريد جيل السبعينيات أن يخرج من الورطة، ازدحام الأشياء، والتفاصيل المباشرة. تكون ذاكرته الثقافية قد امتلأت وبات يحمل بين ضلوعه اجتراحات عقدين تقريبًا من الهزات الاجتماعية، واضطرابات التوقيت والخارطة السياسية، وتراكم عنف الإحباط والخيبة، يريد أن يفلت من ترهل وشيك للواقعية بالانسياق إلى جاذبية الذات وحلمية الرؤية وشعرية الكلام (بالمعنى الذي يعطيه بارت، تودوروف والنقد الجديد لهذه اللفظة) عند خناتة بنونة في «ليسقط الصمت» و«النار والاختيار» أصوات صارخة وأجساد محترقة، ولكن بهوية سديمية وفي فضاء نثرية لا تعترف بجدلية الواقع، والعبارة ومنبتها. عند محمد عز الدين التازي (أوصال الشجر المتقطعة) أشخاص مقذوفون في هذا العالم (بالمعنى السارتري) يحملون في ذواتهم طاقات شخصيات وعوالم ألبير كامي، فرانز كافكا، ولكن ضمن الفضاء المادي لمدينة فاس في أجواء ومنعرجات غامضة وسحرية، تأكلهم الوحدة، وتضيق عليهم العبارات الرشيقة الخناق. عند محمد العياشي، محمد بوزفور يصبح التقاط الخارج في مركزية شعرية همًّا رئيسًا وتدخل العناصر الأربعة كفقرة في عمود فقري من الأجنحة المعلقة في فضاء نثرية قصصية تقترح بديلًا عن السرد الكلاسيكي.
مراحل مختلفة. إذن وصياغات متباينة، ومتقاطعة، ولكن كل هذا يتم تقريبًا على امتداد سياق زمني واحد أن الظواهر الكتابية متكاملة ومتعايشة، والبحث عن صياغة أوعى أفضل للواقع، وبأدوات أكثر جدة هاجس مشترك في القصة القصيرة بالمغرب. كل هذا يتم أيضًا وضمن الاتصال والتفاعل المستمر مع عطاءات القصاصين العرب في البلدان الأخرى من الوطن، إنها تجربة يمكن القول إنها مشتركة، متفاعلة، وتجريبيتها وعي فني جديد وليس مجرد نزوة عابرة.
الزاوية أمام إشكالية الواقعية
إذا كانت القصة القصيرة في المغرب قد تصدرت الأجناس الأدبية المعروفة، ومرت بمراحل شبه منتظمة ما بين النشوء والتطور وتوفرت لها تقاليدها الرؤيوية والكتابية شبه الكاملة، فإن الرواية على العكس من ذلك تظل جنسًا أدبيًّا طري العود محدود المراس غير خاضع لوتيرة منتظمة في تطوره ولا لسمات شكلانية في تجلياته.
إن الدارس سيجد نفسه أمام أكثر من سؤال إذا ما سعى إلى دراسة رواية المغرب، فهو مثلًا سيقع في حيرة حين يتبين العدد المحدود من الأعمال الروائية (ثلاثون رواية على امتداد عشرين سنة)، وكذا الكتَّاب المعدودين الذين يمارسون بانتظام كتابة هذا الجنس الأدبي. ثم سيقع في حيرة أخرى إزاء نسق حقيقي من التطور وسيادة العناصر والرؤى الغنية المتضاربة.
وإذا كان معلومًا ما يعانيه الكتَّاب في المغرب من صعوبات في النشر؛ إذ إن الناشرين في غالبيتهم تجار أميون لا صلة لهم بالثقافة، فإن الأمر يطال في الحقيقة قضية نقدية أساسية تتصل بطبيعة ظهور وتطور الأجناس الأدبية في الأدب العربي الحديث عامة، إن هناك طبيعة من الهجنة وانعدام أي تاريخانية فنية في الرواية العربية عامة، ولا يمكن هنا لأي تعقيب تاريخي متعسف أن يخدعنا كما هو متداول في النقد الأدبي المبتذل، ومن ثَم تتراكم النصوص على النصوص بلا ضابط أو مقاييس معلومة أو مفتوحة.
وبالنسبة للرواية المغربية تبدو الورطة أكبر ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب المبدع الحقيقي بلا منازع للرواية العصرية.
على أن عجالتنا هذه تلزمنا بترك القضايا النظرية مؤقتًا والقيام ولو بتصنيف متعسف، سيعتمد المزج بين التحقيب الاجتماعي وتوالد الدلالات الفنية من ضمن بنيات الأعمال الروائية منهجًا له.
غير أن الستينيات هي التي ستعرف ظهور الأعمال الروائية الأولى، وهي ولا شك فترة متأخرة قياسًا إلى التراكم الذي توفر للرواية العربية قبلها، ومن ثَم يثار سؤال آخر محموله ما الذي جعل المغاربة يبطئ، بل يتأخر عندهم ظهور النوع الروائي إلى هذا الوقت؟ ما الذي يجعلهم فيما بعد يستنكفون ويقتحمون الحقل الروائي بتردد كبير؟ من بين عناصر عندهم ظهور النوع الروائي بتردد كبير؟ من بين عناصر كبرى للجواب نستطيع القول إن مسافة التقليد احتذاء المشرق والغرب عن المشرق ما كانت لتتقلص بسهولة، وإن انفساح رؤية الواقع ما كانت هي الأخرى لتتهيأ سريعًا فتمتد كشريط متصل ببداياته وذراه ونهاياته، القطب المشع واللحظي هو هوية القص القصير والامتداد هو عالم الرواية، ومغرب الستينيات وما بعدها هو الذي ولد هذه الإمكانية، ولن نحتاج بعد هذا إلى التذكير بالتقاليد الشفوية ومعوقات التمثل الفني وخصوصيات بنية ثقافية بذاتها وتدشن في «الطفولة» البداية الفنية للرواية المغربية، والحقيقة أن في الطفولة لعبد المجيد بن جلون تندرج في جنس السيرة الذاتية، أي إن منبتها ذاتي وفضاءها داخلي وعوالمها متنقلة بين المغرب ولندن والقاهرة، وفي تقديري أنه ما كان لكاتب مغربي في نهاية الخمسينيات يكتب شيئًا آخر سوى عن عالمه الخاص، سوف نرى أن عبد الله العروي بدأ كتابة روايته «الغربة» التي ستنشر بعد خمسة عشر عامًا في نفس التاريخ، وهي بدورها تؤرخ لعمران الكاتب النفسي والثقافي، وتتقدم في الطفولة ناضجة مكتملة البناء، تشهد لكاتبها بثقافة روائية تنقله أشواطًا بعيدة عن مجموعته القصصية الأولى المنشورة قبل الاستقلال «وادي الدماء». ينشر عبد الكريم غلاب سيرة ذاتية هي «سبعة أبواب» حصيلة ذكرياته عن السجن والاعتقالات في فترة المقاومة الوطنية، والأمر هنا أيضًا ليس صدفة ما دمنا ملتصقين بعد بمناخ الرؤية الذاتية من منطلق الذات وحولها، وينهج محمد عزيز لحبابي النهج نفسه في روايته «جيل الظمأ»، حيث نستطيع أن نستبدل اسم البطل الروائي باسم الكاتب نفسه، وحيث يطل المؤلف دائمًا من التشميل السردي للسارد، ولأن الرموز والعلامات والأجواء المرصودة تنقل بحميمية السيرة الذاتية وبخصوصياتها الفنية المعروفة.
إن هنالك واقعًا كامنًا في الداخل، وواقعًا متراجعًا إلى الماضي، وواقعًا ثالثًا يتأسَّس في الحاضر ويتقدم في المستقبل. وإن هنالك، وبالمقابل، واقعيات متباينة بدرجة ومقدرة الصياغة لهذا الواقع الثلاثي، وللواقع المركب الكبير. لا عجب أن تأتي السيرة الذاتية راكضة في المقدمة، لقد حاول ذلك البقالي وهو ينقل ذكرياته، وهو الأول، عن مسقط رأسه أصيلة، وحاول ذلك مؤخرًا محمد شكري في «الخبز الحافي»، وهو يكتب مرثية لزمن الجوع والصعلكة الذي عاشه بين تطوان وطنجة.
والمحصلة النظرية لهذا الطرح تكمن في أن السيرة الذاتية مثلت في مرحلة معينة، ربما لم تنتهِ بعد، القالب الفني، والمعادل الموضوعي، الملائمين لهموم كتَّاب في مرحلة كانت الرواية المغربية فيها ستأتي.
بروايته «دفنا الماضي» يعلن عبد الكريم غلاب دخوله إلى حقل الكتابة الروائية دخولًا علنيًّا، ويقدم للقراء رسمًا كاملًا لفضاء محدد وواسع ولمرحلة زمنية تشمل حقبة من الفترة الاستعمارية، كل ذلك من خلال الأوضاع المختلفة التي عاشتها أسرة الحاج مهد، والتطورات التي اعترتها، وعبر رصد شامل لمسيرة جيل كامل يتوقف روائيًّا، عند فجر الاستقلال، كل ذلك أيضًا من وجهة نظر أيديولوجية تخص عبد الكريم غلاب وتكرس البرجوازية الوطنية رائدة وبطلة.
وإذا كانت وجهة النظر هذه تهمنا من وجهات عدة، ليس أقلها نوعية القراءة الروائية لمرحلة هامة في مخاض المجتمع المغربي، فإننا نؤثر الانصراف عنها لطبيعة الجدل الأيديولوجي الذي لا نريد الخوض فيه هنا؛ الانصراف عنها لبحث ما نعتبره قضية جوهرية في تاريخ الرواية المغربية، وبنيتها الدلالية، ومن منطلق رواية «دفنا الماضي» التي تجسِّد، في زعمنا، الخصائص الكلية لرواية المغرب.
إن الأمر يتعلق بالتاريخ، وبمفهوم معين للتاريخ، وتحديدًا على المستوى الفني، بعلاقة ما هو روائي بما هو تاريخي. كيف تتسرب المادة التاريخية إلى شرايين الرواية، ويتهيكل العمل الفني رواية وليس تاريخًا؛ وكيف يكون السرد الروائي المستلهم للتاريخ، لوقائع حدثت في الزمن العام حديثة فنية تخضع لمعمارية النص الروائي ولوحداته الكتابية؟ ثم، وبعد هذا وذاك، كيف يقرأ الروائي التاريخ وهو يخوض زمن الكتابة بسارد منحاز؟ ليس من الضروري الإجابة عن هذه الأسئلة-الإشكاليات بقدر ما يهمنا التشديد على حدة تواردها عند قراءة رواية «دفنا الماضي» وروايته اللاحقة «المعلم علي» التي تريد أن ترصد لتطور الوعي النقابي، وتربط هذا الوعي نفسه بذات الطبقة، البورجوازية الوطنية، التي تظل رائدة دائمًا عند عبد الكريم غلاب.
ترد علينا الأسئلة ذاتها، ولكن بأبعاد جديدة، وتلوينات مغايرة، وذلك على عتبة رواية مبارك ربيع «الريح الشتوية» بجزأيها الأول والثاني. والواقع أن «الريح الشتوية» هي العمل الروائي الأول في المغرب الذي يظهر انشغال كاتبه بهموم السرد الواقعي. وطبيعة الرؤيا الاجتماعية؛ إذ يحتفل بها فضاء روائي واضح.
لقد كتب قبلها رواية «الطيبون»، ولكنه كان يحكي همومه ﮐ «بورجوازي صغير» بالتعبير المتداول: هموم الطالب الهائم على وجهه في ضباب الفلسفة والعلاقة العاطفية، ووضع هجين من القلق الوجودي-الاجتماعي. وبعبارة أخرى فقد كان يكتب سيرة ذاتية بضمير الغائب. وبنية هذه الكتابة، وعند مبارك ربيع، في مرحلته تلك، كانت مرسومة بعجلة لا تستطيع أو تعرف كيف تتوقف عندهم السرد، ولو أنه عمدتها الأولى لتوصيل الخطاب الروائي.
«الريح الشتوية» إذن رواية عن مدينة الدار البيضاء؛ في زمن روائي واقعي، بالولادة اللقيط لهذه المدينة. يختلط فيها العنف الاستعماري بالترحيل القسري نحو المدن، بتفاصيل بؤس المدن الطارئة في العالم الثالث، بالبشر المجتثين، بالنضال الوطني، ولكن، أيضًا، وهذا هو الهام عندنا بصياغة فنية إذا كان المحمول التاريخي والاجتماعي وراءها فإنها استطاعت أن تصهره، وتستقل به، فتكون هي التي كتبت الواقع وليس هذا الأخير هو صاحبها.
يواصل محمد زفزاف خط تطوير الرواية المغربية، وينشر روايته الأولى «المرأة والوردة» ١٩٨٠م، يهاجر فيها بنفسه ومجتمعه إلى مصيف جنوب إسبانيا، وهناك يعطي لبطله حق استرجاع شرعية الوجود، وتنفيس كبته الجنسي والتاريخي، ولكنه من الآن عينه يبرز مهارات السرد الروائي، وواقعية التفاصيل الصغيرة التي تصنع البناء الروائي المتين. إن الرواية المغربية، هنا، تنتقل إلى حاضرها، وتواصل مع محمد زفزاف في «أرصفة وجدران» نبش هذا الحاضر حين يصطدم بغياب المستقبل، وبنكوص آخر للذات وتفككها في «قبور في الماء» و«الأفعى والبحر» للكاتب نفسه.
بيد أن محمد زفزاف، صنيعه مع القصة القصيرة، استطاع أن يجعل الرواية في المغرب تتخلص من التاريخية الفضفاضة وتحتفل بجمهرة الفئات الوسطى، والنماذج المأزومة التي يأكلها سرطان المدن الطفيلية. على أن الرواية عندئذٍ، بدلًا من أن تغترب في الماضي أو في الوعي النكوصي يزدردها حيوان آخر اسمه الوعي المغلوط للواقع، وتلك مسألة أخرى. نستطيع بعد هذا أن نواصل مسيرة الرواية المغربية عبر تعداد الأسماء، ما دام كل اسم يكاد يشكِّل تيارًا بمفرده، ولأن الانتظامية الزمنية شبه منعدمة، ولأننا لا نستطيع في النهاية أن نتحدث عن أكثر من إسهامات في المجرى الروائي العام، وخاصة في السياق الراهن. و«الغربة» لعبد الله العروي، ثم «اليتيم» بعدها، إسهامان حقيقيان يرحلان في الذاكرة، وينبشان التربة الاجتماعية، وإذا كان طابع التجريد الذهني، وكثافة الرصد النفسي الغامض يغلب عليهما فإنهما تحتفظان بحذق الرواية، ومهارة تركيب المعمار، وبإخضاع السرد الروائي لنثرية شعرية فارهة.
على امتداد السبعينيات يتواصل إنتاج الرواية «أبراج المدينة» لمحمد عز الدين التازي، «دهاليز الحبس القديم» للحمداني مجيد، «الضلع والجزيرة» الميلودي شغموم، «الغد والغضب» خناتة بنونة «سأبكي يوم ترجعين» أحمد عبد السلام البقالي، «امليشيل» سعيد علوش، ولا يخضع هذا التواصل لمنطق عضوي من جنس الكتابة الروائية نفسها؛ إنه بالأحرى تواصل عشوائي والاختيارات الفنية فيه عشوائية أكثر منها محكومة برؤى أو تضاريس حكائية محكمة.
إن التوصيف الذي قمنا به، هنا، والذي نحس أنه لم يستطع الإحاطة بكامل أطراف موضوعنا يسوقنا إلى الدفع بأن الرواية المغربية؛ إذ بدأت، ما زالت تواصل بداياتها، وهي تنجز نصوصها، وتقترح رؤاها. في بحث متواتر عن إمكاناتها، وإمكانات استثمار الصياغة والرؤية الواقعيين؛ تخزن وتجمع، تتجمد في القالب الكلاسيكي تارة وتندفع في مغامرة التجريب تارة أخرى، ولكنها في كل ذلك تصر على أن تظل بنت بلدها، وفية لعثرات وحدوس الزمن المغربي.
وما لنا نحصر هذا التوصيف على الرواية المغربية وحدها، إنها بنت شرعية للرواية العربية في المشرق، هذه الرواية التي إذا كانت قد بدأت مبكرة فإنها لم تتوقف عن التخبط في إشكالات المعالجة الروائية للواقع، وفي الهواجس الخاصة لكل روائي، وما تزال سرديتها مستعارة أكثر منها مستنبتة من بنية النص نفسه، ودلالاتها مقحمة أكثر منها مولدة. وللرواية العربية عامة أن تظل مندفعة في حقل التجريب ضمن المنظومة العامة لوتيرة النمو والتطور السوسيو-ثقافي للمجتمع العربي.