الشعر المغربي بين النزعة الاختبارية وارتياد أفق تجديد خلاق
ليس الحديث عن الفن الشعري في أي بلد عربي من الأمور التي تيسر لصاحبه الأسباب الممكنة لخوض تجربة يعد عمرها بالقرون الطوال. ثم، وفي مرحلة قصوى، انفصمت عروقها لتنشطر إلى شطرين بات اللقاء بينهما أملًا مستحيلًا، لقد تمذهبتا في رؤيتين فنيتين وثقافيتين متمايزتين تمايزًا تامًّا، ومن ثم فإن الحديث عن الشعر المغربي لا يعدو أن يكون قطعة من الفسيفساء الشعرية العربية كلها. ثم لا بد أن يكون امتدادًا في الجدال التاريخي بين الشعر الكلاسيكي والشعر المعاصر.
وإذا ما بدأنا بالقصيدة المسماة ﺑ «العمودية» فسنجد أنها هي التي شكَّلت العمود الفقري للنتاج الشعري المغربي إلى سنوات قريبة، منذ أن انتقلت الثقافة العربية-الإسلامية في ركاب الفتح الإسلامي وفي أعقابه إلى شمال أفريقيا. وعلينا أن ننتبه من الآن، أن البيئة الثقافية في المشرق العربي قد انتقلت كلها بمختلف موادها وعناصرها، الأدبية والفكرية إلى المغرب، وتعضد هذا الانتقال ورسخ بالتجاور مع الثقافة العربية التي ازدهرت في جوار له هو الأندلس، والشعر الذي هو أقوى تعبير عربي أو ديوان العرب، كما يقال، وجد صدارته في هذا الانتقال، ألفى الشاعر المغربي نفسه، وعلى مدى أجيال، يحتذي القصيد العربي من منبته ويواصل التنصت بأذن حساسة وخيال متفتح إلى كل ما يلحق من تطوير أو تجديد، هذا فضلًا عن التجديد المتميز، الذي لحق القصيدة العربية في الديار الأندلسية بحكم خصائص الفضاء التاريخي والجغرافي المتفردة.
وليس تجنيًا على الأدب المغربي القول إنه ظل سجين الاستيحاء المشرقي، سيما والاستلهام الروحي-الديني مصدره هناك، في الجزيرة العربية، مبعث الرسالة المحمدية. وللعربية قدسيتها التي هي من قدسية القرآن الكريم والوفاء للمصدر هو وفاء للأصل، وبسبب ذلك فإن مظاهر التجديد التي لحقت الشعر العربي في القرنين الثاني والثالث الهجريين، مثلًا، احتاجت إلى وقت طويل حتى تستسيغها الأجواء السلطانية والأدبية، ويكون التقليد للمركز هو الأساس وما عداه استثناء. إن عبارة الصاحب بن عباد مات زال ترن رنينها الحاد «هذه بضاعتنا ردت إلينا»، وهي على تعميميتها تمثل الحكم النقدي الصادر على مرحلة بأكملها.
وعليه فنحن نجد أن الشعر المغربي، في مراحله الزمنية المختلفة قد تمثلت فيه جميع الأغراض الشعرية التي تدخل في سجل القصيدة الكلاسيكية، كما استوحى وتمثل المخيلة الشعرية-البلاغية التي تحتفل بها هذه القصيدة، ولكنه بقي دائمًا على عتبة الإبداع الخصوصي، وما كان شعراؤنا، مثل الأندلسيين، مثلًا، ليجرءُوا على إسماع صوتهم الخاص في النشيد الشعري العربي.
ويستمر هذا النهج إلى القرن الحالي، بل إنه هو الشعر وليس سواه، وما كان لأحد أن يجرؤ على نقض مقومات راسخة لا تتزعزع، حتى لو تزعزعت البلدان والأسر الحاكمة.
في المرحلة الاستعمارية التي بدأت في المغرب منذ توقيع عهد الحماية سنة ١٩١٢م وامتدت إلى سنة ١٩٥٦م سيكون على الشعر أن يكون من أحد الأسلحة في مجابهة المد الاستعماري، واستنهاض الهمم، والصدع باللسان العربي ضد هجمة السلب اللغوي والثقافي سيكون على الشعر أن يجهر بالدفاع عن الأمة الإسلامية في وجه «الكفر والإلحاد» الذي يحمله الاستعمار. إن الذهنية بل والأيديولوجية السلفية لم ترَه في الاستعمار أبعد من ذلك، والشعر العربي من جنس كيان هذه السلفية، ولذلك كان شعراؤنا يحسون أنهم إزاء مهمة مقدسة، هي الحفاظ على أصول هذا الشعر، وتعميق جذوره في البنية الأدبية، وفي حقل النضال السياسي أيضًا جزء من هذه النزعة التقديسية والتحصينية ضد الغازي الأجنبي وقيمه الثقافية الدخيلة.
يخطئ إذن من يعتقد أن بلدان المغرب العربي كان بوسعها أن تحلِّق سريعًا في سماء التجديد، وتستفيد من عطاء التغير الذي لحق الآداب الغربية، بالنظر لقرب المسافة، بل وللاحتكاك المباشر بالمستعمر الفرنسي، بل على النقيض من ذلك تمامًا؛ إذ إن هذا الاحتكاك ولد رد فعل متطرف ضد العرب في تأسيس المدارس العربية واعتبار الحفاظ على الثقافة العربية جزءًا من الحفاظ على الدين، على القرآن والسنة النبوية.
إن الذائقة الأدبية، إذن كان يصعب عليها أن تطمع في أية نقلة فنية تجديدية للقصيدة الشعرية، وإذا كان لا بد أن يصلها شيء من ذلك، فليكن ثانية باحتذاء الأصل، والتنصت لما يأتي من المشرق، ومن ثَم فإننا نستطيع، وبإحداث بعض التباعد الزمني. أي الوقت اللازم لانتقال العناصر والمخيلة الشعرية المستجدة وتأملها ثم احتذائها، نستطيع أن ننقل ذات المدارس أو التيارات الشعرية المشرقية إلى المغرب دون أن تفعل شططًا أو نحُس بفارق يُذكر، عدا الفارق البدهي طبعًا، فارق ما بين الأصل والفرع، وأحيانًا تلتقي عند الشاعر الواحد مصبات عديدة تجمع جداول البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم ثلاثتهم، ولنا من علال الفاسي أسوة في هذا الباب. ثم لنا في عبد المجيد بن جلون، ومحمد الحلوي، وشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، وشعراء آخرين يضيق الحيز لتعداد أسمائهم نسخ تردد أصداء مدرسة الديوان أو مدرسة أبولو، ولكن في ذلك كله يظل العمود الشعري الكلاسيكي العروة الوثقى والرباط الفني المقدس.
وما دام المنهل الثقافي حيًّا ومستمر الحضور في الوجدان والذاكرة الفكرية المغربية وهذه المجلات والدواوين الجديدة تتخايل فيها ملامح انتفاضة والصلات توثق أكثر من أي وقت مضى بين المشرق والمغرب، فالقصيدة الجديدة تأتي على محمل هذه الصلات، ولكن ستواجه بأشق الصعوبات حتى تستفرد بمكانتها. إن الصراع التأريخي والنقدي الأدبي الذي عرفه ظهور الشعر التفعيلي في المشرق ينبغي أن ينظر إليه هنا مضاعفًا، لاسيما إذا ما تبينا غياب تقاليد أدبية حقيقية ومنابر للنشر والتداول الأدبي كثيرة ومنتظمة وغلبة طبع المحافظة بهيمنة الذهنية السلفية.
إن المنظومة الشعرية الجديدة التي خلقها فنيًّا السياب، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي — الرواد الأوائل والحقيقيون بلا منازع للشعر المعاصر — لم تبدأ في تحريك الذائقة الشعرية المغربية فعلًا إلا خلال الستينيات مع أنها كانت مسبوقة قليلًا ببعض أصداء التجديد الخافتة. لا عجب، فالأدب المغربي الحديث (الحداثة الأدبية) لم يعرف انطلاقته المتماسكة إلا من هذا المنطلق الزمني.
يلحق التجديد الشعر المغربي على مستويات التفعيلة والقاموس والصورة. يلحق التجديد المخيلة الشعرية كاملة، ولكن في تنازع وتشابك صراعي حاد مع النموذج-الأصل، والمخيلة والثقافية الكلاسيكيتين. ها هو الشاعر المغربي وهو بموهبته وحساسيته الخاصة يحتاج، مرة أخرى، لكي يعبر عن رؤيته للعالم وحدوسه في الحياة، أن يقرأ نماذج خارجة عن محيطه الثقافي، ولكن معبرة عن حيرته وقلقه الفكري والوجودي؛ أحمد المجاطي، أحمد الجوماري، عبد الكريم الطبال، محمد الحفار، محمد السرغيني، كوكبة من الشعراء يتقدمون تارة بخطًى حذرة، وأخرى بجرأة خفية، طارقين أبواب التحديث الشعري، كل منهم ينقل لنا صدًى من قصيدة قرأناها للبياتي أو صلاح عبد الصبور أو خليل حاوي، وكل منهم ينسج عن تحسسه اليومي أو يحاول نسج زمنه الشعري الخاص. وإذا كنا نجد عند أحمد الجوماري هذه الغنائية المتأسية لجيل لم يكن قادرًا على تأمل حيرته الخاصة فينتفض بها في مقاطع شعرية-نثرية، وبإيقاع وزني متقطع أحيانًا، فإن أحمد المجاطي إذ يظل مأخوذًا إلى إيقاع الغنائية وتماسك القاموس القديم وجزالته، يخترق بإسفين ثقافته الشعرية المشرقية، ولا عجب، فهو خريج جامعة دمشق الهيكل المقدس للصورة الشعرية القديمة والبلاغة الكلاسيكية، يستفزها، يستلهم رموزها، ويغمسها في فضائه الشعري الخصوصي. يفعل ذلك أيضًا محمد الحفار، بين ارتباك المشاعر الرومانسية، وسيولة القمع السياسي والتاريخي المحبط، ومن أجل البحث عن كثافة شعرية، فيما بعد، وعن معادل موضوعي في الأرض الخراب، كما عند ت. س. إليوت، ولكن في أرض خراب أخرى من طراز عربي مغربي لها مسحتها الكافية من الحزن، ورجَّاتها المتداومة من الضغط النفسي والتاريخي، بيد أنها رغم كل شيء تربط صلتها بالقاموس الشعري لانهيار قيم وصعود أخرى لغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية وما قبلها بقليل، تربط هذه الصلة الميتافيزيقية التجريدية مع قصائد محمد السرغيني؛ إذ يحكك الشعر تحكيكًا، ليثبت أنه من السلالة الشعرية للفرزدق، ينحت من صخر أولًا، ثم يتسرب في مفهومية ذهنية للجملة الشعرية وقد غابت هامته في ضباب الثقافة الفرنسية تارة والرموز الأسطورية تارة أخرى، ولكن الصرامة الوزنية في كل هذا لا تفوته ويكاد يظل شاعرًا كلاسيكيًّا عموديًّا، في إهاب عصري.
إن الستينيات، التي هي المرحلة الحقيقية لاكتشاف شعر التفعيلة، مرحلة اختبارية فضلًا عن أن القصيدة الجديدة اختبارية دائمًا، وتجريبية على الأصح، ولكن نزعة الاختبار لا تعني الخروج عن الوزن والإيقاع الشعريين، ولا تعني إطلاق أي كلام على عواهنه، وهذا ما عانت منه القصيدة العصرية في المغرب ضمن الشعر؛ ولذلك دخل أو اقتحم عدد كبير من المتأدبين الشعرَ عسفًا، ظانين أن تنضيد الجمل كافٍ وحده لإثبات الحضور الشعري، ولذلك فنحن نشدد على الأسماء الأولى التي ذكرنا إلى جانب أسماء أخرى تدور في فلكها، هي التي أمدت عبر الستينيات تجربة الشعر التفعيلي، وبلورت حسب طاقات وتجارب معيشية وثقافية محددة ما يسميه محمد بنيس ﺑ «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» في بحثه المنشور بهذا العنوان، والصادر عن دار العودة ببيروت.
بيد أن السبعينيات هي التي تبلور، بالفعل، وجود هذه الظاهرة ويتيح الكم الإنتاجي الشعري السماح لنا بالحديث عن كيانيتها. إن تجربة الشعر العربي المعاصر في المشرق تكون قد قطعت أشواطًا بعيدة، وشعراء من أمثال صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، عبد الوهاب البياتي، حميد سعيد، أحمد علي سعيد (أدونيس)، وخليل حاوي، استطاعوا أن يبنوا أهرامات إبداعية حقيقية، وهذا بتساوق مع حركة نقدية، مع أن الطابع الأيديولوجي والتحليلي النثري هو الغالب عليها، إلا أنها استطاعت أن تفصح عن المفاهيم المركزية للشعر المعاصر، وتكشف بعض ما يميِّزه عن الشعر العمودي في المجلات الأدبية الصادرة من عواصم عربية عدة، هذا فضلًا عن عملية ترجمة الأشعار الأجنبية إلى العربية، وترجمة دراسات نقدية متخصصة، كل هذا كان قد وفد ويتوافد على السوق الثقافية في المغرب، ويستقبله قراء متعطشون، ونفر من المتأدبة السائرين على درب الكتابة الشعرية وغيرها.
وتمارس كلية الآداب بمدينة فاس، وليس بالضرورة محاضراتها، دورها المحسوس في التربية الشعرية لمجموعة من الشباب سيصبحون لاحقًا هم الأصوات الشعرية، ذات الحضور القوي والمنتظم، وإنها لظاهرة ملفتة للنظر بالفعل أن يكون أغلب وأبرز المشتغلين في الحقل الأدبي من خريجي هذه الكلية، ومن كليات أخرى للآداب فيما بعد.
وما يعنينا مباشرة، الآن، خلال السبعينيات هو الدفق الإنتاجي الشعري، وانتظامية الكتابة الشعرية الجديدة واحتفال الصحف والمجلات بها، وتحولها تدريجيًّا إلى تقليد أدبي حقيقي يستطيع أن يخفي الشعر العمودي ويدحر صولته القديمة، وتهيمن على الذاكرة الشعرية المغربية. إلى جانب الأسماء الأولى المذكورة، أسماء صاعدة مثل محمد الميموني، محمد طلحة، محمد بنيس، أحمد بن ميمون، رشيد المومني، عبد الله راجع، ويتوالى صدور الدواوين بإمكانات مستحيلة، وتنظيم المهرجانات الشعرية بوسائل جد محدودة، (مهرجان مدينة الشاون التقليدي)، وأمسيات وجلسات اتحاد كتَّاب المغرب.
من تدافع الحديثة السياسية، والتبدل السريع لأنماط الظاهرة الاجتماعية، وبالارتباط الوثيق مع هيمنة قوى الاستغلال، والإحباطات المتوالية لفشل تجارب وإمكانات التغيير الاجتماعي والمعيشي كان الوجدان الشعري يغلي ذاتيًّا ويحترق بوقود المطامح المتبخرة، وبإجهاض مشروع أو مشاريع التحرر الاجتماعي، وهكذا فإن أمامنا شعرًا مصعوقًا بالخيبة، وبانفجارات الذات وهي تحاول أن تستقطب الكيانية الخارجية، مستلهمة عناصرها ورموزها الكبرى، ومستلهمًا، مرة ثانية تجربة ثقافية متململة وغير ناضجة تمامًا ولكن بالأساس، مستعرًّا بجحيم ذوات شعرية، لا تنفث إلا الخيبة أو المرارة، وتجد في الواقع المقابل ما يحرضها على الاستمرار في هذا النهج، هنا تكون الغنائية قد بدأت تتراجع، والصورة الشعرية الحركية قد شرعت تمد ظلالها فتعزل النثرية المبتذلة، والعنصر الثقافي-الذهني يشق طريقه وسط التسطيح الذي ينشر الوجود والمرئيات والعناصر الحسية والوجدانية بدل أن يجعلها ترفرف بأجنحة المجاز والاستعارة.
في هذا الامتداد الشعري الجديد والمواصل لتجديده على خطى تجربة الشعر العربي المعاصر، والشعر الغربي أحيانًا، ومن ضمن أنفاسه الخاصة لا نعدم معوقات ومحاولات يائسة طفيلية، ولا نعدم كذلك استمرار وجود الشعر العمودي بأغراضه التقليدية، سيما المديح منها، والمرتبط بمناسبات وطنية محددة، ولكننا نكتشف أن تجربة الشعر المغربي الذي رام ويروم آفاقًا تجديدية شكلية وجوهرية قد خرج من محك ومحنة الاختبارية الأولى، وأنه بصدد تأسيس كيانية إبداعية متميزة.