الفن المسرحي … من الممارسات المبدئية إلى تجريبية التراث والاحتفالية
المسرح بدوره، من الفنون التي لا داعي مطلقًا أن نرهق أنفسنا في محاولة للبحث عن جذور له في تقاليدنا الأدبية والفنية. وإذا كان بعض الدارسين العرب يسعون عبثًا في هذا النهج فإننا بالنسبة للمغرب، على الأقل لا نجد تقاليد صحيحة أو ممارسات فعلية، كتابية أو مادية (مسرحة) إلا من عهد غير بعيد، وسوى بالاستيحاء من أعمال وافدة. وكل محاولة تعتمد بعض التقاليد الشفوية، في المسامرات أو الأعراس أو سواها من المناسبات الدينية لن تكون إلا من باب التمحل، وافتعال وجود ظاهرة فنية لا قبل للمناخ الثقافي-الفني بها قبل وقت قريب.
يشير الأستاذ حسن المنيعي، صاحب أول بحث رائد عن المسرح المغربي، إلى بعض الممارسات التي كانت معروفة قديمًا ويعددها في الحلقة، وهي عبارة عن مسرح شعبي يشرف على تقديم فرجاتها بعض الأفراد المختصين في فن الحكاية أو الإيماءة، والألعاب البهلوانية وفيها يعرض الممثل إبداعاته في الأسواق وفي ساحات المدن الكبرى. ثم البساط ومعناه بالدارجة المغربية المداعبة وترك الاحتشام وسيدي الكتفي ثم طقس سلطان الطلبة، حيث يعيش فيها الطلبة كل سنة أسبوعًا كاملًا من المرح في نطاق مملكة صغيرة يرأسها سلطان يافع، وهو نشاط كان يجري بمدينة فاس. وبالنسبة للأستاذ المنيعي فإن أشكال المسرح التقليدي هذه التي لا تحترم قواعد المسرحية المتداولة تنطوي على إرهاصات درامية.
أجل إنها إرهاصات وكفى، ولكنها لا تبرر بأي حال الاعتماد عليها اعتمادًا كاملًا للزعم بوجود إنتاج مسرحي أو جو فني لحركة مسرحية، إن هذه الإرهاصات مما هو موجود عند الشعوب كافة في شتى الطقوس والممارسات الفنية العفوية منها، والتي حفلت بها البلاطات وأجواء الحكام، ويكون دور الفرق الأجنبية سببًا في ولادة مسرح فعلي في شمال أفريقيا عامة، حيث بدأ جمهور محدود يتعرف على هذه الفرجة الفنية، وقد ظهر هذا تحديدًا منذ بداية العشرينيات وبحكم التأثر بالمشاهدة ومن قراءة بعض المسرحيات بدأت بعض الفرق الطلابية تظهر بين الجمعيات وعلى يد طلبة المدارس الثانوية منها، على الخصوص ثانوية مولاي إدريس بفاس، ومن الفنانين الأوائل لهذه المرحلة نذكر أسماء محمد القري، المهدي المنيعي، وكثيرًا ما كانت الأعمال الأولى تستوحي واقع المغرب تحت الحماية والاستعمار فتعتمد التحريض وتحريك الهمم وتزاوج بين التأليف المحض أو التعريب أو الاقتباس.
وتدريجيًّا بدأت الفرق تتأسس في مدن مختلفة، وتتداول فيما تقدمه مواد الحياة الاجتماعية والواقع السياسي الاستعماري، وقد تهيَّأ لهذه الفرق أن تنطلق أكثر رغم ظروف الكبح بالاحتكاك مع الفرق الوافدة والمشهور منها فرقة «جورج أبيض» وفرقة «بديعة مصابني» وفرقة «يوسف وهبي» وبصورة عامة فإن الرصيد المسرحي المغربي الممتد من سنة ١٩٢٣م إلى سنة ١٩٤٠م يعد من وجهة نظر حسن المنيعي «انتصارًا لفن الخشبة بالمغرب، لذلك فسيكون الركيزة لحركتنا الدرامية فيما بعد، طالما أن أساليبه وبنياته ستعرف أشكالًا وقوالب أخرى منمقة».
إن الفترة التي تعقب المرحلة المشار إليها ستعرف تدريجيًّا توسعًا محسوسًا لنشاط هذا القطاع الفني ليس على مستوى التكريس، ولكن لإرساء القواعد الأساس، ومن ثَم فإن إنجاز هذا التوسع لم يكن منظما تمامًا. كان مرتبطًا بتبعية واضحة إلى جهود الحركة الوطنية لنشر أفكارها، وكأحد أشكال المقاومة للمستعمر؛ ولذلك فإن طابع الهواية كان غالبًا عليه والأفراد الهواة الذين كانوا منصرفين إلى اهتمامات عديدة هم من تحملوا مسئولية إنجازه، وسوف نرى أن مسرح الهواة سيصبح ومنذ هذا التاريخ التظاهرة الفعلية والراسخة للمسرح المغربي الذي اعترض نشاط الفرق المحترفة فيه أكثر من عائق معالم تسمح بتأسيس بنيات صلبة لمسرح وطني وجعل الشغوفين بالمسرح ينظمون أحلافًا فنية ويواجهون الجمهور بإمكانات مادية ودرامية جد ضئيلة.
ولذلك، فإن تاريخ الحركة المسرحية بالمغرب يخضع في تطوره، مفاهيمه ورؤاه، تجاربه وابتكاراته، يخضع لتقاطع تجربتي الهواية والاحتراف، لتوازيهما وتداخلهما أحيانًا. هذا من الناحية المؤسساتية. ويخضع لطبيعة المكانة الصعبة التي استطاع هذا الفن أن يلقاها عن الجمهور، والتي إذا استثنينا الجانب الهزلي الترفيهي، فإنها ما تزال مهزوزة خلا عند نخبة مثقفي أو متعلمي المدن، ويخضع للغياب شبه التام لتجهيز وتأطير ماديين يتيحان الإعداد الجدي للفرق أو العناصر المسرحية القادرة على استيعاب المهمات والتبعات الفنية للأعمال الدرامية الكبرى … إن هذا لا يتعلق بالمسرح وحده، ولكنه جزء من غياب سياسة ثقافية في مختلف المجالات، وإذا كان صحيحًا أن الدولة أو الأطر المادية لها ليست هي الأداة الخلاقة لأي نشاط أو فعل إبداعي، فإنه صحيح كذلك أن الثقافة والإبداع الأدبي، والفني من ضمنها، يتعذر عليه أن ينمو نموًّا طبيعيًّا في حقل اجتماعي ملغوم بالمصاعب والمعوقات من كل صنف … إن الممثل المغربي مثلًا، ما إن ينتهي من أداء دور في مسرحية حتى يتحول إلى عاطل أو فنان يعيش على أمجاد وهمية! ثم إن القاعدة الصلبة لكل مسرح عتيد تتطلب وجود النص المسرحي. ولأمر ما، ليست هذه العجالة مجال دراسته، فإن الكتابة لمسرحية تكاد تكون منعدمة تمامًا في المغرب إذا ما قيست بباقي الأجناس الأدبية، والسنوات الأخيرة وحدها هي التي بدأت تعرف ظهور بعض الكتابات المسرحية على يد كتَّاب ناشئين، ولكنها كتابات يغلب عليها العنصر الشعري، وتتهافت فيها الخطابية أو المجاز الشعري الباهت والإيحاءات الفضفاضة التي تشير إلى كل شيء ولا تحدد شيئًا بعينه.
إن هذه العوائق مجتمعة إلى جانب عناصر أخرى تقنية محضة ما كانت لتسمح للمسرح المغربي، في بداياته، وعبر خطى تطوره المختلفة بأن ينهج على خطى مسيرة نشوء ونضج طبيعيين.
ولكن، رغم هذه المعوقات كلها فهناك وجود فعلي لحركة مسرحية، ولتيارات ضمن هذه الحركة نحب أن نعيِّنها بتحديد واقتضاب.
نحب أولًا أن نتعرض ضمن ثنائية الهواية والاحتراف، إلى المسرح المحترف، أي إلى المسرح الذي ينتظم في فرق وأنشطة مسرحية متواصلة وبإشراف رسمي من الدولة أو بتأطير غير مباشر يجعل العاملين فيه خاضعين لتوجيه وانتظامية محددة، ويمكن القول بأن الجهود الأولى في هذا السبيل جاءت من قبل وزارة الشبيبة والرياضة لسنة ١٩٥٠م، حيث ظهرت فيما بعد فرقتان أساسيتان: «فرقة المسرح المغربي، ومجموعة المسرح العمالي». في سنة ١٩٥٦م تكوَّن مركز الفن المسرحي، وكانت مهمة هذا المركز الإعداد الفني والتقني ليصبح من يلجه من المحترفين أو المسئولين عن مسرح الهواة. وسرعان ما توقف هذا المركز ليتلوه في وقت متأخر تأسيس «فرقة التمثيل المغربي»، كان من أبرز مسئوليها والعاملين فيها الفنان أحمد الطيب لعلج الذي يعد أحد رواد المسرح المغربي الفعليين، وانطلقت هذه الفرقة في جولات عديدة بأنحاء البلاد تعمل على تنمية الذوق المسرحي الشعبي، وتقدم مسرحيات باللغة الدارجة والعربية الفصحى، وتعرِّف الجمهور على نماذج هامة من المسرح العالمي والعربي، مثل مسرحيات «موليير» و«بن جونسون» و«هرمان بروك» وسواهم، معتمدة التعريب أو الاقتباس والمغربة، وتميز محتوى أعمال هذه الفرقة وأعمال لعلج بصورة خاصة بتناول المشاكل والأزمات التي يضطرب بها مجتمع في مرحلة التبدل وبمعالجة ساخرة وهزلية لبعض التقاليد البالية … إن مسرح أحمد الطيب لعلج يعتمد، جوهريًّا، على خلق أسس دراما اجتماعية، انتقادية وساخرة في أن توقظ في المتفرج اليقظة بواقعه، وهي دراما تتراوح في تقنياتها وأسلوبها الفني بين الطرح الكلاسيكي وبين محاولة الاستفادة من بعض الطقوس والرموز الشعبية والتراثية، وتستهدف الإفادة والفرجة والترفيه جميعًا.
الفرقة الأخرى التي ستحاول الدولة إعدادها هي فرقة المعمورة التي استطاعت بالفعل أن تعد ممثلين بارعين، وأن تتنقل بانتظام بين عدد من المدن تقدم مختلف العروض وتمارس نشاطها كذلك على شاشة التلفزيون، وقد كان مقدرًا لهذه الغرفة الوطنية المحترفة أن تفعل الشيء الكثير، سيما في إطار مسرح محمد الخامس بإشراف عزيز السغروشني وغياب إرادة حقيقية لإنجاز نهضة مسرحية وانعدام خطة ثقافية فعلية ما لبثا أن دفعاها إلى التشتت والزوال التدريجي.
هذا وإذا كنا في تناولنا سابقًا لتطور الأجناس الأدبية في المغرب قد ألححنا على أن ارتباط هذا التطور بالأفراد أكثر من ارتباطه بتيارات أو مجموعات مكتملة، فإن الملاحظة ذاتها تنطبق مع النتاج المسرحي وتتوافق مع مسيرة تطوره، ومن ثَم فإننا في المغرب نستطيع أن تتحدث عن مسرح لأفراد أكثر من مسرح مجموعات.
لقد تحدثنا عن أحمد الطيب لعلج، ونأتي الآن إلى أبرز عَلَم في الحركة المسرحية المغربية، استطاع أن يطفر بها طفرة كبرى على صعيد العالم العربي، وفي المسارح الأجنبية أيضًا، وقدَّم تطويرًا محسوسًا على مستوى الرؤية والإخراج والأداء، إننا نعني المسرحي الطيب الصديقي، الذي تمكَّن خلال إشرافه على المسرح البلدي لمدينة الدار البيضاء من إنجاز أعمال مسرحية فذة، ومن تكوين عدد من المواهب المسرحية، هي التي ستخلق لاحقًا ظاهرتي «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة» الغنائيتين.
بدأ الطيب الصديقي شأن سابقيه بالمسرح الاجتماعي الملتزم، مع تمكن من الثقافة المسرحية الغربية، وهو أحد المسرحيين القلائل الذين ثقفوا الفن المسرحي دراسة وتقنيات مع توفر أفق فكري متفتح على تيارات التجديد في هذا المجال. ومن هنا فقد انطلق الطيب الصديقي يحاور المسرح العالمي، ويحاول الاقتباس من بعض نصوصه الكبرى. عن يونسكو، بيكيت، فيما يعرف ﺑ «مسرح العبث»، فقدَّم «مومو بوخرصة» «وفي انتظار مبروك». التي هي تحوير لمسرحية صمويل بيكيت «في انتظار جودو»، لكن الفعل المسرحي الخلَّاق والوثَّاب للصديقي تمثَّل عنده في الحوار الذي وصله بالتراث، وبالعناصر التاريخية، ذات الارتباط ببعض التقاليد المسرحية القديمة، وهكذا جاءت مسرحيته «مقامات بديع الزمان الهمذاني» كصيغة مسرحية معتمدة على الحلقة والفرجة والطقوس التاريخية والبهرجية.
في إطار تقنيات جديدة مثيرة جاءت هذه المسرحية لتنقل المسرح المغربي إلى أفق التعريف به خارج حدوده، ولتقترح صيغة محددة في تعامل الفن الدرامي مع الإمكانات الدرامية في تراثنا العربي. ويطور الطيب الصديقي هذا النهج، نهج استثمار المقامات بالتعاون مع القاص التونسي عز الدين المدني لينتقل إلى أفق المسرحية التاريخية الحلقية في مسرحية «ديوان سيدي عبد الرحمن بن المحبوب» و«معركة الملوك الثلاثة» وأعمال أخرى تستثمر الخلفية التاريخية وتنجز إسقاطات كبرى على واقع يغلي.
محمد عفيفي، علم آخر من المسرحيين المغاربة الذين رسخوا فن الدراما بالمغرب، باقتدار كبير وبتعامل قوي مع نصوص خطيرة الأهمية، أبرزها مسرحية «هاملت لشكسبير»، واحد من المحترفين القلائل الذين ساهموا في كيانية المسرح المغربي، في حين يقع عبد القادر البدوي بين مراوحة متناوبة بين الاحتراف والهواية، ولكنه يشكِّل بمفرده ظاهرة نادرة، ففرقته «العهد الجديد» التي نشأت مبكرة في أوائل الاستقلال ما تزال إلى اليوم مستمرة باسم «فرقة البدوي» تواصل عملية التنوير الاجتماعي، وتؤمن بالمسرح الهادف، تراوح بين التأليف والاقتباس والترجمة، وتلتقط في نتاجاتها الحوادث والأزمات التي تطفو على مجتمع يعيش ميكانيزمات تبدلاته. غير أن هدفية البدوي التي تدخل في نطاق تصور محدد لمفهوم العمل المسرحي، جعلته ولفترة طويلة يراوح في مكانه، ولا يتبنى من منطلق اختيار تبناه لنفسه أية طليعية أو نزعة تركيبية وتطويرية للعمل الدرامي.
إن هذا الضرب من المسرح ما أكثر ما نجده منتشرًا لدى فرق عديدة بين المدن، لدى فرق هاوية تقدم تمثيليات أو اسكتشات أكثر من كونها مسرحيات حقيقية بالمفهوم الدرامي الصحيح، ومن هذه الفرق نستطيع أن نعد الكثير من التنظيمات الهاوية التي تلتقي سنويًّا في مهرجان لمسرح الهواة، غير أن هذا المسرح اليوم شرع يتجاوز عثراته وتلمع فيه أسماء تمارس تجارب طليعية، أمثال محمد تيمود، ومحمد الكغاط، وفيه فرق أخرى تتعثر في تجريبية جريئة وأخرى عاثرة، وعناصر أخرى، من بين المهتمين بالمسرح، منتجين أو مخرجين يجهدون حاليًّا في إشادة تصور لمسرح يسمونه «المسرح الاحتفالي»، ويجد هذا التصور بعض وجوهه وسماته البارقة والباهتة معًا عند عبد الكريم برشيد، أحمد العراقي، وعبد الحق الزروالي، غير أن هذا التصور ما يزال يسوده التشوش النظري، نقديًّا، والمسرحي إجرائيًّا، ولكنه يمثل في الوقت الراهن الطموح السائد لدى غالبية المهتمين بالمسرح من حقل الهواة.
ونلح في النهاية، مرة أخرى على الظاهرة المقلقة لشبه انعدام النص المسرحي الذي يعد إحدى القواعد الأساس لنهضة مسرحية حقيقية. هكذا إذن يتداول المسرح في المغرب فعالياته بين الاحتراف والهواية، بين الهزل والنقد الاجتماعي، بين التوجيه والترفيه، وقليل منه يخوض تجربة الدراما التركيبية إما من الاستفادة من التراث، وإما من استلهام التجارب الحديثة في المسرح العالمي. مسرح متعدد الهويات الفكرية، الفنية، والتقنية.