النقد الأدبي بين حصار الأيديولوجيا وأدبية النقد الجديد
حركة النقد الأدبي الحديث في المغرب جزء من حركة الأدب الحديث كله، ارتبطت به مساوقة، موازية، ومحفوفة، سائرة في ركابه، تستمد مفاهيمها أو تملي تصوراتها، ثم تخلق أو تحاول أن تخلق بنيانها النظري ضمن اختيارات تميل أحيانًا جهة الفن ومتطلبات الكتابة، وأحيانًا أخرى جهة الواقع، كمحصلة، اجتماعية وسياق سياسي، فتكون أقرب إلى التصور والإملاء الأيديولوجي، الموجه والتوظيفي للأدب في معركة مباشرة.
النقد الأدبي في المغرب الحديث خضع ويخضع للصعوبات والعثرات التي رافقت ظهور الأجناس الأدبية الحديثة، فإذا كانت هذه الأجناس، على الأغلب، طارئة، مستجدة في بيئة أدبية لم تعرف إلا الأنواع النثرية والشعرية القديمة وبالمفاهيم والمقاييس النقدية المتوارثة، تلك التي تحيط بالمبنى والمعنى، أو تلك التي تعتمد القواعد البلاغية حكمًا ومرآة، والمستندة في أغلبها على نماذج فحول الشعراء، أو أساليب البلغاء وكتاب الدواوين المعروفين، وإذا كانت هذه الأجناس الإبداعية قد التمست طريقها في ضباب التقليد، ووسط التخبط بين ما هو متمكن في أنفس منتجيها، وما هو وافد منبت الصلة بالماضي، ومنبعث من فهم مغاير تمامًا للتعبير الأدبي في مبناه ومعناه، وفي إمكاناته الوظيفية ضمن الحقل الاجتماعي، والمدى الإنساني مطلقًا. إذا كانت الصورة على هذه الشاكلة بالنسبة للأدب السابق على النقد، فإن الحركة النقدية ظهرت في سياق هذه الخصوصيات، ونمت وسطها، وتحددت ملامحها أو لم تتحدد مع الصراعات الخافتة أو الحادة التي يعيشها مجال الإبداع ومواده.
ورغم ذلك فإن سلطة النقد الأدبي، كوصاية على الأدب وجهاز مراقبة لإنشائيته وفعاليته استطاعت أن تحتفظ لها بتباعد فوقي بما يجعلها تملي أكثر مما تستلهم، وتوجد أكثر وتوجد أكثر من أن تتعايش، ولكنها تظل من هذا، خارج الأدب، وبمعزل عن ميكانيزمات الإبداع في الوقت الذي تربط نفسها وتنظيرها ومؤسستها إما بقيم خارج المؤسسة الإبداعية، أو بجماليات وتنظيرات هي أميل إلى النص السابق منها إلى النص اللاحق.
وسنحاول أن نتعرف على طبيعة النقد الأدبي في المغرب، وخصوصياته عن طريق استعراضنا للتيارات الكبرى التي انتظم فيها، إما على أساس تاريخي أو أساس آخر مفهومي.
النقد التاريخي-التنظيري
وهو ذلك النوع من النقد الذي ظهر منذ العقود الأولى لهذا القرن، وبخاصة مع بداية الأدب الحديث، وهو نقد لا يلاحق النصوص المكتوبة بالتأمل أو التقويم، ولكنه يعتمد نزعة التأريخ لما هو مكتوب من ناحية، والتنظير أي وضع الحدود بين الأنواع الأدبية والتعريف بها. من هذا النقد نسوق نموذجين اثنين؛ كتاب الأستاذ محمد عباس القباج «الأدب العربي في المغرب الأقصى»، والحق أنه كتاب رائد يحاول فيه صاحبه أن يقدم لنا جردًا تاريخيًّا عامًّا عن أدب المغرب، في مراحل مختلفة، ولكنه أيضًا ينشر ملاحظات ولمسات نقدية هنا وهناك عمدتها الأساس ثقافة شعرية ونثرية، بلاغية ونقدية تجعل التراث العربي في هذا الباب. والنموذج الثاني الأشد بروزًا هو مؤلفات الأستاذ عبد الله كنون، وبالخصوص كتبه «النبوغ المغربي»، «التعاشيب» و«أحاديث في الأدب المغربي الحديث»، والكتاب الأول تاريخ لأدب المغرب في عهود مختلفة، بينما الثاني مقالات متفرقة تكشف عن ذوق كلاسيكي في مطالعات الكاتب، أما الكتاب الثالث فهو مدونة حقيقية، والأولى من جنسها، في تحديد الأنواع الأدبية القديمة والحديثة في المغرب، كيف كانت وكيف ينبغي أن تكون.
إن هذا التيار النقدي لم يكن يفهم النقد الأدبي باعتباره الاتصال بالنص اتصالًا حميمًا وموضوعيًّا، في آنٍ، واستقراء مكوناته، ولكنه يفهمه فهمًا استعراضيًّا ألصق بتاريخ الأدب منه إلى أي شيء، آخر يغلب عليه التداخل والإطناب والاستطراد، ولا يتوفر على جهاز مفهومي دقيق يعالج به النصوص الأدبية أن هناك نموذجًا آخر، كالرواية الأدبية القديمة، يحدد هذا النوع هو كتاب «المعسول» للمختار السوسي، ومقالات متفرقة كانت تنشر في الصحف والمجلات المغربية لعهد الحماية مثل «الوداد» «السعادة» رسالة المغرب. وتواصلت على عهد الاستقلال في مجلة «دعوة الحق» بخاصة.
النقد ذو البعد الاجتماعي
انطلق هذا النقد مع بداية مشروع التحرر الاجتماعي أوائل الستينيات، ارتبط بالكتابة الأدبية مقالة وقصة قصيرة، ونقاشات فكرية عامة، في محيط كانت الفئات الوسطى تتصاعد وتنمو فيه، وتحاول أن تصنع لها موقعًا بين هيمنة الإقطاع والبورجوازية الوطنية، وكان منظورها الطبقيون (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنئذٍ) يحاولون اقتراح مشروعهم التاريخي للمرحلة.
إن محدودية الفهم للأدب الحديث وللعناصر الكتابية لهذا الأدب، وللرؤى التي يروم بلورتها أو كيف ينبغي أن تتم هذه الرؤى وتنتج، ومحدودية الثقافة النقدية، من جهة ثانية، كل هذا في جو معمور في الطفرة الأولى لحماس العمل الوطني التحرري على الصعيد الاجتماعي أوجد نقدًا مرتبطًا بمفهوم معين عن الواقع، كما كانت القصة القصيرة والرواية، أيضًا، مرتبطة بمفهومها الخاص للواقعية، أوجد نقدًا أدبيًّا يتبلور، داعيًا إلى التزام الكاتب بالواقع، ومعايشة مشاكل المجتمع و«الجماهير»، ومحرضًا الأدباء كي يكونوا «مرآة» لمجتمعهم ﺑ «أفراحه وأتراحه».
إننا نستطيع أن نلمس بيسر هذه النبرة الدعاوية كانت تنشر للنقد الاجتماعي في المقالات الأدبية التي أوائل الستينيات في صحف مثل «الرأي العام» «التحرير» و«الأهداف»، وكلها كانت صحفًا للمعارضة، ومعبرة عن طموح في بديل اشتراكي، تقدمي للمجتمع المغربي، هذه النزعة عبر عنها مبكرًا كتاب مثل «عبد القادر الصحراوي» «محمد الطنجاوي» و«محمد زنيير»، ولم يكن مقدرًا لها بحكم ارتباطها بنزعة سياسية وتوجيه أيديولوجي قسري أن تنتج قيمًا نقدية أدبية أو تدفع بعيدًا خط نهضة أدبية لأن قيمها خارجية، معلاة من نزعة مسلطة على الأدب تُخضع الإنتاج الأدبي حرفيًّا لميكانيزمات علاقات الإنتاج المادية، في الحقلين السياسي والاجتماعي، ولمفاهيم ماركسية عن الديالكتيك والصراع الطبقي كانت ما تزال مشوشة في الأذهان.
وبعبارة واحدة، فإن هذا الضرب من النقد الأدبي الذي استمر طيلة الستينيات، ولا نعدم وجوده في إهاب مغاير، حتى الآن، نقد مبتذل حرفي وهجين، يستخدم المصطلح السياسي، ولم ينجح في إنتاج مصطلحه الخاص، وإذا كان قد فعل شيئًا فإنه أضر كثيرًا بالإبداع الأدبي في المغرب حين عمد إلى تكريس مفهوم من الكتابة الهتافية التي لا تلقي بالًا لأية اعتبارات جمالية.
النقد الأيديولوجي
وهو النقد الأدبي الذي ازدهر عبر السبعينيات، وهو بدوره دعاوى، واجتماعي في محتواه، بمعنى أنه يُخضع الإبداع الأدبي، قبل أي مقياس، لوتيرة، التطابق والمرآوية مع الواقع. أجل إنه يخضع لمنطق نقدي كلاسيكي في مفهوم الواقعية، أو بالأحرى مشوش، المنطق الذي يعتمد الانعكاس المباشر، في حين أن نظرية الانعكاس، أو المحاكاة هي أعقد من هذا بكثير.
تقوم مادة هذا النقد على ملاحقة المضمون، وحصر أطرافه، إن المضمون هو المطلب وليس سبيل أو أدوات توصيله. والمضمون قد يكون سياسيًّا، اجتماعيًّا، طبقيًّا أو نفسيًّا أو ذهنيًّا، ولكنه إذا حاد، أولًا، عند مفهوم «نضالي» و«تبشيري» فهو مرذول، وبالتالي فالنص محكوم عليه سلفًا بالإعدام من قبل الناقد. ومن ثَم فإن المقياس الأول لهذا النقد قائم على مبدأ تراتبية المضمون الأدبي.
منهجيًّا يحاول هذا النقد أن يقيم بناءه على أسس معينة، ومفهومية مبتسرة لسوسيولوجيا الأدب كما ظهرت إرهاصاتها الأولى عند جورج لوكاتش، وتبلورت منظمة ومقعدة عند لوسيان غولدمان فيما بعد، فيستلهم النقد الأيديولوجي من هذه المدرسة أسبقية ويبحث عن عناصر التطابق أو التنافر ليس غير، في حين أن سوسيولوجيا الأدب عند غولدمان هي شيء آخر تمامًا، صحيح أنها تعمد إلى طرح صيغة «التجانس»، ولكن ليس من أجل دراسة المضمون، بل لحصر «البنية الدلالية» التي هي مجموعة من العلاقات الوظيفية والضرورية بين مجموع (عمل) معين ومختلف عناصر مضمونه. سوسيولوجيا الأدب والبنيوية التكونية بوصفها منهج النقد الأدبي الغولدماني تبحث من خلال مفاهيم محددة؛ مثل رؤيا العالم والوعي الممكن والبنية الدلالية بين قطبي الفهم والتأويل من كيفية انتقال العالم المادي إلى النص الإبداعي عالم طبقة أو فئة اجتماعية بما يجعل النص يحمل دلاليًّا البنية الذهنية وينطق بالعلائق الاجتماعية للطبقة أو المجموعة. وهكذا فإن النقد الأدبي الأيديولوجي في المغرب وفي الوطن العربي كله، يأخذ من هذا المنهج نتفه السطحية، وعناصره المبذولة (الأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تعد، ويمكن لأي قارئ أن يتصفح كل المجلات التي تزعم أنها أدبية ليجد أن مقالاتها ليست إلا ضوضاء مضمونية لا تعير انتباهًا للعلاقات الداخلية للنص الأدبي، وإن فعلت فهي إما تتحدث عن «الشكل» معزولًا عن المحتوى وأي شكل، أو عن البطل «الإيجابي» أو «السلبي» في الرواية وعن الصورة الشعرية، كذا دون منهجية أو توفر على جهاز مفهومي نقدي محدد).
النقد الأيديولوجي الأدبي في المغرب، كما هو في الوطن العربي قائم على تسطيح الإبداع وملامسة ملامحه الخارجية، واعتبار العناصر الفنية زينة شكلية، ومن ثَم فهو نقد خارج أدبي، الأمثلة عليه في المغرب نجدها عند كتَّاب عديدين نخص بالذكر منهم البشير الوادنوني في كتابه «المصطلح المشترك» ونجيب العوفي في كتابه «درجة الوعي في الكتابة». إبراهيم الخطيب ومحمد برادة ناقدان مغربيان آخران انتهجا هذا الأسلوب زمنًا، ثم ما لبثا، مع نضجهما الثقافي، وتفتحهما على تيارات أدبية أخرى أن تجاوزاه.
النقد الجامعي
ونعني به بعض الكتابات النقدية الأدبية التي ينتجها جامعيون من مشارب مختلفة، في الأدب العربي، قديمه وحديثه، وهي إذا كانت محدودة كمًّا فإنها تعبر عن اختيارات في الوعي الثقافي والمفهوم الإبداعي، كما أنها ما تزال بعيدة عن التجانس، غير أنها سواء كانت كلاسيكية أو جديدة تتميز بنوع من الصرامة الفكرية، وتغلب عليها النزعة الأكاديمية المحكمة: تتمثل فيما ينشر من دراسات أو مقالات في بعض المجلات الفكرية «آفاق» و«أقلام» و«الثقافة الجديدة» أو مجلات كليات الآداب. وإجمالًا فإن السمة الغالبة على هذه الممارسة النقدية هي تراوحها بين مختلف الاتجاهات بدءًا من نقد الشكل والمضمون ومرورًا بنوع النقد التكاملي التلفيقي، والنقد الأيديولوجي، وصولًا إلى النقد الجديد للمدرستين الأمريكية والفرنسية المعتمد على المنهج البنيوي وأدبية الأدب.
هذا النقد الجديد بدأ يتبلور بشكل محسوس بين أفراد جد معدودين، من الوسط الجامعي، أما من خريجي الجامعة الفرنسية، أو من الذين عكفوا على دراسة نماذج وتطبيقات رولان بارث، تودوروف، جيرار جنييت وسواهم، يشق هذا النقد طريقه بصعوبة، ويلقى حتى الآن أصداءً خافتة وسط ضجيج النقد الصحفي أو أمام اليسر والسطحية التي تتميز بهما الكتابات التي تلاحق المضامين والمعطيات الاجتماعية والسياسية.
النقد الجديد، وهو جديد في الوطن العربي كله، وربما كانت البيئتان المغربية والتونسية هما موقعه الأصلي، يريد أن يقطع الصلة مع ما يسميه ياكبسون، الناقد الشكلاني، بالثرثرة الكلامية في الأدب، ويسعى ليقيم بناءه على أسس من قواعد علم الأدب، وهي قواعد بدأت تتبلور مبكرًا عند الشكلانيين الروس، أولًا، منذ العشرينيات من هذا القرن، ثم حككت عند الاستطيقيين الألمان، والنقاد الإنجليز والأمريكيين، ولكنها اتخذت صورتها المكتملة في النقد الفرنسي انطلاقًا من الستينيات عند رولان بارث، حين دشنها بكتابه الشهير درجة الصفر في الكتابة، وعند تزفتان تودوروف، ثم عند غريماس، ونحن نقتصر هنا على ذكر المشاهير فقط. ويهمنا قيام هذه المدرسة على دراسة النص الأدبي في ذاته ولذاته بمعزل عن كل تقييم أو إسقاط خارجي، وبتحديدها للبنية، وبالاعتماد على لسانيات فردناند دي سوسير، وبإنجاز مصطلحية خصوصية تستنبته من صلب الإبداع في الشعر والمحكي.
النقد البنيوي «الإنشائي» بدأ يتململ في الكتابات النقدية بالمغرب بين الجامعيين وغيرهم (إبراهيم الخطيب، العياشي أبو الشتاء، عبد الفتاح كليطو) ولكن أنفاسه ما تزال محدودة، ولسوف يقوى أكثر مع اتساع حجم الثقافة النقدية، وتبدل منهجيات التدريس في الجامعات، غير أنه بدأ يعطي ثماره الأولى المتمثلة في العناية بخصوصية الإبداع والإشاحة عن استهلاك الثرثرة الكلامية، الشيء الذي يرتبط، في العمق عضويًّا، بمستوى النصوص المقترحة في السوق الأدبية.
وبالفعل فإن حركة النقد الأدبي الحديث في المغرب محكومة، بالطبع بإمكاناتها الخاصة، ولكن أيضًا بمستوى الوعي الثقافي لدى المتلقي، وعلى الخصوص بمدى إبداعية الأدب المغربي ومستقبليته. ويمكن القول، بلا تردد، إن هذا الأدب قد انطلق مع الثمانينيات في آفاق من البحث والتجريبية الفنية، والتوضيع الفكري بدأت تخلق له رؤى متسعة ومركبة، وتوحي ببعض القناعة، بنشوء أدب يخترق محدودية الالتزام المباشر ليشع بقيم ويوحي بمشاعر أعمق للوجود والإبداع الفني.