المنفى في اللغة وإشكالية المغايرة
تميزت الهجمة الاستعمارية الفرنسية على شمال أفريقيا، من ضمن مميزات أخرى، بالأولوية التي أُعطيت لعملية الهيمنة اللغوية والثقافية للشعوب المستعمرة. وربما كان الاستعمار الفرنسي هو أقوى الاستعمارات وأشدها تصديًا لثقافة ولغات البلدان التي يحتلها، وأكثر تدبيرًا وتخطيطًا في إرساء بنيات ثقافته ونشر لغته، وخلق علاقات الاستلاب الحضارية حيثما وصل إداريوه وجنوده.
وقد نجح الفرنسيون، فعلًا، منذ احتلالهم للجزائر سنة ۱۸٣٢م وإبرام عقد الحماية مع المغرب سنة ١٩١٢م، واحتلالهم لتونس فيما بعد، نجحوا بوسائل التبشير الديني، وإنشاء المدارس العصرية، وتطوير الإدارة، وتكوين بنيات تحتية أساسية، وبالتضييق على الثقافة-الأم بشمال أفريقيا في إرساء هيمنتهم، والعمل على تكوين جيل تابع إليهم تبعية مطلقة أو نسبية، وفي تكسير الكتلة التاريخية-الثقافية. مع دخول اقتصاد السوق وتبلور البورجوازيات التجارية المحلية، إلى كتلتين اثنتين متمايزتين طبقيًّا، وبالتالي فكريًّا وسياسيًّا، هذا المخطط الرهيب أعطى أكله السريع وثماره الغنية في الجزائر على الخصوص. ذلك أن ما يزيد عن قرن من الاحتلال الأجنبي كاد يجرد الشعب العربي في هذا البلد من لغته الأم تجريدًا تامًّا، كما أوشك على محو هويته العروبية، وإن لم يستطع زعزعة ارتباطه العقيدي المكين بالإسلام دينًا وتشريعًا سماويًّا.
لقد أدخلت الهيمنة الاستعمارية المغرب العربي في محيط ازدواجية ثقافية ولغوية، وجعلت منه خصمًا لالتقاء وصراع أكثر من ثقافة وأيديولوجية، وأعطت لموقعه ضمن خارطة الوطن العربي، موقعًا ذا خصوصيات كثيرًا ما تعمى على أبصار الدارسين أو المعلقين المبتلين بالتعميم والأحكام المطلقة دون الاستحكام إلى الشروط الموضوعية المركبة التي تتحكم في نمو ثقافات الشعوب وذهنياتها. منذ ١٩٣٠م حاول المستعمر الفرنسي أن يضرب ضربته العنيفة، ويقسم المجتمع المغربي إلى قسمين، وذلك بإصداره للظهير البربري وهو القانون الذي استهدف إخضاع المغاربة، من عرب وبربر إلى تشريعين مختلفين إلى سلطتين قانونيتين في أمورهم الحياتية وأحوالهم الشخصية. غير أن المغاربة جميعًا تصدوا لهذا الظهير صفًّا واحدًا من منطلق إيمانهم بالتواشج المكين بين الإسلام والعروبة، ولقد لعبت الحركة السلفية، وقتئذٍ، الدور الرائد في إفشال هذا المخطط الرهيب.
ولكن الخطة الاستعمارية الثقافية كانت قد بدأت بإنشاء مدارس تابعة للمستعمر، وأخرى عصرية تسود فيها اللغة الفرنسية أساسًا، وتدرس فيها الحضارة الغربية، ويتم فيها التشويش على الكيان العروبي والإسلامي، وإذا كانت هذه الخطة قد أوجدت رد فعل عند المغاربة، وبتأطير من الحركة الوطنية، فأُنشئت العديد من المدارس الحرة كمعاقل لتدريس العربية، وتنشئة جيل وطني عروبي، إلا أنها لم تمنع من استمرارية التدريس للغة المستعمر، الذي نجح تدريجيًّا في تكوين جيل موالٍ له، في مدارسه ومدارس الأعيان، جيل لغته وثقافته الفرنسية، وإن لم تنصرف عنه تمامًا وطنيته واختياراته النضالية-الشعبية الشعبية، ثم إن هذه الخطة التي رسخت الازدواجية اللغوية استمرت بعد مرحلة الاستقلال الوطني (١٩٥٦م) نتيجة لهيمنة البورجوازية الوطنية والكومبرادور على دواليب الحكم، وهي مرتبطة بالمصالح الاقتصادية للمستعمر، والاستعمار الجديد، حتى ولو تنادت أحيانًا بشعارات فضفاضة للتعريب والمغربة، وبسبب من الاختيارات الكبرى للدولة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي التي كثيرًا ما جعلت الثقافة العربية على الهامش من الصيرورة الثقافية المستقبلية، وإذا ما حاولت فرض العربية فعلى نطاق المواد الأدبية والفقهية.
إن الازدواجية الثقافية أو التعددية نفسها ليست عيبًا في ذاتها بل هي مطمح مطلوب، مخصب ومجدٍ، ولكن على أن تتم بالصيغة التي لا تنال من الهوية الوطنية، ومن مركزية الثقافة المرحلية والقومية، كما أن التعريب، مصبوبًا في القالب الديني وحده، إنما يريد أن يعكس وضعية زائفة تظل فيها الثقافة الوطنية تابعة حتى ولو تعربت على أساس أن التعريب محتوى وتوجه وليس مجرد شكل لغوي.
في إطار هذه الهيمنة الثقافية واللغوية للاستعمار الفرنسي ظهر ما يصطلح على تسميته ﺑ «الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية» على يد كتَّاب نهلوا اللغة الفرنسية من المدارس التي أنشأها المستعمر، وتربوا فكريًّا في أحضان ثقافته، وحين تحركت مواهبهم لم يجدوا أداة أخرى سوى هذه اللغة-المنفى كما يسميها الكاتب الجزائري مالك حداد، ومن ثَم راحوا يخوضون غمار تجربة أدبية مستقلة التجربة العربية، وبمعزل عن التطور الذي عرفته، وكذا العمد التي نهضت عليها، من هنا يحتاج الدارس لهذه الظاهرة ألا يدمجها في سياق موحد مع أدب المغرب العربي برمته، ويحتاج كذلك إلى تفحص خصوصيات تولُّد الأجناس الأدبية، كل منها على حدة، بين ما ظهر منها بالعربية وبالفرنسية، ومن هنا، أيضًا يجد نفسه، بالتالي، مدفوعًا إلى التساؤل عن الحدود التي بإمكانها أن تجعل الدارس يعتبر الأدب المكتوب بالفرنسية ابنًا شرعيًّا للثقافات الوطنية للمغرب العربي، أو نتاجًا تابعًا ومندرجًا في سياق الأدب العربي في المركز الاستعماري (المستروبول).
نرجئ الإجابة عن هذه التساؤلات لننصرف إلى ما يعنينا مباشرة من رسم خريطة هذا الأدب وتجلياته الإبداعية، فنجد أنه تهيكل في قالبي القصة القصيرة والرواية، ومن ضمنها السيرة الذاتية، كما وجد في الشعر أحد متنفساته الكبرى وأشكاله التعبيرية الأغنى.
وعلى خلاف الأجناس الأدبية المكتوبة بالعربية فقد ظهر هذا الأدب ناضجًا ومكتملًا دفعة واحدة، وخاليًا من كثير من الشوائه والهنات الفنية التي ألمحنا إليها في أدبنا العربي الحديث. ظهر متمثلًا خصائص النثر والشعر الحديثين في فرنسا، أدواته جاهزة ومشحوذة، ومادته يأخذها من محيطه الذاتي أو الاجتماعي، لقد كانت أنساق كتابة هذا الأدب وأشكاله ومستويات الإبداع فيه مقترنة إلى حد بعيد بنظائر لها في الأدب الفرنسي الأم، إن الكاتب المغربي بالفرنسية كان على صلة مباشرة بالأدب الحديث والجديد، كان يعيش في المناخ الثقافي لهذا الأدب، وإذا ما عاش عطبًا نفسيًّا، وانفصامًا تاريخيًّا على صعيد ازدواجية نفسية وحضارية، فإنه كان قد ركب ثقافة الغرب، الآخر باصطلاح عبد الله العروي، وأمسك بلجام أدبه يحاول، ويحاول دائمًا أن يصوغ بها تجربته كمستعمَر ثقافيًّا وسياسيًّا. وإن مسافة التباعد المكاني والزمني بين كاتب العربية وزمن المستعمر هي ذاتها مسافة تباعده في النضج الفني وتجربة الأنواع الحديثة عن كاتب الفرنسية المغربي، وهي مسافة يمكن أن تعد في تقديري بجيلين تقريبًا، الوقت الذي قضاه جيل من المشارقة في الاطلاع على الأعمال الأجنبية، التأثر بها في كتاباتهم أو ترجمتها، والوقت الثاني الذي قضاه جيل من المغاربة في تقليد المقلدين أنفسهم، والنسج على منوال تأثرهم. ومن الملفت للنظر أن نجد بعض النقد الأدبي في المغرب يتعامل مع كل أدب على حدة بمصطلحية خاصة وذوق وعلاقة ذهنية مغايرة.
إن صرف الأدب المغربي بالفرنسية أدى إلى الأنواع الأدبية الحديثة، وترك لنا نماذج بدلالاتها الخاصة، فهناك الجيل الأول من الكتَّاب الذين شرعوا يرصدون الخلفية التراثية لمجتمعهم، ولكنهم بدلًا من أن ينقلوا في قصصهم ورواياتهم الرموز الكثيفة لهذا المجتمع، بجس نبضها، والحوار الحميم معها، وبإدراجها في رؤية حضارية متكاملة، عوض ذلك نقلوا لنا الظواهر والمعطيات الفولكلورية بعين الاندهاش الأوروبي وبوصفية تعتمد السحرية والغرابة التي يحسها مكتشفو الشعوب البدائية أو القارات المجهولة! إن هذه الصفة يُطلق عليها العجائبية (الاكزويتسم)، وهي التي تمثل الخاصية الأولى لهذا الأدب وأحد تياراته الحكائية الأساس، ويعتبر أحمد الصفراوي في كتابه «سبحة العنبر» نموذجها الدال، في قصصه عن الجدات والغيلان.
يمثل إدريس الشرايبي في روايته «الماضي البسيط» الصادرة مع أوائل الاستقلال، والتي مُنعت لسنوات طويلة من التداول في المغرب، يمثل كتابة القطيعة المطلقة مع الزمن المغربي، إن بطل الرواية يلتفت وراءه، وهو راكب الباخرة باتجاه أوروبا، ثم يبصق على كل شيء. إن الشرايبي الذي انتمى حاليًّا الانتماء الكلي إلى الفرانكوفونية هو رمز القطيعة النهائية، وقد حسم الموقف مع تاريخه ومحموله الوجداني بعد أن حسم الموقف لغويًّا. سوف نجد أن نزعة القطيعة هذه ستتخذ أشكالًا ملتبسة عند كتَّاب آخرين باللغة الفرنسية، وذلك تحت ضغط ما يسمى بعملية «المثاقفة» أي التداخل والتشابك بين ثقافة الآخر وثقافة المغزو لغويًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا.
سنجد، فيما بعد، أن العلاقة مع الفرنسية ستفعل في نفوس الكتَّاب المغاربة، وعقب السنوات الأولى للاستقلال السياسي آثارًا متطرفة ومعاكسة. لقد بدأ الوعي بالمنفى يتجذر، والإحساس بواقع القهر الاجتماعي والتخلف يتكاثف، واستشعر هؤلاء الكتَّاب القطيعة مع مجتمعهم فهم يتحدثون ويكتبون بلغة نخبوية، ويعيشون ضمن سياج قضايا لا صلة لها بالجماهير التي يريدون التعبير عنها، سيما وأنهم يصرون على مغربية كتاباتهم، على محتواها المغربي «الأصيل» … إنه ضرب من «الوعي الشعبي» الذي نجده عند شعراء مثل عبد اللطيف اللعبي (قبل سنوات السجن)، ومصطفى النيسابوري، وعبد العزيز المنصوري، وكما تبلور في حركة مجلة «أنفاس»، والنشاط الثقافي لجمعية البحث الثقافي، تصفية الحساب مع الهيمنة الثقافية الاستعمار، والاستلاب اللغوي عند ممثلي هذا التيار اعتمدت التغريب داخل اللغة الفرنسية نفسها، ومحاولة تدميرها من الداخل، كما يقولون، أي بتفكيك البنى اللغوية وعلاقات الدلالة ضمنها، وصبغها بطابعهم الخاص الحامل لتمردهم النفسي وتأجج وعيهم الفانوني (نسبة إلى فرانز فانون)، من الأفارقة الكتَّاب المتمردين على ثقافة الاستعمار الفرنسي، وصاحب الكتَّاب المعروف «معذبو الأرض …» وغاب عن أصحاب هذه الممارسة أنهم بفعلهم ذاك إنما يسهمون في إغناء اللغة التي يعيشون حصارهم، ويعمقون ارتباطهم بها … إن المثاقفة، هنا كانت تبحث عن مغايرة تخفف من وطأة الوعي الشقي، من الإحساس على مستوى اللاوعي ﺑ «ذنب» الوجود في لغة وثقافة «الآخر» الغربي.
في روايته «الذاكرة الموشومة» على الخصوص، وفي أعمال أخرى لاحقة بها، سيذهب عبد الكبير الخطيبي مفهومه الخاص عن المغايرة، سيحققه وجدانيًّا وإبداعيًّا بعد أن لقنه ثقافيًّا وفلسفيًّا عن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. سيرحل الخطيبي في ذاكرة الطفولة، يستعيد ماضيًا ويسهم فيه، وفي تكوينه الزمني والنفسي، ولكنه سيسعى سعي آخرين إلى قطع حبل السرة الذي يحكم ارتباطه الحتمي بمجتمع يرفضه، وتأتي المغايرة، عندئذٍ بحثًا ثالثًا وطريقًا جديدة بين الغرب والعرب. هي أفق إنساني مفتوح هي الفلسفة الطاوية ربما، في ديوانه الشعري «المصارع الطبقي على الطريقة الطاوية»، ولكن هي الفرانكفونية حتى ولو رفض الخطيبي هذا التصنيف واعتبره خاليًا من بعد النظر، أو مجرد ترتيب اتفاقي.
المغايرة ذاتها تأخذ بُعدًا من رغبة الانسلاخ القومي عند محمد خير الدين. إن هذا الكاتب الذي عاش زلزال مدينة أغادير سيتزلزل فيه كل شيء وسيهجر المغرب ليقطن ثقافة وحضارة جديدة، ولكأنه يقطن نفسه، بأن انتماءه البربري الأصلي سيتحول عنده تدريجيًّا إلى عصاب نفسي وثقافي، ولعله أحد الأسباب التي تجعل منه الفارس المجلى في حلبة الكتَّاب المتفرنسين إبداعية منتظمة باذخة ومجددة بهر الفرنسيين أنفسهم في رواياته العديدة وأشعاره يصرخ خير الدين بصوته الجريح، يراهن على وطن تركه خلفه، على ملحمة الدم والفتك والعصيان التاريخي، يمخض اللغة ويحكك القافية ويخلخل المعمار الروائي ليصنع أدب محمد خير الدين الذي يحمل غربة المنفى خارج وداخل الوطن.
في خط آخر يختار الطاهر بن جلون الغنائية، فهو بعد أن يبدأ شاعرًا في «تحت كفن الصمت» و«خطاب الجَمل» يدخل إلى الروائية وقد سلبته «حرودة» روحه (وهي امرأة حية وأسطورية، رمز للجنون والافتتان)، يرحل بن جلون في روايته «حرودة» يقرأ مواسم التاريخ الأسطوري المغربي، ويغني، عبر الرموز والإشارات (السيميائية) زمنه الشخصي ووجد أنه الألف ليلي، ينشئ الشعر في النثر، فيحتفل به الوسط الأدبي الفرنسي، ويقال إن كاتبًا جديدًا قد ظهر غير أن هذا الكاتب سرعان ما يسقط في أحبولة العجائبية المحببة لغرب ما يزال يحتفظ لنفسه بحق الاندهاش الفولكلوري أمام العالم الثالث بروايته «صلاة الغائب» يغيب الطاهر بن جلون وعيًا ثقافيًّا وفنيًّا، ويعطي الدليل على أنه استهلك مدخراته في كتابة راحلة ولا تعد بالاستمرار.
هذه صورة أحس أنها جد مقتضبة عند الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، ولكنها كانت ضرورية حتى تكتمل أمامنا البانوراما التي حاولنا رسمها للأدب المغربي الحديث، والذي يعد هذا الأدب بنسب مختلفة عضوًا فيها. على أن الملاحظة التي تفرض نفسها، في الختام هي أن هذا الأدب ذاهب في الانحسار سنة بعد أخرى، رغم استمرار أفراد يكتبون فيه، وإن عمدوا مؤخرًا إلى ترجمة أعمالهم بالعربية، ومنهم من يريد أن يصمت أو من يريد الانتقال إلى الكتابة بلغته الأم لينهي عقدة المنفى والانفصام.