البحث عن جدلية الشكل والمضمون
من المسائل الأساسية التي شغلت وتشغل الكتابة والكتَّاب في المغرب ما يطلق عليه في مضمار النقد الأدبي بالعلاقة بين الشكل والمضمون، أو عند البلاغيين والنقاد القدامى بالمبنى والمعنى، والحق أنها إحدى القضايا الهامة والخصبة في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر منه بخاصة، وهي مرتبطة أكثر بتطور النثر الحديث أكثر في أدبنا المعاصر، وارتياده مهام التعبير في أجناس مستجدة والقصة القصيرة والرواية منهما بالذات.
إن الكاتب العربي وهو يمسك بزمام اللغة النثرية لم يكن قادرًا، في بداية تعامله مع تلك الأجناس أن يشرع في طرح أسئلة نقدية حادة، أو يحاول تفكيك أدواته والتساؤل عن إمكاناته ومحاليله، ففضلًا عن أنها مسألة جمالية معقدة، فإنها أولى بالناقد منها بالكاتب أو المبدع الأدبي، ومن أسف فإن هذا الناقد انصرف أكثر من أي شيء آخر لمهمة التبليغ وإيصال المعنى أن المضمون كان ديدنه كما هو ديدن الكاتب.
وفى الأدب المغربي الحديث يطرح هذا الموضوع في تاريخ وقيم الكتابة النثرية منذ بداية استلام الكتَّاب المحدثين، مع أواخر الأربعينيات لمهمة نثر الواقع والاشتغال الأدبي ضمن المحصلة الاستعمارية بالمنافحة عن القيم الكبرى (كذا) للمجتمع المغربي، وتوظيف الكتابة في حقل الخطاب التوجيهي-السياسي.
إن قول الأدب عند متأدبينا وكتَّابنا المحدثين كان ينصرف رأسًا وسلفًا بكل المسبقات وبدونها إلى مقولة الالتزام بواقع ذي أبعاد محددة، وإلى تقمص الصوت الجهوري لمجتمع يعيش صدام القضية السياسية وجدل الوضعية الحضارية بين ثقافتين وذهنيتين لن تتهادنا وإن عرفنا المثاقفة أو الاستلاب من جانب واحد، الصوت الجهوري الذي يستوعب ذات الكاتب، ولا يكون له وجود إلا بالامتداد فيه وإلا فسيرسم بأنه حالم رومانسي والأدهى من ذلك بأنه «بعيد عن الواقع».
الواقع أجل الواقع ولا داعي هنا لطرح أي سؤال عن ماهيته أنه هذا الموجود المسبق، المتشكل من حياة الناس في وجودنا السابق وقيمها الثابتة والجاهز سلفًا خارج الكتابة وبمعزل عن منظومتها التي يفترض أن تكون خصوصية متمايزة في الهوية والتفاصيل، تفاصيل الكتابة نفسها بما سيجعلها كذلك.
ولكن أية كتابة، وهل هناك من يعترف فعلًا بوجود متأصل لها؟ إن هذا السؤال نطرحه الآن وقد كان منعدمًا تمامًا في السابق ما دام الخطاب التوجيهي-السياسي هو اللغة الوحيدة النافقة والمالكة لمشروعية التداول، إن أيديولوجية هذا الخطاب كانت وتستمر وحيدة البعد، وتعجز إن لم نقل ترفض بوجود خطاب آخر خارجها لأنها هي تقول بمواجهة المستعمر، والتصدي ﻟ «مفاسد الحضارة الغربية وموبقاتها»، وتصرح من منطلقها السلفي بضرورة الإصلاح الاجتماعي والحفاظ على مقومات الشخصية العربية الإسلامية (كذا) وحامل القلم، هو كحامل السيف أو البندقية، عليه أن يندرج في خط التصدي والمواجهة، ومن ثَم فالأهمية كلها لمقولة، وليس لكيفية هذا المقول. إن الكيفية هنا تبدو كما لو أنها ترف غير مطلوب أو من شأنه تعطيل المطلب المستعجل.
-
أولاهما تخص انعدام التخصص أو الانصراف إلى كتابة بعينها لدى الكاتب المغربي فهو الشاعر والقاص، وكاتب المقالة والافتتاحية السياسية والمناضل الحزبي والخطيب ومدير المدرسة الإصلاحية العربية، إن لنا في كاتب من الخمسينيات هو محمد الضرباني خير مثال، كما لنا في كاتب ما يزال يعاصرنا هو عبد الكريم غلاب، أسطع دليل على تبلور هذه القضية ومترتباتها على النشاط الخصوصي للكتابة الأدبية.
-
ثانية القضيتين تتصل بالبطء الشديد الذي عرفه تطور الأجناس الأدبية الحديثة في المغرب، وهو البطء الذي نواصل معاينته اليوم في صورة التحفظ من كل كتابة تجنح بعيدًا في التجديد والخروج على المألوف، وأنه إذا كانت لهذا البطء أسباب عدة ليس أقلها ظاهرة التباعد التاريخي بين المغرب والمشرق «المشرق المقدس» وعنصر الاجترار الثقافي المطلوب، والملحوظ، الاجترار على مستوى الشعور أو اللاشعور المعرفي؛ فإن صولة الخطاب التوجيهي-السياسي، كانت تكتسح كل ما عداها وتزوِّد الكتَّاب بالأعذار والذرائع للقفز على متطلبات تجميل كتاباتهم وتطقيس الأجواء الفنية التي تستدعيها هذه الكتابات.
لقد ألححنا على هذه الناحية ضمن بحثنا في رسالة للدكتوراه عن القصة المغربية، ولا بأس أن نثير المثال، مجددًا من القصة القصيرة التي نعتبرها حتى الآن، أكبر مجلي للأدب المغربي الحديث. ذلك أن التطور الفني والمضموني لهذا الجنس الأدبي، منذ منتصف الأربعينيات إلى أفق الثمانينيات؛ إذ يحمل في طياته شبه خلاصة لطبيعة أدبنا ومكوناته، فإنه يفصح عن خصوصيات أدب كانت الرسالة الاجتماعية والرسولية التبليغية مطلبه ومنشده الأساس.
ونحب اليوم أن نلفت النظر إلى ناحية لم نكن قد وعينا بها، في البحث المذكور، وهي التي تتعلق بخصوصية نشأة وتطور الأجناس الأدبية الحديثة عامة في الأدب العربي مطلقًا، ونعتقد أن المشتغلين بحقل النقد الأدبي من معاصرينا لم يولوها أية عناية من أسف ما دامت تتصل بمجال التنظير، والتنظير المعرفي غائب عندنا، وهو هنا بالنسبة إلينا يخص نوعية وطراز نشوء الكتابة الأدبية الجديدة، ومراتب نضوجها وتطورها والتبليغية وأيديولوجيا المنافعة وشعار «الالتزام المباشر» أحد الأدوات المثلى لمعالجة هذه الظاهرة، ويمكن لسوسيولوجيا الأدب، وبالذات لمنهج البنيوية التكوينية كما سنه ودربه لوسيان غولدمان أن يفيدنا بالكثير في بحثنا لهذا الموضوع من ناحية، وفي سعينا لفهم العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي.
إن التمفصل المضموني للأدب القصصي-الروائي المغربي وللقصة القصيرة منه بوجه خاص سيقدم لنا التوجه نحو المضمون الخلقي، الوعظي، المضمون الوطني، النضالي، المضمون الاجتماعي مطلقًا هذا إلى أوائل الستينيات، إن هذه المرحلة محسومة فنيًّا بغياب شرط الإبداع والحرص الاستيطيقي، ومحسومة على رصيد ووتيرة النزعة الكفاحية والتعبوية ضد المستعمر.
بيد أننا سنلاحظ ألا شيء سيحسم لاحقًا؛ إذ التولد الجماهيري للطبقة الوسطى، وانقشاع الغيبوبة الحماسية بانتقال المصالح من الهيمنة الاستعمارية إلى الفئوية الإقطاعية-البورجوازية، ثم استمرار ذات التقاليد الثقافية-الأدبية باعتبار أن الحدث السياسي ليس فاعلًا جذريًّا كما هو شائع، في تحول المناخات الأدبية، كل ذلك وسواه أوجب مجددًا على الكاتب أن يواصل بل يستمر في تحمل رسوليته التبليغية، وأن يلتزم بمزيد من الحِرفية بعوامل التبدل الطارئة، وإذا كان بالأمس قد أعار صوته للكفاح الأدبي ضد المستعمر فإن عليه اليوم أن يعير هذا الصوت للتصدي للطبقة التي احتالت على كفاح الجماهير وحصدته لصالح استغلالها الخاص، وهكذا فإن هذا الكاتب، الكاتب العربي، الكاتب المغربي العربي لا صوت له، أو هو لا يستخدم هذا الصوت للبوح الذاتي-الإنساني، وهو إن فعل، وللشاعر والشعر مقدرة انفلات أوسع في هذا المضمار، فسرعان ما تحاصره، كما ذكرنا، تهم «البُرجعاجية» أو «الرومانسية».
نستطيع أن نسرد أسماء قصاصين مثل محمد إبراهيم بوعلو، محمد بيدي، القطيب التناني، محمد اشماعو، وآخرين انصرفوا إلى القص القصير في أوائل الستينيات ليواصلوا ذات الرسالة والمنافحة القيمية-النضالية التي سبقها إليهم في المرحلة الاستعمارية عبد الله أحمد بناتي وعبد الرحمن الفاسي. وإذا كان من فرق كبير يذكر بين الأوائل والمتأخرين فهو تبدل محتوى الرسالة، وإلا فالمحتوى هو المطلب والمرام، والتبدل الآخر النسبي لأسلوب وتقنية القص، التبدل الذي ربما لم يكن مقصودًا ومحككًا بقدر ما نتج عن فعل التراكم والتأثر الحقي بالنص القصصي القصير الذي بدأ يشيع تدريجيًّا، ويتوافد على أدبنا عن طريق المجلات البيروتية والقاهرية.
وإذا كان من المؤكد أن الفن القصصي القصير كان في حاجة إلى تبلور الوضعية الاجتماعية التي تحتفل بالنماذج المأزومة لكي يعثر بدوره على نموذجه الكتابي الأكثر ملاءمة لصيغته وقالبه الفنيين؛ فإن من المؤكد أيضًا أن كتابنا في أوائل الستينيات لم يكونوا قد عثروا بعد على زاوية الرؤية المحددة، التي يمكن أن ينسكب منها الفعل الاجتماعي انسكابًا متناسبًا في المجرى الفني لنوع الأدبي، بما يحدث التوازن، ويجعل «عناصر المادة الكتابية» هي التي تتحكم في النسق الكتابي، وليس الفعل الخارجي الضاغط. هنا مرة أخرى نجد أن إعارة الكاتب لصوته يحدث قلقلة في التجربة الفنية. والخدمة الجمالية ويسقطنا في تراكم الخطاب التوجيهي-السياسي.
هنا مرة أخرى ستصبح لأيديولوجيا الطبقة الوسطى، المشكلة من العمال والطلاب وصغار التجار والفلاحين وشراذم المدن من صغار الموظفين وغيرهم ستصبح لها القوة الضاغطة على وجدان الأدباء، سيما وهؤلاء أنفسهم سيخرجون من رحم هذه الطبقة. إن هذا الانتماء كثيرًا ما يدفع الدارس إلى حتمية التعبير عن هموم الطبقة الاجتماعية، ويجعلون من هذه العلاقة رابطة ميكانيكية وقيدًا يرهن كل فعل إبداعي بالتأطير الاجتماعي والمسبقات الأيديولوجية هنا نحن أمام سوسيولوجيا للأدب رثة وسوقية يتبرأ منها لوكاتش وغولدمان معًا، ولا يطبل لها سوى جامعي فتات ماركساوية طفيلية تتحدث من خارج الخطاب الأدبي، باسم سلطة الحزب السياسي أو سلطة الشارع المجردة، والمهم دائمًا باسم عناصر يراد لها أن تتألف في وحدتها المنسجمة فتكون الذات-الموضوع الذي على الكلام الأدبي (قصة، رواية، شعر … إلخ) أن يستوعبه ويقوله.
إن نقابة بالمغرب ستقدم لنا أسطع مثال على انحشار أنف النقابوية بمعناها الحرفي، في عملية التوجيه الأدبي، وذلك بتنظيمها لجائزة للقصة المغربية، وستنال الجائزة كاتبة لم يسمع بها أحد من قبل ولا من بعد، فاطمة الراوي، وروايتها تحمل عنوان «غدًا تتبدل الأرض»، وإذا ما غضضنا الطرف عن الأخطاء الإملائية والنحْوية، ودعك من الأسلوبية في هذه «الرواية»، فإن ما يتبقى منها هو الزعيق، والهتاف والاحتجاج ضد الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية وسيادة الاستغلال للكادحين (كذا)!
على امتداد السبعينيات ستغذي الأحزاب اليسارية في صحافتها هذه النزعة، وينبغي أن يكون معلومًا دور الصحافة بالمغرب في نشر المادة الأدبية وتطويرها بأحد الأشكال، وسوف نلتقي بعشرات التعليقات، والمقالات في صحيفتي «التحرير» و«الكفاح الوطني» ثم «المحرر» و«الأهداف»، كتبها أفراد كانوا يتمرنون على النقد الأدبي في ذلك الحين، ويحاولون الاستيحاء من منطوق الخطاب السياسي لتوجيه الأدب والأدباء الوجهة التي «تخدم مصالح الجماهير الشعبية وتتصدى للإقطاع والبورجوازية ولمختلف أشكال الاستغلال والظلم الاجتماعي» (كذا)، وهكذا ومن حيث لم تكن هذه الأصوات النقدية تدري فإنها كانت تمارس جدانوفية بشعة على الإنتاج الأدبي وباسم مناداتها لمناهضة «حكم مطلق»، كانت بدورها تمارس الحكم المطلق على هذا الإنتاج فإن كان له الولاء لقيمها المفترضة فأمين، وإن جنح للغواية الأدبية فله الويل والثبور، أي يتم إسقاطه من حساب الأدب والنقد، وتلك آفات الإبداع الفني ليس في المغرب وحده بل وفي مجموع أقطار العروبة.
أخلص إلى القول بأن مسألة الشكل والمضمون لم تطرح بالمرة، وإن أثيرت فعلى وجه من السطحية عجيب، وأنه لم يكن ثمة تمييز من ناحية بين مبنى الكتابة ومعناها، ومن ناحية أخرى كان الخلط وظل سائدًا بين مضمون كتابة معينة وبين محتواها أو مادتها كتشكيل فني، ولأن الأمر كما تعتقد كان يتعلق بمفهوم معين عن الواقعية، وتلك مسألة فنية أخرى.