المسألة تتعلق بالواقعية
تمامًا، وبالضبط، وإن في سياق مختلف، نذهب إلى القول مع جورج لوكاش في حواره النقدي مع إرنست بلوخ حول التعبيرية، بأن الأمر يتعلق بالواقعية، وليس بأدب قديم وآخر جديد.
إننا لا نؤيد كلية لوكاش في طروحاته المعروضة في كتابه «مسائل الواقعية»، وفي أبحاث أخرى نتجنب عرضها لاختلاف التسميات من ترجمة إلى أخرى، ولربما أيَّدنا «بلوخ»، الذي يأخذ على ناقدنا المجري رؤيته الخصوصية ﻟ «واقعية موحدة، منسجمة ومثالية»، ولكننا، مع ذلك نؤثر أن نظل بعيدين عن صراع نقدي ذي تباعد تاريخي ورؤيوي واسع مع أنساقنا التاريخية والنصية، ونرى من المناسب أن تخضع الرؤيا النقدية، وهي تعالج العمل الإبداعي، فضلًا عن المفهومية الخصوصية، إلى المقاربة النصية الواحدة في سياق الأدب الواحد.
الأدب الواحد، أجل، وهو الأدب القصصي والروائي العربي عامة، والأدب المغربي جزء واحد منه ومكمل له، مع امتلاكه عينات متميزة، ومن ثَم فالأمر لا يخص والترسكوت، بلزاك، تولستوي، وتوماس مال، ولكن ينبغي أن ينصرف إلى نجيب محفوظ، غائب طعمة فرمان، عبد الرحمن الربيعي، صنع الله إبراهيم، أو محمد زفزاف، ومبارك ربيع، والطاهر وطار، الواقعين بين حدي المشرق والمغرب، ولكن في الصيغة المشتركة للأدب العربي المعاصر.
بيد أن الأدب إذا استثنينا التورم المتأدلج، أو الوصفية الأكاديمية العرضية، وفي أحسن الأحوال التلفيقية النقدية التي تزعم التكاملية، إذا استثنينا هذا كله فسنجده ما يزال يقع خارج التنظير والتأطير المحكمين، ويترجرج بين دروب المتاهة الانطباعية، وتحكيم ذوق واتجاه السلطة السائدة، رسمية كانت أو مؤهلة لترسم، وهكذا فهو بمعنى ما يقع ضمن مفهوم معين ﻟ «الواقعية»!
لا نريد أن نشط بعيدًا، وهذه الصفحات لا تسمح لنا بأي شطط، فنقصر حديثنا على الأدب المغربي وحده، الذي نجد أنه في مجموعه، وضمن مختلف الأنواع الأدبية التي تشكله يقع تحت طائلة مقولة «الواقعية».
في المرحلة الاستعمارية كان على الكتَّاب جميعًا أن يكونوا «واقعيين»، أي أن يتمسكوا بواقعهم هم لا الواقع الاستعماري، في مواده وظواهره المختلفة هنا تبرز أول خاصية للكتابة الأدبية من حيث إنها التصاق بشيء موجود، فتكون القيم الثابتة هي القيم الواقعية، ولم يتمكن الأدباء المغاربة، ذلك لحين، من تنبهٍ للمفارقة الصاعقة بين قيم راسخة-قديمة، وشكل مستجد، وافد. إن الأمر عندئذٍ حبيس واقعية المضمون، وهنا أيضًا نحن أمام تشوش كبير.
في مرحلة لاحقة، مع ارتفاع القرار السياسي بالاستعمار، ولكن باستمرار الهياكل الاقتصادية والثقافية للمستعمر سيصعب على الأدب أن يقفز فوق نفسه، ومحيطه ساكن لم يتبدل إلا في ظواهر محدودة، وإذا كان المؤكد أن الاستقلال السياسي قيمة كبرى، درءًا لكل تهمة باطلة من أساسها، فإن استقلال وإنتاج الظاهرة الأدبية الجديدة أكبر من مجرد القرار، إنه تفاعل أشمل وأعقد، ولسوف نحتاج على الأقل إلى خمس عشرة سنة بعد ١٩٥٦م ليسعنا الكلام عن أدب مغربي حديث يسعى لتطوير صيغة كتابية، بين نثرية وشعرية، ويقترح أو يبلور من وحي المستجدات على الساحة الاجتماعية، والظروف المعاشة، ثقافية ونفسية؛ أن يقترح إذن واقعية معلومة، هي تلك التي لا تخرج عن حدود المسطح والمرئي، تلك التي تعتبر الرصد لما هو اجتماعي مهيض الجناح، متلون بمسحة البؤس والانحدار الطبقي الدوني فعلًا نضاليًّا يعلي من موقع الكاتب في ساحة الفعل السياسي المباشر، ويجعله يحظى بشرف «الكاتب الملتزم»، ها نحن هنا مرة أخرى إزاء قيمة تسطيحية غير أدبية، وها إن النقد والأدب في المغرب حتى حدود السبعينيات لم يكن يفهم بعد ما تعنيه «الواقعية».
وإذا ما نحن حاولنا أن نبتعد عن التعريفات السكولاستيكية، ونتجنب الخوض في تاريخية المصطلح، سواء تعلق الأمر بأساسه المعرفي في الفلسفة الحسية والديكارتية، أو بتبلوره كمصطلح نقدي أدبي في الآداب البورجوازية، أو كيف استطاعت الرواية البورجوازية الغربية بين منتصف القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن تكون أمًّا ورائدة له، ومجالًا لنشأته وتطوره ٤٠ مرة أخرى حين نتجنب ذلك فللحفاظ على مقياس التباعد التاريخي الذي يخلق التمايز والخصوصية، بالضرورة، والذي يعطي أو يضع المفاهيم والمصطلحات في ميزان النسبية والتفاوت الكبيرين، إنني أحاول أن أتصور أي مجهود نظري ينبغي أن يقوم به النقاد العرب، مثلًا، ولربما تعلق هذا بمجال الأدب المقارن، لدراسة حقيقية، وليست وصفية أو تاريخية للأجناس الأدبية الحديثة في أدبنا المعاصر، وبأية مقاربات ينبغي أن تتم هذه الدراسة، لوضع اليد على الكيفية والسبل التي بدأنا نكتب بها القصة القصيرة والرواية الحديثة، ذلك أن القول، مثلًا بأن تفجر الوعي القومي البورجوازي هو السبب في منشأ الرواية (م. أ. العالم) ليس مقياسًا علميًّا وخصوصيًّا فضلًا عن أنه يصدق على ظواهر عدة، والشيء نفسه يصدق على التداول الشائع والسهل لمصطلح الواقعية، والرومانسية، والتعبيرية، وسواها من المصطلحات النقدية والتشكيلية.
وعندي، وقد أخذنا في الاعتبار كل ما ذكر، أن الواقعية هي كتابة الاحتمالات في معاينة أو معاناة أو قراءة الواقع المعاش، وأن تنوع المعالجة وضروب القراءة ينتج، بالضرورة، عدة مستويات لهذا الواقع، ويلغي بالنتيجة، وحدته المزعومة، وانسجاميته المفترضة، وهذه العملية التي تخلق تعدد المستويات تسمح بالإمكانية الخلاقة للواقع الذي يتجدد باستمرار من زاوية رؤيا العالم (التناغم بين هموم الطبقة وتطلعاتها + انتقال ذهنيتها وانعكاسها على صعيد الكتابة في الرواية مثلًا) من منظور الفنان الذي يعيش كفردية، أجل يعيش بهذه الفردية المتوحدة وإلا فهو ليس فنانًا، قمة العزلات التي تستوعب ضجيج العالم في صمت اللغة الهادرة، والصورة الحبلى بسلالة الأحلام.
ثم تسمح هذه العملية، من نحو آخر، بإنتاج مستويات مختلفة في الكتابة الإبداعية، وفقًا للجنس المطروق، فالأساليب وتقنيات السرد في المحكي الروائي تتعرض لمناوبات من التبدل والتولد تبعًا لطبيعة التجربة المرصودة والزاوية المنظورة. ثم إن علينا أن تتحدث عن مستوى ثالث ينجم عن المستويين السابقين، لنسمه جدل الكتابة.
إن العبارات السابقة ليست تطريزًا لمفهومية «نقد أدبية»، كما أنها ليست بالتجريد الذي يقفز على مرتبة النص الأساسية، ولكنها بالدرجة الأولى تجريد، أي جرد لجوهر بناء الكتابة الأدبية في المغرب، بالنسبة لتعاملها مع مصطلح ووضع «الواقعية» المشوش، ومن ثَم فسواء بالنسبة لمدخلات لنا سابقة في ندوات أدبية أو أطروحتنا لدكتوراه الدولة فنحن نعتمد، منهجيًّا ومفهوميًّا، على مسألة التراتبية النسبية لمفهوم الواقعية في الأدب المغربي الحديث، ونذهب إلى تنضيد المراتب التالية: الواقعية الاجتماعية، الواقعية النقدية، الواقعية الجديدة، وأخيرًا واقعية الكتابة أو النصية المطلقة.
وقد اعتمدت هذه التراتبية عندنا على رصيد نثري بالأساس، دون أن نغفل من نظرنا الحصة جيلًا بأكمله، ولا غرابة ما دام هذا هو العمر الطبيعي لأدبنا نحن المغاربة. وإنه لمن المستعصي علينا تمامًا أن نعرض نتائجنا كاملة ولا حتى خطاتنا النظرية التي قادت إلى تلك النتائج، وكل ما نستطيع الدفع به في هذه العجالة هو استقرار مفهوم للواقع خارج النص الأدبي هو الذي يحرك العملية الإبداعية، ويتحكم في مجرى السرد، قصة قصيرة ورواية، وهو الذي يصنع الفضاء القصصي، الروائي وما يعمر به هذا الفضاء. إنه مفهوم الجاهزية وإحباط الأدب فيما يفترض أنه أدب، إعارة الصوت وإلغاء الذات لحساب أيديولوجيا الخطاب السياسي-التوجيهي، وقيم التغيير المنشودة أو المفترضة، فيما أن الأدب المغربي، أو أي أدب كان، هو في زعمنا إذا كان لا بد له من أن يعتنق له جملة من القيم وينطلق منها، لا بد أن يؤسس ذاته من لحمه ودمه هو، وليس مما هو خارج عنه.
وبعدُ، كيف لي أن أختتم هذه المقالات عن الأدب الحديث وأنا أحس أنني، الآن فقط، بدأت ألمس الخيوط الواضحة والمشتبكة لهذا الأدب، وأن بالإمكان بعد الإحاطة البانورامية الشروع في التفكيك والتدقيق في البنيات والمكونات العامة والخاصة لهذا الأدب.
بعد هذه السلسلة من المقالات ينبغي أن يكون معلومًا لدى القارئ أننا لم نزعم أية إحاطة أو شمول، وأن أقصى ما اتجه إليه القصد والطموح، هنا، هو توضيح خارطة أدب قطر من أقطار العروبة كثيرًا ما هُمِّش أو نُظر إليه في أحسن الأحوال بعين الحدب والشفقة، ولعمري إنه يستحق أكثر من ذلك وأجل، ولسوف يبرهن بآيات مختلفة على مستواه المتقدم.
أجل، كانت بغيتنا رصد وظهور وتطور الأجناس الأدبية الحديثة في الأدب المغربي الحديث، والظاهرة النقدية الأدبية التي رافقت هذه الأجناس، ونحسب أننا وفينا بالقصد، وإن لم نفِ بالشمول الكامل، وأننا تعمدنا التركيز على المفاهيم والظواهر أكثر من تركيزنا على الأسماء، وعلى التيارات الكبرى أكثر من الروافد والجداول الدقيقة، ولكننا نزعم بصدق وجرأة أننا لم نغفل عن التعرض النوعي لظاهرة فعلية أو اسم من الأسماء الأدبية التي أثبتت حضورها النوعي في الفعل الإبداعي المغربي ضمن الإبداع الأدبي العربي عامة، كما أننا حرصنا في النهاية على الوقوف عند قضيتين نظريتين أساسيتين نعتقد أنهما من صلب بناء الأدب المغربي، ربما وجد منهما القارئ مجالًا لتأمل أوسع فيما كتبه الأدباء العرب والنقاد منذ ما يزيد عن نصف القرن المتأخر.
وأخيرًا لم يكن تقاعسًا منا إغفال الإشارة إلى جدولة مرجعية محددة، وإلا فإن كل مقالة كان بالوسع تذييلها بعشرات المراجع، ولمن يتقصد الأكاديمية والرغبة في المزيد نحيله على كتابنا «فن القصة القصيرة بالمغرب» الصادر عن دار العودة ببيروت، حيث يستطيع أن يجد بغيته كاملة.