الوقت بطيء ويجري
صاح أحد الركاب: لقد ضعنا! إن الصحراء هنا ليست مأمونة، ويمكن أن نتعرض لأخطار كثيرة.
وقال آخر: إن الليل يقترب … وسوف نكون غذاءً طيبًا لوحوش الليل.
أسرع «الكابتن» إلى الطائرة، حتى اختفى داخلها، وتلاقت نظرات الركاب. كان الشياطين يحاولون الآن أن يبثُّوا الطمأنينة بينهم … قالت «هدى»: سوف نجد طريقة ما.
فهد: أقترح أن نصعد إلى الطائرة … يجب أن نكون بجوار الطيارين حتى لا يفقدوا الأمل … إننا جميعًا في محنة.
عثمان: نعم. نعم … هيَّا بنا!
نظر الركاب إلى الشياطين قليلًا … ثم بدءوا يصعدون الواحد خلف الآخر، حتى صعدوا جميعًا … الوحيد الذي بقيَ هو «أحمد»، نظر في ساعة يده وكانت تشير إلى الخامسة عصرًا، وكان التاريخ يشير إلى يوم ٣ … شرد «أحمد» قليلًا … إن هذا يعني أن الغواصة إما قد وصلت الآن إلى الحاجز المرجاني، وإما أنها تدور حوله أو أنها تستخدم طريقةً أخرى. وإن هذا يعني أن الساعة الثالثة تقترب بسرعة وإذا لم يصلوا إلى مدينة «ماكاي» الآن، فإن المجموعة «س» سوف تؤدي مهمَّتها في هدوء … أخرج جهاز الإرسال، ثم بدأ يُجرِّب موجاتِه لالتقاط الموجة التي يمكن أن يُرسل عليها إلى المطار في مدينة «ماكاي»، عندها ظهر «عثمان» على السلم، وقال: لقد انتهت محاولاتهم بالفشل! هل وصلتَ إلى شيء؟
ودون أن ينظر إليه «أحمد» قال: إنني أحاول.
أخرج «عثمان» البوصلة التي يحملها وبدأ يُديرها، حتى يمكن أن يُحدِّد المكان … أشارت البوصلة إلى أنهم غرب بحر «المرجان»، عند خطَّي ٢١ درجة عرض و١٤٦ درجة طول. نقل هذه المعلومات إلى «أحمد» الذي كان لا يزال يحاول، ونظر له «أحمد» وقال: ينبغي أن نكون هناك الآن …!
أسرع «عثمان» إلى الطائرة، كان الركاب في حالة جزع صامتة وكان يبدو عليهم الذهول، فاقترب «عثمان» من طاقم الطائرة الذين كانوا يحاولون مع الأجهزة التي توقفت تمامًا … قال «الكابتن»: يبدو أن المطبات الهوائية كانت عنيفة إلى درجة أثرت على الأجهزة.
كان الشياطين يعاونونهم، لكن دون فائدة، نظر «فهد» في ساعة يده، ثم تعلَّقت عيناه بعينَي «هدى» و«عثمان»، لقد عرف الآن فقط أن مهمتهم الأساسية يمكن أن تفشل، فكاد يجري من مكانه لولا نظرة «عثمان» إليه … لقد فَهِم أن «أحمد» يقوم بالمهمة.
كانت الدقائق تمضي بطيئة ثقيلة. هكذا كان يشعر الركاب … أما الشياطين فقد كانت الدقائق بالنسبة لهم تجري بسرعة أكثر من المعتاد …
فجأةً دخل «أحمد»، وكانت الراحة تبدو على وجهه، وفَهِم الشياطين أنه نجح في مهمته.
اقترب من كابتن الطائرة وقال: سوف يكون كلُّ شيء على ما يرام.
نظر له «الكابتن» لحظة، ثم تساءل في دهشة: كيف؟ إن الأجهزة كلها معطلة ولا أحد يعرف أين نحن الآن!
قال «أحمد» في هدوء: إن الله موجود.
مرَّت لحظة، كان وجه الضابط يبدو كتمثالٍ بلا تعبير، غير أنه شيئًا فشيئًا بدأ يتغير ثم يرق … ثم تظهر ابتسامة هادئة، ويردد: نعم. إن الله موجود.
مضت ربع ساعة … كان الشياطين هادئين تمامًا، والركاب في حالة استسلام، ثم فجأةً قفز أحد الركاب صائحًا: هناك صوت!
بدأ بقية الركاب يستمعون إلى الصوت الذي تحدث عنه، اقترب الصوت أكثر، كان صوت طائرة، تزاحم الركاب عند الباب … ونظر الكابتن إلى «أحمد» مبتسمًا، وهو يقول: إن الله موجود.
نزل الركاب يلوحون بثيابهم إلى الطائرة التي كانت تقترب.
أعطت إشارة ضوئية، ثم بدأت تنزل في هدوء، حتى توقفت على الأرض … كانت طائرة هليوكوبتر ضخمة.
لم يتحرك أحد، حتى ظهر بعضُ ملاحي الطائرة، وتقدم قائدها، يقول: إنكم محظوظون بالتأكيد …
التقى بقائد الطائرة وقال: لقد اختفَت آثاركم بعد آخر رسالة … ويبدو أنها كانت خاطئة.
كابتن الطائرة: إذن، كيف عرفتم مكاننا؟
كابتن الهليوكوبتر: يبدو أن أحد هواة اللاسلكي قد شاهد طائرتكم، فاتصل بنا!
نظر الكابتن إلى «أحمد» الذي أسرع يقول: الله موجود.
ابتسم «الكابتن» ثم بدأ الركاب ينقلون حقائبهم، متجهين إلى طائرة الإنقاذ، ولم تمضِ نصف ساعة، حتى كانت تهبط في مطار «ماكاي» … كانت الساعة قد تجاوزت السادسة وكان هذا يعني أن على الشياطين أن يُسرعوا بالتحرك.
عرفوا من استعلامات المطار أن أقرب فندق إلى الشاطئ هو فندق «فيكتوريا» وهو نفسه الذي ينزل عنده ركاب الطائرة. وانطلقت سيارة النقل الضخمة بسرعة في طريقها إلى فندق «فيكتوريا» …
كانت مدينة «ماكاي» الساحلية تظهر من بعيد، وبدأت نسمات البحر تصل إلى الشياطين، فشعروا بالانتعاش. لم تمضِ نصفُ ساعة حتى كانوا يقفون أمام الفندق، وأسرعوا بنقل حقائبهم الصغيرة، ثم أخذوا طريقَهم إلى الحجرة التي طلبوها، وكان فندق «فيكتوريا» متوسطَ الحجم، ومع ذلك، فهو يُعتبر أكبر فنادق المدينة، التي لم تكن تضمُّ سوى ثلاثة فنادق أخرى.
في الحجرة عقد الشياطين اجتماعًا سريعًا، قال «أحمد»: نحن الآن بحاجة إلى حركة سريعة، إن الساحل هنا ممتدٌّ، ويبدو أن البحر بعيدٌ قليلًا؛ لهذا، نحن نحتاج إلى أن ننقسم إلى مجموعتين، كل مجموعة تأخذ مكانًا تتجول فيه وسوف يكون لقاؤنا هنا، في الحادية عشرة.
نظر في ساعته ثم قال: إن أمامنا متسعًا من الوقت.
نزل الشياطين بسرعة، وعند الباب، قال «أحمد»: سأتجه أنا و«عثمان» إلى شمال الساحل، و«فهد» و«هدى» يتجهان إلى الجنوب … سوف نتحرك في دائرة لا تزيد على كيلومتر، حتى لا نفقدَ الاتصالَ بعضُنا ببعض، وحتى نستطيعَ أن نتحرك كوحدة واحدة. إلى اللقاء …
تحرك «أحمد» و«عثمان» في اتجاه البحر. كانت أضواء الغروب قد بدأت تزحف على الوجوه وبدأ نوعٌ من الصمت يحيط به. كان الناس قليلين، وكان هذا يعطي الشياطين فرصةً أكبر للتحرك السريع … اتجه الاثنان إلى الشاطئ، حيث كانت أصوات الموج تأتي رقيقة … كان هناك شارعٌ رئيسي يقطع المدينة من الشمال إلى الجنوب، ثم تتقاطع معه طُرُق فرعية. سارَا في أحد هذه الطرق، وكان يبدو أن المدينة تركن إلى النوم مبكرًا، وبعد خطوات قليلة ظهر مقهًى متوسط الحجم فقال «عثمان»: هذه فرصة لنجمع بعض المعلومات.
اقتربَا من المقهى، كان هناك بعضُ الصيادين يجلسون، فدخلَا ثم طلبَا مشروبًا ساخنًا. كانت النسمات الساحلية تجعل الجوَّ مائلًا قليلًا إلى البرودة، وبدآ يستمعان إلى أحاديث الصيادين، التي لم تكن تخرج عن أحوال البحر والصيد، والتغيرات الجوية المحتمل حدوثها اليوم التالي.
لكن فجأةً ظهر أحدُ رجال الشرطة الساحليِّين، وكان يلبس ملابسَه المميزة، وتبدو على وجهه آثارُ الشمس … رفع يدَه بالتحية، فتعالَت الأصوات تردُّ التحية، ثم قال أحد الصيادين: أهلًا بالكابتن «روك» … هل تنضم إلينا؟
اقترب «روك»، وكان يبدو أن رتبة الكابتن ليست صحيحة، وإنما كانت مجردَ تحية له لا أكثر. قال «روك»: أهلًا يا «دانش» … لعل الصيد كان حسنًا اليوم!
دانش: لا بأس. نحمد الله.
جلس «روك» بين الصيادين الذين أفسحوا له مكانًا احترامًا له … ودارَت الأحاديث من جديد، لم تكن الأحاديث تعني شيئًا هامًّا إلا عندما اقترب جرسون المقهى وقال ضاحكًا: هل سمعتَ عن عرق الذهب يا كابتن «روك»؟
نظر الجميع إلى الجرسون، وتشاغل «عثمان» و«أحمد» بينما كانت آذانهما متنبهةً تمامًا لما يدور.
قال «روك»: أيُّ ذهب؟
الجرسون: سمعتُ منذ أيام أنهم عثروا على عرق ضخم من الذهب الخام في منطقة قريبة منا!
روك: لم أسمع، وقد مرَّت سنوات منذ بدأ البحث عن الذهب في المناطق القريبة لكنَّ شيئًا ضخمًا لم يظهر … إنها مجرد الكميات العادية!
ابتعد الجرسون عنهم، وانشغل في تلبية طلبات الزبائن، فقد بدأ المقهى يزدحم بالصيادين، وقال «روك»: إنني لم أسمع بحكاية عرق الذهب هذه مع أنني أقوم بالحراسة منذ أسبوع في المنطقة!
دانش: لعلها مسألة سرية!
نظر «روك» إلى أحد الصيادين، وسأل: «جروت» ماذا حدث بينك وبين الشاويش «تالبوت»؟
ابتسم «جروت» وقال: المسألة لا تعدو أن تكون مجردَ سوء تفاهم، لقد كنتُ عائدًا من البحر وقد تأخرت فيه، إنك تعرف أنه جاري منذ زمن، ومع ذلك أصرَّ على أن يرى أوراقي الرسمية الخاصة. قلت له: إنني أتركها دائمًا في البيت، فالجميع يعرفونني هنا، وأنت أولهم. قال: إن أوراقك لا بد أن تحملها، خصوصًا وأنت تتأخر في الليل … حاولت أن أتفاهم معه، لكنه رفض، واقتادني إلى قسم الشرطة، وهناك وجدت الكابتن «هدلند» الذي استاء لتصرُّف «تالبوت» وانتهى الموقف عند هذا الحد.
فجأةً ضحك «روك»، وهو ينظر إلى الباب قائلًا: ليتنا تذكرنا مليون جنيه!
كان الشاويش «تالبوت» يقف عند الباب، وأشار له «روك» لينضمَّ إليهم. نظر إليهم قليلًا، ثم نادى الجرسون، الذي اقترب منه، بينما قال «روك» بصوت مرتفع: شاويش «تالبوت» تعالَ اشرب معنا شيئًا.
نظر له «تالبوت» في جد، ثم قال: إنني في نوبة الحراسة.
عاد له الجرسون بكوب شاي، فأخذه وانصرف. نظر «أحمد» إلى «عثمان» وقال: إنه صديقنا الليلة، هيَّا بنا. ثم غادرَا المقهى خلف تالبوت الذي كان يسبقهما بخطوات.
ارتفع صوت الموج، وازدادت برودة الليل. كان الظلام شديدًا تمامًا. فتقدَّمَا حتى أصبحَا بجوار «تالبوت» الذي كان يقف الآن على الشاطئ. قال «أحمد»: مساء الخير أيها الكابتن «تالبوت».
التفت «تالبوت» إليهما، ثم أخرج بطارية صغيرة، وصوَّبها إليهما، وقال: لماذا أنتما هنا الآن؟
أحمد: إننا سائحان، جئنا نستمتع بالليل معك.
تالبوت: لكنكما تعرفان اسمي!
أحمد: سمعنا حوارك مع الكابتن «روك» في المقهى.
قال «تالبوت» بلهجة صارمة: إنه ليس كابتن، إنه مجرد مُساعِد!
عثمان: هل تسمح لنا بأن نشاركَك سهرة الليلة؟
صمتَ «تالبوت» قليلًا ثم قال: إنها مسألة خطيرة … فأنا لا أحب المزاح أثناء ساعات الحراسة.
أحمد: نحن يستهوينا ليلُ الساحل، وهذه فرصة طيبة أن نسهرَ معك … إننا أعضاء فريق الجوالة في بلادنا، وقد تعوَّدنا أن نقوم بنوبات حراسة.
هزَّ «تالبوت» رأسَه، وقال: لا بأس … لا بأس!
سار الثلاثة على الشاطئ الهادئ … كان «تالبوت» قد بدأ يُحدِّثهم عن الصيادين وعن الحراسة، وعن مغامراته التي ينتصر فيها دائمًا. فَهِم «أحمد» و«عثمان» أن «تالبوت» من النوع الذي يحب أن يتحدث عن نفسه، فتركاه يتحدث، بل إنهما كانَا يسألانِه كثيرًا حتى يأنس إليهما … فجأةً شدَّ انتباهَ «أحمد» شيءٌ، لكنه لم يستطع الإفصاح عنه ونظر إلى «عثمان»، إلا أن كلام «تالبوت» لم يكن يعطي أيَّهما فرصةَ التفاهم بالنظرات، فلم يكن أمام «أحمد» سوى حلٍّ واحد. لقد صرخ، ثم ارتمى على الأرض؛ مما جعل «تالبوت» يفزع ويُمسك به في حنان، متسائلًا: ماذا حدث أيها الصديق؟
كان «أحمد» قد ألصق أُذنه بالرمال، وهو يحاول أن يستمع. ثم فجأةً، تأكَّد لديه كلُّ شيء.