لمحة عن ممالك الشرق التي جاء ذكرها في خطابات تل العمارنة
بابل
يدل ما جاء في رسائل «تل العمارنة» وفي قائمة ملوك الكاسيين على أن لفظة «كاراينداش»
كانت علمًا على بلاد «بابل»، ويظهر أن هذا الاسم كان مرادفًا في الأصل لاسم «أرض
البحر
الجنوبية» التي كان يحتلها قوم «الكاسيين»، وهذه البلاد بعينها هي التي أُطلق عليها
فيما بعد أرض «كلديا»، ولكن عندما وسع الكاسيون أملاكهم شمالًا أُطلق على كل هذه
البقاع
اسم «كاردونياش»، ولذا نجد مثلًا الملك «سنخرب» استعمل هذا الاسم للدلالة على «أرض
البحر». وكلمة «كاراينداش» كاسية الأصل، غير أن معناها ليس معروفًا لنا تمامًا. ويظن
بعض المؤرخين أن معناها «أرض البحر» (راجع Husing, Orientalistische,
Literatur-Zeitung (1915) p. 1–4).
ومما يلفت النظر في خطابات «تل العمارنة» أن اسم «بابل» كان يُذكر غالبًا فيها باسم
«كاشي»؛ مثال ذلك ما جاء في الخطاب ٧٦ سطر … إلخ: «أن «عبدي أشرتا» الكلب الذي يبحث
لنفسه على الاستيلاء على كل المدن، يا أيها الملك، ويا أيها الشمس، فهل هو ملك «متني»
أو ملك «كاشي» الذي يبحث للاستيلاء على أرض الملك نفسه؟» وفي الخطاب ١٠٤ سطر ١٧ إلخ؛
حيث نجد: «من هم أبناء «عبدي أشرتا» عبيد الكلاب؟ فهل هم ملكا «كاشي» وملك
«متني»؟»
غير أنه مما لا شك فيه أن لفظة «كاشي» في نفس خطابات «تل العمارنة» تدل على بلاد
النوبة الأفريقية، ويحتمل أن هذا المعنى يوجد في الخطابات التالية (راجع ١٢٧ سطر
٢٢،
١٣١ سطر ١٣، ٢٤٦ سطر ٨، ٢٨٧ سطر ٧٢).
ولكن تدل على وجه التأكيد على بلاد «كوش» في الخطاب ١٣٣ سطر ١٧؛ حيث نجد الاسم
«ملوخا» مرادفًا للفظة «كاشي». هذا على زعم أن التصحيح الذي أُجري في هذين اللفظين
معترف به؛ إذ الواقع أن لفظة «ملوخا» معناها بلاد النوبة بما في ذلك «أثيوبيا»، كما
أن
لفظة «ماجان» معناها «مصر» (راجع Winckler in Keilinschrifliche
Bibliothek. V, p. XXX, Note 1).
ومن المحتمل أن لفظة «كاشي» قد نشأت في «بابل» ثم نُقلت إلى بلاد العرب وأخيرًا إلى
شمال شرقي أفريقية.
ويجوز أنه في عهد تاريخ بلاد «بابل» المتأخر أو في بابل في عهد الأسرة الكاسية قد
أُطلق على البلاد اسم «كاشي»، واتفق أن هذه التسمية كانت تُدعى بها الأسرة التي جاء
أسماء ملوكها في خطابات «تل العمارنة».
على أننا من جهة أخرى لا يمكننا أن نعرف على وجه التأكيد من هم هؤلاء الكاسيون، وعلى
أية حال يظهر أنهم كانوا جنسًا من «الهنود الجرمان»، وهم قوم عُرفوا بتربية الخيل،
وكذلك كانوا طائفة حكام، أو طبقة أرستقراطية، بينهم وبين أهل «متني» الذين حكموا
البلاد
فيما بعد قرابة جنسية، وقد استوطنوا في «بابل» حوالي عام ١٧٥٠ق.م، وبقوا يقبضون على
زمام الأمور فيها حوالي خمس وستين سنة وخمسمائة، وهؤلاء القوم لم يكونوا أصحاب ثقافة
بل
كانوا أميين، وكل ما وصل إلينا من لغتهم بعض مفردات قليلة (راجع
Delitzsch, Die Sprache der Kossaer p. 25).
ومنذ حكم الملك «سمسو ألونا» المبكر نصادف قبائل من الكاسيين مغيرين على تخوم «بابل»
الشرقية (راجع King, Letters III, 242)، غير أن فتحهم
لبلاد «بابل» كان قد حدث تدريجًا وعلى مهل. ويُعد «جانداش» (أو جدَّاش) المؤسس لأسرتهم
في «بابل»، وقد حكم بعده على أقل تقدير ثلاثة عشر ملكًا قبل أن يقبض «كاراينداش الأول»
على زمام الأمور في هذه البلاد، ويُعد أول ملك كاسي كانت له علاقات بمصر على قدر
ما
وصلت إليه معلوماتنا. وقد استهل «كاريانداش» حكمه حوالي عام ١٤٦٠ق.م؛ وبذلك كان معاصرًا
للفرعون «تحتمس الرابع» (حوالي ١٤٢٠–١٤١١ق.م)، ومن المحتمل أنه الملك الذي كتب إليه
الفرعون «تحتمس الرابع» يقول: «مكن الإخاء الطيب بيننا.» وكذلك راسل «كاراينداش»
«أمنحتب الثالث» (حوالي ١٤١١–١٣٧٥ق.م)، وزوجه من ابنته.
وأوثق تواريخ يمكن الاعتماد عليها للتأريخ الكاسي أو الأسرة البابلية الثالثة هي
التي
اقترحها الأستاذ «ألبريت» (A Revision of the Early Assyrian and Middle
Babylonian Chronology. Revue d’Assyriologie etd, Archeologie Orientale XVIII,
82–94).
وهاك التواريخ المقارنة التي وضعها:
مصر |
بابل |
آشور |
تحتمس الثالث ١٥٠١ق.م |
كاراينداش الأول ١٤٦٠ق.م |
آشير-رابي الأول ١٤٨٠ق.م |
|
|
آشير نيراري الثالث ١٤٦٠ق.م |
أمنحتب الثاني ١٤٤٧ق.م |
|
آشيربل نيششي ١٤٤٠ق.م |
تحتمس الرابع ١٤٢١ق.م |
كوريجالزو الثاني ١٤١٠ق.م |
آشير-رم نيششي ١٤٢٠ق.م |
أمنحتب الثالث ١٤١١ق٠م |
كاداشمان أنليل الأول ١٣٩٠ق.م |
آشور-نادين-آخي ١٤٠٠ق.م |
أمنحتب الرابع ١٣٧٥ق.م |
بورابورياش الثاني ١٣٧٥ق.م |
أريبا-أداد ١٣٨٠ق.م |
ونجد من بين خطابات «تل العمارنة» أحد عشر خطابًا تخص بلاد «بابل» مباشرة، منها
صورتان لخطابين أرسلهما «أمنحتب الثالث» للملك «كاداشمان أنليل الأول»، وثلاثة خطابات
تسلمها «أمنحتب الثالث» من «كادشمان أنليل الأول»، وخمسة كتبها الملك «بورابورياش
الثاني» للفرعون «إخناتون»، وكذلك لدينا خطاب يُحتمل أن «بورابورياش الثاني» قد أرسله
للفرعون «أمنحتب الثالث»، هذا ويُلحظ في خطابات أخرى من هذه الرسائل إشارات غير مباشرة
عن أحوال «بابل». وأقدم ملك بابلي جاء ذكره في خطابات «تل العمارنة» هو الملك
«كاراينداش» الأول، وهو الذي كان يراسله «أمنحتب الثالث»؛ وذلك على حسب خطاب من
«بورابورياش» للفرعون «أمنحتب الثالث»، وهذا الخطاب قد افتُتح بتذكير الفرعون أنه
منذ
عهد الملك «كاراينداش» عندما كان والداهما يتراسلان سويًّا فإنهما كانا دائمًا صديقين
متحابين، وليس لدينا خطابات في مجموعة هذه الرسائل من عهد الملك «كرويجالزو» الثاني،
ولكنا نعرف من الخطابين التاسع والتاسع عشر أنه كان والد الملك «بورابورياش» الثاني،
كما نعرف من الخطابين الحادي عشر والتاسع عشر أنه راسل مع الفرعون «أمنحتب الثالث»
وتسلم منه ذهبًا كثيرًا، وكذلك لدينا من الأدلة ما يشير إلى أنه كان على صفاء وود
مع
«أمنحتب الثالث»؛ لأنه كما ذكرنا من قبل قد رفض ما عرضه عليه الكنعانيون، وهو محالفتهم
على «أمنحتب الثالث».
١ ومعظم الخطابات التي تتناول بلاد «بابل» كانت في عهد الملكين «كادشمان
أنليل» الأول، و«بورابورياش الثاني»؛ إذ نعرف أن أخت الملك «كادشمان أنليل الأول»
قد
تزوجت «أمنحتب الثالث».
٢ وبعد ذلك تزوج نفس الفرعون من بنته.
٣ وقد رغب «كادشمان أنليل الأول» في التزوج من إحدى بنات «أمنحتب الثالث».
٤ فلم يجبه إلى مطلبه، غير أنه في نهاية الأمر قنع بالتزوج من إحدى عِلْيَة
القوم من المصريين، ويفهم مما جاء في الخطابين الثاني والثالث أن الملك «كادشمان-أنليل»
كان يسعى جهد طاقته لإرضاء فرعون مصر، غير أنه لم ينل مقابل ذلك إلا الشيء القليل؛
إذ
قد أرسل له ابنته، ولكنه لم تصله هدايا ثمينة كما كان ينتظر، وقد شكا من أن الهدايا
لم
تكن مثل التي أرسلها «أمنحتب» لوالده من قبله، وكذلك تألم من أن «أمنحتب» قد حجز
رسله
مدة طويلة في بلاطه، هذا فضلًا عن أنه لم يَدْعُه لوليمة كان يأمل أن يذهب
إليها.
ونحن نعلم من جانبنا أن «أمنحتب الثالث» لم يكن من رجال الحرب العظام؛ لأنه لم يوقد
نار حرب إلا مرة واحدة في مدة حياته، وهي التي شنَّها على بلاد النوبة في باكورة
حكمه،
ولكنه من جهة أخرى كان محبًّا لإقامة المباني العظيمة، وقد أراد أن يعقد المحالفات
بين
الدول المجاورة بالزواج، ولذلك بنى بأخت «كادشمان أنليل»، وكذلك تزوج من أميرتين
متنيتين، وهما «جليوخيبا» بنت الملك «شوتارنا»،
٥ والأميرة «تدوخيبا» بنت الملك «دوشرتا»
٦ وكذلك تزوج بنت «كادشمان أنليل الأول»،
٧ وكانت زوجه الرئيسية الملكة «تي».
ومما يسترعي النظر أن الفرعون «أمنحتب الثالث» قد أرسل خطابًا إلى الملك «كادشمان
أنليل» يشكو فيه أن الرسل التي أرسلها ليسوا من طبقة راقية، كما شكا من حقارة الهدايا
التي بعث بها إليه، وقد أرسل من جانبه هدايا ثمينة للملك «كادشمان أنليل» ووعده بإرسال
أخرى عندما تصل ابنته إلى الديار المصرية لتكون زوجًا له.
٨ ويشير كذلك «أمنحتب» إلى المراسلات التي تُبودلت بين «بابل» و«مصر» في عهد
«تحتمس الرابع»، وكان «بورابورياش» ابن الملك «كوريجلزو الثاني»،
٩ ويُحتمل أن جده هو «كاراينداش الأول»،
١٠ وأن ابنته كانت زوج «أمنحتب الرابع».
ونعرف أن «بورابورياش الثاني» كان يشكو في بداية حكمه من أن «أمنحتب الرابع» لم
يتبادل معه التهاني والهدايا، وكذلك نجده يطلب تعويضات عن قوافله التجارية، كما جاء
في
الخطاب السابع من هذه الرسائل، وهاك نصه لما فيه من أشياء طريفة تلقي بعض الضوء على
العلاقات بين ملوك مصر وجيرانهم في تلك الفترة المظلمة من تاريخ العالم:
إلى نبخوروريا (إخناتون) الملك العظيم، ملك مصر أقول. هكذا يقول «بورابورياش»
ملك «كاراينداش» أخوك: إن الحالة على ما يُرام من جهتي، ومن جهة بيتي وخيلي
وعرباتي وكبار رجالي وأرضي، وإنه منذ اليوم الذي جاء إليَّ فيه رسول أخي، كانت
صحتي ليست بالحسنة، ولذلك فإن رسوله لم يتناول قط طعامًا أو نبيذ بلح في حضرتي،
وفي الحق لو سألت رسولك فإنه سيخبرك بأن صحتي لم تكن طيبة، و… ليس لدي شيء
يجعلني «صحيح الجسم»، وعندما كانت صحتي سيئة، ولم يرفع أخي رأسي (بالسؤال عني)
فإنني عند ذلك صببت جام غضبي على أخي قائلًا «ألم يسمع أخي بأني كنت مريضًا؟
لماذا لم يرفع رأسي (أي يواسيني)؟ لماذا لم يرسل رسوله، وينظر في ذلك؟» وقد
تكلم رسول أخي كما يأتي قائلًا: «إن الطريق ليست قصيرة، وإذا كان أخوك قد سمع،
فإنه لا بد كان يرسل إليك بسرعة التحيات، والطريق لأخي بعيدة. فمن الذي كان قد
بلغه حتى كان يرسل إليك بسرعة تحياته؟ هل أخوك سمع بأنك عليل، ولم يرسل إليك
رسوله؟» وقد أجبت عليه هكذا: هل توجد لأخي العظيم طريق طويلة أو طريق قصيرة؟
فأجاب هكذا: سل رسولك فيما إذا كانت الطريق طويلة، ومن الجائز أن أخاك لم يكن
قد سمع، وعلى ذلك لم يرسل شيئًا لتحيتك. وعلى ذلك عندما استخبرت من رسولي وقال
لي إن الطريق طويلة، فإني لم أَصُب جامَّ غضبي على أخي. وكما يقولون «إنه يوجد
كل شيء في أرض أخي، وإن أخي ليس في حاجة إلى أي شيء، وكذلك فإنه يوجد في أرضي
كل شيء، وإني لست في حاجة إلى أي شيء، وقد توارثنا من الملوك علاقة طيبة من
قديم الزمن، وإنا على ذلك نبعث التحيات متبادلة، وهذه العلاقة ستدوم حقًّا
بيننا. سلامي عليك …» لقد حجزت رسولي، وقد أعطيت رسولك قرارًا وسيرته، فأعطِ
رسولي قرارًا عاجلًا واسمح له بالعودة. ولما أخبروني أن الطريق طويلة جدًّا،
وأن مورد الماء قد قُطع، وأن الجو حار، فإني لم أرسل إليك هدايا جميلة كثيرة،
وقد أرسلت فقط هدية جميلة صغيرة من اللازورد الجميل لأخي، وكذلك أرسلت خمسة
أزواج من الجياد، وإذا صار الجو حسنًا، فإني سأرسل عن طريق رسول من قبلي،
سأرسله لأخي بهدايا جميلة، وكل ما يحتاج إليه أخي. دع أخي يكتب لي! وسيحضرونها
له من بيوتهم، ولقد شرعت في عمل، وعلى ذلك كتبت لأخي، فليرسل إليَّ أخي ذهبًا
كثيرًا لأجل أن أنفذ بها عملي. والذهب الذي سيرسله أخي لا يجعله أخي في يد
ضابط، بل تلحظه عينا أخي، وليختمه أخي ويرسله! وذلك لأن الذهب الذي أرسله أخي
من قبل ولم يفحصه بنفسه، بل ختمه ضابط من ضباط أخي وأرسله — والأربعون مينًا من
الذهب التي أحضروها عندما وضعتها في الفرن لم تكن وافية الميزان (بعد صهرها)،
أما «سالمو» رسولي الذي أرسلته إليك فإن قافلته قد نُهبت مرتين؛ إذ قد نهب
«بيريامازا» واحدة وقافلته الأخرى قد نُهبت وناهبها هو «باخمو» … حاكم بلادك
وهي أرض تابعة نهبها. وعلى ذلك فليفصل أخي في هذا النزاع!
وعندما يحضر رسولي إلى حضرة أخي دع «سالمو» يحضر أمام أخي! ودعهم يدفعون له
فدية ويعوضونه عن خسارته.
ونجد ثانية «بورابورياش» يشكو من أن تجارًا قد نُهبوا في «كنعان»،
١١ ولكن على ما يظهر لم يجبه «إخناتون». وقد كان «بورابورياش» بطبيعة الحال
يتوق بدرجة خارقة الحد للذهب المصري،
١٢ وقد كان غيورًا إلى حد بعيد على حقوقه في أعين الفرعون المصري؛ فمثلًا نجده
يشكو من الآشوريين لأنهم قد أرسلوا رسلًا للفرعون «أمنحتب الرابع» على غير علم منه؛
ولذلك كتب إليه أن يعيدهم فارغي الأيدي. وفي الخطاب رقم ١١ نعلم أن «إخناتون» عندما
عرف
أن الأميرة البابلية التي كان يرغب فيها قد وافاها الأجل المحتوم، أرسل إليه
«بورابورياش» يطمئنه قائلًا إنه سيرسل إليه أخرى مع «خعا» وهي امرأة مصرية كانت في
قصر
«بورابورياش» لتكون في خدمة تلك الأميرة، والسهر على راحتها.
أما الخطاب الثالث عشر فقد ذُكرت فيه الهدية التي أرسلها ملك «بابل» مع ابنته بمثابة
مهر للفرعون «أمنحتب الرابع» وكذلك الخطاب الرابع عشر فإنه يحتوي على قائمة الهدايا
التي أرسلها ملك مصر صداقًا لابنة ملك «بابل».
ولدينا خطاب طريف (١٢) كتبته أميرة بابلية لسيدها في مصر عن أمور منزلية محضة.
وقد كانت الهدايا العادية التي يرسلها ملوك «بابل» إلى فراعنة مصر وتشمل الفضة،
١٣ واللازورد، والمواد الخشبية المموهة بالذهب، والزيت، والعربات والخيل،
والعبيد، وقد كانت المنافسة في كل زمان بين الدولتين العظيمتين مصر و«بابل» شديدة،
وتشير خطابات «تل العمارنة» إلى هذه المنافسة في كثير من رسائلها، غير أن مصر في
عهد
«إخناتون» كانت قد أهملت تلك المنافسة التي كانت بينها، وبين «بابل» والبلاد الأخرى
الأجنبية، وهذا ما نفهمه من المراسلات التي دارت بين «إخناتون» والملك «بورابورياش
الثاني»، ولكن هذا الفتور كان لانصراف «إخناتون» إلى بث الآراء الدينية السلمية،
التي
كان يقوم بنشرها.
مملكة آشور وخطابات «تل العمارنة»
لم تُذكر لفظة «آشور» في خطابات «تل العمارنة» إلا مرتين في الخطابين الخامس عشر،
والسادس عشر، ولكن مما يؤسف له أن كلمة «آشور» وُجدت مهمشة بعض الشيء في كلا الخطابين،
ويُلاحظ أن سلسلة النسب في ملوك «آشور» حتى عهد الملك «آشور وبالليت الأول» وهو الذي
يُنسب إليه هذان الخطابان، لا يمكن تنسيقها على وجه التأكيد لما يعترض المؤرخ فيها
من
عقبات، وتدل شواهد الأحوال على أن بلاد «آشور» منذ عهد «تحتمس الثالث» كانت على أية
حال
ترسل الجزية إلى مصر باسم رئيس «آشور»، ومن المحتمل أنه الملك «آشور رابي الأول»،
وقبل
ذلك نعلم أن الملك «بوزور – أشير الرابع» قد عقد معاهدة مع الملك «بورابورياش الأول»
عاهل «بابل» (راجع Synchr History I, 16; Comp. Olmstead, History of
Assyria p. 36). ومنذ عهد الملك «شوشتار» ملك «متني» حوالي عام
١٤٣٠ق.م، وهو الذي غزا بلاد «آشور» في عهد الملك «آشير – بل نششي» وفتح مدينة «آشور»
حتى عصر الملك «دوشرتا» (حوالي عام ١٣٩٠–١٣٧٠ق.م) كانت بلاد «آشور» تابعة لدولة
«متني».
ولما ارتقى عرش الملك «آشور – بالليت الأول» ملك «آشور» المقدام، وهو الذي كان
معاصرًا لعاهل «بابل» «بورابورياش الثاني» وفرعون مصر «أمنحتب الرابع»، خلع عن بلاده
نير الحكم «المتني»، وكذلك أوعز لملك «بابل» أن بلاد «آشور» قد صممت على أن تقف وحدها
محافظة على استقلال عرشها.
ويمكن ترتيب ملوك «آشور» في هذه الفترة على الوجه الآتي:
- (١)
آشير – رابي – الأول ١٤٨٠ق.م.
- (٢)
آشير – نيراري – الثالث ١٤٦٠ق.م.
- (٣)
آشير – بل – نششو ١٤٤٠ق.م.
- (٤)
آشير – ريم – نششو ١٤٢٠ق.م.
- (٥)
آشور نادين – آخي ١٤٠٠ق.م.
- (٦)
أريبا – أداد ١٣٨٠ق.م.
- (٧)
آشورو – بالليت الأول ١٣٧٠–١٣٤٠ق.م.
- (٨)
أنليل – نيراري ١٣٤٠–١٣٢٥ق.م.
والواقع أن «آشورو-بالليت» كان أول أولئك الرجال العظام الذين أسسوا الإمبراطورية
الآشورية، وكانت آشور عند توليه عرش الملك تشمل مساحة قليلة حوالي بلدة «آشور»، ولكن
عند وفاته كانت قد أصبحت «آشور» تُعَدُّ ضمن ممالك الشرق العظمى، وكان من أول أعماله
أنه عقد تحالفًا مع «آلاشيا» (قبرص)، ثم أخضع بلاد «متني» وبقيت تحت سلطانه إلى أن
جاءت
بلاد «خيتا» وخلصتها من نيرها، ووضعت على عرشها ابن الملك المسمى «ماتيو وازا». وفي
خلال عهد الملك «آشورو بالليت» أصبحت «نينوى» التي كانت في قبضة بلاد «متني» آشورية
ثانية، وقد ذكرها من قبل أنه في عهد «أمنحتب الثالث» قد أرسل «دوشرتا» الإلهة «عشتار»
ربة «نينوى» إلى مصر لشفاء هذا الفرعون، وكذلك لما رجعت الإلهة «عشتار» إلى حظيرتها
الأصلية احتفل الآشوريون بعودتها احتفالًا عظيمًا؛ وذلك بإقامة معبدها من جديد بعد
أن
كان قد أخنت عليه الأيام. أما الخطابات التي تشير إلى «آشور» في رسائل «تل العمارنة»
فإنا نشاهد فيها عظمة ملكها، فقد سمى نفسه «آشورو-بالليت» ملك آشور الملك العظيم،
وكان
يعمل على مساواته تمام المساواة مع ملك مصر، ولذلك كان يخاطبه بلفظة «أخي». ونراه
كذلك
يذكر أن «أمنحتب الرابع» عندما أرسل جده «آشور – نادين أخي» إلى مصر، فإن الفرعون
أهداه
٢٠ تلنتًا من الذهب، ولذلك فهو لا يرى بأسًا من طلب مثلها هدية له أيضًا، وقد احتج
الملك «بورابورياش الثاني» وقتئذٍ على البلاط الفرعوني، على وضع الآشوريين في تلك
المنزلة مع أنهم من أتباعه وتحت سلطانه،
١٤ غير أن فرعون مصر لم يعر هذا الاحتجاج أي التفات.
١٥
ولكن نرى فيما بعد أن الملك «آشورو-بالليت» قد انتقم لنفسه، وذلك بأن أرغم «كاراينداش
الثاني» خلف «بورابورياش الثاني» على الزواج من ابنة «آشورو-بالليت» كما جعله فضلًا
عن
ذلك يخضع لقبول طائفة جديدة من الأنظمة الخاصة بالحدود بين البلدين، وبعد ذلك بزمن
قصير
كانت الجيوش الآشورية من القوة بحيث ترك لها الخيار في وضع رجل على عرش «بابل» وهو
الملك «كوريجالزو الثالث» (١٣٤٤–١٣٢١ق.م)، وقد أرسل «آشورو–بالليت» رسلًا إلى فرعون
مصر
معهم العربات وجيادها وكذلك من اللازورد.
١٦ وقد رد الفرعون التحية بأقل منها؛ إذ أرسل بعثة للملك «آشورو-بالليت» ببعض
هدايا لم ترق في عينه، وطلب إلى الفرعون أن يغدق عليه بأحسن منها.
١٧
مملكة «متني» في خطابات تل العمارنة
منذ عهد الفرعون «تحتمس الثالث» نصادف في المتون المصرية اسم «مِتن»، وقد ذكر لنا
«ملر» أنها على نهر الفرات (
Muller A. E. p. 284.)،
والظاهر أن مملكة «متني» قبل الفتح الذي قام به «تحتمس الأول» ومن بعده «تحتمس الثالث»
كانت تقع على الضفة الشرقية من نهر الفرات وقد وحدت ببلاد «نهرين» (راجع
Gardiner Onomastica I, p. 180)، ومن المحتمل أن
بلاد «متني» يرجع أصل نشأتها إلى مدينة واحدة وهي «متن» (وإن كنا لم نعرف قط أين
موقعها)؛ وذلك لأنه ذكر في المتون عبارة: «أرض مدينة «متن»»، ويجوز أنها كانت ملكًا
لبلاد «خيتا»؛ لأن هذا التعبير الخاص لا يُطلق إلا على «الخيتيين».
١٨ ويظن الأثري «فنكلر» (
Vorlesung und Nachrichten p.
46.) أن قوم «متني» هم أقدم عنصر في شعوب «خيتا» وعلى أية حال يظهر
أنهم في الأصل فرع من جنس «خيتا» ولكن في عهد «تل العمارنة» نجد أنهم كانوا يتميزون
عن
«خيتا» الذين كانوا غالبًا معهم في مخاصمات وحروب، ويعتقد الأستاذ «برك»
Bork Mitteilung der Vorderasiatischen gesellschaft
(1909) ١، ٢ أن لغة «متني» من أصل قوقازي، وتشبه في تركيبها لغة
الأم.
أما عن الأستاذ «ينسن»
Jensen Z. A., V, 166ff. VI 34ff. فيعتقد أن لغتهم ليست بالخيتية ولا بالهندية الأوروبية، بل هي
لغة فانية
Vannic وقوقازية، وأحدث الآراء على أية حال
ترى في اللغة المتنية أنها أقدم لغة في بلاد «مسوبوتاميا»، وأنها تشبه كثيرًا اللغة
الخيتية، على أن أسماء الأعلام التي حُفظت لنا في اللغة المتنية يظهر عليها الصبغة
الآرية، وقد وضع لنا «فنكلر» بعد دراسة عميقة سلسلة نسب الملوك الذين عاصروا فراعنة
الأسرة الثامنة عشرة كما يأتي:
وتدل الكشوف الحديثة بما في ذلك كشوف الأثري «أونجاد» (
Mitteilung
derDeutschen Orientgésellschaft 21, pp. 34. 39; 26, pp. 66ff; V. S. VII; B. A.
VI, 6.) على أن قوم «متني» كانوا في «بابل» منذ عهد أسرة «حمورابي»
وكذلك كانوا هم المؤسسين لمدينة «آشور». هذا إلى أنهم أقدم سكان استوطنوا بلاد «آشور».
غير أنه مما يؤسف له توجد فجوة عظيمة في معلوماتنا عن بلاد «متني» تمتد منذ تلك الأزمان
الغابرة حتى حوالي ١٤٣٠ق.م، وذلك عندما فتح «شاوشتار» مدينة «آشور»، ومن المحتمل
أن
الملك «شاوشتار» كان معاصرًا للفرعون «أمنحتب الثاني» (حوالي ١٤٤٨–١٤٢٠ق.م). ومنذ
تلك
الفترة حتى حكم الملك «دوشرتا» كانت بلاد «متني» خاضعة لسلطان بلاد «آشور»، وقد خلف
«شاوشتار» «أرتاتاما الأول». وقد جاء اسمه في المتون المصرية (اقرن
Z.
A. VIII, 385, M. V. A. G. (1900), p. 7. A.) فقد جاء ذكره في خطاب
من «دوشرتا» (ص٢٩ سطر ١٦) أنه زوَّج ابنته للفرعون «تحتمس الرابع». أما الملك الثاني
فهو «شوتارنا» وقد زوَّج ابنته من «أمنحتب الثالث».
١٩ ومن المحتمل أنه قد خلفه ابن له يُدعى (أرتاشومارا)
Artassumara، ولكن لا نعرف عنه شيئًا.
٢٠ أما الملك «دوشرتا» الذي خلفه فهو ابن «شوتانا»، ويُعد أحسن ملك معروف لنا
من بين ملوك «متني». فلدينا غير قوائم الهدايا التي نجدها في خطابات «تل العمارنة»
سبعة
رسائل كتبها «لأمنحتب الثالث»، وخطاب بعث به لأرملة هذا الفرعون، هذا إلى ثلاثة خطابات
للفرعون «إخناتون». وكذلك نعلم من وثائق «تل العمارنة» أن رجلًا يُدعى «توخي» كان
وصيًّا على الملك «دوشرتا» عندما لم يكن قد بلغ سن الحلم، وأنه لسبب ما قد قتله
«دوشرتا» فيما بعد. وهذا الملك كان في الواقع على جانب عظيم من النشاط، فقد شنَّ
حربًا
على بلاد «خيتا».
٢١ ولكن قبل نهاية حكمه انتشرت الفوضى في بلاده مما أدى إلى انفصال «آشور» عن
بلاده، وخلع النير الذي ظل يثقل عاتقها مدة طويلة، وقد زاد الأحوال تعقدًا إعلان
أخيه
«أرتاتاما» العصيان، وانضمامه إلى جانب «خيتا» كما فعل حفيده «شوتارنا»، ونعلم كذلك
أن
الملك «دوشرتا» قد زوَّج ابنته «تدوخيبا» من «أمنحتب الثالث»، ثم بعد وفاته زوَّجها
من
ابنه «أمنحتب الرابع». والظاهر أن «دوشرتا» قد قضى عليه بمؤامرة في البلاط أعقبتها
فوضى
في بلاد «متني» وكذلك سنحت الفرصة للملك «شوبيليوليوما» عاهل «خيتا» للتدخل في شئون
بلاد «متني»، فوضع «ماتيووازَّا» أحد إخوة «دوشرتا» المنفيين على عرش ملك «متني»
وزوَّجه من ابنته، وجعل نفسه ملكًا على هذه البلاد (راجع
M.D.O.G, 35,
p. 36; Bohl in Theol Tridschrift 1916 pp. 170ff; Figulla Weidner
Keilschrifttexte I, obv. II, 48ff). وكان عهد حكم «ماتيووازا»
عهد فوضى، وقد استمرت الحال كذلك حتى عهد «أرتاتاما الثاني» أحد إخوة «دوشرتا»، وقد
خلفه ابنه «شوتارنا الثاني»، ويحتمل أن الملك الذي خلفه «أتيوجاما»، غير أننا لا
نعرف
شيئًا قط، وكما ذكرنا نعلم من المصادر المصرية أن «تحتمس الأول» و«تحتمس الثالث»
و«أمنحتب الثاني» قد شنوا حروبًا مظفرة على «نهرين» أي (بلاد «متني»). ومن أعظم
الشخصيات في التاريخ المصري في عهد «العمارنة» الملكة «تي» زوج «أمنحتب الثالث» والدة
«إخناتون»، وقد فصلنا القول في تاريخها في مكانه ونعلم أنها كانت صاحبة قدم راسخة
في
أحوال البلاد السياسية من رسائل «تل العمارنة».
٢٢ وقد تراسلت مع «دوشرتا» لمصلحة ابنها «إخناتون»،
٢٣ وكذلك كان لها أثر في توجيه سياسة كل من زوجها وابنها.
٢٤ وقد أرسل لها الملك «دوشرتا» هدايا خاصة باسمها
٢٥ وأرسل لها التحيات في مناسبات عدة في مكاتباته مع ابنها وزوجها.
٢٦
ديانة «متني»: إن معلوماتنا عن ديانة قوم «متني» ضئيلة جدًّا بالنسبة لممالك الشرق
القديم الأخرى، والظاهر أن إله هذا القوم كان يُدعى «تشب»، ويمثل هذا الإله واقفًا
على
فهد قابضًا في يده على (بلطة) مزدوجة، ونراه فيما بعد ممثلًا بمنشار في إحدى يديه،
وفي
الأخرى يحمل صاعقة ذات ثلاث شوكات وله لحية وشعر طويل. وفي زمن متأخر عن السابق كذلك
نراه ممثلًا يحمل (بلطة) مزدوجة، وصاعقة، ويقف على ظهر ثور، وأقدم ذكر لهذا الإله
«تشب»
في أسماء الأعلام نجده في المتون التي حلها «أونجاد» مثل «تشب-آري» (راجع
V. S. VII, 72, 10; Cf. Knudtzon, 24. IV,
36).
والظاهر أن اسم إلهة «متني» هي «خبا» التي لا نعرف عنها شيئًا البتة.
وقد وصلتنا معلومات كثيرة عن بلاد «متني» غير التي جاءت في خطابات «تل العمارنة»
من
نقوش «بوغاز كوي» وبخاصة عن الملك «دوشرتا» وخلفه. فنعلم من خطابات «تل العمارنة»
أن
اسم «خانيجلبات» يُطلق على بلاد «متني» غير أنه في مصادر أخرى على ما يظهر كان يُستعمل
لجزء من إمبراطورية «متني» (راجع Tiglathpileser I, Prism V,
34).
أما في مصر فكان المصري يستعمل كلمة «نهرين» مرادفًا لبلاد «متني»، أما عن شئون
«متني» الصغيرة فإن خطابات «تل العمارنة» ليس فيها ما يشفي غله، والخطابات المتنية
حوالي اثني عشر خطابًا (١٧–٢٩)، وأهم ما يلفت النظر من بينها الخطاب السابع عشر الذي
يتناول عهد «دوشرتا» والوصي على العرش «توخي» حيث نعلم شيئًا عن قتل «أرتاشومارا»
أسن
إخوة «دوشرتا». وكذلك يحدثنا عن قتل «توخي» على يد «دوشرتا»، وكما يشير إلى الحرب
التي
قامت بين «دوشرتا» ومملكة «خيتا» وعن علاقته الودية مع مصر.
والظاهر أن «توخي» كان رئيس الوزراء مدة حكم «أرتاشومارا» القصير، وكذلك في المدة
التي لم يكن فيها «دوشرتا» قد بلغ الحلم. والظاهر أن «توخي» قد قتل «أرتاشومارا»
وعمل
على قطع العلاقات الودية بين «متني» و«أمنحتب الثالث»، ومن أجل ذلك عندما تولى الحكم
قضى على «توخي» وشيعته! وهاك النص الخاص بذلك: «وعندما اعتليت عرش والدي كنت حدث
السن،
وقد قام «توخي» بإتيان المظالم في بلادي، وقتل سيده، وعلى ذلك لم يعمل عملًا صالحًا
لي،
ولا لمن كان على مصافاة معي. وإني على وجه خاص بسبب هذه المساوئ التي كانت تُرتكب
في
بلادي لم أتأخر عن قتله وقتل أخي «أرتاشومارا».»
هذا ويتناول الخطاب الثامن عشر العلاقات الطيبة بين مصر و«متني»، ويتميز الخطاب
التاسع عشر من هذه الرسائل بما أظهره «دوشرتا» بحبه المفرط للذهب المصري، وهذا نفس
ما
نراه في الخطاب العشرين بالإضافة إلى أن هذه الرسالة الأخيرة تلقي كثيرًا من الضوء
على
الطريقة التي كان يتبادل بها ملك «متني» الأميرات في مقابل الذهب المصري. ونلحظ هذه
التجارة الفريدة في بابها كذلك في الخطاب الواحد والعشرين، كما نجد في الخطاب الثاني
والعشرين قائمة بالهدايا التي أرسلها الفرعون صداقًا للأميرة «تدوخيبا». أما الرسالة
الثالثة والعشرون فتحدثنا عن كيفية عزم الإلهة «عشتار» إلهة «نَيْنَوى» على زيارة
مصر،
وأن ملك «متني» نصح للفرعون أن يحسن وفادتها ويقابها بما يليق بها من تجلة وتكريم.
٢٧
ومما يلفت النظر في هذه الخطابات الرسالة الرابعة والعشرون؛ إذ قد كُتبت بالخط
المسماري، ومع ذلك فإن ألفاظها باللغة المتنية. والظاهر أنها تبحث في موضوع مدينتين
وهما «خارواخا» و«ماشرينا»، وقد جرت المفاوضات على أن تُعطى مصر الأولى والملك «دوشرتا»
الأخرى. والخطاب الخامس والعشرون يُعد قائمة بما أرسله «دوشرتا» للفرعون «أمنحتب
الرابع» من هدايا متنية جميلة تكشف لنا عن مقدار ما كانت عليه هذه البلاد من حضارة،
وصناعات راقية، وبخاصة في اللازورد الذي كان فيها كثيرًا. وكل هذه الهدايا كانت مهرًا
لابنته التي تزوجها هذا الفرعون.
أما الخطاب السادس والعشرون فعلى جانب من الأهمية؛ إذ نجد فيه أن الملكة «تي» تلعب
فيه دور الوسيط بين مصر و«متني» وتعمل على توطيد أواصر المصادقة والمهادنة بين البلدين،
وقد كانت «دوشرتا» يرى أن كل هذا لا يتأتى إلا إذا أرسلت له مصر الهدايا العظيمة
من
الذهب المصري البراق؛ ولذلك نجد أن كثيرًا من الخطابات تضرب على هذه النغمة.
ولدينا خطاب غريب في بابه قد يُعد «جواز سفر» يُحتمل أن كاتبه هو ملك «متني» لملوك
«كنعان»، وقد حثَّ فيه كاتبه ملوك «كنعان» على السماح لرسوله المسمى «أكيا» ليذهب
إلى
أخيه ملك مصر ليواسيه.
ويعتقد البعض أن هذا الخطاب قد أرسله «دوشرتا» للفرعون «تحتمس الرابع». وبذلك يُعد
من
أقدم خطاب غير أن هذا مجرد تخمين (راجع Metrcer, The Tell El Amarna
Tablets I, p. 182).
وقد جاء ذكر «متني» كذلك في خطابات أخرى من رسائل «تل العمارنة»؛ ففي الخطاب الثامن
والخمسين مثلًا نجد أن أحد الأمراء يكتب لفرعون مصر أن ملك «متني» قد شنَّ عليه غارة،
ويحتمل أن هذا الخطاب كان موجهًا للفرعون «أمنحتب الثالث» (راجع Mercer
Ibid I, p. 243).
ويشير الخطاب الخامس والسبعون إلى تقرير كتبه «ريبادي» إلى ملك مصر يخبره فيه أن
الخيتيين قد فتحوا بلاد «متني».
ولدينا عدة خطابات نلحظ منها تدخل بلاد «متني» في «فلسطين» والإغارة عليها، فمنها
الخطاب الخامس والثمانون الذي نفهم منه أن ملك «متني» قد زحف بجيشه في بلاد «فلسطين»
حتى وصل «سو مورا»، وقد كان على وشك الاستيلاء على «جبيل» نفسها لولا أن قلة الماء
قد
عاقته فقفل راجعًا إلى بلاده، وكذلك نجد في بعض الخطابات
٢٨ أن ملك «متني» كان يساعد «عبدي أشرتا» وقوم ساجاز (خبيري) على «ريبادي»،
كما نلحظ أنه كان يريد أن يتولى على بلاد «آمور». والظاهر أن «جبيل» بعد أن أعيتها
الحيل في وصول النجدة من الفرعون اضطر أميرها لدفع جزية لدولة «متني».
٢٩ والظاهر أن أطماع بلاد «متني» وعداءها لمصر كان من قديم الزمن؛ إذ نجد في
الخطاب التاسع بعد المائة أن «ريبادي» يكتب إلى الفرعون يذكره بهذا العداء الذي كان
بين
«متني» وبين آبائه، وأن آباءه لم يتخلوا عن صداقة أجداده؛ ولذلك لا ندهش إذا وجدنا
عدة
إشارات على حسب ما ذكره «ريبادي» نفهم منها أن ملك «متني» كان على أهبة الاستعداد
للزحف
على أملاك مصر في الخارج عندما كانت تسنح له الفرصة، حتى إن «ريبادي» جعل هذه البلاد
هي
وبلاد «بابل» وبلاد «خيتا» مضرب الأمثال عنده للدول القوية التي كان يمكنها أن تغير
على
أملاك مصر، وتستولي عليها كما جاء في بعض خطاباته،
٣٠ فقد جرى على لسانه عندما كان يتحدث عن «عبدي أشرتا» عدوه الألد فيقول: «من
هو «عبدي أشرتا» الكلب الذي يجري وراء الاستيلاء على كل المدن؟ هل هو ملك «متني»
أو ملك
كاشي (بابل) حتى يعمل على الاستيلاء على أرض الفرعون لنفسه؟» وقد تكلمنا عن كل ذلك
في
موضعه.
آلاشيا «قبرص» في خطابات تل العمارنة
وردت كلمة «آلاشيا» في خطابات «تل العمارنة» في مواضع كثيرة، وقد وصلنا من هذه البلاد
عدة خطابات (٣٣–٤٠) وكلها قد سطرها ملك «آلاشيا» لملك مصر إلا خطابًا واحدًا وهو
الأخير
(٤٠)، وتدل شواهد الأحوال على أنها في أغلب الظن قد أُرسلت إلى «أمنحتب الثالث» أو
«إخناتون» واسم هذا المكان ورد في المصرية في قائمة «الكرنك» التي تركها لنا «سيتي
الأول» بلفظة «إرس».
وتدل البحوث الحديثة المتفق عليها أن هذا الاسم يُطلق على جزيرة «قبرص» وبخاصة لأنه
قد أُشير فيها إلى إله «أبوللو
آلاسيوتاس» Apollo Alasiotas وجد في قبرص (ZA, X,
380).
وكذلك في «قبرص» الحالية نجد الاسم «آلاسوس» و«وإيلاسيكا» (Knutzon p.
1077.) (راجع Ailasyka &
Alassos).
وقد كانت جزيرة «قبرص» منذ عهد «تحتمس الثالث» تابعة لمصر (راجع
Cambridge Ancient History II, p. 78).
واستمرت كذلك على ما يظهر حتى جاء عهد «إخناتون»؛ إذ نراها في هذه الفترة متحررة من
النير المصري، وأصبح ملكها يخاطب الفرعون مخاطبة الأخ لأخيه، كما نشاهد ذلك في الخطاب
الثالث والثلاثين؛ إذ يُفتتح الخطاب بالكلمات التالية: «هكذا تكلم ملك «آلاشيا» إلى
ملك
مصر: أخي اعلم أنني على ما يُرام، وأن أرضي على ما يرام … إلخ.»
وكانت بلاد «آلاشيا» موطنًا للنحاس في عالم البحر الأبيض المتوسط؛ ولذلك كان أهم
هدايا تقدمها لأرض الكنانة هو النحاس؛ كما يدل على ذلك عدة خطابات. وكانت تتطلب في
مقابل ذلك هدايا من المصنوعات المصرية، على أن هدايا ملك «قبرص» لم تقتصر على النحاس،
بل كانت ترسل كذلك الصاج وخشب الصناديق.
وكانت مقادير النحاس التي ترسلها «قبرص» عظيمة جدًّا؛ فقد أرسلت مرة مائتي تلنت
(التلنت وزنه ٥٧ رطلًا) وأخرى مائة «تلنت»، وثالثة خمسمائة «تلنت». وقد اعتذر في
المرة
الأخيرة على قلة ما أرسله بأن «ترجال» إله الموت قد قضى على العمال في بلاده، وليس
لدينا من يستخرج هذا المعدن.
٣١
ونجد غير الخطابات السالفة إشارات في رسائل «تل العمارنة» لبلاد «آلاشيا»؛ فمثلًا
نعلم من الخطاب الرابع عشر بعد المائة أن «ريبادي» ملك «جبيل» كتب «لإخناتون» ملتمسًا
منه أن يسأل الضابط المصري فيما إذا كان «ريبادي» لم يرسل إليه «الضابط المصري» من
«آلاشيا» ليخبره عن حالة البلاد، وما قام به «أزيرو» من المؤامرات عليه.
والواقع أن العلاقات بين «إخناتون» وبين «قبرص» كانت على أحسن ما يكون من الود
والمصادقة؛ إذ نجد أن ملك «آلاشيا» يرد على خطاب أرسله إليه «إخناتون» يعاتبه فيه
على
أن ملك «آلاشيا» لم يرسل إليه رسولًا لتهنئته، فكتب إليه معتذرًا بأنه لم يعلم بعيد
تنصيبه الذي أقامه الفرعون، ولذلك فإنه يرجوه ألا يأخذ ذلك عليه، وألا يكون ذلك سببًا
في تكدير صفو العلاقات الطيبة التي بينهما، وأرسل إليه رسولًا يحمل الهدايا الجمة،
وطلب
إليه أن يغدق عليه من خيرات بلاده. هذا ولدينا خطاب آخر يدل على ما كان بين البلدين
من
التحالف الوثيق؛ إذ في الخطاب الخامس والثلاثين نقرأ أن ملك «آلاشيا» كتب إلى الفرعون
يحذره من التحالف مع «خيتا» وبلاد «سنجار» (بابل)، غير أنه لم يذكر السبب لذلك، وفي
نفس
الخطاب نجد هذا الملك يطلب إلى فرعون مصر أن يرسل إلى «آلاشيا» متاع أحد رعاياه الذي
مات في مصر. ولا شك في أن مثل هذه التلميحات العابرة على قصرها تدل دلالة واضحة على
ما
كان بين البلدين من روابط وثيقة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، هذا فضلًا عن
الناحية التجارية؛ إذ لدينا خطابات تدل على أن التجارة كانت قائمة بين البلدين، فقد
كانت مصر تستورد النحاس منها، وفي مقابل ذلك ترسل إليها الفضة التي كانت معدومة في
«آلاشيا» (راجع الخطابين ٣٦، ٣٧).
والظاهر أن ملك مصر قد شك في إخلاص ملك «آلاشيا» واتهمه أنه يقوم بدسائس على مصر مع
بلاد «لوكي» (لوسيا)؛ ولذلك كتب إليه ملك «آلاشيا» مبرئًا نفسه من تلك التهمة مدعيًا
أن
بلاد «لوكي» كانت تغير على بلاده نفسها (راجع الخطاب ٣٨).
وأخيرًا من الخطابات الهامة الخطاب الأربعون الذي كتبه وزير «آلاشيا» لوزير مصر يطلب
إليه تبادل السلع، وكذلك يلتمس منه أن يفك عقال سفينة وبعض الناس لأنهم ملك عاهل
«آلاشيا». ويعتقد الأستاذ «فيبر» (راجع Knudtzon pp. 1085ff) أن هؤلاء الناس هم أعوان بلاد «لوكي» الذين اتهم الفرعون ملك
«آلاشيا» بالتواطؤ معهم على مصر.
بلاد خيتا في «خطابات» تل العمارنة
كان قوم «خيتا» منذ ستين سنة يُعدون ضمن القبائل السورية الصغيرة التي ذُكرت في
التوراة، وكان كل ما يُعرف عنهم مستقًى من كتاب «العهد القديم» أيضًا. وقد ظلت الحال
كذلك حتى عام ١٨٧٢ عندما ظهر مؤلف الأستاذ «وليم ريت» الإنجليزي عن أصل هؤلاء القوم،
وكان أول محاولة علمية في هذا الصدد، غير أن علم الآثار الخيتية لم يبتدئ فعلًا إلا
في
عام ١٨٨٦ عندما ظهرت الطبعة الثانية لهذا المؤلف الفريد في بابه. وقد جاءت المحاولة
الثانية في كشف النقاب عن هذه الأمة على يد الأثري «هوجو فنكلر» (عام ١٩٠٦-١٩٠٧م)؛
وذلك
عندما عُثر على سجلات «خيتا» في بلدة «بوغاز كوي» ومنذ هذا الوقت وبخاصة بعد الحرب
العالمية الكبرى أخذ شغف العلماء وميولهم تتجه إلى هذا العلم، ونخص بالذكر من بينهم
«هروزوني» و«فيدنر» و«سومر»؛ فقد كانوا من أعلام الفاتحين في هذا المضمار. وفي عام
١٩١١
قام «مسر شمت» بوضع سجل شامل لكل المتون الخيتية المعروفة حتى زمنه، ولكن منذ عصره
ظهرت
متون كثيرة أخرى. وعلى أية حال فإن الأخيرة مكتوبة على وجه عام بالخط المسماري في
حين
أن سجل «مسر شمت» لا يشمل إلا متونًا هيروغليفية.
ويوجد غير هذه المتون الأصلية التي كُتبت بالهيروغليفية والمسمارية التي يقوم العلماء
بدرسها مصادر أخرى عن «خيتا» وأهمها الرسوم المصرية والمتون الفرعونية التي خلَّفها
لنا
المصريون على جدران المعابد والمقابر، وكذلك توجد أسماء خيتية في المتون البابلية،
كما
توجد أسماء خيتية وفهارس في خطابات «تل العمارنة».
ولفظة خيتيين وصلتنا من كتاب العهد القديم، وقد وُجدت في الخط المسماري بلفظة «خاتي»
وفي المصرية «ختي». أما اشتقاق كلمة «خاتي» فليس مؤكدًا عند الباحثين، ويظن البعض
أن
كلمة «خاتي» تعادل كلمة «خاني» وهي بلدة واقعة على نهر الفرات، واللفظة الأخيرة هي
اختصار لكلمة «خانيجالبات» (راجع M. O. D. G, 21, pp. 50f; M. G. A.
II, 1, 29). وإذا كان هذا الرأي يمكن الأخذ به فإن أقدم مركز
للمدنية الخيتية يكون موقعه إذن على نهر الفرات، ثم انتقل فيما بعد إلى «بوغاز كوي»
بآسيا الصغرى. وعلى أية حال تدل البحوث الحديثة الآن على أن دولة «خيتا» كانت تحتوي
على
عدة إمارات أو ممالك تمتد من غربي «آسيا الصغرى» حتى السهول الواقعة شرقي نهر «دجلة»
ومن البحر الأسود حتى «دمشق».
وقوم «خيتا» على حسب ما جاء في المناظر المصرية القديمة كانوا رجالًا ذوي أنوف مقوسة
بعض الشيء وجبهة غائرة وفكين عظيمين، وذقن قصير مستدير مزدوج وجلد أحمر، وكانوا من
جنس
مختلط يجري في عروقه الدم الآري والقوقازي معًا، وقد نشئوا من خمسة أقوام وهم: (١)
قوم
«خيتا الأول» الذين كانوا يسكنون جبال «كابادوشيا»، (٢) وقوم اللويين الذين كانوا
يسكنون شمال آسيا الصغرى وكليكيا، (٣) وقوم «باتا» الذين كانوا يسكنون «بافالاجونيا»،
(٤) وقوم الحورانيين الذين كانوا متوطنين في الشمال الشرقي من «مسوبوتاميا»، (٥)
وأخيرًا قوم الكانيسيان Kanisian وقد نزحوا من إقليم
بحر «مرمرة» وأسسوا ما يُسمَّى الآن الإمبراطورية الخيتية، وقد كُتبت معظم نقوش «بوغاز
كوي» بلغتهم.
وقد أسس قوم «الكانيسيان» الذين وفدوا من إقليم بحر «مرمرة» لنفسهم دولة منذ النصف
الثاني من الألف سنة الرابعة قبل الميلاد، ويُحتمل أن عاصمتهم كانت «خانيجالبات»؛
إذ في
هذه البقعة قامت دولة، ولكنها في نهاية الأمر انقسمت قسمين، وهما الحورانيون في
«أرمنيا» والمتنيون في الجنوب الغربي منها.
وحوالي عام ٢١٠٠ق.م انفصل عن قوم «متني» دولة سُمِّيَت باسم اختُصر من اسم العاصمة؛
أي إنها سُميت «خاني» أو «خاتي» وهي دولة «خيتا». وهذه الإمبراطورية كانت في الواقع
من
عمل الملك العظيم «لابارناش» الذي كان مقره «كوشار»، وكان أول ظهور «خيتا» على مسرح
التاريخ في ساحة الوغى في عهد الملك «سامسو ديتانا» البابلي حوالي ١٩٥٦–١٩٢٦ق.م (راجع
King, Chronicles II, 22).
فقد اجتاحت جنودها «بابل» ومهدوا الطريق لسقوط أسرة «حمورابي» واستيلاء الكاسيين
على
البلاد. ومنذ ذلك العهد حتى عام ١٣٠٠ق.م كان قوم «خيتا» أصحاب نفوذ عظيم جدًّا في
العالم الشرقي القديم. وبعد هذا التاريخ بحوالي ثلاثة قرون نجد إشارة لغزو «خيتا»
هذه
البلاد «بابل» وذلك أن «أجومكا كريم» حوالي ١٦٥٠ق.م قص (راجع King,
Chronicles I, p. 149). علينا أنه استولى ثانية على صور الإله
«مردوك»، و«ساربانيتم» وهي التي كانت قد حُملت فيما مضى إلى بلاد «خاني»، وفضلًا
عن ذلك
يظهر أنه يوجد براهين على أن «خيتا» قد اتصلوا بالآشوريين قبل حكم الملك «سامسو
ديتانا»؛ وذلك لأن باني مدينة «آشور» في مملكة «آشور» وكذلك مؤسس معبد «آشور» في
نفس
المدينة كانا يحملان الاسمين الخيتيين، وهما «أوشبيا» و«كيكيا» (راجع
Beitrage Zur Assyriologie VI, Heft 5. p.
12).
على أننا لا نعرف الملك الذي خلف (لابارناش) Labarnas، ولكن على ما يظهر كان الملك الثالث في هذه السلسلة هو
«خاتوسيل الأول»، وكذلك يحتمل أن الملك الخامس هو «مورسيل الأول» الذي حكم البلاد
حوالي
عام ١٩٠٠ق.م، واتخذ «بوغاز كوي» عاصمة لملكه. وقد خلفه على عرش الملك «تليبنوش».
والظاهر أنه كان آخر هؤلاء الملوك العظام لمدة الخمسين والثلاثمائة السنة التي تلت
وفاته في تاريخ البلاد. وحوالي عام ١٧٠٠ق.م نجد دولة «خيتا» تظهر على مسرح التاريخ
كرة
أخرى عزيزة الجانب قوية الشوكة، ويظهر أن الهكسوس قد هاجروا من جزئها الغربي ليفتحوا
سوريا ومصر حوالي ١٦٥٠ق.م.
وقد ظل تاريخ بلاد «خيتا» غامضًا بعد تلك المدة قرابة قرنين من الزمن، وكان أول ما
عرفنا عنهم شيئًا بعد ذلك في عهد الفرعون «تحتمس الثالث»؛ إذ نجد أنهم كانوا يدفعون
له
الجزية كما تكلمنا عن ذلك في مكانه.
وقد كان اتصال المصريين بهم اتصالًا معروفًا لنا في عهد ملكهم المسمى «شوبيليوليوما»،
والظاهر أن جده كان ملكًا على مدينة، وقد سمى نفسه بالاسم الضخم «الملك العظيم ملك
خاتي»، ويحتمل أن هذا الملك هو «خاتوسيل» الثاني ١٤٠٠ق.م. ومهما يكن من أمر فإن
«شوبيليوليوما» كان رجلًا ذا سطوة وبأس؛ فقد فتح بلاد «متني» في عهد ملكها «دوشرتا»
ونصب مكانه «ماتيوازا» على عرش متني، وقد اعترف «أزيرو» بسلطانه، وكذلك أصبح من القوة
بحيث جعل «ريبادي» يحذر الفرعون «أمنحتب الرابع» من عظم قوته. وقد حكم من ١٣٨٠ إلى
١٣٥٠ق.م تقريبًا؛ أي إنه عاصر كلًّا من «أمنحتب الثالث» و«إخناتون»، وقد كتب للفرعون
«أمنحتب الرابع» خطابًا يخطب فيه وده ويطلب تجديد العلاقات القديمة التي كانت بين
البلدين.
وقد خلف «شوبيليوليوما» ابنه «أرانداس» (١٣٥٠–١٣٤٥ق.م)، ولكنه لم يحكم طويلًا؛ إذ
تُوفي بعد أن حكم خمس سنوات، وتولى العرش بعده «مورسيل الثاني» (١٣٤٥–١٣١٥ق.م)، وهذا
الملك أصبح ذا قوة وسلطان، وعقد معاهدة مع ممالك «أرزاوا» و«جاسجا» و«تيبيا» و«زيخريا»،
وهو الذي حارب «رعمسيس الثاني» في موقعة «قادش»، وقد أُشير إليه في متون «بوغاز كوي».
وقد رُزق أربعة ذكور وابنة واحدة، وقد امتد حكمه إلى ما بعد عهد خطابات «تل العمارنة»
(راجع Hrozny Hethitische Texte pp. 156ff. & M. D. O. G, 58, 53ff).
وقد تولى الحكم بعد «مورسيل الثاني» ابنه «موتالو» (١٣١٥–١٣٠٠ق.م) و«خاتوسيل الثالث»
(١٣٠٠–١٢٧٠ق.م) على التوالي. وقد جاء ذكر كل منهما في المعاهدة الشهيرة التي عقدها
«رعمسيس الثاني» مع «خيتا».
وقد ذكرت لنا وثائق «بوغاز كوي» أن «مورسيل الثاني» هو فاتح بلاد الآموريين، هذا
ونعلم أن معظم وثائق «بوغاز كوي» التي وصلتنا ترجع إلى عهد «موتالو». وقد اعتلى عرش
«خيتا» بعد هذا العاهل ملكان لهما شهرة عظيمة في التاريخ وهما «دودخليا» (١٢٧٠–١٢٥٠ق.م)
ثم «أرنوانتا» (١٢٥٠–١٢٤٠ق.م)، غير أنه قبل حكم أوَّلهما تُحدثنا الآثار أن آشور
في عهد
الملك «سلما نصر» الأول (١٢٧٠ق.م) ذبحت جموع الجيوش الخيتية، وقد كانت إمبراطورية
«خيتا» في تلك الفترة آخذة في التدهور حتى إنها في نهاية القرن الثامن فقدت معظم
أملاكها، وانتهى آخر نفوذ وقوة لها في عهد الملك «سرجون» عاهل «آشور» الذي فتح «كركميش»
عام ٧١٧ق.م. وهكذا خُتمت حياة دولة عظيمة حكمها ما لا يقل عن أربع وأربعين ملكًا
لا
نعلم الآن إلا القليل عنهم، ولكنا نأمل أن تكشف وثائق «بوغاز كوي» بعد حلِّها عن
الكثير
من مجد هؤلاء الملوك العظام.
والواقع أن أهل «خيتا» شعب مختلطة أجناسة، وتدل البحوث الحديثة تدريجًا على أن لغتهم
كذلك كانت مزيجًا من لغات مختلفة. ولا نزاع في أنه توجد عناصر آرية في لغتهم. هذا
ولدينا أدلة على وجود لغات عدة أخرى. ويعتقد الأستاذ «فورر» أنه توجد ثماني لغات
في
نقوش «بوغاز كوي» وهي: (١) لغة أهل «خيتا» الأول. (٢) اللغة اللووية. (٣) اللغة
البالية Balâin. (٤) اللغة الحورانية. (٥) اللغة
الكانيسية أو الإزاوانية Azawan. (٦) اللغة السومرية.
(٧) اللغة البابلية. (٨) اللغة (الماندانية) Mandaian.
ومنذ أن نشر «هروزني» رأيه عن لغة «خيتا» مبرهنًا على أنها لغة هندية جرمانية نقده
الكثير من علماء اللغة بما له وما عليه، غير أنه إلى الآن لم يكن في مقدور أي عالم
أن
يدحض رأي «هروزني» تمامًا، وعلى أية حال فإن الموضوع لا يزال معلقًا، وسيبقى كذلك
مدة
طويلة حتى تظهر بحوث جديدة.
ولا نعلم إلا القليل عن ديانة «خيتا». حقًّا لدينا أسماء آلهة كثيرة من آلهتها،
ويُلاحظ أن عقيدة وجود الإله في كل شيء كانت منتشرة، ولا أدل على ذلك من وجود ألقاب
مثل
سيدة الجبال والأنهار، ونجد أحيانًا أن الإله نفسه يحمل أسماء مختلفة في أماكن مختلفة،
فمثلًا إله الشمس كان يُسمَّى «تلبينوش» Telibinus بين
قوم الكانيسيين ويُدعى «ووي» Woi بين قوم الخيتيين
الأول، وينادي باسم «هبات» بين قوم الحورانيين.
وكان يوجد عندهم شياطين كثيرة، وإليها كان يُنسب ما يصيب الإنسان من سوء الحظ، وكان
للقوم معابد وصور كائنات مقدسة، كما كان يُحتفل بالأعياد تكريمًا للآلهة. وكان كلما
اتصل قوم «خيتا» بالأمم الأجنبية العظيمة اتخذت آلهتهم أربابًا لها؛ فمثلًا الإله
«رع»
المصري، و«آشر» و«أسخارا» الآشوريان، و«مترا» و«فارونا» و«أندرا» ويحتمل «ناساتيا»
آلهة
الهند.
وأكثر الآلهة معروفة لنا من بين آلهة «خيتا» هم إله الشمس «تشب» وإله العاصفة «ما»
(؟) والأم العظيمة و«ساندان» ابنها و«تارخو» و«خبا» و«سالو» و«تيللا».
ولدينا دلائل عديدة تشير إلى أن شعب «خيتا» كان لهم أدب عظيم يشمل أناشيد وصلوات
وأساطير وخطابات ملكية وتواريخ وعقود ورسائل، وغير ذلك من الموضوعات الأدبية، والأمل
عظيم في أن المستقبل سيكشف أمامنا أن قوم «خيتا» من أعظم شعوب العالم القديم مدنية
وثقافة.
وبعد هذه المقدمة القصيرة عن هؤلاء القوم في استطاعتنا أن نتحدث عن الفقرات التي وردت
في خطابات «تل العمارنة» خاصة ببلادهم.
والواقع أن كلًّا من قوم «خيتا» وقوم «متني» قد انفصل بعضهما عن بعض منذ زمن طويل
قبل
عهد «تل العمارنة»، وفضلًا عن ذلك أصبحا يتناضلان على السلطة، وامتداد النفوذ في
الأقاليم المجاورة.
وقد ذكرنا من قبل أن «شوبيليوليوما» المؤسس لأسرة خيتية جديدة في زمن حكم «أمنحتب
الثالث» قد فتح بلاد «متني» في عهد الملك «دوشرتا» ووضع على عرشها «ماتيوازا»، والظاهر
على أية حال أنه قبل هذه الفترة كان «دوشرتا» منتصرًا على «خيتا» (راجع الخطاب ١٧
سطر
٣٠). وقد أشار إلى هزيمة «دوشرتا» الوالي «ريبادي» في خطاب من الخطابات التي كان
يرسلها
للفرعون (٧٥ سطر ٣٦)، وفيه يحذر الفرعون من سطوة «شوبيليوليوما»، وقد كان من نتائج
ذلك
أن أصبحت الصداقة متينة العرى بين مصر و«متني» فترة من الزمن، ونرى صداها فيما دار
من
مراسلات بين البلدين في أثناء ذلك.
٣٢ وعلى أية حال نرى فيما بعد أن ملك «خيتا» كان على وئام عظيم مع كل من
«متني» وملك «كاشي» (بابل) لدرجة أنهما قد موَّنوا «ريبادي» بالذخائر التي جعلت في
استطاعته أن يهزم «عبدي أشرتا» وأولاده،
٣٣ ولكن أولاد «عبدي أشرتا» كان لهم يوم نصرهم لأنهم أصبحوا فيما بعد أقوياء
بفضل سلطان الملك القوي، بعد أن أهدوه الذهب والفضة.
٣٤ ولا نزاع في أن عبارة «الملك القوي» تشير هنا إلى ملك «خيتا» أو ملك «متني»
غير أن الرأي الأول هو الأفضل.
وتدل شواهد الأحوال على أن «خيتا» كانت دائمًا في عداء مع المصريين وإن كان الفرعون
لم يفطن لذلك في كل الأحيان؛ إذ قد حذر من شرهم في كثير من المناسبات، ولا أدل على
ذلك
مما جاء في خطاب ملك «قبرص» السالف الذكر. يُضاف إلى ذلك أن الخيتيين قد حرَّضوا
ملك
«أوجاريت» (رأس الشمرة) على أن يهجر الفرعون،
٣٥ وساعدوا قوم «أوبي» في خروجهم على الفرعون،
٣٦ وكذلك أغروا خدمًا وممثلين للفرعون على الانفصال عنه،
٣٧ هذا إلى أنهم كانوا لا يتأخرون متى سنحت لهم الفرصة عن حرق أرض الفرعون وتخريبها،
٣٨ ومع كل ذلك فإن ملك «خيتا» كان لا يتأخر في التحالف مع الفرعون، متى وجد
ذلك في مصلحته، ولا أدل على ذلك من أن «شوبيليوليوما» عندما كان العداء بينه وبين
«دوشرتا» طلب إلى فرعون مصر أن يجدد العلاقات الودية التي كانت بينه وبين «أمنحتب
الثالث» (راجع الخطاب ٤١).
ومن جهة أخرى كان الخيتيون معادين «لأزيرو»، على الرغم من محالفته لهم على «قطنا»
(راجع الخطاب ٥٥)، وكان «أزيرو» يخشى بأس ملك «خيتا» (راجع ١٥٧ سطر ٢٨)، وقد كتب
«أزيرو» للفرعون أنه لا يمكنه أن يأتي «لدودو» في البلاط المصري؛ لأن ملك «خيتا»
كان في
«نوخاشي» (راجع ١٦٥ سطر ١٨، ٣٩؛ ١٦٦ سطر ٢٢؛ ١٦٧ سطر ١١، ٢٠)، ومع كل ذلك فإن «أزيرو»
كانت تضطره الأحوال إلى التحالف مع «خيتا» كما فعل ذلك على الأقل في حالة من الحالات
(راجع ٥٥)؛ وذلك لأننا نعرف من الخطاب ١٦١ سطر ٤٩ أن الفرعون قد وبخه؛ لأنه استقبل
رسل
«ملك خيتا»، والظاهر أن جنود «خيتا» كان عليها إقبال عظيم؛ فقد استعملوا في فتح جبيل
(٢٦ سطر ٥٩) بقيادة رجل يُدعى «لوباكو»، وهم الذين استولوا على مدينتي «عمقي» و«عادومي»
(راجع ١٧٠ سطر ١٤)، كما كانوا مصدر رعب للآموريين (راجع ١٦٥ سطر ٢٠؟ ٣٥٠؛ ١٦٦ سطر
٢٤)
ولأهل «تونب» (١٦٥ سطر ٣٩؛ ١٦٦ سطر ٢٥؛ ١٦٧ سطر ٢٣).
والواقع أن أهم رسائل «تل العمارنة» الخاصة بقوم «خيتا» خلافًا لما ذكرناه هما
الخطابات الواحد والأربعون، والثاني والأربعون، وكلاهما من ملك «خيتا»، وقد تكلمنا
عن
أولهما، وهو الذي كتبه «شوبيليوليوما» لملك مصر، ويطلب فيه نفس المصادقة التي كانت
بينه
وبين الفرعون السابق، وبعد ذلك يعدد لنا الهدايا التي أرسلها لملك مصر، أما الخطاب
الآخر ٤٢ فيحتمل أن مرسله هو نفس ملك «خيتا» الذي أرسل الخطاب الأول، وإن كان ذلك
ليس
محققًا؛ لأن اللوحة مهشمة. والظاهر أن هذا الخطاب يتناول بعض سوء تفاهم كان بين
العاهلين، وقد أراد كاتب الخطاب أن ينهي هذا الخلاف، ويقلل من أهميته بإرسال هدية
خففت
من وطأة غضب الفرعون، وأسدلت عليه ستارًا زينته تلك الهدية.
وعلى أية حال فإن هذين الخطابين على الرغم من أنهما رسالتان تبودلتا بين العاهلين
العظيمين فإنهما لم يضيفا الشيء الكثير لمعلوماتنا عن أي واحد منهما. وكل ما استفدناه
تاريخيًّا منهما أننا علمنا اسم ملك خيتا «شوبيليوليوما» العظيم، وكذلك عرفنا أن
لفظة
«نبخوريا» الخيتية تقابل اسم ملك مصر (إخناتون)، وكذلك عرفنا من هذين الخطابين كيف
كانت
تُرسل التهاني، وكيف كانت تُبعث الرسل، وتعود ثانية بالتحيات والهدايا، كما تضع أمامنا
صورة ناطقة عن حرص الملوك على استيفاء التحالف والمصادقة بينهم، وكيف أن «شوبيليوليوما»
حكم في عهد كل من الفرعونين «أمنحتب الثالث» و«إخناتون».
وختامًا فإنه على الرغم من ضآلة هذه المصادر التي وجدناها في خطابات «تل العمارنة»
عن
الخيتيين، فإنا مدينون بالشكر لها؛ إذ لا بد أن تحتل مكانتها يومًا ما في بناء تاريخ
حياة أو أخلاق شعب عظيم من شعوب الشرق القديم.
دوَّنا هذه اللمحة العاجلة عن دول الشرق القديم الناشئة وعلاقاتها مع مصر
وإمبراطوريتها الضخمة ليتسنى للقراء بها تتبع الحوادث التي سردناها في هذا الجزء
من
تاريخ مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة من جهة، وليستطيع من جهة أخرى اقتفاء أثر تلك
العلاقات والحروب التي نشبت بين مصر و«خيتا» في عهد الأسرة التاسعة عشر عندما أراد
فراعنتها استعادة مجد مصر في آسيا بعد أن كاد يُقضى عليه جملة في أواخر عهد إخناتون
وأخلافه الضعفاء، لولا أن قيض الله للبلاد نخبة من رجال الحرب العظام اعتلوا عرش
مصر
متلاحقين، على رأسهم «حور محب»، ثم تلاه ملوك أسرة الرعامسة الذين أسسوا الأسرة التاسعة
عشرة، وعلى يدهم استعادت مصر بعض مجدها وعزتها القومية.