المدينة في باكورة الأسرة الثامنة عشرة
(١) الإدارة
لقد كان لسقوط دولة الهكسوس أثرٌ فعَّال في توحيد كلمة البلاد جملة، وتأسيس أسرة جديدة عام ١٨٥٠ق.م، وبتولي فراعنة هذه الأسرة مقاليد الأمور بدأ عهد جديد في الثقافة العالمية؛ وذلك أنه لما انحطَّتْ دول آسيا العظمى في ذلك الوقت، وتدهورت إلى الحضيض، برزت مصر وقتئذٍ في تاريخ العالم كالزهرة النضرة وسط الأرض المجدبة، وقد كانت مصر على اتصال وثيق بجزيرة «كريت» فسارت معها جنبًا لجنب في سبيل الثقافة إلى أعلى مكانة من الرُّقِيِّ. هذا إلى أن المصري قد شعر بمكانته الممتازة وقتئذٍ بين تلك الدول الهاوية، وعلى الرغم من أن البيت الحاكم في البلاد قد بقي كما هو فإن تولِّي «أحمس» وهو أحد أفراده عرش الملك قد عُدَّ فاتحة أسرة جديدة أُطلِق عليها اسم «الأسرة الثامنة عشرة»، كما أُطلق على المدنية التي انتشرت في هذا العصر والعصور التي تلت اسم «مدنية الدولة الحديثة».
وفضلًا عما نالتْه البلاد من استقلال واتساع رقعة سلطانها في الخارج، فإنه كان من أهم واجبات الفرعون وأشقِّها وقتئذٍ إعادة نظام الملك الذي كان قد اختلَّ ميزانه بوضع أسس متينة تسير على نهجها البلاد. وقد رأينا مقدار المقاومة التي كان لا بد من التغلُّب عليها، والحرب التي شُنَّتْ على الهكسوس لم تَقُمْ بها الأمة عن بكرة أبيها لمناهضة السيادة الأجنبية، بل قام بها في الواقع ملوك «طيبة» الشجعان، وهم الذين قد هزتهم النخوة الوطنية والعزة القومية وآزرهم في ذلك أهل الجنوب، وبخاصة جنوده الذين اتصفوا بالشجاعة والإقدام وحب الكفاح.
بقايا الحكم الإقطاعي
وإذا قَرَنَّا حالة البلاد في تلك الفترة بما كانت عليه في عهد الأسرة الحادية عشرة أو في عهد «أمنمحات الأول» عندما هبَّ لجمع شتات كلمة الأمة وقت أن كانت مقسمة مقاطعات يحكم كل واحدة منها أمير وراثي مستقل — وقد ظلت كذلك حتى قَضَى على هذا النظام جملةً «سنوسرت الثالث» — لوجدنا أن الحالة في عهد الدولة الحديثة كانت تختلف كل الاختلاف؛ إذ لم نجد لنظام الإقطاع في البلاد أي أثر فعلي بالمعنى الذي عُرف به في العهد الإقطاعي الأول، اللهم إلا في المقاطعة الثالثة من مقاطعات الوجه القبلي التي اتخذ حكامُها مدينة «الكاب» عاصمة لهم، وقد كان أشرافها على ولاء تام واتصال وثيق بملوك «طيبة» في تلك الفترة، إذ نجد في الواقع كثيرًا من حكام «الكاب» كانوا يُجاهِدون وقتئذٍ في جيش الفرعون وفي أعمال الإدارة، ويرجع تاريخ نسبهم إلى الأمراء الذين كانوا يحكمون هذه المقاطعة منذ الأسرة الثالثة عشرة وما قبلها. وهؤلاء الأمراء كانوا لا يزالون يحملون لقب الإمارة، كما ظلوا ينحتون لأنفسهم مقابر ضخمة على غرار مقابر حكام العهد الإقطاعي الأول مُزيِّنين جدرانَها بتواريخ حياتهم وما قاموا به من أعمال عظيمة، كما كانوا يرسمون عليها مناظر توضح حياة القوم اليومية من زراعة وتجارة وصناعة. وكانت إدارة هؤلاء الأمراء تمتد إلى «إسنا» وما جاورها، فكانوا يشرفون على جباية الضرائب وخزنها في المخازن الحكومية كما كانوا يقومون بتعداد المواشي، والتفتيش على الحقول الملكية. والواقع أن حكم هؤلاء الأمراء كان إداريًّا لا وراثيًّا وقتئذٍ، وكانت سلطتهم تمتد من قرب «طيبة» (برحتحور) حتى «الكاب»، وهذا يدل على أن طبقة الأمراء الوراثيين، كانوا قد اختفوا من البلاد جملة، بعد أن كانوا في عهد الدولة الوسطى عماد نظام الحكم وركنه الركين.
القضاء النهائي على بقايا الحكم الإقطاعي
حقًّا إننا نجد بعض أفراد يحملون لقب الإمارة الذي كان يحمله أسلافهم في العهد الإقطاعي الأول، غير أنهم كانوا يقطنون «طيبة» وفيها دُفنوا، وكانت ألقابهم جوفاء — ألقاب شرف وحَسْب — ولم يَبقَ واحد في مقاطعته الأصلية غير أمير «الكاب»، ففي عهد «تحتمس الأول» نجد أنه قد وَكَل أمرَ تنشئة أحد أبنائه الذي مات في حداثة سِنِّه إلى أمير «الكاب» «باحري» (راجع الجزء ٤)، وبموت الأخير انتهى حكم آخر أمير مقاطعة في البلاد جملة. وكان الفضل في القضاء عليهم يرجع إلى «أحمس الأول»، وبذلك جمع السلطة كلها في يَدِه ووحَّد كلمة البلاد، وقد ساعده في الوصول إلى ذلك جيشه المدرَّب، وطبقة الموظفين الأَكْفَاء الذين جَمَعَهم حوله من طبقات الشعب الفقيرة.
نُظُم الحكم وما طرأ عليها من تغيير
وقد كانت الصورة التي اتخذها نظام الحكم والإدارة في عهد الأسرة الثامنة عشرة هي نفس الصورة التي كانت تحكم بمقتضاها البلاد منذ القِدَم بصرف النظر عن بعض التغيرات التي كانت تستلزمها الأحوال وتُحتِّمها نظرية النشوء والتطور والارتقاء. فنجد أن أرض الكنانة كانت مقسَّمة نظريًّا قسمين وهما القطران اللذان تتألف منهما البلاد منذ أقدم العهود — الوجه القبلي والوجه البحري — وبقي كل منهما يحمل لقبه الأصلي، ولكن في الواقع نجد الوجه القبلي الذي يُنسب إليه أمراء «طيبة» كان يمتد من «إلفنتين» حتى «أسيوط» و«القوصية»، وقد كان الفرعون «تاعا» وكذلك ابنه «كامس» يحكمان هذا الإقليم، وكان هذا الإقليم بعينه مقسمًا قسمين، شمالي «طيبة» وجنوبها، وقد كان الوزير وحاكم العاصمة هو المشرف على الإدارة فيهما. أما الجزء الشمالي من البلاد الذي كان يمتد من الأشمونين حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهو الجزء الذي كان يسيطر عليه الهكسوس، فكان تحت إدارة وزير آخر يقطن «منف» (راجع ج٤، رخ مي رع).
وهذا النظام الحكومي الذي اتخذتْه البلاد في عهد الدولة الحديثة كان في ظاهره غريبًا، فقد كانت عاصمة الملك تقع بعيدًا عن وسط المملكة على مسافة سبعمائة كيلومتر من «منف» التي تُعَدُّ نقطة الوسط، وعلى مسافة مائتي كيلومتر من «أسوان» من آخر حدود مصر الجنوبية عند الشلال الأول. وهذا الوضع يَظهَر لأول وهلة مخالفًا لما تقتضيه طبيعة البلاد، ولكن السبب الذي دعا إلى اتخاذ العاصمة في هذه الجهة، هو أن «طيبة» كانت مسقط رأس ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وعاصمة ملكهم منذ نشأتهم، ولذلك لم يغادروها عندما استولَوْا على البلاد جميعًا، ومن ثَمَّ نجد أمامنا من جديد عاملًا هامًّا في سير حوادث التاريخ المصري، وهو أن تتبع كل الحوادث السياسية التي كانت بمقتضاها تسير الأحوال في البلاد ويتوقف عليها تكييف النظام لمدة قرون، يضرب بأعراقه في الوجه القبلي. ولا أدل على ذلك من أن توحيد البلاد في بادئ الأمر، وضم الوجه القبلي إلى الوجه البحري كان من عمل الملوك الحوريين الذين نشئوا في «الكاب»، وأخلافهم الذين ترعرعوا في مقاطعة «طينة»، وعندما كان الملك «مينا» قد أتمَّ حصن «منف» الذي كان يُطلَق عليه «الجدار الأبيض» كان قبره وقبور رجال بلاطه مع ذلك في مقاطعة «طينة»، هذا فضلًا عن أن مقر ملكه كان في منطقة «العرابة»، ولم تصبح «منف» عاصمة الملك ومقر الحكم إلا في عهد الأسرة الثالثة، ومن ثم صار الملوك يُدفَنون في منطقتها. ولما سقطت الدولة القديمة لم يفلح ملوك «إهناسية المدينة» طويلًا في استمرار إبقاء عاصمة ملكهم في مصر الوسطى «إهناسية المدينة الحالية»؛ إذ بعد نضال طويل خضعوا لملوك الأسرة الحادية عشرة الذين كانوا يسيطرون على إقليم «طيبة» وما جاوره، وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أصبح لمدينة «طيبة» وإلهها «آمون» مكانة عظيمة، غير أن ملوك هذه الأسرة قد اتخذوا عاصمة ملكهم في الشمال ثانية، فكان مقرهم أحيانًا في «اللشت» وأحيانًا في «الفيوم» (راجع ج٣). ولما تأسَّستِ الأسرة الثامنة عشرة نُقلت العاصمة إلى «طيبة»، وقد بقي مقر الحكم في هذه المرة في الوجه القبلي في هذه المدينة، وأصبح الإله «آمون» إله الدولة يغطي على كل الآلهة الكبرى. وقد كان إقليم الجنوب أو كما يُسمَّى «إقليم رأس الجنوب» من الوجهة الاقتصادية والزراعية في المؤخرة بالنسبة لإقليم مصر الوسطى، وبالنسبة لأرض «الدلتا» التي كانت ذات شهرة عظيمة من حيث الخصب والإنتاج، وفي الحق كانت هذه البقاع الأخيرة الزراعية مسكونة بقوم عاملين يعيشون عيشة هدوء لا يميلون للحروب، وكان في استطاعة كل حاكم قوي أن يسيطر عليهم دون مشقة أو مقاومة تذكر، في حين أن سكان الوجه القبلي كانوا قومًا ميَّالين للحروب أقوياء البنية مما أهَّلَهم لتحمُّل أعباء الحروب، ونخص بالذكر منهم أشراف مدينة «الكاب»، والدور الحاسم الذي قاموا به في محاربة أعداء البلاد. وقد كان يساعدهم في ذلك قبائل البدو النوبيون الذين اتخذهم الفراعنة حينئذٍ موردًا لتغذية جيشهم العامل، كما كان يُتَّخَذ منهم أحيانًا رجال الشرطة الذين يحافظون على الأمن في مشارف البلاد. ولقد كان السبب في بقاء النظام الذي سارت عليه البلاد في عهد الدولة الحديثة نحو مائتي عام يرجع إلى المحافظة على تنفيذ النُّظُم بِيَدٍ من حديد؛ مما لم يُعطِ مجالًا لقيام أي عصيان أو محاولة لنقض أسس الحكم.
الحكم في المقاطعات
مهامُّ الوزير
وقد كان يعمل مع الوزير بصفة دائمة رئيسان للخزانة على ما يظهر كما كان يعمل تحت إدارتهما رؤساء عمال الخزانة والمخازن والمصانع التي كانت تجمع فيها الضرائب والمصنوعات من خمر وزيت وحيوان وملابس وآلات من كل الأنواع حتى أسلحة الحرب وعرباتها والقطع الفنية التي كان يُنتجها المفتنُّون والمجوهرات، هذا فضلًا عن إدارة أعمال الفرعون الخاصة كإقامة المباني وصناعة اللبِن والإشراف على مناجم قطع الأحجار وجلب الأخشاب وصناعتها (راجع مهام الوزير الجزء الرابع).
وقد كان يُخصَّص لكل معمل أو مصنع من هذه الإدارات جيش من العمال عظيم العدد، معظمهم من الرقيق وبعضهم من المصريين، وهؤلاء العبيد قد جلبهم الفرعون من البلاد التي فتحها بحدِّ السيف في حروبه، وكان يقوم على تشغيلهم والإشراف عليهم عدد عظيم من الموظفين من كل الدرجات كل على حسب العمل الذي يشرف عليه (راجع ج٤، رخ مي رع).
(٢) الحياة الاقتصادية
والواقع أن نظام الحكومة المصرية كان يقتضي أن كل فرد في البلاد موظفًا أو غير موظف، كان يعيش من فيض الفرعون، وعلى ذلك كان كل فرد يسعى وراء كسب حظوته فينال الهبات التي كان هو وحده القادر على بذلها، وقد كانت الطريق لذلك سهلة أمام خُدَّامه الذين يخلصون في خدمته، كما كانت مفتوحة أمام جيش الموظفين الذين بهم تسير الأداة الحكومية التي يرتكز عليها كيان الدولة وبقاؤها، وقد كانت الطريق لشغل هذه الوظائف لا يفتح أبوابها إلا لأولئك الذين يتعلمون الكتابة والقراءة في المدارس. وقد كان التلميذ ينفق عمرًا طويلًا في التعلُّم كما كانت العصا أكبر وسيلة تستعمل لإتقان أسرار الكتابة ويستعملها المعلم بسخاء.
(٣) المدارس والتعليم
ومما يلفت النظر أننا نجد باستمرار في معظم الأحيان نفس المختارات مُعادة، ولا يبعد أنها كانت القِطَع المُنتَخَبة المقرَّرة التي كان لزامًا على كل فرد متعلم أن يحفظها. وحينما كان يتخطَّى التلميذ هذا الدور الابتدائي من التعليم كان يُقيَّد كاتبًا في إدارة ما، ثم يستمر في تحصيل العلم هناك على يد موظفين كبار. ويجوز أنهم كانوا رؤساءه المباشرين. وفي الدولة القديمة نجد أن الأب هو الذي كان يستمر في تلقين ابنه إذا كان من كبار الموظفين. ولا أدل على ذلك من أن «بتاح حتب» طلب إلى «الفرعون» أن يسمح له بأن يُعلِّم ابنَه ليخلفه في وظيفته. وكان على الطالب في أثناء تلقِّيه هذا التعليم العالي أن يستمر في كتابة نماذج إنشائية لا تقف عند نقل بعض سطور كما كان يفعل من قبلُ، بل تشمل قطعًا كبيرة. وقد وجدنا أن طالبًا قد كتب ثلاث صحائف في يوم واحد. وقد لوحظ أن خطأ التلميذ يُصحِّحه معلِّمه على هامش البردية، ولكن لسوء الحظ لم يكن يُعنَى المعلِّم كثيرًا بما كتبه الطالب من الألفاظ التي تُفسِد المعنى. بل جعل معظم عنايته بشكل الحروف. فكان درسه أقرب إلى تجويد الخط منه إلى دراسة اللغة وتحقيقها. وتدل معظم النسخ الخطية المدرسية بوضوح على الأغراض الحقيقية من التعليم عندهم. فكان الغرض منه أولًا: التربية، وثانيًا: المِرَان على الأعمال التجارية، وحسن الخط. والواقع أن موضوع الإملاء لم يكن بالأمر الهين كما ذكرنا؛ إذ إن نظام الكتابة الهيروغليفية أكثر استعدادًا لقبول الأغلاط ولا يَعدِله نظام آخر في العالم. من أجْل ذلك كانت العناية بهذا الموضوع عظيمة جدًّا. ولدينا كتاب يدلنا على عناية القوم وحرصهم على كتابة الكلمات الفردية كتابة صحيحة. ولا بد أن هذا الكتاب كان شائع الاستعمال في المدارس. وقد وضعه كاتب كتاب الإله في بيت الحياة («أمنموبي» بن «أمنموبي»)، وقد عُثر منه على ثلاث نسخ.
وقد اتخذ كاتب هذه الوثيقة لنفسه دور الكاتب الذي أراد أن يعلم التلميذ العلوم كافة. لذلك يحمل كتابه عنوانًا مطولًا، إذ يقول: «التعاليم التي تجعل الفرد أديبًا، وتعلم الجاهل عِلْمَ كل كائن، وكل ما صنعه «بتاح» وما سجله «تحوت»، والسماء ونجومها والأرض وما عليها، وما تخرجه الجبال، وما تجود به البحار، وما له علاقة بكل الأشياء التي تضيئها الشمس وكل ما ينمو على الأرض.» ولا جدال في أن هذا العنوان له رنة عظيمة في الآذان، إذ يجعل المستمع ينتظر معلومات ضخمة تكشف له الغطاء عن علوم هؤلاء القوم، غير أن الأمر أهون من ذلك، فالكِتَاب في حدِّ ذاته لا يخرج عن مجموعة كبيرة من أسماء وألقاب بعضُها متداول معروف، وبعضها نادر غير مألوف، وقد وُضعت بنظام مرتب ترتيبًا منطقيًّا لا بأس به، فيذكر لنا أولًا السماء وما فيها: السماء والشمس والقمر والنجوم والجوزاء، والدب الأكبر، والقرد، والمارد، والخنزيرة، والسحاب، والعاصفة، والفجر، والظلام والضح والفيء … وأشعة الشمس. ثم يتلو ذلك أشكال المياه الموجودة في الطبيعة والتربة. ثم يذكر في ست مجاميع الألفاظ التي تدل على الكائنات الحية. فيذكر العلوية منها أولًا وهي الآلهة والإلهات، والأرواح الذكور منها والإناث. ثم يُعدِّد لنا المخلوقات البشرية مرتبة على حسب مركزها في المجتمع. فنجد أولًا الملك ثم الملكة. ثم يذكر لنا بعد ذلك كبار الموظفين. فرؤساء رجال الدِّين والعلماء. ويلي ذلك السواد الأعظم من صغار الموظفين وأصحاب الحِرَف، وبعد ذلك يضع أمامنا التعابير التي يُعبَّر بها عن بني البشر والجنود وأسماء الشعوب الأجنبية والأماكن المختلفة، ثم ينتقل إلى ذكر أسماء ست وتسعين مدينة مصرية واثنين وأربعين اصطلاحًا للمباني وأجزائها. ومسميات للأراضي والحقول. ثم يُعدِّد لنا كل ما كان يأكله الإنسان أو يشربه. ويدخل في ذلك ثمانية وأربعون نوعًا من اللحم المطبوخ. وأربعة وعشرون نوعًا من الشراب، وثلاثة وثلاثون نوعًا من اللحم النِّيء. وفي الجزء الختامي الذي وُجد محطَّمًا كان قد كُتب عليه مسميات عن مختلفات الطيور وعدد عظيم من أسماء الماشية وغير ذلك من الأسماء التي جمعها «أمنموبي» بعناية ليضع أمام العالم صورة عن كل كائن، شاكرًا للإلهَيْن «بتاح» و«تحوت». ولا شك في أن غرضه من جميع تلك المسميات، وترتيبها تعليم تلاميذه كتابة المفردات كتابة صحيحة. وكما أسلفنا كانت كتابة الكلمات الأجنبية الكثيرة والأسماء الغريبة التي اندمجت بوفرة في اللغة المصرية الجديدة عقبة كئودًا حتى للطلبة المتقدمين ولذلك كانت تُبذل عناية خاصة لتعليمها. فمن ذلك أن تلميذًا من الأسرة الثامنة عشرة يضع كل همِّه في أن يكتب على لوحة أسماء في «كفيتو» (كريت)، وسنرى فيما بعد أن نماذج الخطابات التي أوردناها في هذا الكتاب هي من هذا النوع، فتشتمل على كلمات وأسماء ليتعلَّم منها التلميذ كتابة الكلمات الأجنبية كما كان يتعلم من وثيقة «أمنموبي».
والواقع أن قائمة «أمنموبي» هذه لا يمكن أن تُعدُّ فهرسًا لسرد أسماء وحسب. وإن كان هذا هو مدلولها العملي كما يَظهَر لنا من ترتيبها وتنسيقها، ولكن إذا أمْعَنَ الإنسان النظر إلى كُنْهِها بعين فاحصة وجد أنها الخطوة الأولى نحو فكرة تأليف قاموس؛ إذ نجد أن الترتيب الذي وُضعت به يَنِمُّ عن ترتيب منطقي مميز في داخل كل مجموعة. كما نلاحظ علاقة ظاهرة بين كل لفظة وما سبقتْها. وأعني بذلك أن الكاتب على الرغم من أنه لم يعطنا إيضاحًا عن تلك الألفاظ أكثر مما كنا نعرف، إلا أنه مكَّننا من أن نفهم علاقة الكلمة بسابقتها من مركزها في القائمة، فأهمية هذه الوثيقة لفهم اللغة المصرية عظيمة جدًّا لنا. ويظهر مقدار ذلك جليًّا إذا علمنا أن الفهارس بمعناها الحقيقي معدومة كلية في اللغة المصرية. حقًّا إن لدينا بعض قوائم لأنواع الكلمات على «الاستراكا» كما توجد في متون مشهورة مثل أسماء البلاد السورية التي ذكرها كاتب ورقة «أنستاسي» الأولى أو قوائم أسماء المدن التي استولى عليها فراعنة مصر في الدولة الحديثة، والتي نقشوها على جدران معبد الكرنك وغيره. وكذلك القوائم التي ذُكر فيها أسماء الأمم والأخشاب «والأشياء التي صُنعت منها على الاستراكا». على أن كل هذه القوائم، وحتى وثيقة «جلنشيف» التي نحن بصددها الآن، لا يمكن أن تُقاس بالفهارس الحقيقية البابلية.
وليس من الصعب أن يعرف الإنسان السبب في وجود هذه الفهارس في «بابل» وخلو مصر منها، وذلك أن المصري قد اخترع الكتابة بنفسه لنفسه ليعبر بها عن لغته. وقد نَمَوَا سويًّا في موطن واحد بَعِيدَيْن عن التأثر الخارجي. ولكن في بلاد النهرين أي «بابل» كان للسومريين كتابة خاصة بهم. غير أن قومًا من الساميين الذين لا يعرفون الكتابة غَزَوْا هذه البلاد. ولما أقاموا فيها رأَوا الفوائد التي تعود عليهم لو اقتبسوا منها نظام الكتابة، فأخذوه منها واستعملوه في التعبير عن لغتهم فنقلوا أولًا الكتابة السومرية الأصلية كما شاهدوها. ولكنهم قرءوها بما يُقابِلها في لغتهم «الأكادية»، وتعلَّموا بعد وقت أن يضعوا للكلمات السومرية ما يُقابِلها في لغتهم. ومن ذلك ألَّفوا لأنفسهم فهرسًا باللغتين. وقد دفعهم إلى هذا حاجتُهم المُلِحَّة للتَّفاهُم بينهم وبين القوم الذين غَزَوْهم. ولكن مصر لم تكن في يوم ما في حاجة إلى ذلك، وكذلك نجد أن اللغة الإغريقية التي تُعَدُّ من أعرق اللغات لم تأخذ في وضع قاموس للغتها إلا بعد انقضاء العصر «الكلاسيكي» فيها.
ومما سبق نعلم أن المصري كان يصنع مثل هذه القوائم ليتقن التلميذ فنَّ الإملاء، ولتبصرته بصفة عامة بكل ما يحيط به. وكان أعظم من كل ذلك عناية الأستاذ بتعليم تلميذه الأسلوب الصحيح، والتعابير المختارة لكتابة الرسائل.
من أجْل ذلك كان التلميذ ملزمًا بنقل نماذج رسائل من كل نوع حقيقية كانت أو إنشائية، ونقل النصائح والتحذيرات التي كانت تصلح لهذا النوع من التعليم، إذ كان يكتبها في شكل رسائل. ولذلك كان يُطلق على ما يُسطِّره التلميذ على ورق البردي اسم (تحرير الرسائل)، وفي غالب الأحيان كان يضع التلميذ اسمه في الخطابات الشخصية واسم معلمه كأنما هما يتراسلان، فنجد التلميذ يكتب لنفسه أنه كسلان وفاسق وعاهر وأنه يستحق مائة جلدة. ويدل ما لدينا من الوثائق على أن بعض الموظفين من مختلف الطبقات كانوا يستقلون بتعليم تلاميذهم، فنجد كاتب خزانة فرعون ورئيس سجلات الخزانة وكاتب مصنع فرعون وغيرهم لهم تلاميذ يتعلمون عليهم. ويرى القارئ في المنافسة الأدبية «ورقة أنستاسي الأولى» أن الموظف وإنْ كان في الإصطبل الملكي كان في قدرته أن يكون معلِّمًا ماهرًا.
ولقد كانت مهنة التدريس متغلغلة في نفوس الموظفين الذين يُحسنون الكتابة لدرجة أنهم كانوا يباشرونها في وسط أعمالهم؛ إذ نجد أن أحد الموظفين الذين كانوا يُشرفون على نحت قبر «رعمسيس التاسع» في صحراء وادي «أبواب الملوك» لم يُطِقْ صبرًا على ترك مهنة التعليم حتى في ذلك المكان المنعزل القفر، فكان يكتب مساعده أو تلميذه أشياء مختلفة بمثابة تمارين على شظيات كبيرة من الحجر الجيري المتخلفة من النحت، وقد عثرنا منها على نموذج خطاب وقصيدة قديمة «لرعمسيس الثاني» وصلوات جميلة لشخص اضطُهِد ظلمًا، فنرى يدَ المعلِّم قد تناولتْها بتصحيح بعض الأخطاء (راجع كتاب الأدب المصري القديم ج٢، ص١٤٢). وكان يوجد بجانب أولئك الموظفين الجيش ورجاله وما يتطلَّبه من نظام وعُدَّة وعتاد مما سنتكلم عنه فيما بعد.
(٤) سلطة الفرعون في داخل البلاد وخارجها
أما الحالة المدنية في البلاد وثروة كل أسرة فكانت تُوضع لها قوائم يُدوَّن فيها عدد أفرادها وحالتهم. ثم تأتي بعد ذلك أعمال السُّخْرة التي كانت تقتضيها الأحوال، وبخاصة لإقامة المباني العظيمة التي كانت تُقام في طول البلاد وعرضها، وقد كانت أعمال السخرة من الأعمال الأساسية. وعندما كانت تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة كان أولو الشأن يستخدمون أسرى الحرب والأفراد الذين كانوا يُجلَبون إلى البلاد بصفة جزية لإنجاز هذه الأعمال. ولقد كان من الضروري لحفظ كيان الحكومة المصرية فضلًا عن سياسة الحروب والفتح في الأقاليم المجاورة أن تُستَورَدَ منتجات البلاد الأجنبية، وبخاصة أخشاب بلاد «لبنان» اللازمة للبناء وصنع السفن المقدسة والأسطول، ومصنوعات بلاد «سوريا»، ومحاصيل مناجم بلاد «النوبة» «وشبه جزيرة سينا». أما أهم هذه المحاصيل وأعظمها لتسيير أمور الدولة فكان ما تُخرجه مناجم جبال بلاد النوبة من الذهب جزية سنوية تُدفع إلى مصر، إذ الواقع أن استيلاء الفرعون على هذا المعدن الثمين قد جعل له المنزلة الأولى التي لا تُجارَى بين كل ممالك العالم المتمدين وقتئذٍ، وبخاصة في العلاقات السياسية؛ إذ كان يُعَدُّ أمضى سلاح يَهزِم به أقوى أمة من البلاد المجاورة له، كما كان وسيلة حسنة لجمع القلوب حوله في مصر ذاتها. فقد كان الفرعون يبذل العطايا من الذهب على الدوام في هيئة حلقات وقلائد للشجعان من ضباطه وموظفيه المرة بعد المرة، ولا أدلَّ على ذلك من أمير البحر «أحمس بن أبانا» فقد نال ذهب الشجاعة سبع مرات. وكان الفرعون يكنز القناطير المقنطرة من هذا المعدن في خزائنه، وكانت محاصيل جبال بلاد النوبة لا ينضب معينُها في هذه الفترة من الزمن كما ذكرنا عند الكلام على غزوات ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وما كان يُدفع لهم من جزية من الذهب والفضة.
ولا نزاع في أن مَن نظر نظرة سطحية إلى نظام الحكم تحت سلطان ملوك طيبة يجد أنه لا يختلف عنه في عهد الأسرة الرابعة؛ أي إن الفرعون كان يسيطر على البلاد سيطرة مطلقة بوصفه إلهًا، وأن جيش الموظفين الذين كانوا يديرون دفة البلاد لا يختلفون عن نظرائهم في عهد الأسرة الرابعة، غير أن مَن فحص الأمور في عهد الأسرة الثامنة عشرة بعَينٍ ثاقبة يَجِدْ هناك فرقًا أساسيًّا بينها وبين الأسرة الرابعة؛ وذلك لأن الثقافة والحالة العالمية وطرق المعيشة قد تطورت تطورًا عظيمًا؛ إذ الواقع أن الدولة القديمة بالنسبة للدولة الحديثة كبلد محكوم حكمًا استبداديًّا مطلقًا ودولة محكومة حكمًا استبداديًّا مستنيرًا حتَّمتْه نظرية الرقيِّ والنشوء التي استلزمها مرور ما لا يقل عن ألف وخمسمائة سنة من الزمن في بلاد كانت تسير مع الزمن في تقلباته، فنجد أن الحالة الاقتصادية التي انتهتْ بالدولة القديمة إلى جعل البلاد مقسمة إقطاعات لا نجدها في عهد الدولة الحديثة، وعلى ذلك كانت السُّبُل مهيَّأة للدولة لا يعوقها أي عائق في تنفيذ أغراضها في الداخل والخارج على السواء. ومن ثَمَّ جاءت فكرة الدولة والسيطرة العالمية (أي الإمبراطورية)، ولقد كانت الفرصة سانحة؛ لأن المصريين عندما قهروا الهكسوس وطردوهم إلى «آسيا» فُتحت أمامهم الطريق لتأسيس إمبراطورية عظيمة فيها. وقد وجدنا هذه الفكرة مختمرة في رأس «أحمس الأول» عندما نَطَقَ بتصريحه عن سلطة الملكية ومدى نفوذها إنه إلهٌ وابن الإله، وليس في مقدور أحد أن يقاومه، وكل الشعوب رعاياه، وإنه يضع حدوده في نهاية العالم، على أننا نرى في الوثائق التي تركها لنا أخلافُه أنهم كانوا يُبالِغون أكثر منه في التعبير عن مدى اتساع ملكهم وسلطانهم، وعندما احتلَّتْ مصر هذه المكانة أصبحتْ خلال مدة المائة سنة التي تَلَتْ تأسيس الأسرة الثامنة عشرة، الدولة العظمى التي تقود ثقافة العالم، هذا إلى أنها في داخليتها قد خرجت بذلك من نطاق التقاليد القديمة التي كانت تحيط بوادي النيل؛ ومن ثَمَّ نضجت ثقافتُها وآتتْ أُكُلَها في كل النواحي، ومع ذلك بقيت في عظمتها وعزلتها في أحوالها الداخلية مثلًا لم يُسمَع به عن أي دولة أخرى في العالم.
(٥) سلطان الإله آمون
وعلى الرغم من ذلك كانت توجد قوة أخرى لها من الحقوق ما للفرعون، بل كان لها السيطرة عليه، وهذه هي قوة الآلهة الذين كانوا يسيطرون عليه ويَهَبونه النصر، وكلما كانت انتصارات أولئك الفراعنة عظيمة كان لزامًا عليهم أن يَزِيدوا من الهدايا وإقامة الأعياد لأولئك الآلهة الذين حَبَوْهم الفوز على الأعداء، وبهذه الوسيلة كانوا يضمنون معونتَهم في الأوقات الحرجة.
والواقع أن الاهتمام بالإكثار من المعابد الجديدة وإقامة الشعائر الدينية كان يسير على حسب ما في البلاد من ثراء ورخاء. وقد كان ازدياد المباني الدينية وانتشارها يدعو إلى ازدياد عدد الكهنة، وكانوا يحتلون بطبيعة الحال مكانة ممتازة ويعيشون من دخل أملاك المعبد الخاصة، والهِبَات التي كان يُغدِقها الفرعون عليه. وقد كان أولاد عِلْية القوم — ولم تكن بعدُ قد تكوَّنت طائفة كهانة وراثية — يَجِدُّون في البحث للانخراط في سلك كهنة المعبد، وقد كان أثر ذلك أنْ فُصلت كل ممتلكات المعابد عن أملاك الدولة، وأصبحت لا تَدفَع أية ضرائب، وكانت مع ذلك تُوضع تحت المراقبة الملكية كما ذكرنا آنفًا، كما كانت الترقيات بين رجال الكهانة من أدنى درجة — والد الإله ثم المطهر — حتى أعلى رتبة وهي «رئيس كهنة آمون» يقوم الفرعون بالتعيين فيها، فمثلُها في ذلك مثل الوظائف الأخرى في مصالح الدولة. ولكن حقيقة الأمر أن نظام الكهانة هذا قد أوجد حكومة داخل الحكومة المصرية كانت تسير على أسس متينة، وكان رجالها يُعَدُّون المنفِّذين لأوامر الإله مما جعلها تمتاز عن حكومة البلاد الدنيوية بما يُحيطها من السرية والرهبة التي لا يمكن انتهاك حرمتها. ولقد كان من جرَّاء ذلك أنْ أوْجد فراعنة الدولة الحديثة قوة عظيمة نَمَتْ وترعرعت فوق رءوسهم وهم في غفلة لا يدرون أنهم بذلك قد وضعوا بذورًا لإنبات قوة عظيمة في البلاد انتهتْ بما جمعت من سلطان وقوة إلى القبض على زمام الحكم في البلاد بقيام دولة الكهنة كما سنرى بعد.
ونجد في هذه النقوش التغير البارز الذي ظهر في هيئة الحكومة. وليس لدينا مثال خاص في هذا الموضوع. وقد جمع الأستاذ «أرمان» بعض معلومات مختصرة في هذا الصدد في كتابه «مصر» (“Aegypten und Aegyptischen Leban”, p. 114–145). أما المعلومات التي نجدها في العصور المتأخرة من عهد الدولة الحديثة، (مثل محاضر القواضي في عهد الأسرة العشرين) فيجب ألا نتخذها أساسًا للحكم على سير الأمور في العهد الذهبي للدولة الحديثة؛ وذلك لأن القوانين كانت قد تغيرت. والمصادر الأصلية لنظام الحكم في عهد الأسرة الثامنة عشرة هي النقوش التي نجدها في مقبرة الوزير «رخ مي رع» وما شاكلها من نقوش الوزراء الآخرين في ذلك العهد (راجع ج٤ Davies, “The Tomb of Rekh-mi-Ré”. PP. 84–94; “Newberry, The Life of Rekh-mara”, & Sethe, Urk. p. 1086ff. & Breasted, A. R. II, §ff).
ويظن الأستاذ «زيته» أن تنصيب الوزير يرجع عهده إلى الدولة الوسطى، كما سبق شرح ذلك (راجع مصر القديمة ج٣).