الإمبراطورية المصرية في آسيا
تحدثنا في الفصل السابق عن نفوذ مصر في إقليمَيْ بلاد النوبة والسودان (كوش)، وكانا يؤلِّفان جزءًا من وادي النيل الذي تسيطر عليه مصر وقتئذٍ، ولا بد لنا الآن من إلقاء نظرة خاطفة على ما كان لمصر من سلطان ونفوذ في الأقاليم الآسيوية المتاخمة لها، وهي الأقاليم التي فتحها فراعنة مصر في «الأسرة الثامنة عشرة». وإذا رجعنا إلى الوراء قليلًا علمنا أن فراعنة مصر كانوا يعملون منذ الدولة الوسطى على تأسيس إمبراطورية مصرية في الأصقاع الآسيوية المجاورة للكنانة. وقبل أن نبيِّن مدى التوسع المصري ونفوذه اللذين أحرزهما فراعنة «الأسرة الثامنة عشرة» في آسيا يجب أن نفهم المقصود من كلمة إمبراطورية في تلك الأزمان القديمة بالنسبة لمعناها الحديث؛ حتى يتسنَّى للقارئ أن يفهم موقف مصر في هذه الأقاليم الشاسعة ويعرف كيف بسطت سلطانَها على تلك الأصقاع، وسنستنبط ذلك مما فصلنا القول فيه من قبل.
ولا نزاع في أن أول عاهل أسَّس بنيان هذه الإمبراطورية على قواعد ثابتة هو الفرعون «تحتمس الثالث»، إذ كانت رقعة فتوحه تنبسط من أعالي نهر دجلة والفرات شمالًا وتمتد جنوبًا حتى الشلال الرابع.
(١) درجات الحكم الإمبراطوري
وكلمة إمبراطورية في معناها العام تعني: درجة ما من السلطان والنفوذ يعترف بهما سكان البلاد الأجنبية المقهورة على أمرها للأمة الغالبة صاحبة القوة. ولكن السؤال الذي يُهمُّنا هنا هو: ما مقدار هذا النفوذ وما حدوده؟ والبحوث الحديثة تدل على وجود ثلاث درجات من النفوذ الاستعماري يُطلَق على كل منها نفوذ إمبراطوري. فالحكم الإمبراطوري في أدق معانيه وأعلى درجاته كما يفهمه العالَم الحديث وبخاصة فرنسا وإنجلترا يعني التسلُّط على إقليم أو عدَّة أقاليم بوساطة قوات من الجنود تُقيم فيها في جهات مختلفة، هذا إلى إدارة شئونها الداخلية المباشرة بموظفين وعمال تنصبهم الدولة المسيطرة، وهذا الصنف من النظام الإمبراطوري يبلغ الكمال عندما يصبح سكان هذه الأقاليم خاضعين للتجنيد الحربي كما يصير نظامهم المدني وفق نظام الدولة صاحبة السيادة فيجري على سُنَّتِه أهل هذه الأقاليم الخاضعة. غير أننا إذا رجعنا إلى العهود القديمة من التاريخ نجد أن هذا النظام الإمبراطوري الذي حدَّدنا معانيَه لم يكن معمولًا به في عهد أية دولة من الدول القديمة التي سبقت عهد الإسكندر الأكبر، بل في الواقع لم يتحقق إلا جزئيًّا في عهد الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث.
والدرجة الثانية من درجات الحكم الإمبراطوري أقل تنسيقًا من السابقة؛ إذ كانت تتمثل في ارتباط دائم بين الدولة صاحبة السيادة وبين الأقاليم التي تنشر سلطانها عليها بوصفها تابعة لها. وهذه التبعية أو التسلط كان لا يأتي عن طريق الاحتلال الشامل بجنود الدولة المسيطرة أو بإدارة شئونها المباشرة، بل كان يأتي عن سبيل الفزع والخوف من التسلط عليها بالغزو من جهة، ومن جهة أخرى بالحاميات التي توضع في مختلف المدن الكبيرة يشد أزرها ممثلون من قبل الإمبراطور يشرفون عن كثب على نظم البلاد الداخلية ومن يحكمونها من الأمراء المواطنين.
أما الدرجة الثالثة من درجات الحكم الإمبراطوري فكانت تنحصر في استئثار الدولة القوية بمدِّ دائرة نفوذها المنفرد على الأقطار الخاضعة لإرادتها، وكان كل ما تبتغي الدولة المسيطرة من أهلها هي الضرائب وكانت لا تُجبَى بحاميات أو ممثلين، وكانت عرضة للانقطاع من وقت لآخر، وعندئذٍ كانت تحصل بالغزو أو بمجرد التهديد والخوف في كثير من الأحيان.
وإذا أردنا الآن أن نحدد مكانة الإمبراطورية المصرية في آسيا بالنسبة لهذه الدرجات الثلاث من نظام الحكم الإمبراطوري فإنا بلا نزاع نخرجها من الصنف الأول كلية، وذلك عندما نفحص ممتلكاتها في آسيا ومقدار نفوذها فيها. وينحصر كلامنا هنا على الإمبراطورية المصرية إلى ما قبل عهد البطالمة. وقد يكون من المسلَّم به أن احتلال جنوبي سوريا نهائيًّا وأعني بذلك فلسطين الأصلية حتى «عكا»، وهو الجزء الذي فتحه «تحتمس الثالث» ثم فُقد في عهد «إخناتون» وأُعيد لمصر ثانية في عهد «سيتي الأول» يُعدُّ احتلالًا إقليميًّا بالمعنى الذي نفهمه الآن، غير أنه على الرغم من أن عددًا قليلًا من الحكام المحليين الذين ذُكروا في رسائل «تل العمارنة» في عهدي الفرعونين «أمنحتب الثالث» و«إخناتون» كانوا يحملون أسماء مصرية، وأن بعض الأراضي في «فلسطين» قد أصبحت ضمن أملاك الفرعون نفسه أو في يد الكهنة فإن إدارة هذه الأصقاع في مجموعها كانت قد بقيت في يد حكام من الأهالي الأصليين بطريقة غير مباشرة، ومع ذلك كانت توجد حاميات مصرية وممثِّلون لكَبْح جِمَاح أي عصيان. وكان رجال هذه الحاميات على ما يظهر من الجنود المرتزقة بوجه عام أو مجرد مجندين ممن جندهم الأمراء المحليون، ومع ذلك نستخلص أنه حتى في «فلسطين» لم تكن الإمبراطورية المصرية في عهد «الأسرة الثامنة عشرة» قد وصلت إلى المرتبة الثانية من مراتب التسيطر الإمبراطوري كما نفهمه الآن. والواقع إذن أنه — على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا — لم تكن الدرجة الأولى من الحكم الإمبراطوري معروفة، كما أنها لم تصل إلى الحالة التي يكون فيها الأهلون مشتركين في الحكم بمثابة مواطنين في غربي آسيا حتى عهد الدولة الآشورية الأخيرة. فالدول التي قامت في «مسوبوتاميا» قديمًا وهي السوميرية والبابلية، والآشورية لم تصل واحدة منها في استعمارها إلى أكثر من الدرجة الثانية أو بتعبير أدقَّ لم يتعدَّ سلطان واحدة منها أكثر من نفوذها المنفرد فقط على الإقليم الخاضع لها؛ ولذلك يُعدُّ نظام الدرجة الثانية من الحكم الإمبراطوري من ميزات عهد «الأسرة الثامنة عشرة» في ترقِّي فكرة الحكم الإمبراطوري، وإن كان هذا الرقي لم يَحِدْ بهم إلى تأسيس فكرة إمبراطورية كما نفهمها الآن.
الواقع أن الإمبراطورية المصرية في آسيا كانت نتيجة مباشرة لطرد الهكسوس الغزاة من وادي النيل، أو أنها قامت بتأثير طرد أولئك الأجانب الغاصبين. ولا نزاع في أن مصر منذ عهد الدولة الوسطى كانت قد بدأت في مدِّ سلطانها وتأليف إمبراطورية من نوع النفوذ الإمبراطوري الثالث في عهد أواخر فراعنة «الأسرة الثانية عشرة» كما فصَّلنا القول في ذلك (راجع الجزء الثالث، إلخ)، غير أن هذا التقدم في سبيل تمكين هذه الإمبراطورية قد عاقه ما حلَّ بالبلاد من انحلال من جرَّاء غزو الهكسوس وضعف ملوك «الأسرة الثالثة عشرة» على الرغم من وجود نفوذ لهم في فلسطين، ولذلك أصبح موضوع تأسيس إمبراطورية مصرية وقتئذٍ في آسيا أمرًا مستحيلًا، ولكن عندما هدأت ثائرة الغارات التي شنَّها هؤلاء الهكسوس وهبَّ المصريون في وجوههم وطردوهم من أرض الكنانة. فُتحت الطريق أمام المصريين ثانية لتأسيس إمبراطورية جديدة في آسيا. وعلى الرغم من أن الغارات التي قام بها ملوك «الأسرة الثامنة عشرة» في أول الأمر مخترقين بها جبال الكرمل حوالي عام ١٥٨٢ق.م، قد لا يكون الدافع لها في الأصل إلا الانتقام من الهكسوس، فإنه مما لا شك فيه أن دافع القيام بها كان لحدٍّ ما تلاشي مد الهكسوس الذي انعكس فصار آخذًا في الجزر بصورة بارزة، وأعني بذلك وقوف موجات غزو الهكسوس التي لم تكن في الواقع إلا جزءًا من المدِّ العظيم الذي كان يَفِدُ من الشرق وحمل معه الكنعانيين إلى سوريا. وعلى أية حال فإن المصريين كانوا بطبيعة الحال قد تعلَّموا من محاربة الهكسوس لهم ما كان ينتظرهم في سوريا، وكيف يمكنهم الاستيلاء عليها. وقد كان ظهور المصريين في الجنوب الغربي لآسيا في عهد الفرعونين «أحمس الأول» و«تحتمس الأول» مقدمة لتمكين مُلْكهم هناك؛ إذ لم ينشأ في عهدهما ملك وطيد الأركان يمكن أن يُطلَق عليه اسم إمبراطورية حتى من الدرجة الثالثة التي وصفناها. إذ الواقع أن الحملات التي قاما بها كانت غزوات ضعيفة كما كانت العادة المتبعة في آسيا منذ الأزمان العتيقة، فلم نسمع بالاستيلاء على أماكن حصينة مثل «غزة» و«عسقلان» أو «مجدو»، وهي المدن التي كانت تقع في طريق الجيوش الغازية، بل كل ما وصلت إليه معلوماتنا هو الإغارة على قبائل «شاسو» (البدو) الذين كانوا يسكنون الصحراء وقتئذٍ، أو على أهالي «رتنو» في جبال الجليلي، وكذلك نسمع بفرض ضريبة على البلاد الفينيقية حتى مدينة «إرواد»، وعلى القبائل التي كانت تقطن في الداخل في شمالي بلاد «نهرينا» ومقاطعة «حلب». ومما هو جدير بالذكر هنا أن كثيرًا من الجزية كانت على ما يظهر تُرسَل من تلك البلاد النائية لمجرد الخوف من إغارة الفرعون عليها، ولم يكن هذا بدوره يقوم بها إلا عند شبوب ثورات أو إعلان عصيان.
وقد ظلت الحال كذلك إلى أن انفرد «تحتمس الثالث» بالحكم، وعندئذٍ أخذ في تأسيس إمبراطوريته في أقاليم آسيا بصورة ثابتة وسياسة مرسومة. وبالاستيلاء على «غزة» و«مجدو» والأماكن الحصينة الأخرى في فلسطين، تم لهذا الفرعون ضم الجزء الجنوبي الأقصى من سوريا، ويشمل معظم «فينيقية»، وذلك في السنة الثلاثين من حكمه، إذ نسمع وقتئذٍ بتنصيب حكام جدد لحكم الأصقاع، وليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن هؤلاء الحكام كانوا من أصل مصري، كما أنه لا يمكننا أن نُقدِّر على وجه التحقيق مبلغ النفوذ العسكري الذي كان لمصر في هذه الجهات. وبعد انقضاء قرن من الزمان على عهد «تحتمس الثالث» نعلم من خطابات «تل العمارنة» التي كانت تَرِد على الفرعون من فلسطين أن الأمراء هناك كانوا يَشكون من سحب الجنود الذين كانوا معسكرين في الحاميات القائمة هناك، ولذلك لا نكون حائدين عن جادة الصواب إذا قررنا هنا أن هذه الحاميات كانت تحتل تلك المعاقل منذ أن استولى عليها الفاتح العظيم «تحتمس الثالث» بعد حروب طاحنة وحصار مرير كما أسلفنا، وذلك يجعلنا نحكم بأن إمبراطوريته كانت من الدرجة الثانية من درجات الحكم الإمبراطوري، وأعني بذلك أنها كانت أقاليم يُدير شئونَها حكام من أهل البلاد نفسها نصبهم الفرعون برضًا منه لولائهم له، وقد قوَّى هذا الولاء وجود بعض الحاميات والعمال المباشرين الذين عيَّنهم الفرعون من قِبَله هناك. وإذا أردنا أن نرسم خطًّا فاصلًا بمثابة حدٍّ شمالي لهذه الأقاليم الإمبراطورية، فإنه على ما يَظهَر كان يبتدئ من ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالي «إرواد» ثم ينحني إلى الجنوب عند انفصال نهر «العاصي» عن نهر «الأردن» ثم يأخذ في التلاشي في الصحراء الشرقية على مسافة قليلة من جنوبي «دمشق».
والواقع أن «تحتمس الثالث» عند ختام حكمه كان قد أسس إقليمًا إمبراطوريًّا آخَر فوق الأقاليم السالفة الذكر، غير أنه على ما يَظهَر كان من الدرجة الثالثة؛ أي إنه كان إقليمًا يدخل في دائرة النفوذ المصري المحض وحسب؛ أي إنه إذا دخله أي جيش آخَر غير الجيش المصري يكون عُرْضة للتأديب والعقاب الصارم، في حين أن الجيش المصري كان له الحق في أن يسير في هذا الإقليم حُرًّا ويضرب الضرائب على القُرى والمدن التابعة له. وقد كان لزامًا على الممالك العظمى الأخرى المتاخمة له أن تحترم حقوقه المطلقة، مثل مملكة «بابل» الكاسية (كاردونياش)، ودولة «متني»، وقد كانتا أصحاب سيادة إلى أن استقلت بلاد «آشور» الواقعة شمالي «مسوبوتاميا». وكذلك كانت بلاد «خيتا» آخذة في أسباب النمو حتى امتدت إلى ما وراء جبال «توروس»، ولكنها كانت منحصرة في «كابودشيا» بآسيا الصغرى، على الرغم من قيامها ببعض غارات في الجنوب. وكان الجيش المصري يقوم بحملات تأديبية في جهات مختلفة من هذه الأقاليم السورية الشمالية، ولم يقتصر ذلك على شمالي «فينيقية» والجزء الأسفل من نهر العاصي، بل امتدت هذه الحملات إلى بلاد «نهرين»، حتى وصلت إلى بلدة «تونب» التي جاء ذكرها في النقوش المصرية. وليس في استطاعتنا تعيين حدود لهذا الإقليم المبهم الذي يحتمل أنه كان يشمل «كليكيا» أيضًا. وإذا كان «تحتمس الثالث» قد جدَّ في فتوحه فعلًا حتى الشمال الشرقي إلى أن وصل إلى «قرقميش»، فلا يحتمل أنه تخطَّاها، بل قد ترك إقليمَيْ «عنتاب» و«ماراش» دون أن يقتحمهما، فكان يسيطر عليهما رؤساء مواطنون من «خيتا» الذين أظهروا ولاءهم للفرعون بما كانوا يُرسِلونه له من الهدايا كما ذكرنا آنفًا. غير أن الجزء الواقع شمالي «قادش»، وهو الذي على ما يَظهَر لم يتدخل «تحتمس الثالث» في شئونه قبل السنة الثانية والأربعين من حكمه، ثم كان نفوذه عليه بعد ذلك لا يتعدى ضرب الضرائب، كان يُعدُّ بالنسبة للحكم الإمبراطوري في الدرجة الثالثة، إذ لم تكن تحتله حاميات ثابتة كما لم يكن ممثلو الفرعون هناك من الموظفين الذين لهم دخل مباشر في حكومة الإقليم. والواقع أن سيادة مصر على وسط سوريا الشمالي وشماليها وقتئذٍ كانت تشبه سيادة الإمبراطورية الإنجليزية على الأفغانستان قبل الحرب العالمية الأولى.
وقد بقيت هذه الإمبراطورية المصرية المبهمة الحدود، المفككة النسج، على ما هي عليه سليمة مدة حكم الفراعنة الثلاثة الذين خلفوا «تحتمس الثالث» مرتكزة على ما أحرزه لها هذا الفرعون من سمعة وقوة. وتدل شواهد الأحوال على أن سوريا كانت في سلام من أقصاها إلى أقصاها في عهد «أمنحتب الثالث»، وكذلك دلت النقوش على أنه قد وضعت في عهده أسس علاقات سليمة متصلة بين وادي النيل «ومسوبوتاميا»، وبخاصة ما كان يبذله هذا الفرعون ومِن قَبلِه «تحتمس الثالث» لتمصير السوريين بتعليم أبناء أمرائهم في مصر. وهذه المحاولات الثقافية قد اقتفتْ أثرَها فيما بعدُ الدول العظمى حديثها وقديمها، فقد قامت «روما» بعمل هذه التجربة، وكذلك حاولت الدولة العثمانية نفس الطريقة، وقَفَتْها فرنسا، وأخيرًا اتجهت إنجلترا وروسيا هذا الاتجاه نفسه، غير أن كل هذه التجارب عامة قد باءت بالفشل؛ إذ الواقع أن الدُّبَّ الصغير كان عندما يعود إلى مأواه الذي نشأ فيه يذكر الحِيَل التي علَّمه إياها صيَّادُه، ولكنه كان لا يذكرها بأي نوع من الشكر بل بالحقد والبغضاء فتكون النتيجة عكسية.
ولا نزاع في أن هذه التجربة لم يَجْنِ ثمارَها «أمنحتب الثالث» أيضًا. وقد بدأ منذ السنين الأولى من حكم «إخناتون» تدهور الإمبراطورية المصرية في آسيا، ويرجع الفضل في كشف النقاب عن ذلك إلى خطابات «تل العمارنة»؛ إذ سهلت علينا تتبُّع سياسة مصر الخارجية في هذا العَهْد عن كَثَب أكثر من أيِّ عهد آخر في التاريخ المصري، وسنفصِّل القول في ذلك فيما بعد، وبخاصة قصة المدن التي كانت تسقط الواحدة تلو الأخرى من أملاك مصر في ذلك العهد بسبب تقصير «أمنحتب الرابع» في إمداد حامياتها، أو إرسال الحملات من وقت لآخر إلى تلك الأصقاع، وانفضاض حكام الإمارات المواطنين من حوله والانضمام إلى العدو بعد أن طلبوا إلى الفرعون النجدة مرارًا وتكرارًا، هذا بالإضافة إلى قيام دول جديدة قوية الشوكة في آسيا لا تَجِد مَن يقف في وجهها أو يَكبَح جِماحَها في الشمال والوسط. ومن المحتمل جدًّا أن سبب هذا التدهور يقع على عاتق «إخناتون» نفسه، وإن كان بعض اللوم قد يقع على عاتق مَن سبقه. والأمر الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أن إمبراطورية عظيمة مثل هذه قامت على نظم ساذجة، كل ارتكازها على سِنان حِراب جنود مرتزقة وغير مرتزقة وعلى حكام ليس لهم من الأمر شيء يُذكَر في إدارة تلك الأصقاع قد بقيتْ قائمة طيلة عهد أربعة ملوك ثم هَوَتْ في عهد خامس مَلِك تولَّى عرشها.
وتفسير ذلك أن مصر قد كسبت ممتلكاتها الآسيوية وقبضت على زمامها في فترة كانت قد انحلَّتْ فيها دول آسيوية عظمى قديمة، ثم أخذت تقوم على أنقاضها دول أخرى فَتِيَّة ناشئة؛ ولذلك لما سار «تحتمس الثالث» بجيوشه في قلب سوريا لم تكن هناك دولة قوية تقف في وجه فتوحه إلا الدولة «الكاسية» المَهِيضة الجناح المنحلة القُوى، ثم دولة «متني» (نهرينا) التي كان لا يُقام لها وزن وقتئذٍ، أما مملكة «خيتا» التي قضت على أسرة بابل العريقة في القِدَم فقد انزوت في إقليم «كابودوشيا» وقتئذٍ ولم تكن على استعداد لتَظهَر ثانية في ميدان السياسة أو في ساحة الحرب. هذا إلى أن «آشور» كانت آخذة في أسباب النمو، غير أنها لم تكن قد بلغت أَشُدَّها بعدُ، وكذلك كانت موجة هجرة الآراميين من العرب الساميين وقتئذٍ لا تزال في بدايتها نحو الشمال والغرب، يُضاف إلى ذلك ما كان «لتحتمس الثالث» من تأثير في نفوس هذه البلاد. وبعد انقضاء قرن من الزمان على عهد «تحتمس الثالث» أسس ملوك «خيتا» أسرة مهيبة الجانب قاد ملوكُها جيوشَهم إلى الجنوب ثانية، ثم أصبحت «آشور» دولة عظيمة الشأن على استعداد لمناهضتهم في غرب آسيا، وقد قامت بمحاولة جبارة في عهد ملكها «سالمنرر الأول» ١٢٨٠ق.م، لقطع طريقهم نحو الجنوب. أما الآراميون فقد تجمعوا وألَّفوا حكومة ثابتة حوالي دمشق، ومن ذلك نرى أن كلًّا من هذه الدول قد رسَّخت أقدامَها وثبَّتت مُلْكَها في آسيا أكثر من مصر في أي عهد من عهود سلطانها هناك. وقد كانت النتيجة المحتومة لذلك أن تراجعت مصر بسرعة خاطفة إلى أفريقية. وعندما تولى «حور محب» عرش الفراعنة كانت أملاك مصر السابقة في آسيا قد أصبحت في يد ملوك آسيويين. على أن هذه الممتلكات لم تكن قد ضاعت على مصر نهائيًّا؛ لأن الفراعنة الذين أتوا بعده أعادوا لمصر تلك الإمبراطورية التي كانت تسيطر عليها سيطرة إمبراطورية من الدرجة الثانية، وأعني بذلك «فلسطين» وجنوبي فينيقية، وكذلك أخذ الفراعنة في استعادة سلطان مصر في الجنوب على الإمارات الشمالية، غير أن هذا السلطان لم يكن ثابت الأركان بل كان وقتيًّا.
وإذا أردنا أن نعرف معنى الإمبراطورية المصرية ومبلغ أثرها على الأقطار التي كانت تحكمها، فإن ذلك لا ينطبق إلا على الإمبراطورية التي أسَّسها «تحتمس الثالث» في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وهي تلك الإمبراطورية التي يجب أن نتَّجِه إليها إذن ونفحصها من الوجهة الثقافية في مختلف صورها على ضوء ما فصلنا فيه القول من قبل.
(٢) إمبراطورية تحتمس الثالث والثقافة العالمية
والمعلوم لدى علماء الآثار المصرية أن أعظم انقلاب في الثقافة قد حدث في العهد الأخير من حكم «تحتمس الثالث»؛ إذ نشاهد أن المصانع والصور والزينات التي كانت آخذة في النمو والارتقاء باتزان وثبات مستمرَّيْن منذ عهد الدولة القديمة قد طرأ عليها أثر جديد مفاجئ مما نهض ببعضها وسار به قُدمًا بخُطًا واسعة في سبيل الرقي، كما نجد من جهة أخرى أن بعضها قد انحط وتلاشت معالِمُه. ولا أدلَّ على ذلك من ظهور منتجات جديدة في تلك الفترة إلى جانب فَيْض عميم من المنتجات الأجنبية التي يُعزَى بعضُها على وجه التأكيد والبعض الآخر على وجه الاحتمال إلى أصل سوري، في حين كان غيرها تنسب إلى أصل جزائري؛ أي إنه جُلب من جُزُر بحر «إيجة» المجاورة لمصر، أو قد تأثر بعضها بالثقافة الإيجية كما فصلنا في ذلك (راجع الجزء الرابع). وفي هذه الفترة ظهر كذلك على الآثار أسماء غير مصرية الأصل، يُضاف إلى ذلك أن بعض الآراء والأفكار الأجنبية أخذت تتسرب وتنمو في التربة المصرية، وكذلك نما العتاد الاجتماعي بسرعة وراجتْ سوق التَّرَف بدرجة لم يَسبِق لها مثيل، في حين أننا في نفس الوقت نلاحظ تقدُّمًا اجتماعيًّا يسير في غالب الأحيان جنبًا لجنب مع ازدياد في الرزق وسَعَة في العيش، وقد تبع مظاهر هذا الثراء المطَّرِد كثرة استخدام الجنود الأجنبية المرتزقة بسرعة لحماية مصالح الوطن مع التراخي في استخدام الجنود المصريين. ولا نزاع في أن هذه التغيرات وأثرها العظيم في حياة القوم يرجع في أصله إلى التوسع الإمبراطوري الذي جاء نتيجة لفتوح «تحتمس الثالث» في آسيا. والواقع أن ما تعلَّمه المصريون وشاهدوه في آسيا، وما جلبتْه جيوشهم من غنائم إلى مصر وما تدفَّق على الكنانة من خيرات الجزية التي كانت تُفرض على أمراء الولايات الآسيوية الخاضعة لها، وكذلك ما تدفق على مصر من أقاصي آسيا وبحر إيجة من أموال عن طريق التجارة بوساطة طرق كانت مغلقة منذ أزمان غابرة. كل هذه الأشياء المستحدثة مجتمعة قد تركت أثرها العميق بسرعة مدهشة على الثقافة المصرية مما تكلمنا عنه فيما سبق وما سنتعرَّض له فيما يأتي بعد.
تأثير الفتح المصري في سوريا
أما التأثير الذي أنتجه الفتح المصري في سوريا فإنه على قدْر ما وصلت إليه معلوماتنا من الكشوف الأثرية التي عملت حتى الآن في الأماكن الهامة من عهد الأسرة الثامنة عشرة لم يكن تأثيرًا متبادلًا في تلك الفترة؛ إذ إن الأماكن الأثرية التي كُشف عنها في فلسطين وفي سوريا يُرى فيها أثر مسح للثقافة المصرية بصورة بارزة، وبخاصة في جيزر، فنجد عددًا عظيمًا من الأشياء قد صُنعت في مصر أو صنعت في سوريا وصبغت بالطابع المصري، ولكن جزءًا ضئيلًا جدًّا منها كان يُنسب إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة أو الأسرة التاسعة عشرة، أما الجزء الأعظم فيُعزَى إلى التأثير الذي تركتْه مصر في هذه الجهات منذ القرن العاشر حتى القرن السابع قبل الميلاد.
والآن يتساءل المرء كيف يمكن تفسير كون تأثير الثقافة في عهد الأسرة الثامنة عشرة كان من ناحية واحدة؟ وحقيقة الأمر هي أن الثقافة المصرية في إبان عهدها الأول الإمبراطوري كانت أكثر نموًّا وأعظم شأنًا من الثقافة السورية، وقد كان من المنتظر أن يكون أثرها بينًا واسع النطاق بُعَيْد الغور على السوريين أكثر من أي تأثير سوري على مصر. وعلى الرغم من ذلك نجد الأمر معكوسًا، فقد كان أثرها في سوريا ضئيلًا وسطحيًّا. والتفسير الذي يمكن أن تُعزَى إليه هذه الظاهرة هو أن أعوان نشر الثقافة من المصريين في سوريا كانوا قلائل ولم يُبدوا في الواقع أي نشاط في هذه الناحية بخلاف أعوان نشر الثقافة السورية في مصر، والمقصود من ذلك أنه في الحين الذي كان يَفِد فيه على مصر جماعات كثيرة ليتخذوها موطنًا لهم، ولنشر تجارتهم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، كان لا يُقيم في سوريا من المصريين إلا النَّزْر اليسير الذين لم يكونوا من طائفة التجار. ولا بد أن نستنبط من ذلك أن المصريين بعد فتحهم الأول قد قنعوا بما أصابوا من غنائم في بادئ الأمر، وابتعدوا عن هذا المُلْك الجديد الذي لم يَغرَّهم أو يُحفِّزهم إلى الهجرة والضرب في أرجائه الشاسعة المفعمة بالخير الوفير والرزق الواسع، ولا غرابة في ذلك؛ فإن المصري كان معروفًا عنه أنه لا يحب مغادرة مسقط رأسه، ولا يميل للمغامرات والسير في الأرض للتجارة واكتساب العيش.
وقد كان إخفاق الأسرة الثامنة عشرة في المحافظة على سلطانها الإمبراطوري في غرب آسيا أمرًا لا مفرَّ منه؛ إذ كان لزامًا على مصر أن تخضع لمشيئة أية دولة قوية إثْرَ ظهورِها على مسرح السياسة فتنزل لها عن مكانتها. على أن هذا القول في ظاهره قد يبدو غريبًا، ولكنا نتأكد من صحته إذا لم نحصر أفق نظرنا في عهد الأسرة الثامنة عشرة وحسب، وألقينا نظرة شاملة على كلٍّ من تاريخ الإمبراطورية المصرية في آسيا وتاريخ الإمبراطورية الآسيوية في مصر.
فقد دلت الأحوال على أن هناك ظاهرة ثابتة في التاريخ المصري، وإن شئتَ فقُل قاعدة دلَّتْ على صحَّتِها التجارب، وتتلخَّص في أن مصر لم يكن في استطاعتها أن تحتفظ بأي شيء في آسيا، أو أن أية مملكة أجنبية استطاعت أن تتملك مصر، اللهم إلا إذا كانت هذه أو تلك تملك في قبضتها إقليم شرقي البحر الأبيض المتوسط. وما نجده قد شذَّ عن ذلك يُعدُّ برهانًا على صحة هذه القاعدة. فقد كانت أول إمبراطورية ثابتة الأركان سيطرت على بلاد أجنبية بمصر هي دولة البطالمة الأُوَل الذين كان أسطولهم يبسط سلطانه على شرقي البحر الأبيض المتوسط حتى جُزُر «سيكليدز» شمالًا وغربًا حتى مدخل البحر الأدرياتي. وقد ظلت إمبراطوريتهم صاحبة نفوذ ما بقيت سلطتهم البحرية عزيزة الجانب، ولما ازدادت قوة أسطول جزيرة «رودس» اختفت قوة البطالمة البحرية في آسيا الصغرى، وعندما ظهر الأسطول الروماني في عالم الوجود تلاشت قوة البطالمة البحرية في سوريا وأصبحت أثرًا بعد عين أيضًا. على أننا من جهة أخرى نعلم أن أول إمبراطورية ثابتة أجنبية قامت في مصر على يد أجانب هي الإمبراطورية الرومانية، غير أن هذه الدولة لم تؤسَّس إلا بعد أن أصبحت روما صاحبة السيادة على إقليم شرقي البحر الأبيض المتوسط، ولم يتسنَّ لها ذلك إلا بعد القضاء على قرصان «كريت» و«كليكيا»، ولم تفقد «روما» ولا خليفتها «بيزنطة» هذه الإمبراطورية إلا بعد أن فقدت سيطرتها على البحر.
ومن ذلك نرى أن سقوط إمبراطورية الأسرة الثامنة عشرة أمام أول دولة آسيوية قوية تريد السيطرة عليها كان أمرًا لا مفرَّ منه، والدولة القوية التي عملت فعلًا على زوال الإمبراطورية المصرية في آسيا هي بطبيعة الحال دولة «خيتا»، إذ أخذت مصر على إثر ظهورها وتوطيد أقدامها في آسيا تنسحب أمامها من هذا المسرح. وتدل شواهد الأحوال على أن «تحتمس الثالث» قد استخدم البحر في فتوحه ومواصلاته، كما شرحنا ذلك في موضعه، غير أنه لم يُقلِّده في هذا المضمار ممَّن خلفوه إلا القليل. والواقع أنه قد ظهر في خدمة مصر بعض رجال «صور»، ومن المحتمل إذن أن سفنهم وكذلك سفن الفينيقيين في الشمال كانت لزمنٍ ما في خدمة مصر. ولكن هذه المدن قد سقطت في عهد «إخناتون» الواحدة تلو الأخرى وانضمت للخيتا أو الآرميين. وعلى الرغم من أن الفراعنة الأُوَل الذين حكموا خلال الأسرة التاسعة عشرة قد استردُّوا هذه البلاد لمدة ما، فإنه لم يكن في استطاعتهم أن يُحافظوا عليها في وجْه قوة مملكة «خيتا» القوية السلطان. فنجد مثلًا أن مدينة «إرواد» كانت تساعد عدو «رعمسيس الثاني» في موقعة «قادش». ومهما كانت النتائج العاجلة لهذه الموقعة فإنه من الجليِّ أن انسحاب «رعمسيس» العاجل بعد المعركة، وما يُفهم من المعاهدة التي أبرمها مع خيتا في السنة الواحدة والعشرين من حكمه يدل على انسحاب مصر والتخلِّي عن سيادتها على أي جزء في سوريا، اللهم إلا جنوبي «فلسطين»، وحتى هذا الإقليم الأخير قد فُقد بعد عهد «رعمسيس الثالث». وعلى الرغم من أننا نرى فيما بعدُ أن الفرعون «نيخاو» كان في مقدوره أن يمرَّ في سوريا حتى «قرقميش» بجيوشه ويُحرِّرها مدة بضع سنين، فإن ذلك الاستيلاء المؤقَّت لا يُعدُّ تسيطرًا إمبراطوريًّا، بل يُعدُّ غزوًا طارئًا في آسيا إلى أن جاء «الإسكندر» وفتح مصر، ثم أسَّس أخلافُه البطالمة دولتَهم الضخمة التي كان مقرُّها أرضَ الكنانة.