تنظيم أملاك الدولة العالمية
كان أمر تنظيم الأقاليم المقهورة التي استولى عليها الفراعنة في حروبهم المظفَّرة
يسير
جنبًا لجنب مع فتوحهم، وقد أظهَر «تحتمس الثالث» مقدرته في هذه الناحية فبنى له فيها
مجدًا
ثابت الدعائم بجانب مجده الحربي المنقطع النظير في ميدان القتال، ولا أدل على ذلك
من أن هذه
الأقطار التي نظَّمها قد بقيت مدة تُربِي على نصف قرن من الزمان بعد وفاته هادئة مطمئنة
يسودها السلام، وتخيم عليها السكينة، اللهم إلا بعض ثورات قليلة أخضعها أسلافه دون
كبير
عناء كما ذكرنا، ولذلك ليس من المبالغة أن يقول عنه وزيره الأمين «رخ مي رع»: إن جلالته
يعرف كل شيء يحدث، ولا يوجد شيء لا يعرفه، وإنه مثل الإله «تحوت» نفسه إله الحكمة
في كل
شيء، وإنه لم يَقُمْ بأي عمل إلا نفَّذه. (راجع الجزء الرابع، وUrk. IV. p.
1074) ولا غرابة في ذلك فإن تقاسيم وجهه تُنبئ عن نشاط وثَّاب، ودراية
بالنفس عظيمة.
وقد حاول أن يَربِط أمراء الولايات التي فتحها برباط المحبة والألفة والمهادنة، ولذلك
كان
أول مَن أخذ أولادهم ليُربِّيهم في البلاط المصري «بطيبة» التي كانت تُعَدُّ وقتئذٍ
مهد
الثقافة العالمية، والظاهر أن البلاد كلها قد أصبحت من أقصاها إلى أقصاها كأنها ضيعة
الفرعون كما نوَّه بذلك مرات عدَّة في رسائل «تل العمارنة»، فقد كتب «عيد خيبا» من
«أورشليم» يقول: تأمل! لم يَضَعْني والدي ووالدتي في هذا المكان، بل لقد أقامني في
هذا
البيت ملك والدي (أي نصبني في الإمارة) ساعد الملك،
١ وبعد الاستيلاء على «مجدو» مباشرة وفتح أقاليم بلاد «لبنان» أمر «تحتمس الثالث»
مسَّاحي بيت الملك بوضع حدود للحقول ليستولي على محاصيلها. وقد كان الفرعون يستولي
على جزية
معلومة من الحبوب والزيوت والخمر والبخور مما تُنتِجه «فلسطين» أو «رتنو» و«بلاد فينيقيا»
(زاهي) سنويًّا، ولم يَستَثْنِ من ذلك إلا البلاد التي كانت قد أعطاها الفرعون هبة
للإله
«آمون» في «فلسطين» كما ذكرنا آنفًا. وخلافًا لذلك كان أمراء الولايات في «رتنو» يقدِّمون
الجزية السنوية من كل محاصيل بلادهم، وبخاصة العبيد والإماء الأحداث، هذا إلى خيول
وثيران
وماشية وبخور، وخمر وزيت وأخشاب ثمينة وذهب وفضة ونحاس وقصدير في صور قوالب وحلقات،
وكذلك
سِنُّ فيل وريش نعام، كما كانوا يقدِّمون منتجات مصانعهم من العربات المغشَّاة بالذهب
والفضة، والأباريق والأطباق، وكذلك أواني الزينة المصوغة والمحلَّاة بالأزهار على
جوانبها
(راجع جزء ٤، رخ مي رع).
وقد كانت بنات الأمراء يُرسَلْن إلى القصر الفرعوني أيضًا. وهذه الجزية كثيرًا ما
نشاهدها
ممثَّلة على جدران مقابر عظماء القوم في هذا العهد، فعلى جدران مقبرة الوزير «رخ مي
رع»
نشاهد عظماء «رتنو» في الأراضي الشمالية كلها من حدود الأرض، ونرى غير الضرائب المفروضة
أواني الزينة وعربة حرب وجواد حرب، ودبة وفيلًا صغيرًا وقردة وغير ذلك، وبعد ذلك يأتي
باقي
إعداد الجيش وتموينه في كل المحاطِّ التي يُعسكِر فيها، وتُجهَّز الثغور بكل ما تحتاج
من
مُؤَن وذخائر بالسفن الداخلة فيها والخارجة منها، وقد أُقيمتِ الحصون العِدَّة لتأمين
السيادة المصرية في «فلسطين»، وبخاصة «بيت شان» (بيسان) الذي يقف حائلًا عند سهل «جزيل»
في
شرق الأردن، وفي هذه البقعة نجد بقايا معبد من عهد «تحتمس الثالث»
٢ و«أمنحتب الثالث»، كما نجد حصونًا في «بلاد لبنان»، وبخاصة عند مدخل «نهر
الكلب» في جنوبي «عرقه» الواقعة شمالي ميناء «سميرا» لحماية الطريق الرئيسية المتجهة
نحو
نهر «الأرنت» ونحو الشمال. والطريق الكبيرة المؤدِّية إلى «سوريا» التي تسير في سهل
ساحل
فلسطين ثم جبال «الكرمل» نحو «مجدو»، ومن ثَمَّ إلى «عكا» على طريق الساحل مخترقة
بلاد
«فينيقيا» حتى «نهر الكلب»، وبعد ذلك يخترق الوادي إما إلى «قادش» أو يسير إلى الشمال
مباشرة إلى «حماة» أو «سنجار» ثم إلى «حلب» فإلى «نهر الفرات». وميناء «سميرا» كانت
في
الوقت نفسه مقرَّ الحاكم، كما كانت المكان المختار الذي تُجمَع فيه الحبوب لكل هذا
الإقليم،
ومن ثَمَّ كانت تُرسَل إلى مصر. (راجع
Mercer, Ibid. No. 60,
22). وكان يُقيم هنا كذلك قائد حصن البحر العظيم «ست آمون» وهو الذي
كان ماهرًا في معاملة أهل بلاد «الفنخو» المتوحِّشين، ولذلك كان قادرًا على جمع الضرائب
من
أولئك المشاغبين العصاة، وهو الذي قد أرسله جلالة الفرعون قائدًا على حصون الأراضي
الأجنبية
الشمالية. (راجع
Speleers, “Recueil des Inscrip. Egyp. Musées Royaux du
Cinquantenaire à Bruxelles”, p. 35). غير أنه مما يؤسَف له جدَّ الأسف
أن النقش المصري القديم لم يُحدِّد لنا المواقع الجغرافية التي كان قائدًا عليها كما
هي
العادة، ومثل هؤلاء القواد الذين كانوا يُرسَلون لحفظ الأمن في الأقاليم الآسيوية
كان
يُطلَق عليهم في خطابات «تل العمارنة» لَقَب «ربيصو»،
٣ وكانوا تحت سيطرة أُمَراء المدن، وكان كل واحد منهم ينادي أولئك بلقب «أخ أو والد»،
٤ وبجانب هذا القائد نجد موظفين يحملون رُتَبًا عالية كان عليهم أن يقوموا
بالإشراف العام على الأقاليم الخاضعة لمصر في تلك الجهات.
وقد كان المشاة والخيالة الذين يأتمرون بإمرة هؤلاء القواد معظمهم من أهالي «كوش»
المرتزقة، ومن أهالي «شردانا» من سكان جزر البحر الأبيض المتوسط، ويؤكد لنا ذلك ما
جاء في
خطابات «تل العمارنة»؛ إذ يروي لنا «ريبادي» صاحب «جبيل» (ببلوص) أنه عندما كان يرجو
إرسال
جنود لنجدته من النوبيين (راجع Mercer Ibid. 131, 13).
يطالب بإرسال ثلاثمائة محارب وثلاثين عربة ومعهم مائة من «ماتاتي كاشي» أي من «المازوي»
من
أهالي «كوش»، يُضاف إلى هؤلاء الجنود الذين كان يرسلهم الفرعون، والجنود الذين كان
ينتخبهم
أمراء المدن من القبائل السامية وبخاصة «الرماة». على أن عدد أولئك الجنود المحاربين
لم يكن
عظيمًا كما يشعرنا بذلك حروب «تحتمس الثالث» وتحدثنا به خطابات «تل العمارنة».
وكانت طرق المواصلات لا تقتصر على الطريق البرية التي كانت تخترق صحراء «سينا»، بل
كانت
هناك طريق بحرية يُنقل بها الجنود في معظم الأحيان. وقد رأينا أن سفن الفينيقيين كانت
تُستعمل للتموين، وكذلك لنقل أسلاب الحرب والجزية التي تُرسل إلى مصر، وتحدثنا نقوش
رئيس
الخزانة «سن نفر» كيف أن الفرعون قد أرسله بجنود عن طريق البحر إلى «ببلوص» لقطع أخشاب
الأرز من «بلاد لبنان»
٥ (
Sethe, Ber. Berl. Ak. (1906). p. 35ff. & Urk. IV, p.
532). وكانت هذه الأخشاب لازمة لعمل عمد شامخة الطول لترفع عليها أعلام
الإله «آمون»، وقد كانت مثل هذه البعوث تُرسل من وقت لآخر بدون انقطاع. ولا نزاع في
أن
تجارة بلاد «فينيقيا» البحرية وصناعاتها قد نمت وترعرعت في ظل الحكم الفرعوني في خلال
تلك
الفترة التي بلغت فيها الدولة المصرية شأوًا عظيمًا من السيطرة على تلك الجهات. ولدينا
من
المناظر التي بقيت على جدران مقابر عِلْية القوم ما يشير إلى ذلك؛ إذ نشاهد على جدران
مقبرة
«نب آمون» عمدة طيبة منظر أسطول فينيقي تجاري قد وصل إلى مصر وأُنزلت منه البضائع
وقد
تسلمها الموظفون المصريون وفحصوها، وتدل وجوه أولئك التجار وملابسهم على أنهم كانوا
من
الفينيقيين؛ إذ كانوا ذوي شعر ولِحًى طويلة، كما كانوا يلبسون فوق دثارهم عباءة ملونة
كان
يرتديها عظماء «سوريا».
أما البحارة فكانت شعورهم قصيرة ولا يرتدون إلا لباسًا يغطي وسطهم (راجع شكل رقم
٧، وكذلك
J. E. A. Vol. 33. p. 40–46).
والبضائع التي كانوا يحملونها إلى مصر من البلاد الفينيقية وبخاصة من «جبيل» و«صور»
كانت
تحتوي على غلال، وفي زمن الشدة مثل فترات الاضطرابات التي حدثت في السنين الأخيرة
جدًّا من
عهد «أمنحتب الثالث» كان يُفرض على الأمراء والعظماء أن يقدموا أولادهم وبناتهم ثمنًا
لخروجهم على الفرعون وعصيانه، وقد ذكرنا من قبل أن جزيرة «قبرص»
٦ التي كانت تُعَدُّ مملكة مستقلة كانت تقدم العطايا والهدايا «لتحتمس الثالث».
ويُفهم من رسائل تل العمارنة أن هذه الجزيرة كانت مملكة ذات سيادة مستقلة ليست خاضعة
لمصر
بحال؛ فقد كان ملكها يكاتب ملك مصر على قدم المساواة؛ فيخاطبه بمثابة أخ له، وإذا
أرسل إليه
مقدارًا عظيمًا من النحاس الذي كان يُعد من أعظم حاصلات بلاده انتظر في مقابل ذلك
أن يرسل
إليه ملك مصر الفضة والزيت، ونلاحظ في هذه المكاتبات التي كانت تدور بين الملكين أن
ملك
«قبرص» كان يعترف ببعض السيادة لفرعون مصر؛ وذلك لأنه لم يقرن اسمه باسم الفرعون في
هذه
الرسائل (راجع
Ibid. II. p. 872). وكذلك لم تكن العلاقة بين
مصر وأمير «كفيتو» صاحب «كريت» علاقة سيد ومسود كما توحي بذلك كتابات الفرعون ونقوشه؛
إذ
يقول لنا في قصيدته المشهورة: «لقد حضرت لأجعلك تتمكن من أن تطأ الأرض الغربية، «فكفيتو»
و«آسي» تحت سلطانك.» وكذلك يقول: «لقد حضرت (أي الإله) «آمون» لأمكنك من أن تطأ أولئك
الذين
في الجزر.» وكذلك نجد تفسيرات مماثلة لما ذكرنا جاءت في نقوش القائد «تحوتي»
٧ حيث يقول: «إن رغبة الفرعون قد نفذت في الأرض الأجنبية كلها، وفي جزر البحر
العظيم.» (راجع
Urk. IV. p. 999).
بل إن الواقع يدل على أنها كانت علاقة مودة ومبادلة الهدايا بين الحكومات كما كانت
الحال
بين مصر وقبرص، و«متني»، و«بابل» و«آشور» وخيتا، ونشاهد بعوث هذه الممالك مصورة على
جدران
مقابر عظماء القوم مرات عدة في ذلك العهد، وهم يقدمون خضوعهم مقبلين الأرض كأنهم من
رعايا
الفرعون فعلًا. كما نشاهد ذلك في نقوش مقبرة «سنموت» ومقبرة الوزير «وسر» و«رخ مي
رع»
وغيرهم. ونقوش «تحتمس الثالث» تكرر لنا الحديث عن انتصاراته على بلاد الجنوب وتقدم
لنا
قوائم مطولة عن البلاد التي أخضعها من أهالي الجنوب وأهل الكوش، وهم الذين أوقع بهم
في
مذبحة عظيمة لا يُستطاع حصر عدد قتلاها، كما ساق رعاياها أسرى إلى «طيبة» وملأ بهم
بيت
أعمال الإله «آمون» والده، وعلى رأس هذه الأقوام المقهورة نجد أهل «كوش»، ثم يأتي
بعد ذلك
أسماء مقاطعات عدة سُردت على غير نظام، نعرف من بينها «واوات» و«المازوي» و«بلاد بنت»
وقبيلة «إرم» التي ذُكرت في حملة «حتشبسوت» إلى بلاد «بنت» وهي التي جيء منها بابن
أميرها
مع الجزية في العام الرابع والثلاثين من حروب «تحتمس»، كما كان يؤتى بأولاد أمراء
«سوريا».
وليس في مقدورنا على حسب ما وصلنا عن هذه الأقطار السودانية أن نحدد بالضبط موقع هذه
الأقاليم التي ذكرها لنا «تحتمس الثالث» في قوائمه، والتي ذكرها الفراعنة الذين جاءوا
من
بعده. على أن الرسوم التي نجدها على جدران مقابر الأمراء تظهر لنا أن أهالي هذه البلاد
ينتمون إلى سلالتين مختلفتين تمام الاختلاف، وهما سلالة من السود بدون لحية وذوي شعر
قصير
ملبد محلًّى بريشة كما كانوا يتحلون بالأقراط، أما السلالة الثانية فهي من الجنس الحامي
الأسمر اللون الطويل واللحية المدببة. وهم لا يميلون إلى شن الحروب الطويلة.
٨
والواقع أنهم كانوا يعيشون على السلب والنهب في هضاب الصحراء التي تمتد على طول البحر
الأحمر، وهي تلك البقاع الغنية بمناجم الذهب العظيمة، والعامرة بقوافل التجارة التي
كانت
تخترقها، فكانوا يقومون بالهجوم كلما دعا الأمر للمحاربة دفاعًا عن حريتهم أو طلبًا
للغنائم
والأسلاب. وقد كانت هذه الغارات المتتالية سببًا في إرسال الفرعون الحملات التأديبية
لهؤلاء
البدو العصاة وأسر الجنود منهم والعبيد، على أن الفرعون «تحتمس الثالث» نفسه لم يكد
يشترك
على ما نعلم في هذه الحروب اللهم إلا في العام الخمسين من حكمه، وذلك عندما نسمع أنه
أمر
بتطهير القناة التي عند الشلال الأول، وهي التي كان قد حفرها جده «تحتمس الأول» عند
غزوه
لبلاد النوبة و«كوش»، وقد عاد أسطوله فيما بعد انتهاء حروبه كما فصلنا القول في ذلك
من قبل.
وينقسم وادي النيل نفسه حتى «نباتا» و«الشلال الرابع» منطقتين وهما: منطقة «واوات»
التي
يُطلق عليها بلاد النوبة السفلية، وتنتهي عند الشلال الثاني، والمنطقة الثانية هي
بلاد
«كوش» وتشمل وادي «دنقلة» حتى «نباتا»، وكانت كلتاهما في قبضة الدولة المصرية يسيطر
عليهما
ابن الملك صاحب «كوش». وقد كان محصول الجزية منظمًا كما في «سوريا»، فمنها ترد على
الدولة
المحاصيل التي نراها ممثلة على جدران مقابر عظماء القوم، ونخص بالذكر منها مقبرة «حوي»
التي
فصلنا القول فيها عند الكلام على صاحبها في عهد الفرعون «توت عنخ آمون»، فقد كان يرد
من هذه
الأقاليم العبيد والثيران ذات القرون القوية التي كانت تُستعمل مقابض لآلات مثبتة
في خشب،
وكذلك الذهب في هيئة حلقات وقضب، وخشب الأبنوس وسن الفيل وجلود الفهود، وبيض النعام
وريش
النعام، هذا إلى فهود حية وزراف وقردة، وكلاب صيد، فضلًا عن منتجاتهم المحلية، كالتي
ترد
إلى مصر حتى الآن، وهي صناعة قد نالت شيئًا من الرقي؛ مثل الدروع والسلات المجدولة
والعِصِي
المطعمة بالذهب، والمزينة بصور أزهار شجيرات. ونشاهد نساء وأطفالًا يصحبون البعوث،
وكذلك
الأطفال الصغار يحملهن أمهاتهن الزنجيات على ظهورهن في سلات، وكذلك نشاهد معهم عربات
فخمة
تجرها ثيران ويُرى بينهم رئيسهم وهو فاتح اللون يسير مستظلًّا من حرارة الشمس بمظلة.
ولدينا
نقش على صخور «أبريم» في بلاد النوبة السفلية يقص علينا كيف أن هذه الجزية كان يحملها
إلى
بلاد مصر ما لا يقل عن ألفين وستمائة وسبعة وستين رجلًا (راجع Breasted,
“The Temples of Lower Nubia”, A. J. S. L. XXIII. (1906) p. 38ff).
وبجانب ذلك نجد أن استعمار بلاد النوبة كان يسير بخطًى واسعة، وكان هذا مشفوعًا في
كل ناحية
ببناء المعابد التي كانت تُقام بجانبها مدن يدير شئونها حكام أو قوَّاد معاقل، وقد
رأينا أن
«تحتمس الثالث» في باكورة حكمه عندما كانت «حتشبسوت» وصية عليه قد أقام معبد الإله
المحلي
في «سمنه»، وهو الذي كان قد أقامه «سنوسرت الثالث»، وكذلك أقام معبد الإله «خنوم»
في «قمة»،
وفي «بوهن» (وادي حلفا) أقام معبدًا للإله «حور»، وفيما بعد أقام في العام الواحد
والخمسين
من حكمه مقصورة في صخور «الليثريا» بالقرب من «أبريم»، وكذلك المعبد الذي أقامه في
«أمدا»
للإله «حور أختي» وأتمه ابنه «أمنحتب الثاني»، وفي إقليم الاثني عشر ميلًا الواقع
جنوبي
الشلال الأول أقام «أمنحتب الثاني» معبدًا في «كلبشه»، أما في بلاد النوبة العليا
فكانت
المباني قليلة، ففي جزيرة «ساي» الواقعة في نقطة الوسط بين الشلال الثاني والشلال
الثالث
أقام ابن الملك صاحب «كوش» وهو الذي كان يدير بوجه خاص مباني الفرعون «تحتمس الثالث»
حصنًا
ومعبدًا، وجنوب ذلك أقام الفرعون في جبل «دوش» بالقرب من «صولب» مقصورة في الصخر.
وبعد ذلك
أقام «أمنحتب الثالث» معبدًا فخمًا في «صولب» نفسها، وكان يُعبد فيه بوصفه إله الجهة،
كما
كانت تُعبد زوجه «تي» في معبد «سدنجا» الواقع شمالي «صولب»، ولكن أهم مقر للمصريين
في بلاد
السودان هو «نباتا» التي تُعَدُّ الحدود الجنوبية للدولة حيث أُقيم معبد عظيم للإله
«آمون»
في الجبل المقدس «بركل» وهي في الواقع تُعَدُّ «طيبة» الثانية، ولم يبقَ من المباني
التي
أقامها المصريون شيء؛ ويرجع السبب في ذلك إلى التغيرات التي حدثت في المدينة، والمباني
الحديثة التي أنشأها «الأثيوبيون».
أما عن بلاد «لوبيا» فليس لدينا ما يستحق الذكر؛ إذ لم يَرِدْ ذكر الجزية التي تأتي
من
بلاد «تحنو» (لوبيا) إلا في نقوش عُثر عليها في «وادي حلفا» يرجع تاريخها إلى السنة
الثالثة
والعشرين من حكم «تحتمس الثالث»، (راجع Urk. IV, p. 809).
كما ذُكر خضوعها للدولة المصرية في قصيدة «تحتمس الثالث» الشهيرة، حيث ذكرت بلاد «تحنو»،
وكذلك جاء ذكر «التحنو» في قائمة أقوام الجنوب رقم ٨٨، أما الواحات فكان يحكمها حاكم
(حاتي
عا) (راجع Urk. IV, p. 57, 963)، وأما خراجها فقد جاء ذكره
في نقوش «بوام رع» (Hôlscher, “Libyer und Aegypter”, p. 59; Sethe, Urk.
IV, p. 523).
ويحدثنا الأستاذ «أحمد فخري» عن الواحات في كتابه (“Bahria Oasis”, p.
14). فيقول: «يرجع أول نظام قام في الواحات إلى عهد الأسرة الثامنة
عشرة، وقد كانت مقسمة مجموعتين، وكان لها حاكم أو حاكمان أحيانًا تحت إدارة حاكم العرابة.
ولكنها منذ الأسرة التاسعة عشرة قد أصبح لها حاكم خاص بها. وفي مقبرة «بوام رع» يوجد
منظر
هام نشاهد فيه الممالك المختلفة آتية بجزيتها، ويمكن الإنسان أن يميز على الجدار الذي
رُسم
عليه المنظر السوريين والبدو القاطنين في وادي «طليمات»، وفي الصف الثالث نشاهد سكان
الواحات، وقد مثلهم اثنان في زي المصريين، وهما يُشاهدان راكعين على الأرض أمام الكاتب
الذي
يسجل الجزية، وقد نُقش فوقها: «رؤساء سكان الواحات الجنوبية والشمالية.» وكُتب أمامها
«إحصاء جزية الواحات»، وقد رُسم ثلاثة من السكان جاءوا مع هذين الرئيسين، وقد وصفهما
المستر
«ديفز» كما يأتي: «إن السكان الأصليين قد مُثلوا في هيئة فلاحين بشعر مجعد وبدون لحية
ومحياهم مصري، ويرتدون قمصانًا قصارًا، ويحملون إناء خمر معلقًا في قضيب وكيسين أو
لفتين من
النسيج، وسلات على شكل خلية النحل، وهي لا تزال من مميزات صناعات القوم حتى الآن.»
وفي
مقبرة «رخ مي رع» يُوجد منظر آخر للجزية من الواحات نشاهد فيه بعض الأهالي بشعرهم
المجعد،
يحضرون أواني من الخمر ذات حجم عظيم محمولة في شبكة معلقة في قضيب. وكذلك يحضرون حصيرًا
ملونًا وجلد حيوان صغير (ثعلب؟)، ويمكن تمييز قميصين قصيرين أحدهما مخطط وليس بمصري
في
أسلوبه، ولكن الآخر يشبه القميص القصير الذي يلبسه كثير من مصريي هذا العهد. وكان
حاكم
العرابة هو المشرف على الواحات (راجع Gayet, Stele No. c, 26. Pl. XIX;
Brugsch “Thesaurus” p. 1479, 856)، وقد نالت الواحات عناية عظيمة من
جانب «تحتمس الثالث» كما يُفهم مما سبق. وخلافًا لمناظر سكان الواحات وحاكمها فإنا
نقرأ
كذلك عن حكام هذه الصحراء أي الصحراء الواقعة في غرب المدينة («طيبة») (راجع مقبرة
ددي
Ddy Thebes No. 200. XVII, Dyn). ويعتقد «جوتييه» (راجع
Gauthier, “Dict.Geog.” IV, p. 163) أن المقصود هنا هي
صحراء «لوبيا» وواحاتها (راجع كذلك Urk. IV, p. 616) في عهد
«تحتمس الثالث» حيث يذكر لنا أرض اليمين.
وبلاد «بنت» وطرائف حاصلاتها ذكر منها البخور والمر والذهب والأبنوس وسن الفيل وجلود
الفهود، وبيض النعام وحيوانات نادرة من كل نوع. ومع ذلك فإن هذه البلاد لم تكن إقليمًا
تابعًا للدولة المصرية، بل كانت مثل «قبرص» تربطها بمصر روابط التجارة وحدها، فقد
ذكرت لنا
تواريخ «تحتمس الثالث» مع الجزية التي كانت ترد بنظام من «سوريا» و«واوات» وبلاد «كوش»
حملات كانت تقوم بجلب غلات بلاد «بنت»، ولم يأتِ ذكر هذه الحملات إلا في سنتي ثلاث
وثلاثين
وثمان وثلاثين. وقد أرسل أهل «جنبتو» أي جنوب بلاد العرب وهي في جهات بلاد «بنت» إلى
بلاط
الفرعون «تحتمس الثالث» هدية من البخور في السنة الواحدة والثلاثين من حكمه (راجع
Urk. IV. p. 695).
ويُلاحظ أن بلاد «بنت» لم تُذكر بعد في حكم الفراعنة الذين جاءوا بعده اللهم إلا
بمناسبة
بعوث كانت تأتي منها محملة بالعطايا. وهذه وُجدت مصورة على مقابر عظماء القوم، وكانت
أرض
الإله هذه (بنت) عند المصريين محاطة بسياج من الأسرار والرهبة والغموض لبعدها ولما
قُصَّ
عنها من أساطير وخرافات. وغني عن البيان أن مناجم شبه جزيرة «سينا» قد استؤنف العمل
فيها
على قدم وساق كما ذكرنا من قبل. وفي شرقي مصر بالقرب من «سيلة (تل أبو صيفه الحالي)»
كان
يُوجد في هذا العهد غالبًا واحة منزرعة تنمو فيها الأشجار اليانعة، وتُزرع فيها الحدائق
الغناء والكروم وهي «طريق حور» التي كان يتسلم جزيتها «بوام رع» من رئيس البستان بمثابة
دخل
للإله «آمون» (راجع Urk. IV. p. 523)، وقد كان والد «سن
نفر» موظفًا فيها (راجع Ibid. p. 523)، ويحمل لقب «المشرف»
على البيت.
ولا نزاع في أن الدولة التي وهبها الإله «آمون» ابنه «تحتمس الثالث» وأخلافه من بعده
تُعَدُّ بحق أول إمبراطورية عالمية يستحق أن يُطلق عليها هذا الاسم؛ إذ قد استمرت
على الرغم
مما مر عليها من تقلبات عدة ما يربو على قرنين ونصف من الزمان ثابتة مشتملة على أقاليم
عدة
مختلفة، وقد هضمت في جوفها ثقافات عدة، ومن ثم نجد أن هذه الثقافات قد أثر بعضها حقيقة
في
بعضها، وقد كانت تختلف كثيرًا عن ثقافة الدولتين المصرية والبابلية في عهديهما القديم،
وهما
اللتان يتصف كل منهما بصفات مماثلة من حيث امتداد نفوذها وشدة التمسك بالمبادئ الأصلية
والنظم القويمة، مما هيأ لها البقاء مدة طويلة كما يحدثنا عن ذلك تاريخ كل منهما،
وعلى
العكس نجد أن كلًّا من هاتين الأمتين بما هُيئ لها من خلق ثقافة حديثة كانت تسيطر
على بيئات
عظيمة، وبذلك أمكنها أن تصل إمبراطوريتها إلى أعلى قمة المجد.
وكذلك نجد من الوجهة الطبعية أن الإمبراطورية المصرية كانت فريدة في تأليفها مما
لم يوجد
له مثيل في تاريخ العالم كله، فقد كانت تمتد حتى ما فوق خط عرض ثمانية عشر من «نباتا»
في
المنطقة الاستوائية إلى ما فوق شمالي «سوريا»، غير أن هذا الامتداد كاد يكون قاصرًا
على
الجنوب والشمال؛ وذلك لأن الأقطار الصحراوية التي تقع على كلا جانبي النيل إذا استثنينا
مناجم الذهب الواقعة في بلاد النوبة ليس لها أية فائدة تُذكر بالنسبة لحجمها، وحتى
في أرض
الدلتا الخصبة وبلاد «سوريا» نجد أن الأراضي المنزرعة لا تربو على عشرة أو اثني عشر
ميلًا
في الاتساع في أية بقعة من بقاعها. وكذلك يُلاحظ أن اتساع رقعة الأرض المنزرعة على
ضفتي
الوادي في القطر المصري لا يزيد متوسطها عن ميلين، هذا فضلًا عن أنها تنقص جنوبي «طيبة»
حتى
يصبح الشريط الضيق الصالح للزراعة في بلاد النوبة ضئيلًا جدًّا. وتقع مدينة «طيبة»
عاصمة
الإمبراطورية، وهي التي كانت تخرج منها الرسائل إلى أنحاء الدولة، على وجه التقريب
في نقطة
وسط في هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، أما الطريق الحربي الذي يبتدئ أولًا في
القطر
المصري من «طيبة» حتى «منف»، ثم منها حتى نقطة الحدود في «سيلة»؛ أي من «تل أبو صيفه»
الحالية الواقعة بين بحيرتي المنزلة والبلح، مخترقة صحراء شبه جزيرة «سينا» إلى «غزة»،
ثم
تسير بمحاذاة الشاطئ، ثم تخترق وادي «نهر الكلب» إلى شمالي «سوريا» فيبلغ طولها من
«طيبة»
حتى بلدة «ني» أو حتى نهر الفرات حوالي ستمائة وألف من الكيلومترات.
٩
ويجب أن يبرز الإنسان هذه المسافات حتى يمكنه أن يفهم بحق مقدار ما أبداه الفراعنة
من
النشاط، ومقدار ما وضعوا من نظم لجعل هذه الإمبراطورية متماسكة الأطراف بتأمين طرق
مواصلات
جنودها، ووضع قواعد وأنظمة لتسهيل وصول جزيتها وبعوثها، ولسير أساليب الحكم والإدارة
فيها،
ومراقبتها مراقبة دقيقة عن كثب. ولدينا صورة ناطقة تحدثنا عن تجمع السلطة الإدارية
في
البلاد رُسمت على جدران مقبرة مدير مخازن الغلال المسمى «خع إم حات» الذي عاش في عهد
الفرعون «أمنحتب الثالث»، وقد تحدثنا عنه فيما سبق. إذ في مناسبة العيد «سد» أي العيد
الثلاثيني وهو الذي أُقيم في السنة الثلاثين من عهد الفرعون؛ وصل إلى الفرعون الحساب
الختامي عن محصول الدخل لوادي النيل في هذا العام، على يد مدير مخازن الفرعون وموظفي
الجنوب
والشمال من بلاد «كوش» حتى حدود «نهرين»، وقد كُوفئ الموظفون لأنهم قد زادوا في المحاصيل
(أي الجزية)، في حين أنه هو نفسه أنعم عليه بالذهب، وقد بلغ مقدار المجموع الكلي لحصاد
هذا
العام ٣٠٠ و٣٣٣ و٣٣ بوشل من الحبوب (راجع L. D. III, Pls. 76, 77; Loret,
“Mem. Miss. Franc”, I. p. 120).
وكان يحيط بهذه الدولة العظيمة في أفريقية قبائل البدو الذين يعيشون في السهول والصحاري
من اللويين والسود وغيرهم من القبائل الحامية هذا إلى بدو شبه جزيرة «سينا» وسهول
بلاد
العرب و«سوريا». وهؤلاء يربطهم بالفرعون خيط رفيع واهن من الصداقة؛ إذ كان من الصعب
كبح
جماحهم، ومع ذلك نجد أنهم كانوا يقدمون إليه العبيد والإماء بكثرة، وكذلك كانوا يُستخدمون
في الجيش المصري جنودًا مرتزقة.
وكان البحر هو الرابط بين مصر والعالم الإيجي وثقافته، أما في «آسيا» فكانت الدولة
المصرية على اتصال مباشر بثقافات البلاد المحيطة بها وهي «بابل» وآشور وبلاد «متنى»
ومملكة
«خيتا»؛ ولأن هذه الدول كانت تشعر بأن قيام السيادة المصرية في «سوريا» يُعد جرحًا
داميًا
لا يندمل وكسرًا لا يُجبر بالنسبة لضياع نفوذ بلادهم وقوة سلطان مصر فيها. وعندما
كان أمير
بلاد «متنى» يعمل مع الأمم التي كانت تقاوم مصر كان في مقدور ملوك الكاسيين أصحاب
«كاردونياش» أن يظهروا نشاطهم في هذه البقعة؛ إذ كانوا يدعون إرث السيادة على بلاد
«سوريا»،
على أنه لو اتحدت كل هذه الدول المجاورة يدًا واحدة على مصر فربما كان من الممكن وقف
تقدم
الفرعون في هذه الأصقاع، غير أن مثل هذا الاتحاد كان بعيد المنال؛ لما بين هذه الدول
من
المنافسات، ولذلك فإن تفرقهم قد جعل مقاومة أي واحدة منها على انفراد قصير الأمد لقلة
ما
لديها من الرجال والعتاد.
ثروة مصر وتأثيرها في الممالك المجاورة
وفي الحق لم تكن سيادة مصر ترتكز على نظامها الحربي وحسب، بل كان سندها الأكبر يعتمد
على مواردها المادية التي كانت تحت تصرف مليكها، وبخاصة ما نشأ فيها من مصانع، وما
قام
فيها من أعمال فنية، وصناعات دقيقة، وأكثر من كل هذا ما كان يُجبى للبلاد من المعادن
الثمينة التي كان لا ينضب معينها، وبخاصة من الذهب الذي كان يُجلب إليها من مناجم
الذهب
في بلاد «النوبة» بمثابة جزية سنوية، كما كان يتدفق عليها من بلاد «بنت»، ولم يكن
في
مقدور أية مملكة من الممالك البعيدة المجاورة لإمبراطوريتها أن تجاريها في هذا المضمار،
وبذلك استعملت مصر هذا المعدن البراق وسيلة لإخضاع كل الأمم التي تحيط بها لشدة حاجتهم
إليه وعدم وجوده عندهم بهذه الكثرة المنقطعة النظير، وعلى أية حال، فقد أرسل ملوك
«بابل» و«آشور» و«قبرص» ومملكة «خيتا» ومملكة «أرابخا Arrapacha» المرة تلو المرة هدايا ثمينة للفرعون «تحتمس»، وقد عدَّها
هذا الفرعون من جانبه بمثابة جزية مفروضة على تلك الأمم، غير أنه مما لا شك فيه أن
الفرعون كان يرسل في مقابلها هدايا أخرى كما نعلم ذلك من خطابات «تل العمارنة» وبخاصة
الذهب. وكانت العلاقات السياسية المنظمة التي نشأت بين مصر وهذه البلاد الآسيوية
تسير
على ما يرام كما ذكرنا، وإن كانت أحيانًا تنقطع لمدة قصيرة في أحوال نادرة، وكانت
تُدوَّن باللغة البابلية والخط البابلي حتى مع آسيا، ولم نجد إلا حالات فردية كتب
فيها
كل من ملك «متنى» وملك «خيتا» بلغته الأصلية. وكذلك كان على الفرعون أن يستعمل هذه
اللغات الأجنبية في مكاتباته؛ ولذلك أوجد له كتابًا بلغة غير اللغة المصرية، وبذلك
أصبح
الاتصال بينه وبين الثقافة الشرقية القديمة وثيق العرى متين الأساس (راجع
J. E. A. Vol. XXIII, p. 190ff).