الحياة الدينية
الثقافة والدين
لقد ظلت التقاليد المصرية القديمة في البلاد سائرة في طريقها مدة تربو على ألف ونصف ألف من السنين، كانت في خلالها تخطو نحو الكمال، وهذه التقاليد كانت تسيطر على الحياة المصرية كلها، ووجهت نظر المصري إلى الحياة والأوضاع التي يفكر على هداها، وغرست فيه الأحاسيس التي يندفع متأثرًا بها، كما كان للبناء الجديد الذي بُنيت على أسسه الدولة الحديثة أثره في قلب نظام الحكومة؛ فقد كان كل ما يسعى إليه هو إقامة أنظمة سياسية وحربية تغاير النظم القديمة، وكان القصد منها إعادة ما كان لمصر من مجد تليد في الأزمان السالفة مع السير مع الحضارة في نموها وتقدمها، وذلك بتنفيذ أوامر الآلهة الذين امتدت بقوتهم أملاك الدولة. وقد بقيت مكانة الفرعون وألقابه لم يصبها أي تغيير، كما حافظت الحكومة على ألقاب الموظفين القديمة بقدر ما سمحت به الأحوال، وقد بقي كذلك تقسيم البلاد الأسمى قسمين: الوجه القبلي والوجه البحري، وإن أصبح لا يتفق مع الواقع، وقد صار الإله «آمون» إله العاصمة الجديدة، ورأس جماعة الآلهة في العالم المصري، وبذلك أخذ مكانة الإله «رع» الذي كان يُعد حاكم العالم، وحامي الدولة، ووالد الملك الذي أنجبه من صلبه، مما زاد في سلطانه وعظمته ورفعه عن الآلهة الآخرين. على أن كل ذلك ليس إلا نتيجة للتقدم الديني الذي بدأ منذ الدولة الوسطى في اللاهوت المصري، وما أحاط به من أسرار وغموض على يد الكهنة مما جعلهم يصلون إلى مكانة يُحسدون عليها في البلاد كلها.
وقد وقع على عاتق أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة القيام بإنجاز أعمال كثيرة وإعادة النظام إلى ربوعه بعد الخراب الذي حاق بالبلاد في عهد الهكسوس، فكان عليهم أن يعيدوا إقامة المعابد والشعائر الدينية الخاصة بها، وما يتطلبه تجديدها من أموال طائلة، فما بقي لنا من قطع فنية من نحت هذا العصر وهو قليل — كانت تشبه القطع المنحوتة في الدولة الوسطى — وكذلك الكتابات التي وصلت إلينا كانت متمسكة أشد التمسك بالأسلوب الكلاسيكي الذي ساد عهد الدولة الوسطى، ولكن ما لبثت الأحوال أن تغيرت رويدًا رويدًا وظهرت أفكار جديدة وأشكال مبتكرة في عالم الوجود. وقد كان أول من خرج على التقاليد القديمة في بناء قبره هو «أمنحتب الأول» ثم «تحتمس الأول» الذي يُعد قبره وما اتُّخذ له من عدة خروجًا صريحًا على عادات أجداده الفراعنة في الدفن؛ فقد أقام قبره كما ذكرنا في واجهة صخرة في الوادي الصحراوي المعروف الآن بوادي الملوك، وبذلك حتم عليه أن يفصل معبده الجنازي عن القبر الذي يثوي فيه جسمه.
المقابر الملكية وتطورها
وقد كان لهذا التجديد في إقامة المدفن الملكي أثر بالغ في فن البناء المصري فقد بطلت إقامة هرم من اللبن أمام قبر الملك أو قبور عظماء القوم كما كانت الحال في البلاد حتى عهد «أمنحتب الأول»، ويدل على ذلك أن أقدم قبر كُشف عنه حتى الآن في «طيبة» لكبير من علية القوم يرجع تاريخه إلى عهد «تحتمس الأول»، والظاهر أن نحت قبور الفراعنة ونحت قبور الموظفين في الصخر قد ظهرا في وقت واحد. والواقع أن المصري عندما يكوِّن فكرة وينفذها كان من الصعب عليه جدًّا أن يتخلى عنها، وإن تقادم عليها العهد حقيقة وأصبحت فكرة بالية فإنه كان لا يزال يتعلق بأهدابها بصورة ما؛ ولذلك نجد أن القوم قد اتخذوا بدلًا من الهرم الذي كان يُقام من اللبن أمام المقبرة في عهد الأسرة السابعة عشرة هرمًا صغيرًا من الحجر يرسمون على واجهاته الأربع المتوفى وهو يتعبد لإله الشمس عند شروقها وعند الغروب.
وعندما أخذ أمراء الإقطاع يستقلون بالحكم في مقاطعاتهم في أواخر الأسرة الخامسة بدأ استعمال المقابر المنحوتة في الصخر، فكان العظماء ينحتون قبورًا يحتوي كل منها على ردهة أمامية ومدخل عمودي طويل يؤدي إلى حجرة الدفن، وقد كان يُضاف إلى ذلك حجرات أخرى. أما في قبور الملوك فكان هذا التصميم نفسه يتقدم ويتسع من عهد إلى عهد بدرجة عظيمة فتضاف إليه قاعات عدة وحجرات جانبية، وقد كان يؤدي إلى حجرة الدفن وما يتبعها من الحجرات الأخرى سلم يمتد في أعماق الصخر إلى مسافات بعيدة، وقد كان يوضع كل التصميم بجميع تفاصيله. ويدل موقع المقبرة وطريقة تنفيذ بنائها على كيفية السيطرة الفنية التي نشاهدها في مقبرة «تحتمس الأول» حتى مقبرتي «أمنحتب الثاني» والثالث، كما نشاهد التقدم الدائم في تحسينها وتفخيمها؛ فجدران المقبرة وجدران التابوت الضخم الذي كان يُصنع وقتئذٍ من حجر بلاد النوبة الرملي، ثم استُبدل به في عهد الأسرة التاسعة عشرة جرانيت «أسوان» مزينة بالكتابات والصور، وبمناظر أخرى عدة من حياة الفرعون في مملكة «أوزير» ومملكة «رع» ويتبع ذلك تعاويذ لسياحة إله الشمس في سفينتي الليل والنهار، وما يتبعهما من عقبات وصعاب، ومحاربة الثعبان «أبوفيس».
تطور مقابر الأشراف
ولا نرى شيئًا من هذه المناظر في مقابر علية القوم بل كانت رسوم جدرانها خاصة بمناظر الحياة الدنيا، وما كان يتمتع به المتوفى مدة مكثه على الأرض، فنشاهده يقيم الولائم لأسرته وأقاربه، ويشرف على حقوله ومحصولاتها كما نراه يذهب للصيد والقنص في عربته أو مع أفراد أسرته في البطاح والبرك، ويجلس في حديقته، ويتمتع بأزهارها الفيحاء وينعم بهوائها العليل، وكذلك نشاهده يقوم أحيانًا بفحص الجزية الواردة للفرعون من البلاد الأجنبية، وبخاصة من سوريا وبلاد الكوش، ثم غيرها من البلدان التي كانت تحت سلطان الفرعون أو مصادقة له، هذا وقد رسم بعض أصحاب هذه القبور ما كان يشرف عليه من الحرف والصناعات وغير ذلك مما له علاقة بعمله والحياة الاجتماعية؛ ولذلك نجد في رسوم هذه المقابر سجلًّا لحياة الشعب كما فصلنا القول في ذلك. وهذه المناظر على ما يظهر كان معظمها تقليدًا؛ فقد نُقل بعضها عن مقابر الدولة القديمة، وبعضها عن مقابر الدولة الوسطى مع ظهور بعض تجديد في عهد الدولة الحديثة، وبخاصة مناظر تجنيد الجيوش واستقبال وفود البلاد الأجنبية، وإرسال البعوث إلى الأقطار النائية والعودة منها، وكيفية إقامة المباني الضخمة والاحتفال بتنصيب كبار الموظفين، وظهور صور الملوك وما يلقونه من تعليمات على كبار موظفيهم، وغير ذلك من مظاهر الحياة الجديدة التي كانت تستلزمها العلاقات الدولية الحديثة. وهذه المناظر التي ذكرناها ليس لها مكان في قبور الملوك، ومكانها في الواقع المعابد الجنازية التي أقامها هؤلاء الفراعنة لأنفسهم عند سفح الجبل بالقرب من شاطئ النهر، ومع ذلك فإن هذه المعابد قد تغيَّرت صورها الأصلية عما كانت عليه؛ فقد أصبحت عبادة «آمون» والإلهة «حتحور» حامية الجبانة متصلة بالشعائر الفرعونية، وكذلك ظلَّ الفرعون الذي رُفع بعد الموت واتحد مع قرص الشمس (كما تقول الصيغ الرسمية) عائشًا هنا وعلى اتصال وثيق بالآلهة التي أوجدته وأرضعته بلبانها. ومما يؤسف له جد الأسف أن كل معابد الأسرة الثامنة عشرة قد اختفت من الوجود تقريبًا اللهم إلا معبد «حتشبسوت»، ويرجع السبب في بقائه إلى بعده عن الأراضي الزراعية وقربه من سفح الجبل، ومع ذلك فإنه بدوره قد تهدم ودُفن مؤقتًا، وكان قد اتخذه الأقباط ديرًا لهم، وعبثوا كثيرًا بنقوشه، ولكن أساسه ظل حافظًا لكيانه مما سهل إعادة بنائه من جديد في الأزمان الحديثة. وهذا المعبد هو الذي ابتدع تصميمه مهندس البناء «سموت» كما فصلنا القول في ذلك (راجع الجزء الرابع).
المعابد في عهد الأسرة الثامنة عشرة
لقد كانت إقامة معابد الآلهة في الأسرة الثامنة عشرة من أهم الأمور التي شغلت بال الفراعنة؛ فإنهم وجهوا إليها عنايتهم التامة وبخاصة معبد الإله «آمون» الذي كان يُعد الإله الأعظم للدولة في طول البلاد وعرضها. والواقع أن اهتمام الفراعنة ببناء المعابد لهذا الإله والزيادة فيها مثل معبد الكرنك والأقصر و«طيبة» الغربية كان شغلهم الشاغل. فقد كان الفرعون أحيانًا يفضل إقامة معبد للإله «آمون» أو غيره من الآلهة على إقامة معبد جنازي لنفسه، حقًّا نجد الفراعنة كانوا يقيمون المحاريب للآلهة، ويجهزونها بكل المعدَّات في كل زمان ومكان، غير أن بناء المعابد الضخمة التي تمثل لنا الفكرة الدينية المستحوذة على أفكار الملوك والشعب وقتئذٍ لم نشاهدها قط في كل عصور التاريخ المصري القديم، الذي سبق عهد الأسرة الثامنة عشرة إلا مرة واحدة في معبد الشمس الذي أُقيم في عهد الأسرة الخامسة في بوصير، ولا نجد غير ذلك معبدًا للإله شيد بجوار المعابد الجنازية التي أُقيمت للأهرام. أما في عهد الدولة الوسطى فتدل النقوش وما كُشف عنه حديثًا من الآثار على أنه كانت توجد معابد للإله في «عين شمس» و«الفيوم» و«الكرنك» و«الأقصر» (راجع ج٣)، وهذه لم يبقَ منها قائمًا في مكانه إلا معبد الإلهة «رنوتت» في «كوم ماضي» بالفيوم، أما سائرها فقد عفت عليه الأيام وأُقيمت مكانها معابد أخرى. ومنذ الأزمان القديمة أخذت أشكال هذه المعابد والاحتفال بالأعياد الدينية فيها تتخذ صورة جديدة نامية راقية لتساير ما نال البلاد من تقدم وعمران، كما أن التصميم الهندسي لهذه المعابد اتخذ صورة جديدة. ولكن إقامة المباني الضخمة لعبادة الآلهة في مدة تبلغ نحو نصف ألف سنة، وهو عهد الدولة القديمة لم يحدث إلا مرة واحدة، وذلك في عهد الأسرة الخامسة عندما كانت عبادة إله الشمس قد بلغت قمتها وسادت البلاد. على أن ذلك العهد لم يمكث إلا مدة لا تزيد على مائة سنة، وبعدها أخذت البلاد تسقط في مهاوي الفوضى والضلالة، فذهبت معها تلك الفكرة الدينية العظيمة، وتمزق شمل استقلال البلاد. ولما عادت للبلاد وحدتها واستردَّت عظمتها في عهد الأسرة الثانية عشرة أقامت معابد للآلهة في طول البلاد وعرضها، وبخاصة معبد الإله «آمون» الذي أُقيم في «الكرنك»، وكذلك المعبد الذي أقامه «سنوسرت الأول» للإله نفسه هناك، غير أن هذه المعابد كانت متواضعة في مساحتها بل لا تزيد عن أربعين مترًا مربعًا، وكذلك كانت الحال في المعابد التي أُقيمت للإله «بتاح» في «منف»، ومعبد الإله «ست» الذي أقامه «الهكسوس» في «أواريس» (تانيس)؛ فقد كانت كلها معابد صغيرة الحجم إذا ما قِيست بما أُقيم من معابد في عهد الأسرة الثامنة عشرة.
ولا نزاع في أننا نجد في عهد الأسرة الثامنة عشرة أن الفكرة الدينية التي كانت قد ظهرت في عهد الأسرة الخامسة قد أخذت تنمو وترقى بدرجة عظيمة، وقد زاد في نموِّها وظهورها الانتصارات التي كان يحرزها الفرعون بمعاونة الإله الأكبر، ولذلك كان حقًّا عليه أن يقوم لهذا الإله الذي كفل له النصر على أعدائه بجزء عظيم مما أفاء به عليه الآلهة.
ولقد نال نصيب الأسد من هذه الغنائم التي استولى عليها الفرعون إله الدولة الأعظم «آمون» رب «طيبة»؛ فشيد له المباني الضخمة لإقامة شعائره وتمجيده.
وقد شاهدنا أن كلًّا من «أحمس الأول» و«أمنحتب» قد أخذ في إقامة المباني للآلهة في مختلف جهات القطر وبخاصة في معبد الكرنك. غير أن الاتجاه العظيم والمجهود الضخم الذي بذله الفراعنة لم يقم إلا منذ عهد «تحتمس الأول»؛ فقد أقام أمام المعبد القديم للإله «آمون» في «الكرنك» (الذي كان قد أُزيل تمامًا بما أقيم مكانه من المباني الجديدة) بوابتين ضخمتين إحداهما خلف الأخرى، كما نصب أمامهما مسلتين عظيمتين أقامت أعظم منهما الملكة «حتشبسوت» ابنته، وقد بنى الفرعون «تحتمس الثالث» حول مسلتي «حتشبسوت» جدارًا ليحجز ما عليهما من نقوش عن الأنظار انتقامًا منها، وأقام هو في «الكرنك» بدوره مسلتين، وكذلك غيَّر شكل الحجرات الداخلية تغييرًا عظيمًا بإقامة بناء حجرة داخلية نقش على جدرانها تاريخ حروبه منذ الحملة الأولى حتى العام الثاني والأربعين من حكمه كما فصلنا القول في ذلك في الجزء الرابع.
وكذلك أقام «تحتمس الثالث» خلف المعبد الكبير معبدًا للإله «آمون» وقد فصلنا فيه القول (راجع الجزء الرابع).
والواقع أن المعبد كان يُقام تخليدًا لذكرى كل من الملك والإله العظيم، والآلهة الأخرى الذين كانوا أتباعه. وفضلًا عن ذلك كان المفروض أن يعد الفرعون والإله وحدة لا انفصام لها في معبد الإله أو في المعبد الجنازي الذي كان يقيمه الفرعون على الضفة اليمنى للنيل بالقرب من مثواه المنحوت في التلال المجاورة. وكذلك كان الإله الحي والفرعون الذي يصعد إلى السماء متصلين بعضهما ببعض اتصالًا وثيقًا لدرجة أن الأعمال العظيمة التي كان يقوم بها الفرعون كانت تُعَدُّ آتية عن طريق الإله؛ لأنه هو الذي انتخبه ونصبه على العرش، ولذلك كان الفرعون من جانبه يعلن عظم قوته وسلطانه الذي لا حد له، ومن أجل ذلك نجد «تحتمس الثالث» وغيره من الفراعنة قد نقشوا على جدران معابدهم قوائم مطوَّلة بأسماء الأقوام الذين قهرهم، والبلاد التي فتحها. وقد دوَّن لنا هذا الفرعون على جدران معبد «الكرنك» كما فعلت «حتشبسوت» من قبله على معبد «الدير البحري» بصورة خيالية كيفية اعتلائها العرش بوساطة الإله الذي نادى بها ملكًا في قاعة المعبد (راجع الجزء ٤). وكذلك عدَّد لنا المباني والهدايا التي قدَّمها للإله «آمون» من حروبه المظفرة، ورسم لنا النباتات التي أحضرها من «سوريا» وغرسها في حديقة المعبد كما دوَّنت لنا «حتشبسوت» حملتها إلى بلاد «بنت» التي أرسلتها لإحضار أشجار البخور لتُزرع في حديقة معبدها (راجع الجزء الرابع).
ومما يسترعي النظر أننا لم نجد حتى الآن صورًا تمثل لنا الحروب والمواقع الحربية في تلك الفترة من تاريخ مصر. حقًّا يمكن الإنسان أن يرى مفتن هذا العصر قد صوَّر لنا صور الأجانب بدقة ومهارة، ورسم لنا صور حيوانات البحر في خلال الحملة التي أرسلتها «حتشبسوت» إلى بلاد «بنت» والنباتات التي أحضرها «تحتمس الثالث» في أثناء غزواته لبلاد «آسيا»، كما أن نقوش «الدير البحري» ونقوش المقابر الخاصة وما على جدرانها من مناظر قد مثل فيها تفاصيل الرحلات البحرية التي قام بها الأسطول المصري إلى بلاد «بنت»، وكذلك المحاصيل والجزية التي أحضرها سفراء البلاد الأجنبية، وسير الجنود وحركاتها … إلخ، غير أن ذلك كله لم يخرج عن دائرة المناظر العادية التي نشاهدها منذ القدم على جدران المقابر مثل مناظر العمل في الحقول وفي مصانع العمال، وكذلك ما نجده متجمعًا من طوائف الناس الذين حُشروا جنبًا لجنب مرتَّبين في صفوف على الجدران، بعضهم فوق بعض، كما نشاهد في المناظر القليلة التي بقيت لنا من عهد الدولتين القديمة والوسطى عند مهاجمتهم قلعة من القلاع أو حصنًا من الحصون. أما منظر موقعة حربية بالمعنى الحقيقي نجد فيها الجيشين المتحاربين قد تلاحمت جنودهما، واشتركت عرباتهما في المعمعة معًا، فلم يكن المفتن المصري قد تجاسر بعد في عهد «تحتمس الثالث» أن يصوره لنا على جدران المقابر أو في الآثار التي وُجدت من عهده حتى الآن. وقد كان أول تصوير وصل إلينا من موقعة حربية اشتركت فيها العربات والمشاة هو المنظر الذي نشاهده على جسم عربة «تحتمس الرابع»، ومن العجيب أن هذا المنظر بعينه قد أصبح فيما بعد النموذج للموقعة الحربية في العهود التي تلت، وهو ما نشاهده في الموقعة التي صُوِّرت على صندوق «توت عنخ آمون» في عهد تلك الأسرة كما سنرى بعد. والواقع أن هذا المنظر لا يمثل أمامنا مجرى الحرب في ساحة القتال، بل يمثل لنا الفرعون المنتصر الذي لا يمكن لعدو أن يقهره؛ إذ نشاهد فيه الفرعون واقفًا وسط المعمعة في عربة يجرُّها جوادان من أصائل الخيل، وقد رُسم بحجم عظيم جدًّا تتضاءل بجانبه العربات الأخرى التي في ساحة القتال، وهو يهاجم عربات العدو مفوقًا إليها سهامه فتفر من أمامه مهزومة مدحورة، والقتلى مضرجين بدمائهم على الأرض، والسهام عالقة بأجسام العدو وحسب.
موازنة بين فن العمارة المصري والإغريقي
على أن التناقض الصارخ بين الثقافتين يظهر جليًّا في فن العمارة؛ إذ نشاهد أن الطموح نحو إقامة المباني الضخمة الأثرية قد انعدم تمامًا في القصور الكريتية، في حين نرى أن المصري منذ بداية التاريخ كان جل همه ومعقد آماله أن يقيم المعابد الضخمة والأضرحة الصلبة، وكان يرمي من وراء ذلك إلى مغالبة الدهر وهزيمة الموت، ولذلك أراد أن يقيم لروحه بدلًا من مأواه الزائل الذي بناه على الأرض مسكنًا خالدًا يهزم الزمن ويقهر الموت معًا. وقد أفلح المصري فلاحًا مبينًا في عهد الدولة الحديثة في محاولته هذه عندما أقام تلك المعابد العظيمة، والواقع أنها في أسسها وفي مبانيها منقطعة القرين من حيث الضخامة وسعة الحجم ومتانة المادة وروعة المنظر وبهاء الطلعة والتأثير في النفس، هذا فضلًا عن أن مداخل هذه المعابد قد أُحكمت أجزاؤها، وناسب تنسيقها ضخامة البناء؛ مما ألَّف وحدة جميلة ترتاح إليها النفس وتجذب إليها النظر؛ فنرى قاعاتها الفسيحة الأرجاء المقامة على عُمد ضخمة كانت قد ابتُدعت منذ الدولة القديمة على هيئة سيقان النخل الباسقة وسيقان البردي اليانعة، غير أنها قد أُقيمت بصورة ضخمة في عهد الدولة الحديثة في ساحة المعبد وقاعاته، فكانت بهجة للناظرين، وقد زاد في جمالها ما حُليت به جدرانه من نقوش وصور خلابة بألوان متناسبة يرتاح إليها النظر بما أُقيم أمامه وداخله من تماثيل ضخمة للإله الذي أُقيمت من أجله وللفرعون الذي أعلى بناءها.
المعبد المصري: فكرته وصورته
وإذا وازنا المعبد المصري بالمعبد الإغريقي وجدنا بينهما وجه قرابة، وبخاصة الأهمية الكبيرة التي كانت للأعمدة في كل من البلدين، هذا فضلًا عن أننا نجد أن كلا المعبدين يتقابلان في نقطة واحدة، وهي أن مباني المعبد الإغريقي في مدة القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وكذلك المعبد المصري في عهد الدولة الحديثة، والكاتدرائية في عهد القرون الوسطى؛ لم يكن كل منها إلا عنوانًا لعصر بعينه قد تمثل فيه حب التدين المتزايد المشفوع بالطموح لجعل هذا البناء المقدَّس على جانب عظيم من الفخامة والبهجة، وذلك بفضل مساعدة الإله وقوة بطشه وعظيم سلطانه. غير أن المعبد المصري في داخله كان يختلف اختلافًا بينًا عن المعبد الإغريقي.
موازنة بين المعبد المصري والمعبد الإغريقي
فالمعابد الإغريقية التي نشأت على غرار بناء القصور — وهي التي كانت عندما تسمح الأحوال تُقام على ربوة — كانت مأوى الإله الرسمي، الذي كان يشرف منه على ما حوله من مناظر طبعية، فهذا المعبد تنجذب إليه الأنظار من بعيد، ويترك في النفس أثرًا عظيمًا لتناسق أجزائه وجمال وضعه، وبخاصة بما تضفيه عليه مجموعة العُمد التي تحيط به وتظهره كأنه وحدة من المباني منفردة، غير أنه لا يترك في النفس أثر السرية الدينية ورهبة التقى الإلهي، أما المعبد المصري فإنه على العكس قد أُقيم ليبعث في النفس ذلك الجلال الديني والغموض الخفي الذي توحي به القوة الإلهية؛ ففي الخارج نجده محاطًا بسور مغلق، وفي واجهته الضيقة بوَّابة هائلة يعلوها برجان، وعلى كلا جانبيها نُصب عمودان يرفرف في أعلاهما علمان ينطحان السماء علوًّا ورفعة، وبذلك تكون المدينة التي يسكن فيها الإله منفصلة تمام الانفصال عن عامة الشعب الخارجين عن هيئة رجال الدين، ولذلك كان كل داخل من هذا الباب الضيق يعد نفسه قد بعد عن سلطان عالم الدنيا، واقترب من عالم الإله، وقد كان المحراب الذي يُوجد فيه الصندوق المغطَّى بفاخر الكتان والمزيَّن بالرموز، وهو الذي كان يُحفظ فيه تمثال الإله موضوعًا في الحجرة النهائية من المعبد يخيم عليها الظلام الدامس وتكتنفها الرهبة. وقد كان منصوبًا في السفينة المقدسة التي تُحمل على أكتاف الكهنة وتظهر للعيان أمام الشعب في قاعة المعبد العظيمة إذا تطلبت الأحوال ظهوره ليوحي إليهم بمهام الأمور التي يتوقف عليها كيان الدولة وسيرها، وذلك في حضرة الفرعون، وكان عند الاحتفال بأعياد خاصة يخرج هذا الإله لزيارة الآلهة الآخرين في معابدهم وهم يسعون لزيارته، هذا فضلًا عن أنه كان يظهر في يوم انتخاب الفرعون الذي سيحكم البلاد بعد رفع الفرعون الحاكم إلى السماء.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن التصميم الأصلي كان يوضع دائمًا بطريقة تجعل البناء قابلًا لإقامة إضافات جديدة عليه دون أن يمس جوهر المعبد الأصلي أو يشوه صورته ووحدته المتناسقة، وقد كانت هذه الفكرة السائدة في بناء المعبد هو أن يبقى على مر الأيام وكر الدهور، كما كانت الفكرة في بناء القبر، وذلك على عكس فكرة بناء القصر الملكي الذي لم يكن الغرض منه إلا عرض الحياة الدنيا؛ ولذلك كان يبنى المعبد سواء أكان للملك أو الإله لتسكن إليه روح المتوفى، وليمثل ما كان عليه من قوة وعظمة، وليبقى هو أبديًّا ما بقي أثره، ومن أجل ذلك نجد الفرعون يقيم قاعات عمد ضخمة كأنها الغابات ذات الأشجار الباسقة والقاعات الشاسعة الأرجاء والتماثيل الضخمة التي تمثل الملك والإله أيضًا، والمسلات التي تناطح السماء في علوها وبهائها التي كان ينصبها عند مدخل معبده العظيم. ولكن بالموازنة نجد أن كل هذه الأشياء لا تقع تحت حس الإغريقي؛ ولذلك نجد المعابد اليونانية خالية منها، ومن جهة أخرى نرى أن المعبد المصري أُقيم بفكرة تمثل الشعور الديني الذي نجده في الكنائس الرومانية والقوطية؛ ولذلك نجد أن الروح الذي نشاهده سائدًا في الشعائر المصرية بصورة غاية في الاعتناء والدقة، وهي التي يطلق فيها البخور في ساحات المعبد، يوجد نظائرها في الكنائس الرومانية والقوطية، كما نشاهد كذلك أن في كليهما قد فُصل «قدس الأقداس» وما يتبعه من أدوات عبادة عن أعين غير رجال الدين في حجرات خاصة لا يُسمح بدخولها ورؤية محتوياتها إلا لأولئك الذين يعرفون الأسرار الدينية من الكهنة.
بيت الولادة
غير أن شيوع هذه العادة لم يعم إلا في العهود المتأخرة من التاريخ المصري، والظاهر أن ذلك قد جاء عن طريق تأثير آسيوي. وفي عهد الأسرة الثامنة عشرة نجد بجوار المعابد الكبيرة محاريب صغيرة أُقيمت على ما يظهر بفكرة أخرى مختلفة، وهذه المحاريب هي التي كانت تُسمى في عهد الإغريق ﺑ «بيوت الولادة»، وكانت تُقام على قاعدة مرتفعة يصل إليها الإنسان بسلم يؤدي إلى داخل المحراب بواسطة بوَّابة محمولة على عمودين، ويؤدي إلى الحجر الداخلية ممشًى في وسط عمد تحمل السقف يستطيع الإنسان من خلالها أن يرى ما هو خارج المحراب. وهذه المحاريب تشبه كثيرًا المعابد الإغريقية في مساحتها، غير أنها لا تشمل إلا الحجرات الصغيرة التي يسكن فيها إله أو آلهة لبعضهم علاقة ببعض، غير أن كل واحد منهم كان له شعائره الخاصة التي تختلف عن شعائر الآلهة الآخرين اختلافًا بينًا. ومن الجائز أن يرى الإنسان في هذه المعابد الصغيرة صور المعابد المتواضعة التي أُقيمت في عهد الدولتين القديمة والوسطى، ولسبب خاص أُطلق عليها في العهد الإغريقي «بيوت الولادة»، وكانت في العادة تُقام أمام المعابد الكبيرة بمثابة جزء تابع لها، وحتى في عهد الدولة الحديثة نجد أن هذه المحاريب التي كان يسكن فيه الآلهة تختلف اختلافًا بينًا عن المعابد العظيمة التي كانت تُقام فيها الشعائر.
هذه نظرة عاجلة عن المعابد المصرية من حيث بنائها وخصائصها ومحتوياتها والشعائر التي كانت تُقام فيها، والآن نعود إلى الكلام عن النمو الفكري في العقائد الدينية في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وبخاصة الحساب والعقاب في عالم الآخرة، وتأثير السحر على أفكار القوم، وانتشار التعاويذ الواقية من نار الآخرة وعذابها وجمعها في كتاب واحد وهو الذي أُطلق عليه خطأ «كتاب الموتى».
الحساب في الآخرة
لقد تتبعنا ذلك التطور الطويل الذي مرَّ فيه الاعتقاد بالمسئولية الخلقية في الحياة الآخرة، (انظر الجزء الثالث) وهو اعتقاد كما نذكر كان حاضرًا في أذهان بناة الأهرام، غير أنه كان منحصرًا في ذاك الوقت في مطالبة المتوفى بالمثول أمام إله الشمس بصفة كونه قاضيًا للإجابة عن ذنب قد يكون اقترفه ضد إنسان آخر لا ليحاسب حسابًا شاملًا. وقد كان الاعتقاد القائم إذ ذاك أنه إذا لم يطلب الإنسان بتلك الطريقة، كان من المحتمل ألا يتعرض في الآخرة لأي حساب آخر. ولكن بعد عصر الأهرام ببضعة قرون — أي إلى وقت ظهور النصائح الموجهة إلى الملك «مريكارع» — نجد أن ذلك الاعتقاد قد أخذ يحدَّد ويعيَّن بحالة أوضح مما كان عليه من قبل.
وإذا كان الإنسان يعد لنفسه قبرًا في الجبانة من جهة، فإن «مريكارع» كان يذكره والده من جهة أخرى بأن يقيم قبرًا لنفسه «بصفته إنسانا مستقيم الحال وبصفته إنسانًا أقام العدل (يعني ماعت)؛ لأن ذلك هو الذي يركن القلب إليه.»
وقد رأينا فيما تقدم أن «أميني» أمير مقاطعة «بني حسن» العظيم نقش على باب قبره سجل أعماله الصادرة عن العدالة الاجتماعية فيما يختص بمعاملته لرعيته إذ كان الغرض من نقش ذلك السجل أن يكون له خير زاد يتزوَّد به للذهاب في سفره إلى عالم الآخرة. وقد مُلئت محاجر المرمر بجهة «حتنوب» (بيت الذهب) الواقعة في الصحراء الشرقية خلف تل العمارنة بالنقوش التي دُوِّنت فيها حياة أمراء ذلك العهد الإقطاعي الذين جاوروا تلك البقعة حيث ذكروا ما كانوا عليه من صفات الخير والعدالة التي لا تُحصى، فنجد كثيرًا أن أولئك الرجال الذين عاشوا في ذلك العهد الإقطاعي كانوا يذكرون فوق مقابرهم ما كانوا عليه من الأخلاق العادلة بزعمهم، فيقول موظف من موظفي ذلك العصر اسمه «سسنب» إنه أقام العدالة ولا يمقت إلا الباطل الذي لم يَرَه.
على أن متون التوابيت تبين لنا بجلاء أن الشعور بنفع المسئولية الخلقية في عالم الآخرة قد تعمق تعمقًا عظيمًا في نفوس القوم منذ عصر الأهرام إلى ذلك الزمن.
فنجد أن موازين العدالة التي كثيرًا ما كان يذكرها ذلك «الفلاح الفصيح» عند استشهاده على «مدير البيت العظيم» قد صارت إذ ذاك تحتل مكانة عظيمة ممثلة في مسرحية حساب الآخرة حيث يقول أحد الأنام للمتوفى: «إن أبواب السماء مفتوحة لجمالك، وإنك تصعد … وذنبك مغفور، وظلمك قد مُحِيَ بأيدي أولئك الذين يزنون بالموازين في يوم الحساب.»
وكما كان ذلك «الفلاح الفصيح» يُسمَّى «مدير البيت العظيم» في كثير من الأحيان «موازين العدل»، كذلك كان في مقدور المتوفى أن يكون متحليًا بالأخلاق الفاضلة الحقة التي تشبه في استقامتها كفتي الميزان اللتين لا تحيدان. ومن ثَمَّ نجد «متون التوابيت» تقول: «تأمل! إن فلانًا هذا (إشارة إلى المتوفى) هو موازين «رع» التي يوزن بها الصدق.» (يعني الحق). وهنا يتضح لنا لمن كانت موازين الصدق هذه، ومن هو ذلك القاضي الذي يشرف عليها، حيث نجده — كما كانت الحال قديمًا — أنه «إله الشمس» الذي كان قد حوكم أمامه نفس الإله «أوزير»، ونجد في مناسبة أخرى خاصة بمحاكمة المتوفى أمام «الإله رع» أن هذه المحاكمة كانت تُعقد بحجرة «سفينة الشمس».
وقد صار الزاد الخلقي للإله العظيم — وقتئذٍ — من الأمور الطبعية، ولذلك يقول المتوفى: «إنه كان يحب الحق، ويكره الباطل، وهو الذي تسير الآلهة في سبل عدالته المحبوبة.»
وعندما دخل المتوفى في تلك السبل الإلهية الحقة كان المعنى المقصود من ذلك أنه ترك وراءه الرذائل الخُلُقية، ولذلك يقول المتوفى أيضًا: «إن خطيئتي قد أُقصيت عني، ومُحِيَ إثمي، ولقد نظفت نفسي في تينك البحيرتين العظيمتين اللتين في «أهناس».»
ولقد ذكرنا أن القاضي الذي تقف أمامه الأرواح كلها كان في الأصل «رع»، ولكن «أوزير» كذلك قد أظهر نفسه من زمن مبكر في موقف ذلك القاضي؛ حيث نقرأ في «متون التوابيت» عن المجلس العظيم (أو محكمة العدل) للإله «أوزير»، وكان ذلك منذ زمن بعيد يرجع إلى الأسرة التاسعة أو العاشرة (من القرن الرابع والعشرين إلى الثاني والعشرين قبل الميلاد) في أيام حكم الملك «مريكارع»، ولا شك أن انتشار عبادة «أوزير» التي كانت آخذة في الازدياد كان لها علاقة عظيمة بانتشار الاقتناع — الذي صار الآن عامًّا — بأن كل روح لا بد أن يعمل لذلك الحساب الخلقي العسير الذي ينتظرها في الآخرة كما تكلمنا عن ذلك في الجزء الثالث، وقد صار من المعروف عادة منذ بداية الدولة الوسطى أن يُضاف إلى اسم كل متوفى نعت «المبرأ». وهذا النعت هو الذي ناله «أوزير» فيما مضى بصفته الخصم الظافر على أعدائه المبرأ أمام محكمة «إله الشمس». وقد كان ذلك النعت — كما نعلمه من «متون الأهرام» — لا يُضاف إلا إلى اسم الفرعون فقط، غير أنه صار بالتدريج امتيازًا تمنحه كل روح، أو على الأقل صار من حق كل روح متسمة بالأخلاق الفاضلة.
وكذلك نجد أنه عندما نال «المذهب الأوزيري» القبول عند البلاط الملكي كان الملك يُوحد مع «أوزير المبرأ»، ولهذا صار «الكهنة» — فيما بعد — يضعون كلمة «أوزير» قبل اسم كل متوفى، كما نجد ذلك مذكورًا في «متون الأهرام»؛ حيث نجد أن الملك «بيبي» كان يُسمَّى «أوزير بيبي». والملك «تيتي» كان يُسمَّى «أوزير تيتي».
وقد كان من فوائد انتشار عبادة «أوزير» الآخذة في الازدياد أن المنهج الذي كان يرمي إلى صبغ الحياة الأخروية الملكية الفاخرة بالصبغة «الديمقراطية» قد صار حينئذٍ يوحد كل متوفٍّ ذكرًا كان أو أنثى بالإله «أوزير».
وعلى ذلك لم يقتصر المتوفى على دخول «مملكة أوزير» — كما كانت الحال قديمًا — ليتمتع بحمايته وعطفه، بل صار المتوفى نفسه — ذكرًا كان أو أنثى — «أوزيرًا» وعُدَّ ملكًا.
ولذلك نجد — حتى في مدافن الفقراء — أن المومية كانت تُصوَّر في شكل مومية «أوزير» موضوعة فوق ظهرها. وكانت التعاويذ التي تمثل شارات الملك الفرعوني تُلون على داخل جوانب التابوت، أو كانت تُوضع بهيئة تماثيل بجانب جثمان المتوفى، وقد ظهرت قوة عبادة «أوزير» بحالة تستلفت النظر في العادة الجديدة، وهي إضافة اسم «أوزير» قبل اسم المتوفى.
ومع أنه كان من الجائز للمتوفى أن يُوحد مع إله الشمس — كما كان يحدث ذلك كثيرًا — فإنه على الرغم من كل ذلك كان يُنعت باسم «أوزير»، في حين أن اسم إله الشمس «رع» لم يُفعل به هكذا فلم يُضَفْ قط قبل اسم المتوفى.
وبظهور الدولة المصرية الحديثة بعد سنة ١٦٠٠ قبل الميلاد نجد أن الأدلة التي تكشف لنا عن ذلك التطور الخلقي الطويل الأمد — الذي نقتفي أثره الآن — قد ازدادت في كميتها وفي أهمية قيمتها، وبخاصة حينما تبين لنا شعور المصري القديم المتزايد بمسئوليته الشخصية عن نوع أخلاقه؛ لأن مرحلة التفكير في ذلك الانتشار الخلقي قد تقدمت تقدمًا محسًّا؛ وذلك لأن المصري القديم في ذلك الوقت كان قد تبصر تبصرًا عميقًا في طبيعة نفسه البشرية. وكان من فوائد ذلك التبصر أن صار المفكرون من المصريين — آنئذٍ — يقدِّرون قيمة المسئولية الخلقية لكل إنسان على حسب حالة عقله نفسه.
وبمناسبة ما جاء ذكره هنا في تلك الفكرة عن «العقل» نقول: «إنه ليس «للعقل» اسم في اللغة المصرية القديمة غير كلمة «قلب» القديمة، وفي عصر الأهرام وجدنا أن «بتاح حتب» ذلك الوزير الحكيم المسن قد لمح عن «القلب» بأنه مركز المسئولية والإرشاد؛ إذ قال فيما ذكرناه له سابقًا: إن المستمع (يعني إلى النصيحة الطيبة) هو المرء الذي يحبه الإله، أما الذي لا يصغي فهو الذي يبغضه الإله، والقلب هو الذي يجعل صاحبه مصغيًا أو غير مصغٍ، وحظ الإنسان الحسن هو قلبه.»
كما نجد في نصائح «بتاح حتب» أيضًا أن قلب الرجل قد صار دليله — بل في الواقع قد صار «ضميره».
فالقلب الإنساني كان في عهد تلك الدولة الحديثة — على أية حال — يُعبر عنه بأكثر من مستمع مجيب إلى النصيحة الطيبة، بل صار يُعبر عنه بأكثر من مرشد إلى حسن الحظ.
وقلبي هو الذي حدا بي أن أفعلها، بإرشاده لي، وقد كان هو مرشدي الممتاز، فلم أتخطَّ مقاله، وكنت أخشى أن أتعدى إرشاده، وقد أفلحت بسببه كثيرًا، وقد كنت ممتازًا بما جعلني أقوم به، وكنت ماهرًا بهديه … وإنه وحي من الإله الذي في جوف كل إنسان، وإنه ناصح قد أرشد إلى الطريق الطيبة للفلاح، تأمل! هكذا كنت.
فكل ذلك يدل على أن المصري القديم قد صار حينئذٍ في حالة من الحساسية والشعور لم يصل إليهما من قبل، وذلك بفضل ما كان يوحي به إليه ذلك الوازع الباطني المنبعث من قلبه وهو الذي سُمي — ببعد نظر مدهش — «إله المرء»؛ وذلك لأن القلب قد صار الآن ذا شعور أكثر اتِّزانًا وأكثر سيطرة وسلطانًا على الإنسان مما كان عليه في عهد ذلك الوزير الحكيم «بتاح حتب» فإنه كان — إذ ذاك — يعلن استحسانه لما يكون عليه المرء من السلوك الحسن أو استياءه لما يكون عليه من السلوك السيء فقط.
ولما صار المصري القديم يشعر بسلطان ذلك الوازع القلبي شعورًا كاملًا، فإنه أخذ — إذ ذاك — يلبس كلمة «القلب» معنى أدق وأوفى حتى صارت أوسع بكثير مما كانت عليه في عصر الأهرام؛ حتى إنها بذلك صارت تزن — بحالة وافية — كلمتنا «الضمير»؛ فنحن إذا قد صرنا الآن في مركز يجعلنا نفهم تمامًا أهمية التحديد والدقة اللذين صوَّر بهما لنا ذلك المصري فكرته النامية الخاصة بحساب الآخرة في الزمن الذي انبثق فيه فجر تلك الدولة الحديثة. وتلك الآراء — التي نجد فيها تفصيلًا أوسع مما كان لدينا عن الحساب في يوم الميعاد — قد وصلتنا عن طريق «كتاب الموتى».
وقد اجتمعت عندنا ثلاث روايات مختلفة عن الحساب في الآخرة، وقد عُثر عليها في أتم وأحسن اللفائف البردية التي وصلت إلينا للآن.
وكانت هذه الروايات في الأصل مستقلًّا بعضها عن البعض الآخر من غير شك. وعنوان الرواية الأولى منها هكذا.
-
خطوة واسعة — خرجت من «عين شمس».
-
ومحتضن اللهيب الذي خرج من «طرة».
-
وآكل الظل الذي خرج من الكهف.
-
وعينان من لهيب خرجتا من (لتوبوليس) بلدة أوسيم الحالية.
-
وكاسر العظام الذي خرج من «أهناس».
-
وآكل الدم الذي خرج من مكان الإعدام.
فكان المتوفى يذهب إلى تلك الأسماء وأمثالها من أسماء المخلوقات التي اخترعها خيال رجال الكهانة المصريين ويوجه لكل منهما — بدوره — اعترافًا ببراءته من خطيئة معينة.
ولا شك في أن الكهنة ألَّفوا تلك المحكمة من اثنين وأربعين قاضيًا قصد الإشراف على أخلاق المتوفى في كل أنحاء البلاد؛ حيث يجد المتوفى أن نفسه تواجه على الأقل قاضيًا من بين أولئك القضاة قد جاء من البلدة التي كانت موطنًا له، ويكون ذلك القاضي على علم بسيرة ذلك المتوفى المحلية وشهرته في أقصى وأدنى الشارع الرئيسي في بلدته، وبذلك لم يكن في إمكانه أن يخاتله ويغشه. وتشتمل هذه الاعترافات الاثنان والأربعون على كثير من نفس موضوع الإعلانات التي ذكرناها في الخطاب السالف، فقد وجد الكهنة الذين قاموا بنشر تلك الإعلانات بعض الصعوبة في إيجاد الخطايا الكافية لملء قائمة مؤلفة من اثنتين وأربعين خطيئة؛ ولذلك نجد من بينها كلامًا كثيرًا معادًا، هذا عدا التكرار الذي ذُكر مع تغيير طفيف في بعض الألفاظ والجرائم التي كان يمكن عدها من الجنايات وأعمال العنف التي يتبرأ منها بقوله:
هذا ونجد المتوفى كذلك ينكر الغش وغيره من الصفات المذمومة أو يقول:
كما كان المتوفى أيضًا بعيدًا عن ارتكاب الرذائل الجنسية؛ إذ يقول:
وكذلك ينكر المتوفى أيضًا مجاوزته للحدود الرسمية؛ إذ يقول:
وإنكار هذه النقائص وغيرها مما لم يمكننا فهمه هو الذي يتألف منه ذلك الإعلان بالبراءة، ويُسمَّى هذا الجزء المذكور من «كتاب الموتى» في العادة باسم «الاعتراف». ومن الصعب على الإنسان في الواقع أن يبتدع اسمًا مخالفًا لطبيعة بيان المتوفى الحقيقي أكثر من تلك التسمية؛ إذ هي إعلان واضح عن براءة المتوفى فتكون — بطبيعة الحال — عكس ما يُفهم من كلمة «اعتراف» هذه؛ ولهذا السبب قد صار فساد تلك التسمية من الأمور الظاهرة لدرجة أنه وصل الأمر ببعض الناشرين لذلك الفصل أن أضافوا بعد كلمة «اعتراف» كلمة «إنكاري» وصاروا يسمونه «اعترافًا إنكاريًّا»، مع أن تلك التسمية ليس لها معنى؛ لأن المصري القديم لم يعترف بشيء في وقت تلك المحاكمة. وهذه الحقيقة في غاية الأهمية في تطور المصري الديني القديم كما سيتضح فيما نذكره بعد.
والواقع أن إساءة فهم ذلك الجزء من «كتاب الموتى» بتسميته «اعترافًا» معناه إساءة الفهم التام لذلك التطور الذي كان يسير بالمصري القديم — إذ ذاك — على مهل نحو اعترافه التام بخطاياه وإظهاره المتواضع لها، وهو أمر لا يوجد أبدًا في أية ناحية من نواحي «كتاب الموتى».
ثم بعد أن يذكر المتوفى براءة نفسه أمام هيئة المحكمة العظمى كلها يوجه خطابه إليهم بوثوق فيقول:
وبتلك الكلمات تتحول ادعاءات المتوفى الدالة على خلقه العظيم إلى تأكيدات تدل على أنه قد راعى كل مستلزمات المذهب الأوزيري الرسمية، وتلك يتألف منها أكثر من نصف ذلك الخطاب الختامي الموجه إلى آلهة المحكمة.
وأما الرواية الثالثة عن المحاكمة فهي — من غير شك — الرواية التي أثرت أعمق تأثير على نفس المصري، فهي أشبه بتمثيلية «أوزير» في «العرابة المدفونة» في ظهورها أمامنا بصورة بارزة، إذ ترسم لنا المحاسبة الأخروية — كما حدثت — بالموازين؛ فنشاهد الإله «أوزير» في بردية «آني» الفاخرة المحلاة بالصور جالسًا فوق عرشه في نهاية قاعة المحاكمة، وخلفه كل من الإلهتين «إزيس» و«نفتيس» وقد اصطف على طول أحد جوانب القاعة الآلهة التسعة، وهم المعروفون «بتاسوع عين شمس»، يرأسهم «إله الشمس» وهم الذين ينطقون فيما بعد بالحكم ويدلون بذلك. على أن ذلك المنظر الثالث من المحاكمة كان في بدايته شمسي الأصل، وهو الذي احتل فيه «أوزير» الآن المكان الأول؛ فيُشاهد في وسط المنظر موازين «رع» وهي التي يزن بها الصدق، مطابقًا لما سبق ذكره بتسميتها بذلك الاسم في العهد الإقطاعي. ولكن المحاكمة التي ظهرت فيها تلك الموازين — وقتئذٍ — صارت «أوزيرية» الصيغة حيث كانت الموازين في يد الإله الجنازي «أنوبيس» الممثل برأس ابن آوى ويقف خلفه «تحوت» كاتب الآلهة ليشرف على الميزان، وفي يده القلم والقرطاس حتى يسجل النتيجة، وخلف «تحوت» يقع حيوان بشع الهيئة يُسمَّى «الملتهمة» له رأس التمساح وصدر الأسد، ومؤخرة «فرس البحر»، ويكون متحفزًا لالتهام الروح إذا وُجدت ظالمة، وقد صُوِّر بجوار الميزان — بفكرة تدل على الدهاء — صورة القرد تتبعه الإلهتان «رننوت» و«مسخت» وهما إلهتا الولادة؛ إذ يكونان على أهبة التأمل والتدبر للنظر في مصير تلك الروح التي أشرفتا عليها حينما جاءت إلى هذا العالم قبل ذلك. وكان يُحبس خلف الآلهة الذين كانوا متربعين فوق عروشهم إلها «الأمر والعقل».
على أننا كثيرًا ما نجد — في لفائف بردية أخرى في ذلك الموضوع — أن إلهه العدل «بنت رع» قائمة عند مدخل قاعة المحاكمة، ثم تدخل قاعة المحاسبة الروح التي جاءت حديثًا.
وفي ورقة «آني» يدخل «آني» وزوجه القاعة التي يقرر فيها مصيرهما ورأساهما منحنيان بهيئة تدل على الخضوع وينادي «أنوبيس» في الحال قلب «آني»، والإشارة الهيروغليفية التي تدل على القلب — وهي التي تمثل هنا قلب «آني» — تشبه شبهًا كبيرًا إناء صغيرًا.
وقد ظهرت — هذه الإشارة القلبية الممثلة بالإناء الصغير — موضوعة في إحدى كفتي الميزان، كما ظهرت في الكفة الأخرى ريشة — وهي الرمز الهيروغليفي الدال على — الصدق — أو العدالة، أو الحق (يعني ماعت)، ويخاطب «آني» قلبه في اللحظة الحرجة؛ إذ يقول:
وقد ظهر أن لهذا الاستعطاف أثره؛ لأن «تحوت» رسول التاسوع العظيم الذي وجد أفراده في حضرة الإله «أوزير» يقول على الفور:
ثم يجيب الآلهة التسعة على الفور:
وبعد أن يحكم له بحكم مرض بتلك الكيفية يقود «حور» ابن «إزيس» «آني» المحظوظ، ويقدمه إلى «أوزير» حيث يقول له في الوقت نفسه:
وبعد ذلك يضع «آني» يده في يد «حور» ويخاطب «أوزير» فيقول:
وعندئذٍ يركع أمام الإله العظيم، وفي أثناء تقديمه مائدة القربان يصير مقبولًا؛ إذ يدخل في مملكة «أوزير».
وقد أصغى المصري إلى نفس ذلك الإيحاء، وخافه وحاول إخفاءه وإسكاته كما اجتهد في إسكات وحي القلب، مع أنه إلى ذلك الوقت لم يعترف بذنوبه، بل تشبث في إلحاح ببراءته. ولقد كانت الخطوة الثانية في ذلك التدرج السامي هي إظهاره — في خضوع — شعوره بخطيئته إلى ربه، وقد وصل إلى تلك الخطوة فيما بعد، ولكن حدث — إذ ذاك — أن تدخل عامل آخر، فعاقه إعاقة شديدة عن تحرير «ضميره» تحريرًا تامًّا. وليس هناك من شك في أن هذه المحاكمة الأوزيرية التي صُوِّرت لنا بذلك الوضوح مضافًا إليها ذلك التقدير العام لعبادة «أوزير» في عهد الدولة الحديثة؛ كان لهما أثر عظيم في نشر الاعتقاد بالمسئولية الخُلقية فيما بعد الموت، كما كان لهما الأثر أيضًا في تعميم تداول تلك الآراء الخاصة بالقيم السامية للأخلاق الطاهرة النقية، وذلك ما شاهدناه منتشرًا بين علماء الأخلاق والفلاسفة الاجتماعيين الذين نشئوا في البلاط الفرعوني منذ عدة قرون خلت في العهد الإقطاعي (راجع كتاب الأدب المصري القديم، جزء أول، ص٩٥). وبتلك الكيفية صار مذهب «أوزير» قوة عظيمة في انتشار العدالة بين الناس، وكان بابه مفتوحًا على مصراعيه ليدخله جميع الناس، ولكن على الرغم من ذلك فإنه كان من واجب الجميع أن يبرهنوا على أهليتهم لذلك الاعتقاد عند الإله «أوزير» من الناحية الخلقية.
تأثير السحر في الأمور الدينية
على أن الكهنة لو تركوا الأمر على تلك الحال لكان حسنًا مقبولًا، ولكن — لسوء الحظ — كان انتشار الاعتقاد في نفع قوة السحر وتأثيرها في الحياة الأخروية لا يزال مستمرًّا؛ إذ كان المعتقد أن كل النعم المادية يمكن الحصول عليها — من غير نزاع — باستعمال الرقية الملائمة للحصول على ذلك الأمر المرغوب فيه. كما كان في الإمكان كذلك أن يُعاد إلى الإنسان بتأثير تلك العوامل السحرية كل شيء حتى العتاد العقلي ألا وهو «القلب» الذي معناه — في اللغة المصرية القديمة — «الفهم» أو «العقل» (راجع الأدب المصري القديم، جزء ٢، ص١٠ … إلخ).
وفي هذا الكتاب نجد أن السحر قد أُدخل إلى عالم جديد آخر وهو عالم «الضمير» والصفات الشخصية والأخلاقية.
وقد سوَّغت للكهنة أبواب الكسب والارتزاق — التي كانت لا تقف حيلتهم فيها عند حد — أن يتخذوا لهم من ذلك الزمن خطة خطيرة للاحتيال على الكسب، ألا وهي السماح لمثل تلك العوامل المنحطة أن تتدخل بتلك الكيفية في القيم الخُلقية؛ إذ كان في مقدور السحر أن يصير عاملًا للوصول إلى الغايات الخلقية، وسنذكر فيما يأتي أن «كتاب الموتى» هو — بوجه خاص — كتاب للرقى والتمائم السحرية، وأنه حتى الجزء الخاص منه بحساب الآخرة لم يستمر طويلًا خاليًا من ذلك؛ حيث نجد أن تلك الكلمات المؤثرة التي وجهها «آني» إلى قلبه عندما كان يُوزن بالموازين الأخروية وهي قوله له: «يا قلبي لا تقم شاهدًا عليَّ»؛ كانت تُدون — إذ ذاك — على صورة «جعل مقدس» مصنوع من الحجر (وهو الجِعْران)، ثم تُوضع فوق قلب الميت حتى تكون بمثابة أمر له نفوذ سحري فعال يمنع القلب إفشاء أخلاق المتوفى (الذميمة).
وكانت مناظر المحاكمة في الآخرة ومتن إعلان البراءة تُكتب مرارًا على صفحات البردي؛ إذ يقوم بتدوينها الكهنة، ثم تُباع لكل الناس، ولا يُكتب اسم الميت في هذه النسخ، وإنما كان يُترك لكتابته مكان يملؤه المشتري بعد حصوله على تلك الوثيقة.
وكانت كلمات الحكم التي تعلن أن المتوفى قد فاز في المحاكمة وبرئ من كل شر نُسب إليه؛ تُدون في كل صحيفة من تلك الصحف. وعلى ذلك كان في إمكان كل إنسان — مهما كانت أخلاقه ذميمة في الحياة الدنيا — أن يستولي من «كتاب الموتى» على شهادة يعلن فيها أن صاحب هذا الاسم — الذي ترك مكانه أبيض — كان رجلًا عادلًا (يعني أن هذا كان يُفعل من قبل أن يُعرف من سيكون صاحب هذا «البياض»).
وقد كان في مقدور ذلك الميت أن يحصل على صيغة سحرية شديدة القوة والتأثير لدرجة تجعل «إله الشمس» الذي يُعتبر القوة الحقيقية الكامنة وراء تلك المحاكمة يسقط من سماواته في «النيل» إذا لم يخرج ذلك الميت بريء الساحة تمامًا من محاكمته.
وبتلك الكيفية نجد أن أقدم انتشار للأخلاق الفاضلة كان يمكننا تتبعه في حياة الإنسان القديم قد توقف فجأة، أو على الأقل قد صُدم صدمة عنيفة بتلك الحيل الممقوتة التي كان يستعملها أولئك الكهنة الفاسقون جريًا وراء الكسب. ولسنا في حاجة إلى بيان ما أدى إليه تدخل السحر في ذلك الشأن الخطير من الاعتقادات الدينية، وما آلت إليه الحال من الارتباك في الفوارق التي انطوت على ذلك التطبيق الأخير للسحر. وذلك الارتباك كان ناتجًا من خيبة الإنسان قديمًا في فهم الفرق بين «ما يدخل في نفس الإنسان» وبين «ما يخرج منها».
فتلك البراءة التي تُطبق على الإنسان تطبيقًا آليًّا بالعوامل الخارجية لتنجيه من العقوبات التي مصدرها من الخارج لا يمكن — بطبيعة الحال — أن تزيل الأضرار التي حدثت في باطن الإنسان؛ فالإيحاء الباطني الذي كان يحسه المصريون الأقدمون أكثر من أية أمة أخرى في الشرق القديم، وهو الإيحاء الذي كانت ترتكز عليه أيضًا كل فكرة عن الحساب الخلقي العسير في عالم الآخرة؛ لا يمكن أبدًا أن يكتفي بمثل تلك الطرق الخارجية التي ابتدعها لهم السحر، ولا بد أن الاعتقاد العام الذي جرت به العادة في الاعتماد على مثل تلك الحيل الدنيئة للفرار من المسئولية الخلقية عن حياة مرذولة — كان قد سمم حياة الشعب الفطرية.
ففي الوقت الذي يكشف فيه لنا «كتاب الموتى» صيغة المحاكمة الخلقية في عالم الآخرة وكيفيتها — وعن الحقيقة التي ألبسها لتصوير المسئولية الخلقية بصورة تامة أكثر من أي زمن آخر سابق في تاريخ المصريين القدماء — فإنه كذلك يُعتبر كشفًا عن مدى الانحطاط الخلقي في ذلك الوقت؛ إذ بقدر ما صار «كتاب الموتى» سلاحًا لضمان البراءة الخلقية في عالم الآخرة بدون مراعاة لقيمة أخلاق ذلك الشخص صار قوة إيجابية لجلب الشر أيضًا.
ونتاج الكهانة هذا (أي كتاب الموتى) كان — فضلًا عما سبق ذكره عنه — يُعد عاملًا ضارًّا؛ لأنه كان ينتظم طائفة من الرقى والتعاويذ السحرية التي يعتقد فيها القوم القدرة على جلب ما يرضي الميت من الحاجات المادية والجثمانية في عالم الآخرة. وقد زاد عدد تلك الرقى في عهد الدولة الحديثة، وكان لكل واحدة منها عنوانها الدال على ما تؤديه للميت من الأعمال؛ ولذلك فإن الرقى السالفة الذكر مضافًا إليها بعض الأناشيد الدينية في مديح «رع» و«أوزير» وهي التي كان بعضها يُنشد أمام الجنائز، ويحتوي عادة على بعض البيانات عن الحساب في الآخرة كانت — إذ ذاك — تُدون بصفتها متونًا جنازية على صحف من البردي تُوضع مع الميت في قبره. وهذه الأوراق البردية هي التي صارت تُعرف — عندنا عادة — باسم «كتاب الموتى».
كتاب الموتى
والواقع أنه لم يكن موجودًا — في عهد الدولة الحديثة — كتاب كهذا يعرف بذلك الاسم — بل كانت كل لفافة بردي تحتوي على مجموعة — أيًّا كان نوعها من تلك المتون الجنازية على حسب ما يقع تحت يد الكاتب، أو مجموعة من تلك المتون التي كانت سوقها رائجة وقتئذٍ — أي تلك المتون التي كانت تلاقي من الناس أعظم إقبال، حيث كانت توجد لفائف فخمة ذات بهاء يبلغ طول الواحدة منها من ٦٠ إلى ٨٠ قدمًا، وتشتمل على فصول أو رُقًى يتراوح عددها من ٧٥ لغاية ١٢٥ أو ١٣٠، ولكن كان الكهنة من جهة أخرى ينسخون لفائف صغيرة متواضعة لا يزيد طول الواحد منها عن بضعة أقدام، ولا تحتوي إلا على منتخب صغير من تلك الفصول التي تُعَدُّ أكثر أهمية من غيرها. والواقع أنه لم يُعثر على أكثر من لفافتين تحتوي كل منهما على نفس مجموعة التعاويذ التي تشتمل عليها الأخرى.
وقد بقيت الحال كذلك إلى عهد البطالمة (أي بعد القرن الرابع قبل الميلاد بقليل) حينما جُمع منتخب من تلك الفصول وأُدخل استعماله تدريجًا، ثم صار تقريبًا في حكم المتفق على صحة اتباعه. ومن ذلك يتضح — كما ذكرناه فيما سبق — أنه لم يكن هناك كتاب يُعرف باسم «كتاب الموتى» بصحيح العبارة في عهد الدولة الحديثة، بل كانت تُوجد مجاميع متنوعة من الفصول الجنازية فقط تملأ الأوراق البردية الجنازية التي وُجدت في ذلك العصر.
وقد بلغ مجموع تلك الفصول أو التعاويذ التي كانت تُؤلَّف منها تلك اللفائف ما يربو على مائتين، وأكبر لفافة منها كانت لا تحتوي على تلك الفصول، وقد كان استقلال كل فصل — أو بعبارة أخرى تمييز كل فصل عن غيره من باقي الفصول — واضحًا في ذلك العهد؛ وذلك بفضل اتباع العادة التي جرت بوضع عنوان لكل فصل قبله. وقد كانت تلك العادة متبعة في كثير من فصول «متون التوابيت»، وتوجد هناك مجاميع من الفصول التي تتألف منها أكبر نواة متداولة لكتاب الموتى وتُسمى تلك الفصول غالبًا: «فصول للصعود في النهار»، وهي تسمية وجدناها مستعملة في «متون التوابيت» أيضًا.
وعلى الرغم من كل ذلك لم يكن هناك عنوان شائع عن لفافة كاملة للكتاب «الموتى» باعتباره وحدة شاملة.
وعلى الرغم من أن بعض القطع الضئيلة من «متون الأهرام» قد استمرت طويلًا مستعملة في «كتاب الموتى» فإنه يمكننا أن نقول إن تلك المتون قد اختفت على وجه عام تقريبًا.
وأما «متون التوابيت» فقد ظهرت ثانية بمقدار عظيم جدًّا، وأسهمت إسهامًا كبيرًا في تكوين المجاميع المتنوعة التي يتألف منها الآن «كتاب الموتى».
ويمكن القول عن تلك الإيضاحات التي جاءت في «كتاب الموتى» بأنها ما كانت إلا مثلًا آخر لأحكام تلك الطرق السحرية التي كان يُقصد منها تحسين أحوال الحياة الأخروية. والواقع أن «كتاب الموتى» — نفسه — على وجه عام ليس إلا صورة تفسيرية معقدة بعيدة المرمى لإظهار مدى اعتماد القوم المتزايد على السحر في الحياة الآخرة.
وكانت الفوائد المادية التي اجتُنِيَت بتلك الطريقة لا حدَّ لها، ومن الواضح أن ذكاء أولئك الكهنة المرتزقة قد لعب دورًا عظيمًا في التدرج الذي جاء بعد ذلك؛ إذ قد صارت رؤية الآخرة في نظر أشراف الدولة المترفين كما كان يراها الفلاح المصري القديم، ليست بالمستقبل الجذاب، وهي التي كان يمكن المتوفى أن يحرث فيها كما كان يمكنه أن يزرع ويحصد الثمار من حقله. وكما كانت الحبوب أيضًا هي الأخرى تنمو إلى ارتفاع سبعة أذرع (حوالي ١٢ قدمًا)، فلم يكن يروق في نظر أولئك العظماء المنعمين في عصر يزخر بالثراء والترف؛ أن يُكلفوا القيام بعمل ما، أو أن يُجبروا على الذهاب حتى إلى «حقول المنعمين» ليكدوا وينصبوا هناك؛ ولذلك كانت توجد منذ الدولة الوسطى دُمًى مصنوعة من الخشب تمثل خدم الميت في الحياة الآخرة حيث كانت تُوضع معه في القبر لتقوم بدلًا منه بأداء ما يلزمه القيام به من العمل بعد الموت، كما كان يقوم له بذلك خدمه في الحياة الدنيا.
وهذه الرقية كانت تضمن الرقى التي كانت مدوَّنة في بردي المتوفى تحت عنوان: «فصل في جعل الدمية تقوم بعمل المرء في العالم السفلي»، وهذه الطريقة الحاذقة قد أُتقنت إتقانًا كثيرًا، حتى إنه قد خُصص لكل يوم من أيام السنة دمية من تلك الدمى الصغيرة الخاصة بالميت التي تُوضع معه في قبره.
وقد عُثر على تلك الدمى بمقادير عظيمة في الجبانات المصرية القديمة، حتى إن المتاحف (والمجاميع الخاصة) في كل العالم قد صارت الآن آهلة بها.
ولا غرابة إذن إذا كان كهنة ذلك العصر وكتبته قد انتهزوا تلك الفرصة السانحة لابتزاز أموال الناس بالباطل حبًّا في الكسب الذي كان يأتي إليهم بتلك الطريقة السهلة؛ ولذلك تضاعفت أخطار الآخرة وأهوالها إذ ذاك تضاعفًا عظيمًا، إلا أن الكهنة كان في مقدورهم إنقاذ المتوفى لدى كل موقف حرج بالتعاويذ الفعالة التي تنجيه من الخطر حتمًا، هذا بخلاف تعاويذ عديدة تساعد المتوفى على الوصول إلى عالم الآخرة، كما كانت توجد أيضًا تعاويذ تمنع فقدان المتوفى فمه ورأسه وقلبه. وأخرى لتساعده على استذكار اسمه، وكما كان منها ما يساعد على التنفس والأكل والشرب، ومنها ما يمنعه أكله لبرازه، ومنها ما يمنع الماء الذي يشربه أن يتحوَّل إلى لهيب، ومنها ما يحول الظلام نورًا.
كما كان من التعاويذ ما يحجب عن الميت كل الثعابين والوحوش المؤذية، وكما كانت تُوجد أصناف كثيرة أخرى غير تلك من التعاويذ؛ فكذلك ازداد الآن موضع التقمصات التي كان يرغب الميت في أن يتقمصها روحه، وقد وُضع فصل صغير لكل حالة يرغبها الميت ليساعده على أن يتقمص في صورة «صقر من الذهب» أو «صقر إلهي» أو زنبقة أو مالك الحزين (فنكس) أو بَجَعَة أو الثعبان المسمى ابن الأرض أو تمساح أو إله.
والأدهى من كل ذلك هو اختراع فصل قوي المفعول يمكن الإنسان باستعماله له من أن يتخذ لنفسه أي شكل يريد.
ويتألف من مثل ذلك الإنتاج الذي تقدَّم ذكره الجزء الأعظم من مجموعة المتون التي نسميها الآن «كتاب الموتى». فإذا سميناه إذن بعد ذلك «إنجيل المصريين» كنا قد أسأنا فهم وظيفة هذه اللفائف ومحتوياتها.
والأمر الذي خلص «كتاب الموتى» من وصمة أنه كتاب سحري يُستعمل خاصة في عالم الآخرة وكفى؛ هو إحكامه للآراء القديمة الخاصة بالمحاكمة الخُلقية في عالم الآخرة، وتقديره الظاهري لمسئولية «الضمير»؛ إذ قد ذكرنا فيما تقدم أن علاقة الإنسان بالإله كانت قد صارت شيئًا آخر أكثر من إقامته للشعائر الدينية الظاهرة، وكان يرجع ذلك إلى ما قبل مجيء العهد الإقطاعي في الحكومات المصرية القديمة؛ حيث صارت — آنئذٍ — علاقة الإنسان بالإله (علاوة على ما ذُكر) أمرًا يتعلق بالقلب والأخلاق.
ولقد كان الشعور الخلقي عند المصري قويًّا جدًّا لدرجة أنه لم يجعل قيمة الحياة الفاضلة قاصرة على قبوله عند «أوزير» في عالم الآخرة؛ ومن ذلك يتضح لنا تحديد الأخلاق الأوزيرية التي تأمر الإنسان بالتفكير في العواقب الخلقية فقط في عالم الآخرة. ومع كلٍّ فإن «أوزير» كان إله الموتى كما ذكرنا ذلك كثيرًا فيما تقدم، وقد نادى فلاسفة الاجتماع الأقدمون — في العهد الإقطاعي — بعدالة «رع» إله الشمس، وطالبوا بإرجاع العدالة الاجتماعية إلى ذلك العالم كما طالب «رع» بإرجاعها.
لقد كنت قائدًا مغوارًا بين آثارك، مقيمًا العدل لقلبك، وإني أعلم أنك مستريح للعدالة، وإنك تجعل من يقيمها على الأرض عظيمًا، ولقد أقمتها؛ ولذلك جعلتني عظيمًا.
وكذلك حينما كان الفرعون يعقد يمينًا فإنه كان يحلف بحب «رع» لي، وبمقدار عطف والدي «آمون» علي (وقد وحد «آمون» مع «رع» منذ زمن بعيد).
لأنه يعرف السماء ويعرف الأرض ويرى جميع العالم في كل ساعة.
ومع أنه صار من الأمور المسلم بها أن عالم الآخرة السفلي في المذهب الأوزيري كان يصور لنا إله الشمس وهو ينتقل من كهف إلى كهف تحت الأرض مارًّا في عالم «أوزير» السفلي وجالبًا معه النور والفرح إلى الساكنين هناك؛ فإن تلك الفكرة لم تكن معروفة في «اللاهوت الشمسي» كما هو مذكور في «متون الأهرام».
والواقع أن إله الشمس — كما ظهر في عهد الدولة الحديثة — كان يُعتبر قبل كل شيء إله عالم الأحياء من البشر الذين كان حاضرًا معهم نشطًا في شئونهم الدنيوية على الدوام؛ ولذا كان الناس يشعرون بمسئوليتهم أمامه في كل وقت، وكانت سيطرته تلك قد تعمقت، واتسع أمامها المجال باتساع أفق ذلك العهد الإمبراطوري إلى أن انبثق لأول مرة في تاريخ العالم الديني لأعين سكان وادي النيل القدامى فجر رؤية إله عالمي واحد فرد صمد. وسنفصل القول فيه في حينه.