مبادئ انحلال الإمبراطورية وعهد إخناتون
(١) مقدمة
في ختام القرن الخامس عشر قبل الميلاد وصلت مصر إلى قمة المجد؛ فاتسعت رقعتها، وامتد نفوذها من أعالي دجلة والفرات شمالًا إلى «نباتا» عند الشلال الرابع جنوبًا، وصارت مهيبة الجانب نافذة الكلمة، يذعن لقوتها وبطشها أرباب التيجان وأصحاب الدول، ويسعى كل عاهل في الشرق إلى أن يخطب ودها ويفوز برضاها، وكان أهلها في رغد من العيش، ينعمون بحياة ناعمة، ويتمتعون بخير كثير جاءهم من تلك الممتلكات المترامية الأطراف، التي تتبع بلادهم، وتفيض من خيرها عليهم.
من أجل ذلك انصرف حَمَلة الأقلام إلى الإنتاج من الأدب الرفيع، وافتنَّ الصناع ومهروا بفضل ما أمدَّتهم به مستعمرات مصر من خير ورجال، وانكبَّ علية القوم على مناهل اللذة يكرعون من وردها ما شاء لهم الفراغ وطيب العيش.
فليس من الغريب إذن أن نرى مليك البلاد في هذه الفترة «أمنحتب الثالث» الذي تسلم عرشها حوالي سنة ١٤٠٥ق.م يغترف من فيض اللذة والنعيم ما سمح له به الثراء الواسع والجاه العريض، ولم يشأ هذا العاهل العظيم أن يترسم خطا آبائه وأجداده أباطرة مصر الذين دوَّخوا العالم، ورأوا مجدهم في الغزو وامتشاق الحسام، بل آثر حياة الدعة والمتعة، يقضي يومه في الصيد وليله بين الغواني، فما أشبهه بامرئ القيس الملك الضليل في الفترة الأولى من حياته.
رمى «أمنحتب» بنفسه بين أحضان النساء في غير قصد أو اعتدال، وكلما ازداد انغماسًا في تيارهنَّ اشتد وَلَهَه بِهِنَّ، وازدادت لهفته عليهن، وإذا زهد في الزوجة طلب الخليلة، وإذا أشبع رغبته من المصريات وجد بغيته بين أحضان الأجنبيات. فلقد حدثتنا الكشوف الأثرية أن هذا العاهل الجبار قد تزوَّج بأخت ملك «متني» في شمال «سوريا» المسماة «جلوخيبا» ثم ثنى بأخته الأخرى «تاتوخيبا»، واستقدم مع الأولى ثلاثمائة وسبع عشرة غادة من حسان «نهرينا» الأماليد، وكان هذا حدثًا سعيدًا في تاريخ حياته، خلَّده «أمنحتب» بنقش جُعل تذكاري رصده في عدة نسخ زهوًا ومباهاة، وتحدثًا بنعمة الله.
وجاء في خطاب آخر من وثائق «تل العمارنة» أن هذا الفرعون بعينه قد طلب من حاكم إحدى الولايات الآسيوية أن يرسل إليه ابنته لأنه معجب بها، كما تدلنا وثائق أخرى وصلتنا عن هذا العصر أن هذا المليك كان يحتفظ في قصره بأميرة بابلية يحبها.
(٢) إخناتون
مكث «إخناتون» يدير الملك مع والده أكثر من تسع سنوات، بل يُقال اثنتا عشرة سنة، ثم ما لبث والده أن دفع صحته وشبابه ثمنًا لملاذه وأهوائه؛ فمات ولم يتجاوز الخمسين ربيعًا من عمره، ولا نستبعد أن يكون قد عرف قبل مماته ذلك الانقلاب الديني الذي يعد ابنه «إخناتون» العدة لإحداثه؛ فقد عُثر على صورة في مقبرة «حوى» أحد رجال بلاط «إخناتون» ظهر في جهة منها «أمنحتب الثالث» على عرش الملك ومعه الملكة «تي»، وفي الجهة المقابلة لهما ظهر «إخناتون ونفرتيتي» وعليهما تاج الملك أيضًا، ووُجد قرص الشمس (آتون) مرسومًا فوق كل من الملكين، ومرسلًا أشعته التي تتدلى منها أياد ترمز إلى الخيرات التي يمنحانها من هذا المعبود. ويرجع تاريخ هذا المنظر إلى السنة الثانية عشرة من حكم «إخناتون»، وإن كان من المحتمل أنه رُسم تذكارًا لزيارة والدته «تي» له في «إختاتون»، وتخليدًا لذكرى والده وإظهارًا لرضائه عن مذهبه الجديد، غير أنه توجد شواهد أخرى تعزز أنه عاش حتى هذا التاريخ وانفرد «أمنحتب الرابع» (إخناتون) بالملك بعد موت والده، وكان قد تزوج من «نفرتيتي» أخته بنت «تي» على أصدق الأقوال.
ولدينا من الحقائق التاريخية ما يجعلنا نعتقد أن الانقلاب الديني الذي أحدثه لم يتم بغتة، وأن مقدماته قد ظهرت منذ عهد «تحتمس الرابع» جد «إخناتون»؛ فقد عثرنا على لوحة بجوار معبد «بو الهول» ظهر فيها «تحتمس» يعبد قرص الشمس «آتون» وقد تدلى من هذا القرص شعاع ينبعث من الشمس حاملًا إليه الخيرات، وهذه الصورة تنطبق إلى حد كبير على الصورة الرمزية لديانة «إخناتون»؛ فقد كان يتعبد إلى قرص الشمس الذي ينبعث منه شعاعات تنتهي بأياد إنسانية. يُضاف إلى ذلك أن «تحتمس الرابع» كان أول فرعون ثار على سلطان كهنة «آمون» وانتزع من يدهم وظيفة رئيس كهنة القطرين، وقلدها أحد قواده الذين يركن إليهم ويثق فيهم. وفي عهد «أمنحتب الثالث» خطا الميل إلى عبادة قرص الشمس خطوة ثانية؛ إذ نشاهد هذا العاهل يطلق على القارب الذي كان يتنزه فيه في بحيرته الصناعية بمدينة «هابو» اسم آتون يضيء (تحن آتن).
فلما تولى «إخناتون» عرش البلاد وجد الأمور مهيَّأة بعض الشيء لعبادة إله الشمس وحده، ورمز له بقرصها الذي سماه «آتون»، وقال عن معبوده: «إنه القوة الكامنة وراء هذا القرص، وإنه واحد لا شريك له»، وبنى له في بادئ الأمر معبدًا في «طيبة» عاصمة الملك، فلم يغضب ذلك كهنة «آمون رع»؛ لأن معبودهم «آمون رع» يمثل إله الشمس أيضًا، ولكن الذي أحفظهم إصرار «إخناتون» على عبادة إلهه وحده، وتحريم عبادة «آمون» وغيره من الآلهة الأخرى. ولقد أفلح في نشر مذهبه في طول البلاد وعرضها، وفي القضاء على المذاهب الأخرى بدون كبير عناء؛ مما يدل على أن الأذهان كانت مستعدة لقبوله، وعلى أن للفرعون قداسة، وعلى أن قوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه معصوم من الخطأ، والقول ما قال، وهذه بلا شك أفكار كان يخضع لها الشعب؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الملك إله وابن إله. ومن الغريب أن هذا المليك الذي بدا لنا سديد الرأي صائب النظر فيما اتخذه من إصلاح ديني يتمثل في توحيد الإله وتمجيد ذاته مما يدل على عقل راجح، ونفس صافية، وتفكير عميق؛ من الغريب أن صاحب هذه المثل العليا في الإصلاح كان شاذًّا في خلقه، وكما يُقال شاذًّا في عقله، منحدرًا إلى الحضيض في بعض تصرفاته.
أما شذوذه الجسمي فلا دخل له فيه، ولا ذنب له في أنه خُلق على تلك الهيئة التي لا تناسب بين أعضائها ولا انسجام، وتماثيله تدل على تركيب غريب شاهد بقدرة الله، وأما شذوذه العقلي فلمخالفته لأهل عصره في عدم تشيعه لآلهة «طيبة» ومقته الشديد للإله «آمون»، وأما شذوذه الخلقي فهذا موضع الغرابة، وقد وصل فيه إلى مرتبة يتنزه عنها الحيوان الأعجم إذا صح ما قيل، فإننا لفي شك مريب في تلك العلاقة بينه وبين أخيه «سمنكارع»؛ إذ كان حبه له وتعلقه به خارجًا عن نطاق العقل والمألوف.
وإن انحطاطه الخلقي ليتجلى كذلك في زواجه من ابنته الثالثة «عنخس إن با آتون» التي أصبحت زوجة «لتوت عنخ آمون» فيما بعد، كما تلمس خشونته في تحوله عن حبه لزوجته الجميلة (نفرتيتي) وسوء معاملته لها؛ على حسب ما توحي به الآثار المكشوفة. مما سنفصل فيه القول.
كان «إخناتون» يمقت الإله «آمون» مقتًا شديدًا؛ فأغلق معابده حيثما وُجدت، ومحا اسمه أينما رآه، بل محا اسم والده؛ لأن في تركيبه اسم «آمون» (أمنحتب)، ثم ولَّى وجهه شطر الآلهة الأخرى فأنزل بها ما فعل «بآمون»، وزاد بأن محا لفظة الآلهة بصيغة الجمع في كل المعابد؛ حتى لا ينصرف الذهن إلا إلى إله واحد، والظاهر أن «إخناتون» قد وجه اهتمامًا كبيرًا لمذهبه الجديد عندما كان شريكًا لوالده في إدارة الملك، ولم يستعمل القوة في نشره احترامًا لعقيدة والده الذي كان يتعبد للإله «آمون رع»، والذي أعاد لكهنة هذا الإله وظيفة رياسة معابد القطرين بعد أن انتزعها منهم «تحتمس» الرابع كما قدمنا.
وكان والده «أمنحتب الثالث» من جهة أخرى لا يعارض ابنه في عبادته «لآتون» والعمل على نشرها؛ بدليل أنه تركه يبني لهذا الإله معبدًا في «الكرنك»، وليس من البعيد أن يكون والده «أمنحتب» ووالدته «تي» قد خشيا عليه تحمسه لمذهبه الجديد، فأسديا له النصح بالهجرة من «طيبة» والاستقرار في بلدة يتخذها مركزًا لنشر مذهبه الجديد، وإن كان «إخناتون» ينكر ذلك، ويدعي في نقش له على إحدى لوحات مدينة «إختاتون» التي هاجر إليها، أنه ترك «طيبة» من تلقاء نفسه، ويقسم أغلظ الأيمان على أنه هو الذي أراد ذلك، ولم يوجهه أحد إليه، ولقد كان تعلقه شديدًا بعاصمته الجديدة، فأوصى بأن يكون مرقده الأخير فيها إن مات هو أو أحد أفراد أسرته، وإن شاءت الأقدار أن يموت خارجها فلتُحمل جثته إليها حتى يهدأ بالًا، ويرتاح في حياته الثانية.
بنى «إخناتون» عاصمته الجديدة «إختاتون» في سرعة، وكانت البيوت الأولى لعظماء الدولة ورجال البلاط على طراز صحي فاخر، وقد استوفى وسائل الراحة والترف، وقد عمد كل موظف إلى نقش اسمه وألقابه على واجهة بيته بجانب أدعية للإله «آتون»، وبعد أن استقر المقام بعلية القوم توافد الصناع تدريجًا على العاصمة الجديدة، فاتخذوا مساكنهم في الفضاء المتخلف بين منازل كبار الموظفين، ومن هنا ترى في هذه المدينة القصر المنيف يسكنه الوزير بجانب الكوخ الحقير يأوي إليه الصانع الصغير، ولقد سمى الكاشفون الأحداث شوارعها باسم أعظم بيت فيها؛ فسموا شارع الوزير، وشارع رئيس الكهنة، وهكذا.
وبعد، فقد قضى هذا الرجل نحبه بعد أن حكم ثمانية عشر ربيعًا إلا قليلًا، ولا ندري إن كان قد مات حتف الأنف على فراشه أو اغتاله المتآمرون بعد أن غفلت عنه عين العناية التي كانت تحرسه، وكل ما قرأناه في الكشوف الأثرية أنه قد مات في وقت لمع فيه نجم مملكة «الخيتا» وازدادت قوة وشوكة، فأخذت تطرق أبواب سيدتها مصر، وتهاجم حدودها آملة أن تسودها.
مات «إخناتون» بعد أن وضع سياسة دينية قويمة، وبعد أن خطا بالعقيدة خطوات موفقة نحو الغاية الصحيحة، التي أُرسل من أجلها الأنبياء.
(٣) عرش مصر بين «سمنخكارع» و«نفرتيتي»
قام بأعباء الملك بعد «إخناتون» أخوه ذلكم الشاب «سمنخكارع» الذي اتخذ منه «إخناتون» شريكًا في الملك أثناء حياته.
(٤) عصر إخناتون وما حدث فيه من تجديد
أعطينا القارئ فيما سبق لمحة خاطفة عن «إخناتون» وما تمَّ في عصره، والآن سنعطيه صورة مفصلة موضحة لهذا الإجمال، مبتدئين بذكر فصل عن التدرج في عبادة «آتون» وتأسيسه مدينة «إختاتون» عاصمة ملكه الجديدة، ثم نشفعه بفصل آخر عن التوحيد والمدى الذي أحدثه من التطور العالمي، وبخاصة في الفن المصري القديم، ثم نختم ذلك بفصل عن الإمبراطورية المصرية وانسياقها إلى التدهور والانحلال نتيجة انشغال «إخناتون» بدينه الجديد، وتركه شئون الملك ومهامه.
(٤-١) التدرج في إعلان عبادة «آتون»
وقد كانت المسلات تُقام كالمعتاد بمناسبة عيد «سد»؛ أي العيد الثلاثيني، وكانت تُقام فيه كل المراسيم القديمة المتبعة التي كان يسير على نهجها من سبقه من الملوك، ولم يكن الاحتفال بها بعد ثلاثين عامًا من تولية العرش كما يدل اسمها على ذلك، بل كانت تُقام على إثر تولية الفرعون العرش، وقد اتخذ «أمنحتب الرابع» فرصة هذا الاحتفال ليقدس فيها معبده الجديد، ويشيد باسم إلهه الجديد «آتون»، ويعلنه لكل الشعب، ثم رأى أنه لا بد من اتخاذ خطوات أخرى لتحديد عبادة إلهه، والصورة التي لا بد أن يظهر فيها نهائيًّا؛ إذ كان اسم إلهه «آتون» لا يزال يرادفه كلمة «رع» و«حور أختي»، وكان ذلك في نظره مقبولًا بعض الشيء، ولكن الشيء الذي لم يستسغه هو أن يرى إلهه يصوَّر في صورة إنسان أو بجسم إنسان، ورأس حيوان؛ ولذلك عقد النية على أن يصوِّره كما هو ظاهر للعيان؛ أي على هيئة قرص الشمس الذي يرسل أشعته من السماء على الأرض فيعيش بها الناس. ولقد كانت الأهمية الأساسية للاحتفال بالعيد الثلاثيني (عيد سد) في نظر «أمنحتب» محصورة في تقديم الديانة الحقة للشعب، ووصف الإله بأنه هو «آتون» الحي العظيم الذي يضيء الأرضين في العيد الثلاثيني، وسيد السماء والأرض.
ومن ثَمَّ أخذ الملك يقيم المعابد لإلهه في كل أنحاء القطر، وبخاصة في «هرموبوليس» (الأشمونين) و«منف» و«عين شمس»، وقد كان الإله «آتوم رع» الذي يُعبد في هذه البلاد موحدًا مع الإله «آتون» الجديد، ولقد كان «أمنحتب» في بادئ الأمر يظن أن عبادة إله الشمس في صورة «آتون» التي تعبر عن صورته الحقة وهو قرص الشمس ستقضي على الديانة القديمة بإعطائها للقوم تعبيرًا صحيحًا عن مراميها، وأنه سيكون في استطاعته أن يغض الطرف ولو مؤقتًا عن الآلهة المصرية الآخرين، ولكنه لم يطِقْ صبرًا على هذه الحال؛ إذ لم يجد غير بضعة أتباع له بين الكهنة يعضدون عقيدته، في حين أن الجمَّ الغفير منهم كانوا متمسكين بالديانة القديمة، بل زاد تمسكهم بآلهتهم، وبخاصة كهنة الإله «آمون» في «طيبة» الذين كان في يدهم كل السلطة، وقد كان عامة الشعب في جانبهم.
ولقد كانت الأزمة على أشدها في العام السادس من حكمه عندما أراد أن يقيم لنفسه مدينة خاصة لعبادة إلهه «آتون»، عندئذٍ قلب للإله «آمون» ظهر المجن؛ فقد عامله بوصفه مغتصبًا لمكانة إلهه «آتون»؛ فهشم تماثيله، ومحا اسمه أينما وُجد حتى في سجل خطابات تل العمارنة المكتوبة بالخط المسماري؛ لأنه كان يقصد القضاء على كيانه في عالم الوجود؛ وذلك زعمًا منه أن محو صورة الإنسان يعني القضاء عليه، وهذا ينطبق كذلك على الإله؛ وذلك لأن روحه كان يسكن التمثال أو اسمه، وهذا نفس ما قصده «تحتمس الثالث» حينما هشم تماثيل «حتشبسوت» وأتباعها، ومحا اسمهم من الآثار، وقد امتد تخريب آثار «آمون» ومحو اسمه إلى كل جهات القطر، وكذلك إلى بلاد النوبة. ويمكن للإنسان أن يتصور مقدار التخريب الذي كان يحدثه هؤلاء الجنود الذين أطلق الفرعون لهم العنان، فخرَّبوا المعابد، ومحوا اسم الإله آمون أينما وُجد في المقابر النائية، وكيف أنهم كانوا يقضون على كل من يقف في طريقهم في أثناء تنفيذهم أوامر الملك، حتى إنهم تركوا المعابد التي كان يُقدس فيها هذا الإله خاوية على عروشها، على أن الآلهة الأخرى لم تكن بأحسن حالًا، بل كذلك سارع هؤلاء الجنود لمحو أسمائهم، اللهم إلا أسماء الآلهة الشمسية مثل «آتوم» و«حور»؛ وذلك لأن وجودهم مع الإله الواحد الأحد إله الشمس كان لا يمكن الصبر عليه، هذا فضلًا عن أن الكلمة التي تدل على اسم الآلهة بالجمع قد مُحِيَتْ من عالم الوجود من كل الآثار أيضًا؛ وذلك لأنها تتنافى مع الوحدانية.
(٤-٢) مدينة «تل العمارنة»
ولا شك في أن انتقال رجال البلاط كان له أثر سيئ جدًّا في نفوس القوم، وبخاصة عندما عرفوا أن إلههم «آمون» «الطيب» وملكهم الرحيم الذي يُعدُّ في نظرهم المظهر البارز لصورة إلههم قد حجب عنهم ضوء وجهه الوضاح، وهو غاضب عليهم ونافر منهم.
موقع مدينة إختاتون
إنه يمين الصدق الذي أحلف به (وهو اليمين الذي لن أقول عنه إنه كاذب إلى أبد الآبدين)، إنها لوحة بلدة «إختاتون»، وهي التي اتخذت عندها محطًّا، ولن أتخطاها من جهة الجنوب أبد الآبدين، وأقمت اللوحة الجنوبية الغربية مقابلة لها تمامًا على الجبل الغربي لإختاتون.
أما اللوحة الوسطى التي عليها جبل «إختاتون» الشرقي، فإنها لوحة (إختاتون)، وقد أُقيم عندها محط، ولن أتخطاها شرقًا أبد الآبدين. وأقمت اللوحة التي في الوسط على الجبل الغربي «لإختاتون» مقابلة لها بالضبط.
أما اللوحة الشمالية الشرقية «لإختاتون» التي جعلت منها محطًّا فهي اللوحة الشمالية لإختاتون فلن أتعداها منحدرًا في النهر أبد الآبدين، ولقد أقمت اللوحة الشمالية الغربية التي تقع على جبل إختاتون الغربي مقابلة لها بالضبط.
وقد رأى البعض في هذه العبارة أن الملك قد أخذ على نفسه المواثيق بأن لا يبرح حدود هذه البلدة طيلة حياته، ولا شك في أن الألفاظ قد تحمل هذا المعنى، وقد تعني أنه لن يتعدى حدود هذا البلد لأنها ملكه الخاص، والأخذ بهذا المعنى يبرره ما جاء في المتن المطوَّل الذي جاء بعد: «لن أتجاوز لوحة «إختاتون» الشمالية نحو الشمال لأقيم فيه «إختاتون»»؛ أي إن ملك «آتون» يبقى فيها وحسب، ولن يُزاد فيها ظلمًا في أي من جهاتها، والواقع أن هذا المعنى أنسب من المعنى القائل إن «إخناتون» أراد أن يحبس نفسه بين جدران مدينته المقدسة طول حياته، ويترك مملكته ترعى نفسها بنفسها. حقًّا كان «إخناتون» متعصبًا، ولكنه لم يكن مأفونًا كما يعتقد بعض نقاده، ولا نزاع في أنه أهمل أمر إمبراطوريته في الخارج كما سنرى بعد، ولكن السبب في ذلك أنه كان يعلم أنه لن يتسنى له ذلك إلا بالحرب التي كان يكرهها من أعماق قلبه. على أن عدم قيام ثورات في داخل مصر نفسها لَأكبر دليل على أنه لم يتهاون في واجباته التي يفرضها عليه الملك كما يعتقد بعض المؤرخين.
وسيُنحت لي ضريح في الجبل الشرقي ويُحتفل بدفني في الأفراح العديدة التي أمر بها والدي «آتون»، وكذلك سيُحتفل بدفن الملكة زوج الملك الشرعية «نفرتيتي» في تلك السنين العدة … كذلك سيحتفل ببنت الملك «مريت آتون» فيها بعد سنين عدة، فسيُؤتى بي وأُدفن في «إختاتون»، وإذا ماتت كذلك الملكة «نفرتيتي» في أية بلدة في الشمال أو الجنوب أو الغرب أو الشرق بعد سنين يخطؤها العد فإنه سيُؤتى بها وتُدفن في «إختاتون»، وإذا ماتت بنت الملك «مريت آتون» في أية بلدة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب فإنه سيُؤتى بها وتُدفن في «إختاتون».
ولا يسع المرء هنا إلا أن يقرن بين النهاية المرجوة والنهاية التي لاقاها بعد موته؛ فبدلًا من أن يُدفن بإقامة الأفراح والاحتفالات الضخمة التي تليق بمقامه وهي التي تنبأ لنفسه بها في «إختاتون» مدينته المقدسة التي أحبها بكل قلبه؛ نجد أنه قد قُذف به في قبر دنس من مقابر وادي الملوك في «طيبة»، تلك المدينة التي كان يمقتها من أعماق قلبه. ولعمري فإن ذلك لَمَثَل من الأمثلة القليلة التي سخر فيها القدر ولعب فيها دوره المعكوس بين الحقيقة والنبوءة.
وليس لدينا من النقوش ما يدل على الشجار الذي قام بين «إخناتون» وكهنة «آمون» إلا جملة في لوحة من لوحات الحدود الأولى. وهي تظهر لنا بجلاء روح البغضاء المريرة التي كان يشعر بها هذا الفرعون حتى وهو في وسط السرور الذي كان ينعم به من عمله الجديد؛ فيذكر لنا المقابلة السيئة التي قُوبلت بها تعاليمه على يد من يُعلِّمون الناس والصدق. كذلك يشير إلى الصراع الذي قام بين هؤلاء الكهنة وبين جده «تحتمس الرابع»: إني أقسم بحياة والدي «حور آتون» … الكهنة، كانوا أشد إثمًا من الأشياء التي سمعتها حتى العام الرابع، وأشد ضررًا من الأشياء التي سمعتها في عام … أشد ضررًا من الأشياء التي سمعها «منخبرو رع» تحتمس الرابع … في فم العبيد، وفي فم أي قوم … والأشياء الفظيعة التي سمعها «تحتمس الرابع»، وقد سبق الكلام عنها؛ لأنه كما ذكرنا من قبل قد حارب كهنة «آمون» وأخضعهم على يد «حور محب».
أسرة إخناتون
ويُلحظ هنا أن أسرة «إخناتون» كانت تتألف قبل بناء هذه المدينة من الملك و«نفرتيتي» ثم الأميرة «مريت آتون»، وفي خلال المدة الواقعة بين تخطيط «إختاتون» والانتقال إليها وُلد له بنتان أخريان، وهما «مكت آتون» و«عنخس إن با آتون».
وتدل كذلك الآثار على أنه رُزق ابنة رابعة اسمها «نفرنفرو آتون تاشيري» ونحن نعلم أن الأولى قد تزوَّجت من «سمنخكارع» خليفة «إخناتون»، غير أننا لم نسمع عنها شيئًا قط بعد وفاة زوجها الذي لم يحكم أكثر من ثلاثة أعوام، أما الثانية «مكت آتون» فقد ماتت قبل والدها، وقبرها معروف في «تل العمارنة»، والثالثة وهي «عنخس إن با آتون» كما نعلم قد تزوَّجها «توت عنخ آمون» الذي ولي العرش بعد «سمنخكارع»، وبعد وفاته تزوجها «آي» ليتمكن من الجلوس على العرش؛ إذ كانت بطبيعة الحال الابنة الباقية لإخناتون، ولكن الكشوف الحديثة قد أماطت لنا اللثام عن حادث غريب في حياة هذه الأميرة ووالدها «إخناتون»؛ فقد دلَّت الآثار على ما يحملنا على الظن بأنها كانت قد تزوجت من والدها قبل أن تتزوج من «توت عنخ آمون»، وأنها كذلك قد رُزقت منه ابنة سمتها باسمها وميَّزتها عنها بلقب «الصغيرة».
وهنا نلحظ أن «إخناتون» لم يتمسك في أخريات حياته بإضافة اسم «آتون» إلى تركيب أسماء بناته، كما فعل من قبل؛ وذلك يدل على أنه لم يكن متعصبًا للفظة «آتون» في آخر حياته كما كان يحرص عليها عندما نقل الحكم إلى «إختاتون» مباشرة، فهل يُفهم من ذلك أنه رأى تعصبه لإلهه قد جرَّ عليه المتاعب، وأثار الفتن فارتد إلى التسمية القديمة «رع» وهي التسمية التي ألفها الشعب منذ فجر التاريخ، وبذلك أرضى نفسه، وأرضى شعبه؟ إنها لسياسة رشيدة ومحكمة جدًّا، وبخاصة إذا علمنا أن «سمنخكارع» بعد أن اشترك مع «إخناتون» في الحكم عاد إلى «طيبة» وأخذ في تهدئة الحال مع كهنة «آمون». وقد وجدنا له قصيدة في مدح «رع» بين آثار «توت عنخ آمون» التي اغتصبها الأخير منه.
وصف مدينة إختاتون
وفي السنة الثامنة من حكم «إخناتون» وجدنا أن نقل البلاط قد نفذ تمامًا وأصبحت «إختاتون» العاصمة للملك. وهذه الحقيقة قد قُرِّرت بعبارة خاصة ظهرت في كثير من لوحات «تل العمارنة»، وهي كما يأتي: «وهذا اليمين (الخاص بالحدود) قد كُرر في السنة الثامنة من الشهر الأول من الفصل اليوم الثامن؛ فقد كان عرش الملك في «إختاتون» والفرعون (له الحياة والصحة والعافية) قد وقف ممتطيًا عربته العظيمة المصنوعة من السام يفحص لوحات الإله «آتون» التي أُقيمت على الجبل بمثابة الحد الجنوبي الشرقي للمدينة «إختاتون».» ويُعد تجديد هذا اليمين بمثابة الخطوة الرسمية النهائية لنقل مقر الملك. وعلى ذلك يكون العمل في تأسيس العاصمة قد بُدئ في العام السادس، وانتهى في العام الثامن.
ويرجع الفضل في كشف النقاب عن تخطيط البلد القديم إلى البعثات الألمانية والإنجليزية التي حفرت هذه البقعة حفرًا علميًّا منظمًا.
تكلمنا فيما سبق عن مميزات مدينة «إختاتون»؛ من حيث الطول والعرض، وعن السبب الذي دعا إلى تخطيطها على هذا النحو. فهذه البلدة العظيمة الطول الضيقة العرض قد وُضع تصميمها بشكل منسجم لا بأس به، وكانت تخترقها من الشمال إلى الجنوب ثلاثة شوارع رئيسية تقاطعها في زوايا قائمة شوارع أخرى تخترقها من الشرق إلى الغرب، وخلافًا لهذا النظام المستطيل الشكل لم يحاول المهندس واضع التصميم إيجاد انسجام في وضع المنازل التي كانت تختلف اختلافًا عظيمًا من حيث التخطيط، والظاهر أن فكرة تخطيط مدينة على طراز ممتاز لم يَدُرْ بخلد مهندسي «مدينة الأفق»، وذلك على الرغم من أنه كانت أمامهم قطعة أرض أخرى بكر يمكن تخطيطها على طريقة هندسية دقيقة. وربما يرجع السبب في ذلك إلى السرعة التي كان يتطلبها إنجاز المدينة وإعدادها، وكذلك حالَ هذا بين تقسيم رقعة المدينة إلى حي مساكن عمال، وآخر لمساكن عِلْية القوم والموظفين؛ فالتصميم الذي لدينا يدل على أن المساكن قد خُططت دون مراعاة توزيعها إلى مجاميع منسجمة؛ فبينا نرى منزلَ شريفٍ بفخامته وسِعَة أرجائه نجد منزلًا حقيرًا لعامل أو صانع قد لَاصَقَه، حتى ليخيل للإنسان في أيامنا أنها خُططت لتكون بلدة ديمقراطية، فالكاهن الأعظم يقيم في محاذاة صانع الجلود، والوزير بجوار صانع الزجاج، ويرجع السبب في ذلك إلى أن عظماء القوم عندما حلوا بالمدينة استولى كل منهم على قطعة عظيمة من الأرض ليقيم فيها قصره، ولكنه بعد أن أخذ ما يكفيه لبناء بيته تخلف بعد ذلك فضاء اتخذه العمال والصناع الذين وفدوا إلى المدينة لبناء منازلهم الصغيرة، ولم يكن لهم الخيار في أن يتخذوا أماكن أخرى لإقامة منازلهم؛ لئلا يبتعدوا عن المياه فيصبح نقلها عسيرًا عليهم.
وقد عُثر أخيرًا على بعض منازل أمكن لأحد المهندسين أن يكوِّن منها فكرة صحيحة عن البيت في عهد إخناتون، وسنفصل القول هنا بعض الشيء في وصف هذا البيت ومحتوياته ليأخذ القارئ فكرة عن البيت في عهد الأسرة الثامنة عشرة على وجه عام.
(أ) البيت المصري في عهد إخناتون
تدل شواهد الأحوال على أن البيت المصري في عهد الفرعون «إخناتون» كان غاية في الأناقة وحسن الذوق والتنسيق الصحي البديع. وقد استطاع أحد المهندسين أن يضع أمامنا صورة حية لبيت من البيوت التي كُشف عن بقاياها في مدينة إختاتون المعروفة الآن بتل العمارنة.
والبيت الذي سنصفه هنا يقع في الضاحية الشمالية من المدينة المذكورة، ويُعدُّ من أجمل البيوت وأفخمها. وتدل الآثار على أنه كان مؤلفًا من طابقين.
فهذا البيت وما يتبعه من حديقة وملحقات قد سُوِّر بجدار عالٍ يكتنفه من جانبين شارعان ومن الجانبين الآخرين ضياع رب المنزل، ويقع المدخل العمومي لهذا البيت على شارع، وقد أُقِيمت في أوَّله حجرة حارس البيت، وتحتوي على مقعد وموقد مسطح. أما المدخل نفسه فيتألف من برجين أنيقين يكتنفانه ويعلوهما «كرنيش» محلًّى برسوم على هيئة جريد النخل، وقد لوَّن مصراعا بابيه باللون القرمزي.
وبعد اجتياز الإنسان هذا المدخل بقليل يستقبل طريقًا زُين جانباه بصفين من الأشجار الصغيرة غُرست في أحواض مملوءة بغرين النيل الخصب، وفي نهاية هذه الطريق يجد الزائر أمامه محرابًا صغيرًا على هيئة معبد قد أُقيم على رقعة من الأرض مرتفعة بعض الشيء يرقى إليه الإنسان بسلم ذي درج. والجزء الأوسط من هذا المحراب عارٍ من السقف؛ وذلك تمشيًا مع شعيرة عبادة الإله «آتون» الذي يُمثل في قرص الشمس المشرق. أما قاعة عمد هذا المحراب فيزينها سقف جميل. وعند الفراغ من تقديم فروض العبادة في المحراب يتجه الزائر نحو ردهة داخلية يصل إليها بطريق تقع على محور زاوية قائمة مع المحراب نفسه. وهذه الردهة تؤدي إلى البيت بوساطة مدخل له خارجة بارزة وبابه ملون بالألوان الزاهية، وكُتب اسم صاحب البيت وألقابه بالخط الهيروغليفي على عارضتي الباب المصنوعتين من الحجر، وكذلك يوجد للبيت باب آخر خاص بالتجار وأصحاب الحاجات، ويقع على الطريق العامة. ويؤدي إلى ساحة عامة نُصبت فيها مخازن الغلال المفعمة بالحبوب المكدسة في صوامع مخروطية الشكل وتشبه من كل الوجوه الصوامع التي يخزن فيها الفلاحون غلالهم إلى يومنا هذا في ريف مصر وصعيدها.
- الإصطبل: يتألف الإصطبل من رقعة مرصوفة من الأرض تسع ثمانية جياد لكل منها مذود ومربط مصنوع من الحجر، ومثبت في أصل الطوار، وخلف هذه المذاود ممر ليُوضع فيه علف الخيل، ويصل إليه الإنسان من الخارج، ولا شك أن إنشاء الإصطبلات بهذه الصورة يُعد حديثًا. ويلحق بهذا الإصطبل حجرة طويلة خُصصت لصيانة سرج الخيل ولجمها … إلخ، هذا مع وجود مكان صغير لتُحفظ فيه عربة صغيرة من الخشب وآخر لتُحفظ فيه فضلات الخيل.
- قسم الخدم: ويشتمل القسم الخاص بالخدم على حجرة كبيرة ذات خارجة صغيرة مثبتة في مدخلها، ويرتكز سقفها على عمد مربعة من اللبن.
- المطبخ: ويتألف من مسكن رئيس الطهاة أو مدير البيت. وهو مبني على نمط حجر البيت الرئيسية ولكن بحجم مصغر. أما المطبخ نفسه فيتألف من صف أفران تماثل بالضبط أفران الخبز التي نشاهدها في قرى الريف الآن، ويتصل بهذا المطبخ حجرة أخرى بُني فيها رف لما يُخزن، ولتقديد الخبز. هذا إلى حجرة أخرى ثُبتت فيها لوحة مبطنة بالإسمنت كانت تُستعمل لخلط العجين وتجهيزه. وأُقيمت خلف البيت كذلك حظائر الماشية وفناء متوسط الحجم فيه وجران للكلاب. وبجوار المدخل المعد لخدَّام البيت بئر قريبة الغور يُوصل إليها بدرج حلزوني للسقاية، أما الركن الشمالي الشرقي من هذه الضيعة فقد هُيئ ليكون حديقة منظمة ليتمتع بها صاحب البيت وأسرته.
- البيت: أما البيت نفسه فكان يتألف من قاعة رئيسية مرتفعة عن باقي
حجرات تحتل وسط البيت مضاءة بنوافذ، وحجرات أخرى خارجية مضاءة
من الجوانب. والواقع أن حياة الأسرة تتركز في هذه القاعة ذات
العمد القرمزية اللون والأبواب الملونة؛ لأنها متصلة بالحجرات
الخاصة الأخرى، وكذلك تتصل بقسم الخدم الواقع في الجهة
الجنوبية، وبالسلم الذي يؤدي للدور العلوي في الجهة الشرقية،
هذا فضلًا عن أنها تؤدي إلى القاعتين الشمالية والغربية. وهكذا
عندما يتخطى الزائر الباب تواجهه القاعة الشمالية، وهي حجرة
كانت تستعملها الأسرة عادة عندما تكون حرارة الشمس لافحة في
فصل الصيف، لها منفذ يوصلها بالمطابخ، كما أن لها باب خدم من
جهة مخزن الغلال، والسقف في هذه الحجرات الواسعة يتألف كل منها
من عرق رئيسي فوق الأعمدة ملون بلون زاهٍ وزخرفة، هذا إلى عروق
صغيرة ملونة باللون القرنفلي، وبين هذه العروق ألواح ملونة
بالأبيض. وتوجد في جدران الحجرة منافذ صغيرة للإضاءة، وتضم
جدران هذه القاعة الشمالية ثلاثة أبواب تؤدي كلها إلى القاعة
الوسطى العظمى، وأوسط هذه الأبواب يعلوه عتب نُقش عليه ثانية
اسم صاحب البيت وألقابه. وعندما يخترق الإنسان هذا الباب يسير
بين العمد الأربعة العالية، ثم يصل إلى طوار مرتفع بعض الشيء
مصنوع من اللبن. وقد فُرش بالجلود والطنف حيث كان يجلس صاحب
البيت ليدير شئونه أو ليستقبل الضيفان. وهذه الحجرة تُضاء
بنوافذ فُتحت بالقرب من السقف، وصُورت في الجدار المقابل نوافذ
كاذبة لتكون المقابلة تامة بين الجدارين. وفي أحد جوانب هذه
القاعة وُضع حجر للغسيل واسع، ومعه إناء يغتسل منه الزائر عند
وصوله، وبالقرب من الطوار وُضع موقد على هيئة طبق يُوقد فيه
الفحم.
أما القاعة القريبة وسلسلة الحجرات الخاصة بالضيفان التي تُفتح عليها، وكذلك حجرات الخزن المختلفة وجميعها تكمل الجزء العام من البيت؛ فإنها صورة مصغرة من القسم الشمالي من هذا البيت، وفي الغالب كانت تُستعمل في أثناء فصل الشتاء عندما يكون القسم الآخر من البيت باردًا لا تصله الشمس كثيرًا.
- قسم النساء: والآن لم يبقَ أمامنا إلا الجزء الخاص من البيت، ويشمل قسم النساء وحجرة نوم رب البيت، وكلها مجتمعة حول حجرة صغيرة مربعة داخلية كانت مستعملة للجلوس.
ويُلاحظ أن النساء والأطفال كانوا يسكنون على ما يظهر في ثلاث حجرات صغيرة، أما رب البيت فكان يحتل حجرة فسيحة بملحقاتها الفخمة التي لا تقل في نظامها وحسن ترتيبها عما نجده في فندق حديث؛ إذ نشاهد حجرة نومه التي كان يصل إليها من باب قاعة الجلوس قد صُنعت فيها كوة مرتفعة بعض الشيء عن سطح الحجرة لتحتوي سريره. ويُلاحظ أن السرير كان مرفوعًا فوق أربع قطع من الحجر، وكذلك نشاهد بابًا آخر في حجرة الاستقبال مؤدِّيًا إلى حجرة التعطير والزينة، وقد عُثر فيها على قطعة من الأثاث مؤلفة من ثلاث أوانٍ مقطوعة في حجر واحد. ولا تزال واحدة منها تحمل بقايا بلورات تشبه أملاح الحمام، ومقعد من الحجر كان يجلس عليه رب البيت في أثناء تعطيره. وخلف هذه الحجرة نجد حمامًا لرش الجسم (دش) مبنيًّا من الحجر الجيري، كان يقف فيه رب البيت في حين يصب عليه الماء عبدٌ من خلف جدار حاجز مبنيًّا. ويلي هذا الحمام كنيف يُرى فيه المقعد الحجري المثقوب الذي كان يجلس عليه لقضاء الحاجة، ويكتنفه حوضان مملوءان بالرمل، وكان لا يزال في واحد منهما إناء من الفخار. وكانت حجرة التعطير والحمام والكنيف ملونة باللون الأبيض.
ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع أبواب هذا البيت كانت مصنوعة من الخشب وأسكفاتها من الحجر، أما درجات السلم فكانت من اللبن تحميها من التفكك قطع خشب.
ولا شك في أن الدور العلوي من البيت كان قد أُقيم على نظام خاص غير أن معلوماتنا عنه ضئيلة ولا يمكن وصفه بصورة قاطعة، ولا نزاع في أن هذا النظام الذي وجدناه فيما تبقى لدينا من بيوت مدينة إختاتون كان شائعًا في عهد الدولة الحديثة، بل ربما كان في العصور التي سبقته غير أن عوادي الدهر قد قضت عليها جملة.
أما قصر الوزير «نخت» فهو من أجمل أنواع المعمار في المدينة؛ إذ يبلغ حجمه نحو ٩٥ قدمًا في ٨٥ قدمًا. وأما بيوت العمال فقد كانت نسبة حجمها إلى أحجام بيوت عِلية القوم ضئيلة جدًّا، فالبيت لا يحتوي على أكثر من قاعة أمامية، وحجرة استقبال وحجرة نوم ومكان للطهي. وقد كانت جميع بيوت المدينة سواء أكانت لعلية القوم أم لصغار العمال مبنية باللبن، ولم يشذ حتى الجزء الأعظم من قصر الفرعون نفسه من ذلك، وهذا النوع من البناء كان يتفق مع رأي المصري وفلسفته؛ فيرى أن كل إنسان يجب أن يقيم مبناه لمدة حياته هو، وفق ميوله الشخصية، وعلى حسب ذوقه الخاص؛ فلا يصح إذن أن يفرض على خلفه منزلًا مقامًا من الحجر الصلب ربما لا يروق في نظره، هذا فضلًا عن أن البناء باللبن يخفف من وطأة حرارة الشمس وبخاصة في فصل الصيف.
وقد أقام «إخناتون» لنفسه قصرًا في حي المدينة الشمالي على مسافة قليلة جنوبي المعبد الكبير وعلى مقربة من شاطئ النيل. على أن يد الدهر لم تُبقِ لنا شيئًا كثيرًا من مبانيه حتى أصبح من المتعذر علينا أن نميز حال العمد التي وجدناها في القاعة العظمى أكانت تتألف حقيقة من عمد أم كانت حوامل أُقيمت عليها رقعة حجرة أخرى فوق الطبقات السفلية من القصر. على أن أهم ما يلفت النظر في هيئة هذا المبنى الضخم الغريب هو حجرة العمد التي يبلغ عرضها ٤٢٨ قدمًا وطولها ٢٣٤ قدمًا؛ مما يجعل قاعات القصور الملكية أو غيرها تتضاءل بجانبها، هذا إذا ما قرناها بمساحة القصر كله الذي كان يبلغ ١٤٠٠ قدم طولًا ٤٠٠ أو ٥٠٠ عرضًا، وهذه القاعة تنتظم ٥٤٢ عمودًا، فإذا كانت الأعمدة التي وُجدت فيها حقًّا أعمدتها كانت تلك القاعة في بهائها تمثل غابة مزدحمة بالأشجار الباسقة. وعلى الرغم من حقارة المادة التي صُنعت منها جدران هذا القصر فإن النقوش التي كانت عليها غاية في الفخامة والروعة. ومما يؤسف له جد الأسف أن رقعة حجرات هذا القصر المزينة بالألوان التي قد أسبغ عليها صانعها قوة طبعية بما وُضع فيها من الرسوم الناطقة المنسجمة. وكذلك الزينات التقليدية التي كانت تُحلى بها تيجان العمد وهي التي أُحكم صنعها بزجاج مطلي براق زادها بهجة ورواء؛ لم يبقَ منها إلا نتف صغيرة يمكننا أن نستخلص منها ما كان يحدث في نفس الزائر عند التمتع برؤيتها، ولا غرابة إذن في أن يتخيل الإنسان أن قصر «إخناتون» كان جنة الله على الأرض، ينعم فيها في هدوء بعيدًا عن متاعب طيبة وفتنها وأحابيل كهنتها. وكانت «إختاتون» حافلة بالمعابد المختلفة الأنواع والأحجام، ولم يكن الفرعون وحبه لإلهه لينسيه احترام ذكرى أجداده العظام على الرغم من أنه قطع حبل الصلة بينه وبينهم من جهة العقائد الدينية؛ فقد وجدنا في المدينة بقايا عدة معابد كانت قد أُهديت لملوك الماضي العظام مثل «أمنحتب الثاني» و«تحتمس الرابع».
وبجانب هذه كانت تُوجد معابد صغيرة مثل معبد «بيت راحة آتون»، وكانت الملكة «تي» والدة إخناتون تقوم بتأدية الشعائر فيه، هذا إلى معبد للأميرة «باك آتون» أخت «إخناتون» الصغيرة، وآخر للأميرة «مريت آتون» أسنِّ بنات الفرعون، ويُسمَّى بيت الفرح للإله آتون في جزيرة آتون الممتاز في أعياده، ثم معبد النهر والجوسق المقدس التابع لرحبة البركة الجنوبية ومعبد «مرو آتون» أي رحبة آتون، أما معبد الدولة العظيم فكان يغطي على كل ما سواه حجمًا وفخامة وأبهة. وفي أقصى جنوب سهل «تل العمارنة» وبالقرب من قرية الحوطة يوجد على حساب الكشوف الحديثة حي من أهم أحياء مدينة «إختاتون»، وهذا الحي يُسمَّى «مرو آتون» أي «رحبة آتون»، وهو اسم لا بد قد أُطلق على جزء كبير مسوَّر كانت تنعم فيه الملكة كأنه جنة على الأرض، فهي تتمتع بالهواء الطلق في ظلال الحدائق الوارفة التي كان يحبها كل مصري. هذا إلى قاعة استقبال أنيقة ومعبد صغير، والواقع أن حب الطبيعة يتجلى في كل تعاليم «إخناتون» الدينية، والظاهر أنه قد ابتُدع وسائل المتعة بجمال الطبيعة في «مرو آتون» وهو ذلك الجمال الذي وهبه إياه إلهه «آتون»، فقد أوجد بيئة محفوفة بمتع الحياة، ومزينة بمناظر الطبيعة التي أوجدها «آتون»، ليمكنه أن ينتقل في أرجائها في أقل من لمح البصر لعبادة خالق كل هذا؛ إذ كانت مناظر الطبيعة وملاذ الحياة توجد جنبًا لجنب مع المعبد، وقد كانت «مرو آتون» هذه مؤلفة من مبنيين محاطين بسور يفصل بعضهما عن بعض جدار. وتبلغ مساحة المبنى الشمالي وهو أكبرهما ٢٠٠ × ١٠٠ متر، أما الثاني فتبلغ مساحته ١٦٠ × ٨٠ متر، ويمتاز المبنى الأصغر بقاعة استقبال ذات عمد وبحيرة من صنع الإنسان، أما باقي مساحته فالمرجح أنها كانت مزروعة بالأزهار المنسقة والأعشاب النضرة. وقد كان الجزء الأعظم من القسم الأكبر من هذه الجنة يشغله بحيرة مستطيلة أو حوض يبلغ مساحته ١٢٠ × ٦٠ مترًا وعمقها نحو متر، وفي نهاية تلك البحيرة من الجهة الغربية أُقيم طوار داخل في الماء ليكون بمثابة سلم مريح لمن أراد التنزه في سفينته في ذلك الخضم المترامي الأطراف، وقد زُينت شواطئ تلك البحيرة بمبانٍ مختلفة أشكالها، وكانت مجموعة المباني التي في الركن الشمالي الشرقي من البحيرة أهم ما يسترعي النظر والاهتمام؛ فعلى الرغم من أنها كانت بمثابة قاعة استقبال في الجهة الشمالية من البحيرة فإن كهوفها لا بدَّ كانت يومًا مكتظة بزجاجات الخمر. ويدل على ذلك أختامها المصنوعة من الطين، وهذا لعمري يبرهن على أن تمتع «إخناتون» بجمال الطبيعة ومفاتنها لم يجعله ينسى نصيبه من ملاذ الحياة الدنيا ومتاعها، أما أقصى الركن الشمالي الشرقي لتلك الجنة فكان يشغله مبنًى مزخرف مما جعله بهجة للناظرين، والظاهر أنه كان نوعًا من الأحواض التي تنمو فيها النباتات المائية على مختلف أنواعها وألوانها، وجنوب هذا الحوض المائي ذي النباتات الفيحاء تقع عين الناظر على طائفة من أسرة الزهر اليانع، وجنوب هذه يجري جدول مائي يلتف حولها من الجوانب الأربعة مكونًا جزيرة صغيرة كان يصل إليها الزائر من الجنوب بوساطة دهليز معبد مقام على عمد، وله بوابتان، وينتهي بجسر صغير يمر فوق خندق إلى جزيرة، وعند مدخل الجزيرة من هذه الناحية يواجه الفرعون جوسقين هما توأمان في الصورة والتصميم، وأمام كل منهما أُقيمت واجهة ذات عمد غير مسقوفة، وفي نهاية المطاف يصل الفرعون وضيوفه من أصحاب الحظوة عنده إلى سلم معبد صغير أُقيم في منتصف رقعته مائدة، وخلفها باب يؤدي إلى جسر آخر يتصل بحديقة النباتات المائية السالفة الذكر.
وسط المدينة (إختاتون)
وفي جنوبي هذه البقعة صفوف من بيوت الكتاب، وفي الشرق عدة مخازن، كذلك وُجد في هذا المكان الثكنات العسكرية، وكان فيها جنود المازوي (القرطة) وكذلك إصطبلات الخيل.
(٤-٣) التوحيد (أقدم عقيدة للتوحيد العالمي)
مقدمة
لقد أثرت السلطة الاجتماعية التي سادت مصر في العهد الإقطاعي تأثيرًا كبيرًا في دينها وأخلاقها، كما تركت الحكومة المصرية في عهد الأهرام مثل ذلك الأثر في التشريع السياسي. وكلا الأثرين كان ينحصر في دائرة القطر المصري وحده.
والواقع أن عصر الأهرام لم يجنِ إلا فكرة مبهمة عن أملاك إله الشمس الواسعة، وقد خُوطب ذلك الإله مرة في متون الأهرام باللقب الطنان «غير المحدود»، وإن كان قد ظهر في هذا العصر ما يبشر بنمو اجتماعي عند بعض الكتاب النابهين أمثال «بتاح حتب» الذين آمنوا بوجود قيم خلقية عالمية تسيطر على الملك، وتخضع لإله الشمس، وهذا يدلنا على أن المصريين كانوا قد بدءوا يسيرون بالفعل في الطريق المؤدي إلى التوحيد.
ولما كان اللاهوت الشمسي سريع الاندماج بأحوال العالم فقد انسابت حاسيته زاحفة نحو الأفق الواسع الذي أصبح تابعًا لمصر، فامتد إجلال الإله وتقديسه حتى ظلل هذه الميادين الجديدة التي دانت لمصر بالسلطان. فأثرت الإمبراطورية المصرية الواسعة على الفكرة الدينية القديمة، وقد صاحب ذلك تيقظ عقلي هزَّ التقاليد المصرية القديمة من أساسها. وكان «تحتمس الثالث» الفاتح يُعد أول شخصية تتسم بسمة البطولة العالمية، فتأثر بذلك لاهوت الدولة، وأُرغمت مصر على الخروج من عزلتها القديمة إلى الاشتراك في العلاقات العالمية التي كان لإله الشمس صلة وثيقة بها.
على أن العلاقات التجارية التي كانت قائمة من قديم الزمان لم تكف لأن تجعل العالم الخارجي الواسع يخضع خضوعًا محسًّا للتفكير المصري، فإن نشاط التجارة كان محصورًا من قبل في تخوم وادي النيل قبل أن يألف المصريُّ العالمَ الخارجي، ولم يكن في مقدور المعاملات التجارية وحدها مع عالم أوسع من مصر أن يزحزح تقاليد البلاد عما كانت عليه، فكم من تاجر في «بابل» النائية وفي «طيبة» المصرية قد رأى حجرًا يسقط من حالق إلى الأرض، ولكنه لم يدرك تلك القوة الطبعية قوة الجاذبية، تلك القوة التي اهتدى إلى سرها ذلكم الصبي الراقد تحت شجرة التفاح بعد تلك العهود بأمد طويل (نيوتن)، وكم من تاجر قد رأى الشمس تبزغ خلف معابد بابل وبين مسلات «طيبة»، ولكنه لم يصل إلى كنهها الحقيقي، وإذا كان «تحتمس» قد قال عن إله الشمس «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة»، فإنه يقصد بذلك تلك السلطة الإمبراطورية التي تناولت أولًا خيال رجال الإمبراطورية المفكرين، وكشفت لهم المجال العالمي لممتلكات إله الشمس في صورة مجسمة، فالتوحيد إذن لم يكن إلا السلطان الإمبراطوري في التدين، ففي عهد «أمنحتب الثالث» الذي كان من أعظم أباطرة مصر نرى توأمين من رجال العمارة هما «سوتي» و«حور» كانا يعملان في طيبة لحسابه، وقد ترك لنا أنشودة للشمس فوق لوحة موجودة الآن بالمتحف البريطاني توضح لنا مدى ميل ذلك العصر، كما توضح لنا المجال الآخذ في الاتساع الذي كان رجال الإمبراطورية يحلمون به مدركين أن مملكة إله الشمس لا حدَّ لها في امتدادها واتساع رقعتها.
ولم تصل إلينا وثيقة تضم تعبيرات صريحة عن التفكير المصري أقدم من هذه؛ إذ جاء فيها: «السيد الأحد الذي يأخذ جميع من في الأرض أسرى كل يوم بصفته واحدًا يشاهد السائرين عليها.» ومن الأمور الهامة أن ندرك أن ذلك الاتجاه كانت له علاقة مباشرة بالحركة الاجتماعية في العصر الإقطاعي المصري؛ إذ إن النعوت التي كان يُنعت بها إله الشمس مثل قوله: «الراعي الشجاع الذي يسوق ماشيته، وهو ملجؤها ومانح قوتها.» تشبه تلك التي وُجدت قديمًا في عهد النصائح التي وُجهت إلى «مريكارع»، فقد سُمي الناس في هذه: «قطعان الإله»، وكذلك تشبه أفكار «أبور» حيث يقول: «إنه راع لجميع الناس.» ويلفت نظرنا كذلك نعت آخر هو «أم نافعة للإله والبشر»؛ لأنه يحمل في ثناياه فكرة تشعر بالاهتمام ببني البشر. على أن النواحي الإنسانية في سلطان إله الشمس التي اشترك في إيجادها بصفة خاصة المفكرون في العهد الإقطاعي لم تختفِ بين العوامل السياسية القوية التي ظهرت في ذلك الميدان العالمي الجديد.
ولقد تقدم لنا بيان ما قام من النزاع الشديد بشأن العرش حوالي سنة ١٣٧٥ق.م، عندما خلف «أمنحتب الرابع» والده «أمنحتب الثالث»، وميل الملك الشاب إلى إله الشمس القديم وإعراضه عن مذهب «آمون» الذي أطلق عليه أتباعه «آمون رع» قاصدين بذلك أنه اتحد مع إله الشمس «رع»، وبينا كذلك أن «أمنحتب الرابع» ناصر في باكورة حكمه فكرة جديدة للمذهب الشمسي ربما كان غرضه منها التوفيق بين المذهبين.
وقد حدث في الوقت الذي كان فيه موقف البلاد المصرية السياسي في «آسيا» في غاية الحرج أن كان الملك منهمكًا بكل حماسة في تعضيد التسلط العالمي لإله الشمس الذي أدركنا كنهه في أيام والده، فأعطى هذا الملك إله الشمس اسمًا جديدًا خلص به المذهب الجديد من التقليد المحفوف بخطر الشرك في «اللاهوت الشمسي القديم»، فصار إله الشمس يُسمَّى وقتئذٍ «آتون»، وهو اسم قديم يُطلق على الشمس المجسمة.
ومن المحتمل أن هذه التسمية كانت لا تدل إلا على قرص الشمس فحسب. وهذا الاسم الجديد ذُكر مرتين في أنشودة رجال عمارة «أمنحتب الثالث» التي اقتبسنا منها جزءًا فيما تقدم. وكأن هذا الاسم قد لاقى بعض الإقبال في عهد ذلك الملك الذي سُمي به أحد قواربه الملكية «آتون يسطع»، كما أسلفنا.
ولم يقتصر الحال على إعطاء إله الشمس اسمًا جديدًا بل منحه ذلك الملك الشاب رمزًا جديدًا. فقد ذكرنا فيما مر سابقًا أن أقدم رمز لإله الشمس كان هو الشكل الهرمي — كما كان يُرمز له كذلك بالصقر؛ لأن صورة ذلك الطائر كانت تدل عليه. وعلى أية حال، فإن هذين الرمزين كانا مفهومين بين سكان وادي النيل فحسب، ولكن «أمنحتب» الرابع كان في مخيلته وقتئذٍ مسرح أفسح وأوسع من القطر المصري؛ إذ إن الرمز الجديد قد مثل لنا الشمس بقرص تخرج منه أشعة متفرقة تنتشر فوق الأرض كما كان كل شعاع من أشعته ينتهي طرفه بهيئة يد بشرية.
وقد كان ذلك الرمز يدل على السيطرة القوية الخارجة من منبعها السماوي، وهي تضع أيديها تلك فوق العالم وعلى شئون البشر الأرضية، مع أن أشعة إله الشمس منذ عصر «متون الأهرام» قد شبهت بذراعين له. وظن الناس إذ ذاك أنها نائبة عنه في الأرض.
والكلمة المصرية القديمة التي ترجمتها في اسم ذلك الملك «حرارة» قد يكون معناها أحيانًا «نورًا» أيضًا.
ومن الواضح أن ما كان الملك يعبده هو القوَّة الدالة على وجود الشمس فوق الأرض. وكل الأدلة الكثيرة التي نجدها في أناشيد «آتون» منسجمة مع تلك النتيجة كما هي منسجمة في الأناشيد الآتية بعد هذا، وهي التي نرى فيها «آتون» نشطًا باسطًا أشعته على كل مكان فوق وجه الأرض.
ومع أنه كان من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس» حتى إن الملك الذي كان يحمل لقب الكاهن العظيم للإله «آتون» سمى نفسه «الرائي العظيم»، وهو نفس كاهن «هليوبوليس» العظيم، فإنه على الرغم من كل ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الشعائر التي كانت تتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية، ولذلك ترانا نبحث عبثًا في ذلك اللاهوت الجديد عن السفن الشمسية، كما ترانا نبحث عبثًا عن باقي الإضافات التي أُدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي في مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية وغير ذلك؛ إذ قد مُحيت منه جملة.
فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون»؛ فإنها قد فشلت وقام بينها ألد الخصام الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك أن يتخذ من «آتون» إلهًا واحدًا للإمبراطورية المصرية، ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بُذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون» أن اتخذت جميع الإجراءات الممكنة المؤدية إلى ذلك الغرض؛ إذ نجد أن الملك قد غيَّر اسمه من «أمنحتب» يعني «آمون راضٍ» إلى «إخناتون» يعني «آتون راضٍ»، وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه الملك لنفسه هو ترجمة للاسم القديم للملك بفكرة مماثلة لما كانت عليه، غير أنه حُوِّل إلى مذهب «آتون» هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يُمحى أينما وُجد فوق آثار «طيبة» العظيمة، ولم يحترم الملك تنفيذًا لفكرته هذه أيَّ نقش وإن كان المنقوش اسم والده الملك «أمنحتب الثالث». لم يكن الأمر قاصرًا على محو اسم «آمون» فحسب بل تعداه إلى كلمة الآلهة جمعًا، فإنه كان يأمر بمحوها أيضًا أينما وُجدت كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه، كذلك عُومِلَتْ أسماء سائر أفراد الآلهة الآخرين معاملة «آمون» بالمحو.
وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة على الرغم مما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد ارتباكها بالتقاليد اللاهوتية القديمة التي كانت أكثر مما يلزم، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين «طيبة» والبحر تقريبًا في بقعة تُعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة» وسماها «إختاتون» (أفق آتون) كما شرحنا ذلك، كما أسس في بلاد النوبة مدينة «لآتون» مشابهة لها. ومن المحتمل جدًّا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في «آسيا»، وبذلك صار لكلٍّ من ثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة وهي «مصر» والنوبة و«سوريا» مقرٌّ لمذهب «آتون». وقد شِيدت كذلك معابد أخرى لآتون في أماكن مختلفة من مصر غير المعابد المبنية في تلك الحواضر، ولم يتم ذلك طبعًا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون». وقد أثرت تلك الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرًا خطيرًا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه جاهدًا على نشر ذلك المذهب الديني الجديد الذي يصح أن يُعد أهم دور وأبهجه في تاريخ ذلك الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوش فوق جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة.
والواقع أننا مدينون لمقابر أتباع ذلك الملك بمعلوماتنا هذه التي تتضمن تلك التعاليم الهامة التي كانت تُنشر في تلك الفترة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس، كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. تلك التعاليم تمدُّنا على الأقل بلمحة من عالم الفكر الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأتباعه رافعين أعينهم نحو السماء محاولين بذلك إدراك مجال الذات الإلهية في بهائها الأبدي الذي لا حد له ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم ينحصر سلطانها بعد في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر في العالم كله.
«بهاء آتون» وقوته العالمية
الليل والإنسان: موازنة (الأنشودة)
المزامير
تجعل ظلمة فيكون فيه يد كل حيوان الوعر (المزمور ١٠٤: ٢٠).
ونظمها بعض النصارى فقال:
نظم المزامير (١٠٤: ٢٠).
الليل والحيوان: موازنة (الأنشودة)
وكل أسد يخرج من عربته (ليفترس)، وكل الثعابين تنساب لتلدغ والظلام يخيم، والعالم يكون في صمت في حين أن الذي خلقهم باقٍ في أفقه.
المزامير
الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها (المزمور ١٠٤: ٢١).
وقد نظمها بعض النصارى فقال:
(مزمور ١٠٤: ٢١).
النهار والإنسان: موازنة (الأنشودة)
والأرض زاهية حينما تشرق في الأفق عندما تضيء بالنهار مثل «آتون»، فإنك تقصي الظلمة إلى بعيد. حينما ترسل أشعتك تصير الأراضي في عيد. والناس يستيقظون ويقفون على أقدامهم عند إيقاظك لهم، وبعد غسلهم لأجسامهم يلبسون ثيابهم ثم يرفعون أذرعتهم تعبدًا لطلعتك، ثم بعد ذلك يقومون إلى أعمالهم في كل العالم.
المزامير
تشرق الشمس فتجتمع، وفي مآويها تربض، الإنسان يخرج لعمله وإلى شغله إلى المساء. (المزمور ١٠٤: ٢٢-٢٣).
ونظمها بعض النصارى فقال:
(نظم المزامير ١٠٤: ٢١–٢٣).
النهار والحيوان والنبات
وجميع الماشية ترتع في مراعيها، والأشجار والنبات تينع، والطيور في مستنقعاتها ترفرف، وأجنحتها منتشرة إليك تعبدًا، وجميع الغزلان ترقص على أقدامها، وجميع المخلوقات التي تطير أو تحط تحيا عندما تشرق عليها.
النهار والمياه: موازنة (الأنشودة)
والسفن تقلع في النهر صاعدة أو منحدرة فيه على السواء. كل فج مفتوح لشروقك، والسمك يسبح في النهر أمامك، وأشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم.
المزامير
هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار، هناك تجري السفن لوياثان، هذا خلقته ليلعب فيه.
(المزمور ١٠٤: ٢٥-٢٦).
ونظمها بعض النصارى فقال:
خلق الإنسان
أنت خالق الجرثومة في المرأة، والذي يذرأ من البذرة أناسًا، وجاعل الولد يعيش في بطن أمه مهدئًا إياه حتى لا يبكي، مرضعًا إياه حتى في الرحم، وأنت معطي النفس حتى تحفظ حياة كل إنسان خلقته حينما ينزل من الرحم (أمه) في يوم ولادته، وأنت تفتح فمه تمامًا وتمنحه ضروريات الحياة.
خلق الحيوان
وحينما يصير الفرخ في لحاء البيضة تعطيه النفس ليحفظه حيًّا في وسطها. وقد قدَّرت له ميقاتًا في البيضة ليخرج منها، وهو يخرج من البيضة في ميقاته (الذي قدَّرته له) فيمشي على رجليه حينما يخرج منها.
الخلق العالمي (الأنشودة)
ما أكثر تعدد أعمالك وهي على الناس خافية، يا أيها الإله الأحد الذي لا يوجد بجانبه شأن لأحد، لقد خلقت الأرض على حسب رغبتك، وحينما كنت وحيدًا (لا شيء غيرك) خلقت الناس وجميع الماشية والغزلان وجميع ما على الأرض مما يمشي على رجليه وما في عليين مما يطير بأجنحته، وفي الأقطار العالية «سوريا» و«كوش» وأرض مصر، وإنك تضع كل إنسان في موضعه وتمدهم بحاجاتهم وكل إنسان لديه قوته. وأيامه معدودات، والألسنة في الكلام مختلفة، كذلك تختلف أشكالهم وجلودهم، وإنك تخلق الأجانب مختلفين.
المزامير
ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت، الأرض ملأى بغناك.
ونظمها بعض النصارى فقال:
(نظم المزامير ١٠٤: ٢٤-٢٥).
ري الأراضي في مصر وفي خارجها
فصول السنة
السيطرة العالمية
وحي الملك
الوقاية العالمية
ويحتمل ألا تمثل هذه الأنشودة الملكية إلا قطعة منتخبة أو سلسلة منتخبة من شعائر «آتون» كما كان يُحتفل بها من يوم لآخر في معبد «آتون» بتل العمارنة.
ومما يُؤسف له أن هذه الأنشودة لم تُدون إلا في مقبرة واحدة فقط من تلك الجبانة، وقد فُقد منها نحو ثلثها من جراء تعدي المخربين من الأهالي الحاليين؛ ولذلك لم يصلنا من الجزء المفقود إلا نسخة نُقلت بغير اعتناء وعلى عجل منذ خمسين سنة (أي سنة ١٨٨٣م).
وأما المقابر الأخرى فقد كُتبت نقوشها الدينية بالنقل عن الفقرات التي كانت شائعة الاستعمال وقتئذٍ وعن الجمل التي كان علمها مفروضًا، وهي التي عرفنا منها مذهب «آتون» كما فهمه الكتاب والرسامون الذين قاموا بزخرفة تلك المقابر.
ويجب علينا ألا ننسى أن المنتخبات التي بقيت لنا في جبانة «تل العمارنة» من مذهب «آتون» وهي مصدرنا الرئيسي؛ قد وصلت بشكل آلي إلى فئة قليلة من الكَتَبَة المهملين غير المدققين ذوي العقول الخاوية الفاترة. وهؤلاء كانوا لا يُعدون إلا أذنابًا لحركة عقلية دينية عظيمة.
وغير هذه الأنشودة الملكية نجد أن أولئك الرسامين كانوا قانعين في كل مكان بالقطع والنتف التي نُقلت في بعض الأحوال من تلك الأنشودة الملكية نفسها أو بقطع أخرى مرقعة وُضعت بهيئة أنشودة قصيرة حيث ينقشونها كلها أو بعضًا منها على هذا القبر أو ذاك وهم في ذلك ليسوا إلا مسخَّرين فيما يعملون. ولما كانت المواد التي في متناولنا عن ذلك المذهب ضئيلة إلى هذا الحد مع أهمية الحركة التي أماطت لنا عنها اللثام، فإن تلك المعلومات الجديدة القليلة — التي تمدنا بها تلك الأنشودة القصيرة — صارت لها قيمة عظيمة.
وقد عُزيت تلك الأنشودة في أربع حالات إلى الملك نفسه — أي إن الملك يُشاهد وهو ينشدها أمام «آتون».
•••
ففي هذه الأناشيد تُوجد قوة عالمية ملهمة لم توجد من قبل، لا في الفكر المصري القديم، ولا في فكر أية مملكة أخرى، فهي تشمل في مداها العالم كله، كما يدعي الملك أن الاعتراف بسيادة إله الشمس العالمية كان كذلك شاملًا، وأن جميع البشر يعترفون بسلطانه، وكذلك قال الملك عنهم في لوحة الحدود العظيمة:
ومن الواضح أن «إخناتون» كان يبرز بذلك دينًا عالميًّا يحاول أن يحل محل القومية المصرية التي سبقته وسارت عليها البلاد خلال عشرين قرنًا مضت. وبجانب تلك القوة العالمية نجد كذلك أن «إخناتون» كان يتأثر تأثر عميقًا بأزلية إلهه. وكان الملك نفسه يتقبل — بسكينة واطمئنان — فناء نفسه. فنراه في باكورة حكمه في «تل العمارنة» يعلن التعليمات الدقيقة الخاصة بدفنه فيما بعد الموت، ويسجلها باستمرار فوق اللوحات التي أقامها على الحدود المصرية، ولكنه مع ذلك كان يعتمد على علاقته الوثيقة «بآتون» حتى يضمن له شيئًا من خلود إله الشمس، ومن أجل ذلك كان يحتوي لقبه الرسمي دائمًا بعد ذكر اسمه على النعت الآتي: «الذي مدة حياته طويلة.»
ولكن في بداية كل شيء برأ «آتون» نفسه من الوحدة الأزلية — أي إنه الخالق لكينونة نفسه — إذ نجد في إحدى لوحات «تل العمارنة» العظيمة أن الملك يسميه هكذا:
ولم يظهر عجب الملك بشكل بارز في أي مكان آخر أكثر مما نجده مذكورًا بسذاجة في تعبيره عن قوة إله الشمس المانحة الحياة في تلك المعجزة التي تتمثل في أنه داخل لحاء البيضة التي يسميها الملك «حجر البيضة»؛ أي في هذا الحجر الذي لا حياة فيه؛ تجيب أصوات الحياة نداء أمر «آتون»، فيخرج مخلوق حي بعد أن أنعشه النفس الذي يمنحه إياه (ذلك الإله). وتلك القوة المانحة الحياة هي مصدر الحياة الدائمة الزاد، والوساطة المباشرة لها هي أشعة الشمس التي تجلب النور والحرارة إلى الناس.
وذلك الاعتراف المدهش بنشاط الشمس بصفتها منبع الحياة فوق الأرض يُردَّد باستمرار دائم.
فالأناشيد تميل إلى الإمعان في ذكر أنها قوة عتيدة على الدوام، وهاك بعض الأمثلة:
وسواء أكان في السماء أم في الأرض فإن كل الأعين تشاهده دائمًا وهو يملأ «كل الكون» بأشعته ويجعل كل البشر يعيشون.
واعتماد مصر في حياتها على «النيل» جعل من المستحيل تجاهل ذلك المنبع الحيوي في عقيدة الملك «إخناتون»؛ إذ الواقع أنه لا شيء يكشف لنا بوضوح عقيدة «إخناتون» وقوة عقله أكثر من أنه محا طائفة الأساطير التي كانت محترمة، والتقاليد التي جعلت «النيل» الإله «أوزير» عدة أزمان، ثم نسب الفيضان في الحال إلى قوى طبعية يسيطر عليها ذلك الإله. وهو الذي خلق — بمثل ذلك الاهتمام — للبلاد الأخرى نيلًا آخر في السماء.
وقد تُجوهل كليةً الإله «أوزير»؛ فلم يُذكر قط في كل الوثائق الإخناتونية، ولا في أي قبر آخر من قبور «تل العمارنة».
ثم ينتقل عند هذه النقطة تفكير «إخناتون» إلى ما وراء الاعتراف المادي المحض عن نشاط الشمس فوق الأرض؛ إذ يدرك اهتمام «آتون» الأبوي بجميع المخلوقات.
وذلك التفكير هو الذي رفع من شأن الحركة التي قام بها «إخناتون» إلى حدٍّ بعيد فوق ما كانت قد وصلت إليه ديانة قدماء المصريين أو ديانات الشرق بأجمعه قبل ذلك الوقت؛ حيث كان إله الشمس في نظر «إبور» «راعيًا شفيقًا» كما تقدَّم ذكره فيما سبق، كما كان الناس في نظر «مريكارع» كذلك كما سبق أيضًا «(قطعانه) التي من أجلها صنع الهواء والماء والطعام.»
ولكنا نجد أن «إخناتون» يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول لإله الشمس: «أنت أب وأم لكل ما صنعت.»
وذلك التعليم هو الذي ينبئ عن كثير من التطور المقبل في «دين القوم» حتى إلى عصرنا الحالي، فكان جميع العالم الحي في نظر تلك الروح الحساسة التي كانت تدب في نفس ذلك الخيالي المصري يملؤه شعور قوي بوجود «آتون» وبالاعتراف بشفقته الأبوية، فمستنقعات السوس تينع أزهارها بإشعاع «آتون» الأخاذ الذي تنشر الطيور أجنحتها فيه «تعبدًا لآتون الحي»، وفيه تطفر الماشية فرحة في ضوء الشمس، ويثب السمك في النهر مرحبًا بالنور العالمي الذي ينفذ أشعته حتى في وسط البحر الأخضر العظيم.
كل تلك الأشياء تكشف لنا عن مدى إدراك ذلك الوجود العالمي لإله الطبيعة، وعن اقتناع باطني معترف بذلك الوجود عند كل المخلوقات.
وظاهر أن أعمق المصادر قوة في تلك الثورة العظيمة — على الرغم من أصلها السياسي — يوجد في ذلك الالتجاء إلى عالم الطبيعة:
«تأمل سوسن الحقول». «فإخناتون» كان رجلًا مأخوذًا بالإله قد انقاد عقله بحساسية وإدراك مدهشين إلى البراهين المحسة الدالة على الإله الذي حوله.
وقد كان مأخوذًا بجمال النور الأبدي العالمي؛ ولذلك ترى أشعته تغمره في كل أثر صُوِّر عليه من آثاره التي بقيت لنا.
وقد كانت تلك الحال قاصرة عليه وعلى الملكة وأولاده؛ لأنه كان يدعي لنفسه علاقة لا يشاركه فيها أحد مع إلهه فهو الذي يدعو بقوله:
فنجد في هذا الوصف الافتتان الحديث ببهجة النور وهو الإنجيل الحقيقي لجمال النور. وأقدم تلميذ له عبر عنه هو ذلك الخيالي الوحيد «إخناتون» الذي عاش خلال القرن الرابع عشر ق.م، وقد كان من الجائز كذلك في نظر «إخناتون» أن النور ينام حينما كان.
«يذهب خالق الأرض ليستريح في أفقه»، غير أنه كان في نظره كما كان في نظر «راسكن» «أنه ينام ولكن لا يموت أبدًا.»
وقد نجح الأستاذ «زيته» في ترجمة فقرة مهمشة في الأنشودة الكبرى تدل على أنه على الرغم من أن الظلمة قد خيمت، والناس نامت؛ فإن «إخناتون» يمكنه أن يشعر به حيث يقول: ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.
فتلك الناحية من حركة «إخناتون» تدل إذن على أنها إنجيل الجمال والرأفة للنظام الطبيعي، كما هو اعتراف برسالة وحي الطبيعة إلى روح الإنسان؛ مما جعلها تُعَدُّ من أقدم النهضات التي نسميها «الرجوع إلى الطبيعة التي ظهرت في أقوال أمثال الفنانين «ملت» و«بيرنز» الشاعر الإيقوسي ومدرسته، و«وردزورث» وأخلافه؛ فالرسامون في ذلك الوقت كانوا يصوِّرون حياة مستنقعات البرية بروح جديد يختلف عن روح السرور الهادئ الذي صوَّر به رسامو «مصاطب الأهرام» قصور هؤلاء الهادئة التي تتمثل فيها نزهات الأشراف في حقول البردي تحلي جدران مزارات قبورهم بالجبانة «المنفية» بسقارة.»
وأما الصور التي رُسمت فوق الجص وهي التي تزين رقعة قاعة قصر «إخناتون» ذات الأعمدة «بتل العمارنة» فمملوءة بمناظر سارة للحياة جديدة، تشعرنا عند رؤيتها بشيء من العاطفة القوية التي أثارت يد المفتن حينما رأى بعيني ذهنه الثور الوحشي يقفز في أدغال البردي ضاربًا برأسه نحو الطيور الهلوعة المشقشقة فوق يراع المستنقع كأنها تؤنب ذلك الطفيلي الفظ الذي ينزل الضرر بأوكارها.
ولكن مما يؤسفنا أن تلك النقوش الفاخرة التي رُسمت فيها الحياة والحركة يتألقان، والتي طالما تمتعت بهما أعين الناظرين في عصرنا الحالي «بتل العمارنة» قد خربت إلى الأبد بأيدي أولئك المخربين الأحداث من أهالي تلك القرى المجاورة لبلدة «تل العمارنة».
ومع أن الفن المعبر عن تلك الحركة الثورية التي كان زمامها في يد «إخناتون» قد وجد رضًى جديدًا في الحياة الإنسانية، فإنه كان هناك شيء كثير لم يكن في مقدور «إخناتون» أن يتجاهله من التجاريب المصرية الشائعة بالوراثة في المجتمع البشري، فقد قبل تمامًا «إخناتون» بالوراثة المذهب الشمسي الذي ينطوي على نظام خُلقي عظيم، وإذا كنا قد خصصنا في كتابنا هذا للأخلاق عند قدماء المصريين جزءًا لا بأس به من عقيدة «التوحيد» الثورية التي قام بها «إخناتون»، فإن ذلك يرجع إلى أن تلك الحركة التوحيدية ليست إلا ذروة للاعتراف القديم بالنظام الخلقي الذي نُودي به على لسان المفكرين المصريين القدماء الذين عاشوا في عهد الأهرام، وهم الذين أسسوا مملكة عظيمة من القيم الخلقية العالمية التي كانت تمثلها تلك الكلمة الشاملة الجامعة «ماعت» (العدالة) التي أوجدها إذ ذاك إله الشمس في «هليوبوليس»، وقد انتشر ذلك التوحيد بوساطة أسس ثلاثة؛ أوَّلها وهو كما رأينا كان سياسيًّا، حتى إن اسم إله الشمس الجديد كان يوضع في طغراء باعتباره شعارًا ملكيًّا مزدوجًا. والثاني في ملاحظة أن سلطان إله الشمس وسيطرته العالمية بصفة قوة مجسمة حاضرة في كل مكان تظهر فيه حرارة الشمس ونورها فقط. والثالث كان في الانتشار المنطقي لمذهب «هليوبوليس» الخاص بالنظام الخُلقي الذي كان أقدم من عهد «إخناتون» بنحو ألفي سنة. وواجبنا الآن أن نفحص آخر هذه الأسس الأصلية التي قام بها التوحيد عند «إخناتون»، على أننا عند هذه النقطة نشعر بقلة المصادر المدوَّنة وضآلتها. على أن المصادر النادرة التي بقيت لنا عن ذلك العصر تكشف عن مدى التقدُّم في تفكير ذلك الملك الشاب خلال نصف الجيل الذي حكمه، ولا يمكن الباحث أن يفكر أن حركة نامية ذات تقدم مثل الحركة التي قام بها «إخناتون» لم تكن أنتجت أبحاثًا مدونة فيها تعاليمه.
وفضلًا عن ذلك فإنه لا يزال لدينا برهان محس للدلالة على وجود مثل تلك الأبحاث؛ ففي مقابر «تل العمارنة» التي كان يرغب أشراف رجال البلاط الإخناتوني في أن يرسموا فوق جدرانها ما كانت عليه علاقاتهم مع مليكهم؛ نجد أنهم كانوا يشيرون باستمرار دائم إلى ذلك المذهب الجديد، ولم يكن لديهم للتعبير عن ذلك إلا كلمة واحدة وهي كلمة «التعليم». وهذا التعليم لم يكن يُنسب إلا للملك فقط، وليس في مقدورنا أن نشك في أن ذلك التعليم لم يكن إلا الاسم العام للبيان الرسمي لمذهب «إخناتون» الذي كُتب طبعًا في مقالٍ من نوع ما على بردي.
على أنه بعد سقوط «إخناتون» لم يترك أعداؤه حجرًا واحدًا لم يقلبوه لإزالة كل أثر باقٍ يدل على مدة حكمه الممقوت عندهم. وقد أتلفوا بطبيعة الحال مخطوطات الملك هذه المدونة على البردي، وأما معلوماتنا عن تلك الحركة من ناحية العقائد الدينية فكانت مستقاة بأجمعها من نتف وقطع منتخبة وقعت لنا عرضًا، وبخاصة تلك الأناشيد التي زين بها أشراف رجاله جدران مقابرهم، وحينما نقرأ أنشودة «آتون» العظيمة لأول مرة يظهر لنا جليًّا أنها تعبر عن وحي ديني لا يشتمل إلا على إشارات قليلة عن الأخلاق والسلوك الإنساني، وهو الذي كان قد احتل مكانة بارزة — كما نعلم — في تفكير الديانة الشمسية الهليوبوليتية وهي التي تضرب إليها حركة «إخناتون» الدينية بوشائجها القوية.
فهذه الصورة التي تعبر عن عطف ملكي أبوي حامٍ لرعاياه قد نُقلت إلى «رع»؛ وبذلك اكتسب «رع» لنفسه بشكل مدهش صفات إنسانية، وعطفًا أبويًّا، وما كان ذلك إلا نتيجة لذلك التطور الذي حدث في تصور الملكية في العهد الإقطاعي، وبذلك كانت تلك القوى الاجتماعية التي أوجدت هذا المثل الأعلى للملكية هي المؤثرات النهائية التي زادت بمعونة الملكية، وهذبت التصور السياسي لسلطان «رع»، وهو ذلك التصور الذي كان قبل ذلك لا يخرج عن كونه فكرة آلية مهملة، فالمعونة الإنسانية التي كان يتطلبها وقتئذٍ الملك «إخناتون» كانت على ذلك قريبة من التي كان ينشدها «أوزير» نفسه، وكانت التعاليم الإخناتونية منجذبة بكليتها نحو ذلك الميل الذي ينعطف إليه المذهب الشمسي؛ إذ في عهد والد «إخناتون» عثرنا على أنشودة للشمس سُمي فيها إله الشمس: «الراعي الشجاع الذي يرعى قطعانه»، وهذه إشارة تربط بوضوح مذهب آتون بالحركة الاجتماعية الخلقية التي ظهرت في العهد الإقطاعي.
إني أعيش على الصدق وأتزود من صدق (أو عدالة) قلبي.
ونجد وقتئذٍ أن هذا المذهب الشمسي الذي يشد أزره أولئك الآلهة في «هليوبوليس» قد اعتنقه «إخناتون» تمامًا، حتى كان على الدوام يذيل اسمه الملكي في كل آثار الدولة العظيمة بهذه الكلمات: «العائش على الصدق «ماعت».» وهذا النعت الهام الذي أُلحق باسم «إخناتون» قد صيَّره الممثل الرسمي والمعاضد للنظام الخلقي القومي العظيم، وهو نفس ذلك النظام الذي تصوَّره كهنة المذهب الشمسي قديمًا في «هليوبوليس» في عهد يرجع تاريخه إلى عصر الأهرام. وقد ألبسه المفكرون الاجتماعيون ورسل العهد الإقطاعي المصري أهمية خلقية أكثر مما كانت له في أي زمن من قبل، ولكن حينما نعيد إلى ذاكرتنا عدم كفاية «إخناتون» للتسلط على سائر العالم، فإنه يظهر لنا أنه ما كان يرمي من وراء إضافته تلك الكلمات إلى اسمه الملكي إلا إظهار رغبته في امتداد سلطان النظام القومي الخلقي القديم حتى يصير مسيطرًا على سائر العالم الدولي العظيم، الذي كان هو سيده إذ ذاك. وبذلك امتدت سيطرت مملكة إله الشمس للقيم الخلقية قديمًا إلى حدودها العالمية المنطقية، وقد فُسر بذلك «التوحيد» الذي كان منطويًا في أسرار تعاليم كهنة «هليوبوليس» تفسيرًا لا إبهام ولا خفاء فيه، على يد «إخناتون».
وقد سمى «إخناتون» عاصمة ملكه الجديدة في «تل العمارنة» مقر الصدق (ماعت) في الأنشودة القصيرة متمشيًا مع تلك الحقيقة. وقد كان أتباعه على علم تام بالاعتقاد الشديد في «ماعت»؛ ولذلك كان رجال البلاط الملكي يعظمون «الصدق» كثيرًا؛ إذ يقول أحد أعلام معاضدي الملك وهو «آي» الذي تولى الملك بعد «توت عنخ آمون»:
واحد قلبه مستريح للصدق، والذي يلعنه هو الكذب.
كما يذكر لنا موظف آخر فوق جدران قبره في «تل العمارنة»:
ويجب أن نذكر هنا مرة ثانية — بمثابة دليل هام على إخلاص «إخناتون» للصدق — أنه لم يقصر فضيلة الصدق على السلوك الشخصي فحسب، بل أدخله كذلك في ميدان الفن حيث صارت له فيه نتائج ذات آثار باقية في التاريخ.
وعلى ذلك كان لا يزال «رع» المنشئ المعضد للصدق أو الحق «ماعت» في ذلك الانقلاب الذي قام به «إخناتون»، يعني النظام الخلقي والإداري، كما كان ذلك النظام قائمًا منذ أكثر من ألفي سنة مضت. وإذا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر «تل العمارنة» فمن الواضح أن ذلك يرجع سببه إلى نبذ الآلهة، وأنصاف الآلهة وعلى رأسهم «أوزير»، وهم الذين كانت تشملهم المحاكمة في حساب الآخرة، كما نجد ذلك مذكورًا في «كتاب الموتى» حيث سبق بيانه فيما تقدم. فأولئك الآلهة قد نُفوا وقتئذٍ، والظاهر أن منظر المحاكمة التمثيلي قد اختفى باختفائهم. ومع ذلك فإنه كان من الواضح أن المستلزمات الخلقية في المذهب الشمسي — وهو المذهب الذي نشأت منه فكرة المحاكمة في الآخرة، وانتشرت — لم تَنْتَهِ المطالبة بها في التعاليم الإخناتونية ولم تفتر. وكذلك فإن الحملة التي قام بها الكهنة على عالم الأخلاق بالعوامل السحرية الآلية لضمان براءة الميت فيما بعد الموت قد أقصاها «إخناتون» بداهة عن تعاليمه التوحيدية فصارت «الجعل» القلبية (الجعارين) التي كانت مألوفة من قبل لا يُنقش فوقها التعاويذ السحرية لإخماد وحي الضمير عند المتهم، بل صارت وقتها يُنقش فوقها صلاة بسيطة موجهة إلى «آتون» طلبًا لحياة طويلة سعيدة وعطف وطعام.
وما ذكرناه عن «الجعل» (الجعارين) ينطبق تمامًا على تماثيل المجاوبين التي هي تماثيل صغيرة كانت تقوم بالأعمال بدلًا من الميت إذا طُلب منه ذلك فيما بعد الموت في الحياة الأخروية.
وإذا فكرنا مليًّا فيما ذُكر نجد أن أمثال تلك التغييرات الأساسية تبسط أمامنا عظم المد الجارف من الفكر الموروث عن الأقدمين مع العادات والتقاليد، ذلك المد الذي تحوَّل عن مجراه على يد ذلك الملك الشاب الذي كان يقود ذلك الانقلاب.
على أننا نبدأ في تقدير قوة شخصية «إخناتون» العظيمة فحسب، عندما ندرك هذه الناحية من حركته التوحيدية إدراكًا واضحًا، فقد كانت الوثائق الدينية قبل عهده تُنسب عادة إلى الملوك القدامى والحكماء الأوَّلين. وكانت قوة العقيدة لا ترتكز بوجه خاص إلا على ادعاء أقدميتها الساحقة، على قدسية العادة العريقة في القدم. وقد كان تاريخ العالم حتى عهد «إخناتون» لا يرتكز إلا على مجرد سطوة التقليد الذي كان سلطانه لا يعارض. وليس لدينا استثناء بارز في هذا المضمار إلا ذلك الطبيب النطاسي، والمهندس العظيم «أمحوتب» الذي أدخل على فن العمارة البناء بالأحجار جملة، وأقام أوَّل مبنًى من الحجر، وهو ذلك القبر الهرمي الشكل الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد.
وغير هذه الشخصية من المصريين الأقدمين لم يكن الناس يعدون بعدها إلا نقطًا من الماء بجانب ذلك التيار الجارف العظيم.
فإذا استثنينا «أمحوتب» هذا، كان «إخناتون» أوَّل شخصية بارزة ظهرت في التاريخ المصري القديم. فإنه قد أحرز مكانة سامية بنفاذ بصيرته، وحسن تدبيره وتفكيره العقلي، ثم نهض بنفسه علانية، وقام في وجه كل التقاليد ونبذها ظهريًّا، ولم يلجأ في توطيد مذهبه الجديد إلى أية وسيلة من وسائل الأساطير أو الروايات العتيقة مما كان معترفًا به لسلطان أولئك الآلهة اعترافًا واسعًا، بل لجأ استعمال البراهين العتيدة الظاهرة الدالة بنفسها على سلطان إلهه، وهي أدلة بُسطت أمام الجميع.
وأما من جهة التقليد فإنه اجتهد في القضاء عليه أينما وُجد في أي مظهر مادي للآلهة الأخرى في السجلات التي يمكن الوصول إليها، على أن سياسته التي قوامها التخريب إلى هذا الحد كان لا بد لها من أن تصادف معارضة قوية فتاكة. وسنتكلم عنها في حينها.
(٤-٤) الفن في عهد إخناتون والعهد السابق له
لم يكن الانقلاب الذي أحدثه «إخناتون» قاصرًا على إحياء عقيدة التوحيد باسم «آتون»، بل قد تخطت حركته إلى انقلاب عظيم في الفن المصري — لأنه كان جزءًا من منهاجه — وخروج المفتنين على تقاليد القوم الموروثة منذ أزمان سحيقة في القدم، غير أننا نكون مغالين بعض الشيء إذا قلنا إن مذهب «آتون» هو العامل الوحيد الذي أوجد هذا الانقلاب في الفن المصري وطرائقه؛ لأننا إذا رجعنا البصر كرة إلى عهد الملكة العظيمة «حتشبسوت» وخلفها «تحتمس الثالث» وجدنا هناك روحًا جديدًا قد أخذ يتغلغل في نفس المفتن المصري، فالقوة الهائلة والوقار، والخشونة، وقوة التأثير التي كانت تمتاز بها أحسن القطع الفنية في عهد الدولة الوسطى بما تنطوي عليه من قوة غاشمة؛ قد أخذت تتسم بسمة النعومة، وتتحوَّل تدريجًا روحًا جديدًا ينم عن رشاقة وجاذبية، ويظهر هذا الروح حتى في نحت التماثيل؛ ففي الآثار الضخمة العظيمة كالتماثيل الهائلة التي كانت في الواقع تُصنع لا لتمثل صورة حقيقية بل لتمثل عناصر فنية عظيمة، نجد فيها على الرغم من ذلك قوة تعبير، كما يُلمس ذلك في تمثال «تحتمس الثالث» الموجود الآن في المتحف المصري؛ إذ تنم تقاطيعه عن القوة الغاشمة، ولا شك في أن مثل هذه القطعة الفنية يسيطر على كل شيء حوله كما كان «تحتمس الثالث» نفسه يسيطر على العالم الذي كان يعيش فيه.
ومع ذلك نجد في نقش الأسرة التي عاش فيها «تحتمس» أن التغيير قد أخذ يدب دبيبه؛ فنرى بجانب تمثال «تحتمس» في نفس القاعة المعروض فيها بالمتحف البريطاني رأسًا «لأمنحتب الثالث» متقن الصنع، يشف عن عظمة وجلال، ومع ذلك أخذ عامل النعومة والليونة يدب في تقاسيمه، هذا إلى أن المفتن قد حاول أن ينفث فيه روح شخصية مميزة، ولكنا نلاحظ التغيير الذي يرمي إلى محاكاة الطبيعة في قطع الحفر الصغيرة من التماثيل، فما أعظم الفرق بين التمثال الفاخر «لسنوسرت الثالث» المصنوع من الجرانيت الأزرق الذي عُثر عليه في الدير البحري والموجود الآن بالمتحف البريطاني، وبين تمثال «تحتمس الثالث» المصنوع من الشيست الدقيق المحفوظ «بالمتحف المصري»؛ فكلا التمثالين ينم في ملامحه عن شخصية وثابة، ولكن مفتن الدولة الوسطى كان خشنًا إلى درجة ما في تمثيل ملامح «سنوسرت الأول» التي تدل على خلق مهيمن. فكل نقطة يمكن أن تظهر عبوسه وتقطيب شخصيته الصعبة المراس المرة قد مُثلت في تقاطيع وجهه تمثيلًا بارزًا، والواقع أننا نقرأ في تقاطيع وجه «سنوسرت» الجامدة الشعور بالقوة، بل نلمس كذلك متاعبها الأليمة المرة، على أن «تحتمس الثالث» لا يقل قوة عنه بما أوتي من أنف محدب، ولكن هذا الجندي العظيم يُرى مبتسمًا طلقًا مما خفف من احديداب أنفه، وأسبغ على ملامح وجهه جاذبية ناطقة، ولا يفوت القارئ أن المادة التي صُنع منها التمثال الأول، وهو الأقدم هي مادة الجرانيت، أما الثاني فقد نُحت من الشيست، وهما ينمان بوضوح عن التغير في الطراز الذي انتهجه كل من المفتنين، كما يدلان على عصريهما، ومن ذلك يتضح أن فن التصوير قد بدأ منذ باكورة الأسرة الثامنة عشرة يفقد شيئًا من خشونته، وفي آن واحد أخذ يكتسب مرونة ورقة كانتا بعيدتين عنه من قبل، ومع ذلك فإنه لم يفقد بصورة ظاهرة شيئًا من الصدق في التعبير أو القوة في التأثير، فالفن المصري لا يحتوي إلا على قطع قليلة أكثر صدقًا في التعبير عن الحقيقة، أو أعظم تأثيرًا في النفس كتمثال الجرانيت «لأمنحتب بن حابو»، ذلك الرجل الحكيم الذي عاش في عهد «أمنحتب الثالث»، وهذا التمثال موجود الآن في «متحف القاهرة»، فلم يكن «أمنحتب» هذا جميل المحيا، ولم يحاول مصوِّره أن يحسن شيئًا من تقاسيم هذا الرجل العظيم التي ظهر فيها القبح والكفاية معًا، ولكنك لن تجد بسهولة صورة تمثل الحياة بعينها لرجل ذكي الفؤاد أريب عركته الدنيا مثل «أمنحتب»، هذا على الرغم مما هو عليه من قبح بيِّن.
فالمثَّال المصري إذا كان قبل حلول عهد «إخناتون» ينحت تماثيله جاعلًا نصب عينه الرقة والليونة في إخراج قطعه الفنية، وهو في الوقت نفسه لم يجعلها تكاد تفقد شيئًا في قوة تأثيرها أو ترجمتها للطبيعة، ويرجع هذا التغير في تقاسيم محيا التماثيل في هذا العهد إلى أن شكل الوجه قد بدأ يتغير وبخاصة في عِلية القوم؛ وذلك بإدخال عنصر دم جديد غريب عن البلاد، ويرجع السبب في ذلك إلى التزوج بأجنبيات في عصر الفتوحات العظيم.
وهذا الاتجاه في التصوير يُلاحظ في الرسوم البارزة على الجدران، وأحسن مثال لدينا من أعمال الإمبراطورية من الطراز القديم هي الرسوم التي على معبد «حتشبسوت» بالدير البحري، ومع ذلك فإنا نجد فيها ما يشعر بسيطرة الروح الجديد، ولكن عندما نصل إلى عهد «أمنحتب الثالث» نجد في الرسوم البارزة في أمثال مقبرة «خع إمحات» و«وسرحات» في طيبة وحتى في بعض الرسوم البارزة في معبد الأقصر؛ ظرفًا ونفاسة ورقة يعجز عن إظهارها مثَّالو العهد القديم، غير أن الإنسان في ذلك لا يمكنه أن يفضل مثَّال العصر الحديث عن مثَّال العصر الذى سبقه؛ لأننا نجد في القديم قطعًا تمتاز عن مثيلاتها في الحديث، ولكنا نجد أن المثَّال الحديث قد أخذ يتعرَّف أكثر على مادته الجديدة؛ وبذلك أصبح في مقدرته أن يتصرف فيها كيف شاء، وبخاصة عندما تخلص من القيود القديمة وشعر بحرية في إبراز عمله، وقد كان من نتائج تلك الحرية في العمل أن أصبح المثال على استعداد أن يأخذ على عاتقه تنظيم صور أكثر تعقيدًا عند وضع تصميم منظر صور بارزة.
وهذه الصورة التي يُحتمل أن يرجع عهدها إلى عصر «تحتمس الرابع» تبين لنا أن المفتن المصري كان سريع الخطا في سيره للوصول إلى تصوير طبعي أعظم شانًا وأكثر دقة قبل أربعين سنة من عهد «إخناتون».
ومن ذلك نرى أنه لا يوجد ما يبرر الاعتقاد بأنه لا علاقة بين فن عهد العمارنة، والفن القديم التقليدي؛ إذ الواقع أن عملية التغير لم تأتِ فجأة، بل سارت تدريجًا، وكانت قد أخذت في سيرها بوضوح منذ قرن قبل اعتلاء «إخناتون» العرش على أقل تقدير كما أوضحنا، كما أن مذهب «آتون» لم يكن وليد ليلة، بل كان يضرب بأعراقه إلى أقدم عهود العقائد المصرية، كذلك كان الفن الذي سار مع «آتون» جنبًا لجنب يضرب بأعراقه في الماضي، ولم تكن ظاهرة طبعية، بل شجرة نمت وترعرعت، وعلى أية حال فإن النمو يمكن إدخاله في تدرُّج العقل الإنساني كما يمكن إدخاله في الطبيعة، فالعقيدة الآتونية، وبخاصة رجال الفن فيها كانوا يعبرون باستمرار عن وجهة نظر الفرعون، وهي التي دفعت العنصر العامل في فن العصر إلى الأمام، فنجد أن من بين الألقاب التي كان يتمسك بها «إخناتون» نفسه لقب «عنخ إن ماعت» (يعني العائش في الصدق)، وقد أخذ المعنى الصريح لهذه العبارة وجعلها مبدأه في الحياة. فقد كان المقصود منها لديه أن يتقبل حقائق الحياة اليومية ببساطة، ومن غير كلفة، فكان يعتقد أن ما مضى كان حقًّا، وأن صلاحه كان ظاهرًا من نفس وجوده، ولا شك في أن تأثير مثل هذا القانون على الفن كان عظيمًا، ولذلك فإن التقدم الذي كان سائرًا بالفعل في الفن المصري قد شجعه هذا المبدأ، وأسرع في خطاه إلى حد بعيد، فيصف لنا «بك» نفسه وهو كبير رجال الهندسة الملكَ ومثَّاله الأول على لوحة في «أسوان» بأنه هو المساعد الذي علمه جلالته ليكون رئيس المثَّالين لآثار الملك الضخمة العظيمة، على أنه لا يتحتم أن يُفهم من هذه العبارة أن «إخناتون» كان متطفلًا على الفن وأنه كان يسلي نفسه، أو أنه كان يضايق رجال الفن برسم أشياء يفرض عليهم تنفيذها كما كان يفعل «تحتمس الثالث»، ولكن الواقع أنه كان يبين لمثَّاليه أن «الحياة في الصدق» كانت جزءًا من تعاليمه الدينية، وأن من واجبهم أن يأخذوها مرشدًا لهم، ثم يتركهم يعملون بمقتضاها.
أما في المجالات الأخرى غير الصور الإنسانية فإن التحول أو التغير على الرغم من أنه معلم ظاهر تمامًا فإنه لم يبلغ أقصى مداه كما يظن البعض أحيانًا، فالحياة في الحقل مثلًا لم تكن في حياة الفن المصري خاضعة يومًا لقيود التقاليد التي غلت يده في تصوير الجسم الإنساني؛ إذ الواقع أن الرسَّامين والمثَّالين المصريين كانوا منذ أقدم العهود ينقلون ما في الطبيعة عندما يصورون المستنقعات والنهر والصحراء بما فيها من حياة وحشية، ونباتات. ولقد خطا فنانو عصر «إخناتون» بهذه الرسوم خطوة أخرى إلى الأمام يمكن أن يُقال عنها إنها ناتجة عن تعاليم «إخناتون»، وقد وصف الأستاذ «برستد» هذا الفن بأنه فن بسيط جميل ينم عن الحقيقة، ويرى ببصيرة ثاقبة ما لم يَرَه أي فن آخر من قبل، غير أن في هذا بعض المبالغة؛ لأن المفتنين القدامى في مصر لم يكونوا محجوبي النظر عن حقائق الطبيعة وأسرارها، أكثر من المفتنين «بك» و«أوتو»، ولو لم يخلف عهد «إخناتون» لنا من نماذج أعماله الفنية إلا صور الحياة البرية بما فيها من نبات وحيوان، فإنه يصبح من الصعب علينا جدًّا أن ندرك منها حدوث أي فاصل أو تحول في تقاليد القوم الفنية، بل على النقيض كنا نرى في هذا الازدهار الفني الجديد تقدمًا مشروعًا لخطط مألوفة ليس فيها تحول عن الطرق القديمة التي انتهجها المفتنون القدامى.
وعلى أية حال فإن الأمر يختلف اختلافًا تامًّا في تصوير الجسم الإنساني في عصر العمارنة، وهذا في الحقيقة أهم الأشياء التي خلفها لنا عصر «إخناتون» من الوجهة الفنية. وفي هذه الحالة يمكن الإنسان أن يتحدث عن فن عصر «تل العمارنة» وهو يشعر أنه يناقش وحدة مميزة لها حياتها وشخصيتها الخاصة بها، فالرجل والمرأة يصورهما المفتن على طبيعتهما أي كما يراهما أمامه بالعين المجردة، وهو يخرج صورته بمعناها الحقيقي حرة من كل قيد، متوخيًا في ذلك إبراز التفاصيل بصدق مما كان غريبًا عن الفن القديم الذي كان معتادًا في البلاد. فمنذ عهد «إخناتون» لا يرى الإنسان الصور الآدمية مرسومة في وضع خاص في مجموعة قليلة في تنوعها وتتناول موضوعًا واحدًا وهو ما سمحت به العادة؛ إذ كان يصور الإنسان بساقه اليسرى إلى الأمام وذراعه مدلاة بجانبه وراحتاه مقبوضتان … إلخ. أما في صور «تل العمارنة» فنرى أناسًا جالسين وواقفين ومتحركين ومضطجعين بكل وضع طبعي يمكن للإنسان تصوُّره، وأحيانًا يُصور في أوضاع لا يمكن قبولها أو تصورها، كما أنها غير طبعية في الوقت نفسه.
ولقد انتقلت هذه البدعة القبيحة إلى رجال البلاط كما كان المنتظر، والناس على دين ملوكهم، حتى إن الأمر قد وصل إلى درجة من المجون؛ فمُثل الرجل قبيحًا بقدر المستطاع تقليدًا لصورة جلالته، وهذا أمر كان لا يمكن تلافيه. ولقد كانت نتيجة هذا العبث أن أصبح جزء عظيم من فن «تل العمارنة» بكل ما فيه من محاسن يقرب من الصور الممسوخة الهزلية.
ولقد كانت الكارثة في كل هذا مزدوجة، فإن هذا الفن الذي كان رفيعًا في ذاته حقًّا، بل لا نغالي إذا قلنا إنه أحسن زهرة تفتحت عن العبقرية المصرية قد مُسخت محاسنه بهذه المبالغات التي انتابته، على أنه لما غُلب مذهب «آتون» على أمره بدا في نفوس القوم اشمئزاز من ذلك الشذوذ الذي طمس محاسن فن «تل العمارنة» الرائعة، حتى قضى على عبقرية الفن المصري بدرجة عظيمة. ولقد انزعج المصريون من نتائج انزلاقهم في صدق التعبير في رسومهم ومحاكاة الطبيعة؛ ولذلك فإنهم أخذوا يتشبثون حتى آخر أيام تاريخهم القومي في حياتهم الفنية بأهداب طراز فنهم الثابت الذي كان متبعًا في غابر الزمن، وكأن خلاصهم الوحيد كان متوقفًا عليه. حقًّا إنه كان لا يزال في عهد الأسرة التاسعة عشرة أعمال فنية جميلة تحمل في طياتها بوضوح أثر فن العمارنة غير أنها كانت ضئيلة.
أما في العهد الساوي فقد قامت نهضة عجيبة ظهر فيها بعض الأعمال الفنية الرفيعة على غرار الأساليب القديمة يصحبها صدق التعبير؛ مما جعلها جديرة بأن تُضاهى بأعمال مفتني عصر «إخناتون»، غير أنه لم يعد يوجد قط ذلك التعبير الأول الجميل الذي ينطوي على فرط الفرح المستهتر الذي كنا نراه أيام «إخناتون»، حينما كان يلقن أتباعه بأن ينظروا إلى الحياة والأشياء بأعينهم هم فحسب، لا بوساطة التقاليد القديمة التي طُبع على بصرها غشاوة.
الصناعات الأخرى في عهد إخناتون
على الرغم من أن مدينة «إختاتون» قد أُقيمت في الأصل لتكون مدينة دينية وحصنًا حصينًا للمذهب الجديد وللبلاط الفرعوني، فإنه كان ولا بدَّ أن يستند أهلوها — وبخاصة الطبقات الدنيا منهم — على إنشاء صناعات خاصة بهم، وقد بينت لنا أنواع هذه الصناعات بدرجة عظيمة الأحوال التي أُسست فيها هذه المدينة. والواقع أن مدينة «إختاتون» كانت تشبه في حياتها النار التي أُوقدت في هشيم فارتفع لهيبها إلى عنان السماء ساعة ثم خبت وصارت ترابًا هامدًا؛ لذلك كان مقدرًا لهذه المدينة التي أُنشئت ما بين غمضة عين وانتباهتها أن تجد مكانًا في محيطها لإقامة مقابر عدة، ومقاصير وقصر ضخم للفرعون، ومساكن جميلة لكل الأشراف ورجال البلاط، وكذلك مقابر ومقاصير لهم. وقد كان المصري يعني بها أكثر مما يعني بمسكنه، فكل هذه المنشآت كانت تتطلب بطبيعة الحال مقدارًا ضخمًا من صناعة الزخرفة والزينة. أما نوع هذه الصناعة فقد كان القول الفصل فيه للذوق السائد في هذا العصر، وقد كان الذوق العام في زخرفة المباني مندفعًا نحو الرسوم البارزة وتزيينها بالألوان الزاهية، وهذا الذوق كان من خصائص الفن المصري في كل عصوره، ولكنه أخذ يتجه في عهد «إخناتون» إلى استعمال الخزف المطلي، والزجاج الملون في أعمال الزخرفة. ولقد كان أبسط وأسهل وأيسر على القائمين بالأمر أن يُنشئوا معامل للخزف المطلي والزجاج الملون في المدينة نفسها من أن يجلبوه من أماكن نائية كانت في معظم الأحيان معادية للمدينة؛ ولذلك كان من مميزات «إختاتون» ما أُقيم فيها من مصانع لعمل الخزف المطلي والزجاج الملون، وتدل بقايا ما وُجد من هذه الصناعات على أنها ازدهرت وتقدمت تقدمًا عظيمًا في «إختاتون»، وقد بلغت هذه الصناعة من التنوع والبهاء حدًّا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، وكان هذا العصر أعظم عصر بلغت فيه صناعة الخزف منتهى تقدمها، كما وصلت إلى أعظم غاية في تنوع استعمالها.
وقد كشفت أعمال الحفر عن موقع مصنعين عظيمين لصناعة الخزف المطلي، وكذلك عن عدة مصانع لعمل الزجاج على أن حجرات العمل في هذه المصانع قد اختفت نهائيًّا، غير أن بقايا هذه الصناعات لا تزال كائنة تظهر لنا في القطع المتخلفة طريقة العمل في إنتاج هذه الصناعة في حين أن مئات من قطع أواني الزجاج وأشياء أخرى تضع أمامنا شكل القطع التي تم صنعها.
أما من جهة البهاء والفخامة فإن الدقائق الزخرفية والتفاصيل التي توجد على جدران قصر «إخناتون» التي استُعمل فيها الزجاج الملون والذهب الوفير لتزيين تيجان أعمدتها التي على شكل جريد النخل؛ لدليل ناطق على مقدار ذوقهم، ويقول الأستاذ «فلندرز بتري» إن تاج العمود في هذا القصر كان صورة من عمل الميناء التي يحذقها الصائغ المصري، وهو عبارة عن رقعة مقسمة أقسامًا دقيقة وُضع في كل منها حجر ثمين في إطار من الذهب ليخرج من المجموع رسم رائع يظهر فيه كل لون براق مفصول عن المجاور له بخيط من الذهب، وقد استعمل المفتن تلك الصورة على نطاق أوسع في فن العمارة؛ ولذلك كانت تظهر تيجان الأعمدة وهي لامعة بهذا الذهب وبهذا الخزف المطلي الذي يشبه الجواهر. ولا شك في أن التأثير الذي يحدثه صف من هذه الأعمدة المزينة بتلك الزينة لَمِمَّا يأخذ بالأنظار لروعته وفخامته، وبخاصة عندما تسطع عليها أشعة شمس مصر اللامعة. ولعمري فإن مثل هذا المنظر في عين السفير الآسيوي كان يزيده اعتقادًا في أن الذهب كان بمصر يفوق التراب. على أن الفرعون لم يكن مبذرًا دائمًا في بذل الذهب في مثل هذه الأحوال، ولا أدل على ذلك من أنه استُعمل في قاعة المدخل في جنة «مرو آتون» تقليدًا رخيصًا لتزيين عمدها، فقد استُعمل بدل الخزف المطلي عجينة مطلية، وبدل الذهب طلاء أصفر يحاكيه.
وعلى أية حال فإن ذوق عصر «تل العمارنة» على وجه عام قد احتفظ بخصوبة بالغة في الجمال، وصلاحية لا تضارعه فيهما عصور أخرى. فمن الصناعات التي تلفت إليها الأنظار لما فيها من رشاقة وجمال فن صناعة الأدوات الصغيرة التي كان يستعملها الإنسان، وبخاصة أدوات الزينة، كملاعق العطور والأواني، والمرايا وجعبها، والأمشاط، وغيرها من الأدوات الصغيرة التي كانت تُصنع من أخشاب أجنبية أو من العاج أو من الشبة أو المرمر، أو حجر استايتيت؛ فكلها كانت قطعًا فنية للاستعمال العادي، ومن المحتمل أن توجد أشياء قليلة تأخذ العين والعقل لبساطتها وقوتها معًا. حقيقة إن مصريي القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانوا في مستوى أية أمة متحضرة في الثقافة العالمية؛ يشهد بذلك هذه الأشياء الصغيرة بما يتجلى فيها من براهين تدل على تمتع القوم وسرورهم بكل ما هو جميل، والحقيقة أن الأشياء الصغيرة الخاصة بحضارة القوم هي في أغلب الأحيان عنوان هذه الحضارة، والمطلع على تاريخ البلاد يعرف تأثير الأفكار الآسيوية التي بدأت تتسرب إلى مصر في بداية الفتوحات المصرية في باكورة هذه الأسرة، غير أنه على ما يظهر لم يكن للنماذج الفنية التي أُتي بها من سوريا، وكذلك أصحاب الصناعات الذين نزحوا إلى مصر في عهد «تحتمس الثالث» ومن بعده من الفراعنة تأثير مستمر. وعلى أية حال فإن تأثير «سوريا» الفني لم يكن ذا أهمية في فن «تل العمارنة» على الرغم من أننا وجدنا أن الفخار السوري كان يُوجد بمصر بدرجة لا بأس بها في ذلك الوقت، ولكن أهم من ذلك هو ما يجب معرفته عن مقدار تأثير النماذج المنوانية (كريت) في الصناعات المصرية؛ لما بين البلدين من علاقات تجارية، هذا فضلًا عن أن أساليب الفن المنواني كانت تنطوي على حيوية وجاذبية في أشكالها وتصميم صنعها كما تكلمنا على ذلك من قبل.
وقد كانت الأواني المنوانية التي على شكل ركاب السرج ومصفاة الخمر منتشرة في مصر في ذلك العهد، وكان الصانع المصري يقلدها في الخزف المطلي والمرمر والمعدن. ومن الجائز أن المصري عندما عاد إلى حب الطبيعة وتقليدها وهو ما يتميز به فن عصر «العمارنة» ثم أخذ المفتن يطلق ليده العنان بما وُهب من حرية وسهولة في تصويره الأشياء؛ قد تأثر بعض الشيء بروح الفن المنواني، ذلك الفن الذي لم يُقيد بتقاليد قط، بل كان قانون نفسه، ونستطيع أن نقول إن هذا التأثير لم يكن إلا عنصرًا ضمن عناصر عدة كان بمثابة روح تنفخ في شخصية كانت في عالم الوجود فعلًا شاعرة بقوتها، وبميلها الشخصي، ولم تكن قط ظلًّا لذوق أجنبي يُفرض على عقول تقبلها بسهولة؛ لأنها خاوية بيضاء الصحيفة؛ إذ الواقع أن الحضارة المصرية كانت شيئًا ضخمًا جدًّا، وعريقة في قِدَمها جدًّا وأصيلة في شعبها أكثر مما يجب مما جعل تكييفها تكييفًا جديدًا بمؤثرات خارجية أمرًا مستحيلًا، فالمصري كان يعرف الشيء الحسن عندما كان يراه، ولم يكن لديه أي مانع من انتحاله لنفسه، ولكنه كان في ذات الوقت عنده قوة العبقرية الحقة التي تجعل ما ينتحله لنفسه — إذا اتفق أنه انتحل شيئًا — ملكه وقطعة منه.
(٤-٥) تدهور سلطان مصر في سوريا: زحف البدو و«خيتا»
المصادر وترتيب تاريخ الحوادث
لقد كان النزاع بين الأمراء الخاضعين للسيادة المصرية في «سوريا» لا ينقطع حبله ولا ينضب معينه؛ إذ كان كل أمير يرغب في توسيع رقعة إمارته، ومد نفوذه على حساب جاره، وبخاصة الضعيف، وتلك سنة الطبيعة، وقد كان موقف الفرعون وقُوَّاده في مثل هذه المنازعات هو المحافظة على الدولة وبقاء كيانها، ولذلك كانوا يقفون بجانب الوالي المخلص، وينصرونه على الوالي المغتصب الثائر على العرش، كما أنهم كانوا في الوقت نفسه لا يألون جهدًا في صد غارات أقوام البدو الهمج، الذين يغيرون على البقاع المتحضرة ويسلبون متاعها.
ولقد بقي النشاط المصري على هذا المنوال من اليقظة والشدة حتى تولى الملك «أمنحتب الثالث»، وكان متساهلًا في أمر دولته؛ فَشَلَّ نشاط الجيش، وانحلت قواه. والواقع أن هذا الفرعون قد أراد أن يترك الأمور في مختلف بقاع دولته تجري كما شاء القدر، فكان لا يعير أذنًا صاغية لأي توسل أو رجاء يأتيه من مختلف بقاع إمبراطوريته، ولم يحركه أي إنذار ينبئه بدنوِّ الخطر المحدق بممتلكاته في «سوريا» فيعد حملة يقضي على الفتنة في مهدها، بل كان منغمسًا في ملاهيه بعاصمة ملكه «طيبة». ومما زاد الطين بلة أنه لم يهتم بإصدار أوامر مشددة إلى هذه الأصقاع إلا بعد لَأْيٍ وجَهْدٍ، يُضاف إلى ذلك أن المنافسة والشره وجمع المال كانت مستحكمة بين عماله، ولعبت دورها في تقويض بنيان الإمبراطورية التي بناها جده العظيم «تحتمس الثالث» في «سوريا»؛ وبذلك تخلخل الحكم في هذه الولايات، وانتشرت الفوضى في أرجائها.
ويرجع الفضل في كشف النقاب عن هذه الحالة إلى وثائق «تل العمارنة». وقبل أن نتكلم عن أهمية هذه الوثائق نضع أمام القارئ كيف عُثر عليها.
ولقد وجدت تلك المرأة المحظوظة عددًا عظيمًا من اللوحات المصنوعة من الآجر المحروق مكتوبة بالخط المسماري البابلي، فنقلت غنيمتها على ظهر حمارها، وباعتها لجار لها بمبلغ عظيم في نظرها وهو عشرة قروش، ولقد ظنَّت في بادئ الأمر أنها قد غبنت المشتري في هذه الصفقة؛ إذ وجد الأخير صعوبة في بيعها، ولا غرابة في ذلك فإن هذه اللوحات لم يكن في شكلها أو صنعها ما يغري جامعي الآثار.
وإنه لطريف حقًّا أن يقرن المؤرخ هذه الرسائل التي أحيت لنا عصرًا غامضًا في تاريخ العالم بعد أن كان عظامًا نخرة بالكشف الحديث الذي أُميط عنه اللثام عام ١٩٢٢، ذلك الكشف الذي هز أركان العالم، وجعل الكل يتحدث بضخامته وانقطاع نظيره، تلكم هي مقبرة «توت عنخ آمون» وما عُثر فيها من نفائس أثرية. على أن هذا المظهر من الاهتمام البالغ قد أنكره العالم على وثائق «تل العمارنة»، ولا غرابة في ذلك؛ فإن كشف «توت عنخ آمون» أسفر عن ذهب وأحجار كريمة، وتماثيل فنية فخمة، أما لوحات «تل العمارنة» فهي قطع من الآجر تَزْوَرُّ عنها العين، ويَمجُّها الذوق السليم، وقد كُتبت بأحرف ليس فيها ما يلفت النظر. ولكن شتان بين ما أسداه كل منهما للعلم والتاريخ؛ حقًّا قد أهدى «توت عنخ آمون» إلى العالم ذهبًا وتحفًا فنية جميلة وحسب، وأما الألواح فكشفت لنا حياة العالم في زمن قد انقطعت صلتنا به وكنا في جهالة عمياء بالنسبة لتاريخه، ومع كل هذا فقد بِيعت الألواح بأبخس الأثمان (عشرة قروش)، وتُقدَّر تحف «توت عنخ آمون» بالقناطير المقنطرة من الذهب. والظاهر أن هذه الألواح كان مقر جزء منها في «طيبة»، فلما انتقل «أمنحتب الرابع» إلى مقره الجديد في «إختاتون» في السنة السادسة من حكمه نقل المراسلات التي كانت تجري بين والده وبين الملوك والأمراء، ثم زاد عددها في أيام حكمه هو، ولكن مما يُؤسف له أن هذه الرسائل لم تكن تؤرَّخ بتواريخ محدودة تدل على وقت كتابتها، وقد كانت تتبادل كما ذكرنا بين مصر وبابل و«متني» و«آشور» ومملكة «خيتا»، وكان يُذكر في كل رسالة اسم المرسِل واسم المرسَل إليه، وباستقرائها وجدنا أن ما يقرب من نصفها قد كُتب في عهد «أمنحتب الثالث»، وأن نصفها قد أرسله الولاة الذين كانوا تحت حكم الفرعون في «سوريا» و«فلسطين».
ولم ينقطع تيار إرسال هذه الرسائل في عهد «أمنحتب الرابع»، وهذه يمكن معرفتها على وجه التأكيد؛ إذ إنها تذكر حوادث وقعت في عهد والد المرسَل إليه (راجع الخطابات ١٠٨ سطر ٢٨ … إلخ، ١١٦ سطر ٢١ … إلخ، ١٣١ سطر ٣٢ … إلخ، ١٣٢ سطر ١٠ … إلخ).
أما في الخطابات التي كانت تَرِد من «فلسطين» فقد وجدنا فيها مستندًا لتحديد تاريخها؛ فنجد في خطاب «لابايا» (٢٥٤) مكتوبًا بالمداد بالخط الهيراطيقي ومؤرَّخًا بالسنة الثانية عشرة من حكم «أمنحتب الرابع»؛ ومن ثم نعلم أن الخطاب الذي ذُكر فيه موت «لابايا» قد وصل إلى مصر بعد هذا التاريخ. أما أحدث خطاب وُجد في وثائق «تل العمارنة» (١٧٠) فيذكر لنا هجوم «خيتا»، ويرجع تاريخه على حسب وثائق «بوغاز كوي» إلى ما قبل موت «أمنحتب الرابع» بزمن قصير جدًّا.
ولدينا عن المدة التي قبل ذلك خطابات عن العصيان الذي قام به «عبدي أشرتا» والد «أزيرو»، وقد خصص لها «ريبأدي» نصف الخطابات التي أرسلها إلى الفرعون (٦٨–٩٥)، وكذلك الخطابات التي كان قد أرسلها «عبدي أشرتا» نفسه (٦٠ … إلخ)؛ كل هذه قد أُرسلت في غضون حكم «أمنحتب الثالث».
غزو قبائل البدو السامية البلاد المتحضرة
الآراميون والإسرائيليون
أما عن «لولاخي» فلا نعرف شيئًا أكثر من هذا، ولكن «خبيري» هم قبائل رحل من البدو كما ذُكر في خطابات «تل العمارنة»، وقد استوطنوا آسيا الصغرى مع سكانها الأصليين، وكان من الصعب على «خبيري» وعلى الساميين أن يستوطنوا في سهول «سوريا» وما بين النهرين والصحاري السورية العربية. وقد جاء ذكر قبائل «سوتي» (البدو) مع «خبيري» في وثائق «تل العمارنة»، وقد كانوا يعملون جنودًا مرتزقة أو يجتمعون جماعات للسلب والنهب. وهؤلاء الساميون الذين أغاروا على البقاع المتمدينة في «سوريا» وأرض «نهرين»؛ قد ذُكروا لأوَّل مرة في الوثائق الآشورية في عهد الملك «أريكدنيلو»، وقد حاربهم بوصفهم قبائل «أخلامي» وقبائل «سوتي» (البدو).
ويُعد استيطان بني إسرائيل في فلسطين وتوسع الآراميين في احتلالهم بلاد سوريا وبلاد النهرين نتيجة متتابعة لهؤلاء الناس، وقد حفظت لنا وثائق تل العمارنة لمحة عند بدايتها «نهرين»، ولا يبعد إذن أن الإسرائيليين كانوا فيما سبق في الوقت نفسه يتكلمون لهجة آرامية أيضًا، وأن اللغة العبرية قد انتقلت إلى الكنعانيين لأنهم كانوا يقيمون معهم.
ومنذ ذلك العهد كان الأجانب الذين على اتصال بالإسرائيليين يطلقون عليهم اسم «عبرين»؛ أي العبرانيين، ومن ثمَّ سُمِّيَت لغتهم العبرية، وهذه التسمية ليست اسمًا لقوم من الناس بل نعتًا لهم، ومعناه: قوم من العبر المقابل لنهر الأردن (وكلمة عبر في العربية معناه شاطئ النهر أو البحر). ومما يدل على أن العبرانيين كان لهم على ما يظهر في الأصل أهمية واسعة النطاق أن قبائل الألواح «يهوا» التي أنزلت على «موسى» قد أطلقوا كلمة «عابر» الجد الأول لجنسهم على كثير من القبائل العربية، وعلى الجد الأول «سام» (سفر التكوين الإصحاح العاشر سطر٢٣ … إلخ): (وسام أبو كل بني عابر). وبنو «سام» هم قوم لهم اسم يتسمى به أشراف البدو الذين لهم سلسلة نسب، كما أن «بني إسرائيل» لهم كذلك سلسلة نسب، وذلك خلافًا لسكان المدن الذين ضاعت أنسابهم على الرغم من أنهم من أصل عريق. ومما سبق نجد أن كلمة «عبري» لها علاقة وثيقة بكلمة «خبيري» من جهة النطق ومن جهة المعنى، لا يمكن التغاضي عنها هنا؛ ذلك أن هناك وجه شبه بين كلمة «عبري» وكلمة «خبيري» في النطق، يُضاف إلى ذلك أن الكلمة تدل على عنصر من الناس في آسيا الصغرى الخيتية. ولكنا لا يمكننا أن نتكلم هنا بنفس المعنى المعتاد الذي نطلقه على العبرانيين، فمن الجائز أن هذه التسمية التي كانت في الأصل تُطلق على قبائل البدو الجائلة في فلسطين قد حرَّف القوم اشتقاقها وجعلوها مشتقة من كلمة عبري؛ أي الذين من العبر المقابل لنهر الأردن.
الثورات في عهد أمنحتب الثالث
وفي خلال تلك الاضطرابات أخذت الأمم المجاورة تتدخل في الممتلكات المصرية، وبخاصة مملكة «متني»، وبلاد «خيتا»، غير أن الخطابات التي تشير إلى ذلك كانت مختصرة ولم يُفهم كنهها؛ فقد كتب «ريبادي» بعد أن كان في ضائقة شديدة أن ملك «خيتا» قد تمَّ له النصر (راجع خطاب ٧٥ سطر ٣٦ … إلخ)، وكذلك كتب للفرعون أمير مجهول الاسم أن ملك «متني» قد خرج عليه بخيله ورَجْله، وكذلك نعرف عن طريق «ريبادي» أن ملك «متني» قد وصل في زحفه حتى «سمييرا»، وأنه كان مواصلًا زحفه نحو «جبيل» (ببلوص)، ولم يجبره على النكوص على عقبيه إلا قلة الماء، وفضلًا عن ذلك كان يريد نهب أراضي الآموريين (الخطاب ٥٨).
وفي نهاية تلك الحروب التي مكثت مستعرة مدة عام وصل «أزيرو» على رأس إخوته إلى القوة والسلطان اللذين كان يتمتع بهما والده، غير أن الحوادث كانت تجري سراعًا؛ إذ كان «أزيرو» قد أوثق عروة التحالف مع «أيتاكاما» ملك مدينة «قادش» العظيم، الواقعة على نهر «الأرنت» (نهر العاصي) وراء بلاد الأموريين، ومنها سار بجيشه نحو «عمق» وهضبة البقاع الواقعة بين جبلي «لبنان» ثم أرض «أوبي» وسهل «دمشق» ليخضعها جميعًا، وفي إقليم «أوبي» نجد أن «أرزاويا» أمير «روخيزي» و«تواتي» أمير «لابانا» قد تحالفا معه، وكذلك حذا حذوهما «داشا» في «عمق». أما الأمراء الذين بقوا على ولائهم لمصر، فقد حُرقت بلادهم على مرأًى منهم، وقد استجاروا بملك مصر ليرسل إليهم النجدة، فلم يجدوا أذنًا صاغية. هذا فضلًا عن أن أمير «نميا وازا» المجاور لهذه الإمارات قد رأى بعينه بلاده تُخرب وأصبحت في خطر، وأغلقت بلدة «يانوعام» أبوابها في وجهه. وقد انضم ضد صفوف العدو كثير من الأمراء الآخرين مثل أمير «بوصرونا» (يحتمل أنها البصرة في حوران)، وكان يسعى لحماية إقليم «تاخاس» و«دمشق» وقلعة «كوميدي» عند مدخل «البقاع الجنوبي»، ولكن على ما يظهر سقطت «دمشق» في يد «أزيروا» أيضًا.
تولي أمنحتب الرابع عرش الملك وانتشار الفوضى في سوريا
وفي الحق لم يكن يقصد أي أمير من هؤلاء أن يغير السلطة المصرية ليكون تحت نير دولة أخرى بأية حال من الأحوال، بل كان كل منهم يرغب في الاستفادة من الموقف السياسي ليمد سلطان إمارته على حساب خصمه المجاور له مستعملًا في الوصول إلى ذلك الجنود البدو الذين كانوا في خدمته، هذا على أن يبقى طريق المفاوضات بينه وبين كل من مصر ومملكة «خيتا» مفتوحًا.
على أن مصر لم تصبر على هذه الحال طويلًا؛ إذ تحركت فجأة، وتدخلت في قمع تلك الثورات، ووقف تلك الحالة المحزنة عند حد.
الحالة في فلسطين
سيطرة «خيتا» على سوريا
ولقد كان أول ما اهتم به «شوبيليوليوما» انهماكه في تثبيت سلطان «خيتا» في شرقي «آسيا» الصغرى، وفي الأراضي الجبلية الواقعة على نهر «الفرات» وفي «أسوا» وفي المقاطعات التي ضمها لملكه ثانية. وهذا يفسر لنا السبب الذي من أجله لم يكن لهجومه في «سوريا» الشمالية أثر باقٍ، فتوغل في «إسوا»، وطرد العناصر الأجنبية من بلاده، وضم إلى جانبه «سونا سورا» ملك «كزواتنا». وقد ذكر لنا هذا الملك الأخير أنه قد أصبح سعيدًا؛ إذ لم يعد بعد الآن خادم «متني»، بل صار ملكًا حرًّا طليقًا، ويُلاحظ أن المعاهدة تحتوي على مواد شديدة بالنسبة لأهل «متني»، وربطت بلاد «كزواتنا» وحاكمها بروابط وثيقة ثابتة مع مملكة «خيتا»، ونجد مظاهر هذه الروابط الدائمة بين البلدين في المعاهدات التي كانت تُبرم بين «خيتا» وأية أمة أخرى، فقد كان يذكر دائمًا في ذيل المعاهدة أسماء آلهة «خيتا» وآلهة «كزواتنا» جنبًا لجنب بوصفهم شهودًا.
ولقد كان مَثَل المصريين في عدم القيام بأية مقاومة في هذه الحروب كمثل «دوشرتا» «ملك متني»؛ إذ إن الحاميات المصرية التي بقيت في يد المصريين في بعض الأماكن مثل «تونب» كانت ضعيفة خائرة القوى، ولذلك نُزعت منه من غير مقاومة تُذكر، ومن الغريب أن «شوبيليوليوما» ملك «خيتا» قد تجاهل في تقاريره الحربية ما استولى عليه من الأماكن التي كانت تدين لمصر بالطاعة والسلطان، ويرجع سبب ذلك إلى أنه كان يعد السلام ما زال قائمًا بين البلدين بصفة رسمية.
ومما سبق نعلم أن «شوبيليوليوما» قد استولى من جديد في مدة عام على كل أراضي نهر الفرات حتى «لبنان». هذا في ميدان الحرب. أما في ميدان السياسة وبُعْد النظر في المحافظة على هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، فإنه قيد كل هذه الإمارات الصغيرة في تلك الجهات بمعاهدة عقدها مع «نوخاشي»، وبلاد آمور، ثم مع «تونب» فكان من واجب حكامها أن يهبوا في وجه أية ثورة أو قيام أي عدو يناهض مملكة «خيتا» داخل البلاد، أما ملك «خيتا» فكان عليه أن يمد يده لمساعدة هؤلاء الأمراء إذا أُعلنت الحرب على واحد منهم. هذا إلى أنه ولَّى ابنه «تليبينوس» ملكًا على «حلب» وابنه «بياسيل» ملكًا على «كركميش»، غير أنه لم يتمكن من إخضاع «كركميش» إلا بعد كفاح دام مدة طويلة.
وفي خلال تلك المدة انقض «أرتاتاما» الذي اعترف به «شوبيليوليوما» ملكًا على بلاد «متني» على بلاد نهرين، ومعه ابنه «سوتارنا»، واستولى عليها، ونهب عاصمتها، بمساعدة ملكي «آشور» و«ألاشيا» (قبرص). وتدل الشواهد على أن «سوتارنا» هو الذي قبض على مقاليد الحكم في «متني»، فكان مما قام به هدم قصر «دوشرتا» في «وسوجاني» عاصمة الملك، ثم أعاد الباب المصنوع من الذهب إلى ملك «آشور»، وكان قد اغتصبه «سوساتار» ملك «متني» من بلاد «آشور» ثم اعترف باستقلال مملكة «آشور»، وكذلك أهدى إلى بلاد «ألاشيا» (قبرص) بعض الطرف من بلاده. وهكذا دفع «دوشرتا» ثمن بغيه وحنثه بالأيمان: «لقد ذهبت «متني» إلى الدمار التام»؛ فقد وقعت مذبحة عظيمة بين سكان بلادها وهُدمت بيوتهم، وشُتت بلدانهم، أما أشرافهم فقد سِيقوا إلى «آشور» و«ألاشيا» ليذوقوا أفظع ألوان العذاب. وأما «ماتيوزا» بن «دوشرتا» فقد حاول بادئ الأمر الهرب إلى «بابل»: وقد رغب ملك هذه البلاد في أن يحمي ذماره، وينقذ حياته، فبقي هناك آمنًا مطمئنًّا إلى أن فرَّ، ولكن ليطأه «شوبيليوليوما» بقدمه.
وفي خلال تلك المدة لا نعلم إلى أي مدى مدَّت مصر سلطانها ثانية في بلاد ساحل «فينقيا»، فقد ظلت «سمييرا» و«ببلوص» في قبضة «أزيرو»، ولقد عنفه الفرعون على زحفه، غير أنه لم يسعَ إلى رده على أعقابه، ولا نعلم كذلك إذا كان قد أخضع «صيدا» ثانية؛ إذ في ذلك شك عظيم. أما «صور» فإنه أراد المحافظة عليها، ومن المحتمل كذلك «بيروت» أيضًا. وخلافًا لذلك كانت الأراضي الواقعة بين سلسلتي جبال «لبنان» (عمق) تدين لسلطان «أزيرو»، وقد حاول بعد ذلك أن يضم إلى جانبه «قادش» في أثناء محاصرة «شوبيليوليوما» لبلدة «كركميش». ولما أحس ذلك «شوبيليوليوما» أرسل قائده «لوباكو» ومعه قائد آخر على جناح السرعة للقضاء على «أزيرو» فخربت بلاد «عمق» بعد حملتين. وبذلك انفصمت عرى الصداقة التي كان ملك «خيتا» يحافظ على دوامها بينه وبين مصر؛ فأصبح البلدان في حالة حرب علنية.
وعندما أرسلت الجنود إلى بلاد فينقيا لأجل مد حدود البلاد المصرية لم يكن في استطاعتهم الوصول إلى النتيجة.
وعلى أية حالٍ، فإنه على أثر مهاجمة «خيتا» للأملاك المصرية تحرجت الأحوال في مصر مما قلب سياستها في الداخل والخارج رأسًا على عقب.
(٤-٦) آثار إخناتون الباقية
أقام «أمنحتب الرابع» آثارًا عدة في طول البلاد وعرضها غير مدينة «إختاتون» التي شيَّدها عاصمة لملكه، وهي المعروفة الآن «بتل العمارنة» على مقربة من بلدة «ملوي» الحالية، وقد فصلنا القول فيها فيما سبق.
منف
هليوبوليس
كوم مدينة غراب
إهناسية المدينة
الأشمونين
وفي «تونة الجبل» لا تزال إحدى لوحات الحدود لمدينة «إختاتون» التي نحتها هذا الفرعون في وجه الصخر، وقد أُرخت بالسنة السادسة من حكمه كما ذكرنا من قبل.
الشيخ عبادة (أنتوي)
تل العمارنة
ويُلاحظ في نقوش هذا الصندوق أن «إخناتون» كان متمتعًا ببعض الشعائر الدينية القديمة على الرغم من اعتناقه لمذهب «آتون» (؟) (؟).
أسيوط
وقد عُثر على هذا المعبد تحت مباني أحد بيوت الأهالي في شارع فاروق «بأسيوط»، وقد كان صاحب البيت الذي أرشد إلى هذا الكنز ينتظر وجود قناطير من الذهب النضار، ولكن الأثريين والمؤرخين عثروا فيه على كثير من الحقائق التاريخية والفنية.
المطمار (بالقرب من البداري)
قفط
قوص
الكرنك
الأقصر
المدمود
أرمنت
زرنيخ
بالقرب من «إسنا» عثر «لجران» على لوحتين مقطوعتين في الصخر ونُقشتا نقشًا جميلًا باسم «أمنحتب الرابع»، ويظهر في الجزء الأعلى من اللوحة الأولى يقدم الهدايا للإلهة «نخبت». أما المتن الذي فوق الملك والإلهة فتهشم تهشيمًا مريعًا ولا تميز منه إلا كلمة «نخبت» سيدة السماء، أما الجزء الأسفل من اللوحة فنشاهد فيه مقدم اللوحة راكعًا يتعبد، وكذلك يشمل نقشًا مهشمًا، غير أننا على الرغم من تهشمه نعلم منه أن موظفًا يُدعى «أبي» بن «حور مأخت» قد جاء إلى هذا المكان في سنة ما من عهد «أمنحتب الرابع» قبل أن يغير اسمه للقيام بالأعمال التي تخص «معبد الشمس» المسمى ««حور أختي» يفرح في الأفق باسمه النور الذي في «آتون».» وقد رسم تذكارًا لهذه الرحلة الفرعون وهو يقدم قُرَبًا للإلهة «نخبت» كما ظهر هو نفسه وهو يتعبد.
الكوم الأحمر (هيراكنيوبوليس)
حبل السلسلة
يعيش حور الثور القوي صاحب الريشتين الساميتين محبوب الإلهتين، عظيم الملك في «الكرنك»، حور الذهبي لابس التيجان في «هليوبوليس» الجنوبية، ملك الوجهين القبلي والبحري، الكاهن الأعظم في المعبد المسمى «حور أختي الفرح في الأفق باسمه الصور التي في آتون» «نفر خبرو رع وع ن رع» بن رع «أمنحتب» الحاكم المقدس لطيبة العظيم في خلوده، والعائش أبديًّا «آمون» رع رب السماء وحاكم الأبدية.
صولب
سسبي
(٤-٧) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد إخناتون
انتقل مع «إخناتون» في مقره الجديد «إختاتون» نفر من رجال الدولة العظام، غير أنه رفع من شأن عدد عظيم من عامة الشعب. وقد كانوا يفتخرون في نقوشهم بأصلهم الوضيع. وأبرز الرجال الذين خدموا هذا الفرعون هم:
نخت-با آتون
«معي» المشرف على الجنود
يدل ما قصه «معي» عن نفسه — إذا صدقنا ما جاء في نقوشه — على أنه كان رجلًا في بادئ الأمر مغمور الذِّكر، وضيع النسب، فقير الحال، بل كان يتكفف لينال ما يسد به رمقه من خبز، ولم يلبث أن بلغ من المراتب أعلاها، غير أنه قد انطبق عليه المثل القائل «ضع متكففًا على صهوة جواد فلن يلبث بعد ذلك أن يمتطي ظهر الشيطان.» والواقع أن «معي» قد أساء كثيرًا استعمال حظوته لدى الفرعون، فلا غرابة في أن كان سقوطه من عليائه مفاجئًا ومثيرًا للعجب والدهشة، وبخاصة إذا علمنا أن شهرته كانت قد بلغت عنان السماء، وأن ثروته وقوته كانتا مضرب الأمثال.
استمعوا أنتم لما أقول، أنتم أيها الرجال كبارًا وصغارًا؛ لأني سأقص عليكم النعم التي أفاءها الحاكم عليَّ. ولا ريب في أنكم ستقولون عندئذٍ: حقًّا! ما أعظم الأشياء التي عُملت لهذا الرجل المغمور الذكر! وعلى ذلك ستطلبون حقًّا له (أي للملك) أبدية من أعياد «سد» مدة لا نهاية لها بوصفه رب الأرضين، وعندئذٍ سيعمل لكم حقًّا مثل ما عمل لي الإله الذي يتصرف في الحياة!
كنت رجلًا وضيع الأصل أبًا وأمًّا، ولكن الأمير وطد مكانتي؛ فقد جعلني أعظم … بفيضه، عندما كنت رجلًا لا أملك شيئًا، وقد جعل عدد عشيرتي ينمو من أجلي، وكثر عدد أخواتي، وجعل كل أهلي يعملون لي، ولما أصبحت سيد مدينة جعلني أصاحب الأمراء والسمار، على الرغم من أني كنت فيما مضى أشغل المكان الأخير، ومنحني المئونة والجراية يوميًّا، وإني أنا ذلك الشخص الذي كان يسأل قوته، وقد جعلني …
وعلى الرغم من كل ذلك المدح والإطراء الذي كاله للفرعون، فإن صوره قد مُحيت محوًا تامًّا من قبره. وقد غُطي هذا النقش بوجه خاص بطبقة من الجص. وقد يكون السبب الداعي إلى ذلك هو أن الفرعون ربما رأى أن بقاءه يكون هجاء أبديًّا لحظوة الفرعون له. ولا نعلم — في الواقع — السبب في سقوط «معي» والغضب عليه، غير أن التاريخ قد قلب ظهر المجن «لإخناتون» فكان الجزاء من جنس العمل، فقد محى اسمه من آثاره كلها، في حين أن الحفائر الحديثة قد أعادت لذلك العصامي «معي» ما كان يرغب فيه — وهو تخليد اسمه — وأن يعرف الناس أن الأصل ليس هو كل شيء ولكن العمل والجد والمثابرة تغطي على كل شيء وترفع صاحبها إلى قمة المجد.
«مري رع» الكاهن الأعظم
وإذا نظرنا إلى المعبد من أعلى نشاهد فيه تفاصيل عديدة. والواقع أنه ليس كالمعابد القديمة التي أُقيمت في «طيبة» وغيرها في العهود السابقة؛ إذ نجد فيه قدس الأقداس يصل إليه الإنسان بدرج سلم، وقد أُقيم في ردهة غير مسقوفة في العراء، وهذا أمر طبعي بالنسبة للإله يمثل الشمس.
ومن المحتمل أن «مري رع» قد تغلب عليه العطف الملكي حتى عجز أن يزيد كلمة عما قال، كما يحتمل أن التقاليد الرسمية كانت تمنع الموظف أن يرخي للسانه العنان ليقول ما في صدره!
«بانحسي» الكاهن الثاني
حويا
ويُشاهد أسفل المنظر الرئيسي الخدم وهم يحضرون الطعام في حين أن طائفة من المغنين والمغنيات يضفون على الحفل بهجة ويزيدونه سرورًا وأنسًا بغنائهن.
أما الصف الثاني فقد خُصص لإظهار عظمة «حويا»، غير أنه لسوء الحظ قد مُحي معظمه، والظاهر أنه كان يمثل «حويا» وهو يقود ثماني طبقات من الموظفين الصغار الهتافين الذين تحت مراقبته قد كلفهم بالنداء بالثناء على الفرعون ووالدته. ومن النقوش المفسرة نعلم أن بعض هؤلاء الموظفين كانوا سائسين وحمَّالين «لحويا» المشرف على (الحريم) الملكي.
أما الصف الثالث وهو الأسفل في المنظر فيظهر أنه لا علاقة له بالحوادث السالفة، وهو عبارة عن شريط ضيق مهشم، ويظهر فيه مناظر الريف وشاطئا النهر، وقد لُوِّنت كلها بالألوان الطبعية الخالية من التقليد.
السنة الثانية عشرة، الشهر الثاني من فصل الشتاء، اليوم الثامن الحياة للوالد، الحاكم المزدوج، «رع آتون» الذي يمنح الحياة أبد الآبدين، إن ملك الجنوب والشمال «نفر خبرو رع» والملكة «نفرتيتي»، العائشين إلى الأبد مخلدين؛ قد ظهرا للعيان على المحفة العظمى المصنوعة من ذهب لأجل أن يتسلما جزية «سوريا» وبلاد السودان «كوش»، وكذلك جزية الغرب والشرق وكل المماليك مجتمعة في وقت واحد، وكذلك الجزر التي في قلب البحر تحضر جزية للملك عندما كان على عرش «إخناتون» العظيم؛ لأجل تسلم جزية كل قطر مانحًا أهلها نفس الحياة.
وبداية هذا المنظر يظهر فيها أن الموكب كانت طلعته من القصر.
وقد كان الملك والملكة جالسين في محفة فاخرة محمولة على أعناق رجال الحاشية، وقد كان «إخناتون» يجلس الجلسة التقليدية الجامدة. أما «نفرتيتي» فكانت تطوِّق وسطه بذراعها في حنان وحب، وهذا الوضع كان شائعًا منذ الدولة القديمة، وتُشاهد الأميرات يمشين خلف المحفة يتبعهن وصيفاتهن، ولم يكن حاضرًا منهن إلا اثنتان، وكان يسير في ركاب الموكب ثلة من الجنود الذين على ما يظهر قد جُنِّدوا من قبائل البدو؛ لأنهم كانوا مسلحين بالعِصِيِّ الخاصة المعقوفة التي تحملها تلك القبائل، كما كان كل واحد منهم يحلي شعره بريشتين، ويُرى «حويا» بين هذه الثلة من جنود الحرس، ولكنه كان يلبس ملابس عادية، ونشاهد كاهنًا يحرق البخور أمام المحفة الملكية، في حين نجد على رأس الموكب طائفة من الغلمان والرجال يرقصون بحركات عنيفة، وهؤلاء قد يكونون هتافين كما هي الحال في كل زمان أو متفرجين يعبرون عن شعورهم بالفرح لهذه المناسبة، وقد كانت تتبع الموكب الملكي عربات ملكية يحرسها سائسون. والظاهر أن الحفل كان مجرد استعراض أو تمثيل عودة الموكب الملكي.
أما الجزية التي أحضرتها الأمم الخاضعة، فكانت محمولة أمام الموكب يحرسها الشرطة، وجزية الشمال يحوي عربتين وأربع ركائز من النحاس وعددًا عظيمًا من الأواني المنمقة وأواني أخرى عليها أغطيتها في صورة رءوس حيوانات قد وُضعت على قواعد لأجل أن يفحصها الفرعون. أما جزية الجنوب فخاصة بمدنية هذه الأصقاع، وتحتوي على عبيد وُضعوا في الأغلال، وقد ساروا فرادى وأزواجًا وأولادهم ونساؤهم خلفهم. كما تحتوي على جلود فهود، وحلقات من الذهب، وحليات مزينة بالأزهار والنباتات أيضًا. هذا إلى حقائب ملأى بالتبر والعاج وسن الفيل والقردة الحية والغزلان وفهد.
وقد كان عدد العبيد من السوريين يفوق عددهم من السودانيين؛ إذ نجدهم قد مُثلوا في تسعة صفوف يختلف عدد كل صفٍّ من أربعة إلى ستة، وكلهم ينتظرون مقدم الفرعون، وقد كانت كل طائفة في حراسة ضابط مصري وحارس. ولما لم تكن هناك أعمال حربية فلا بد أنهم كانوا عبيدًا أو رهائن لضمان الجزية المفروضة على بلادهم، ومعظم هؤلاء المساجين كانوا عبيدًا مصفدين بالأغلال. وقد لاحظنا حتى الآن أن معظم المناظر التي وصفناها كانت خاصة بالأسرة المالكة واستعراضاتها، غير أن «حويا» لم ينسَ أن يُظهر نفسه في أهم لحظة من لحظات حياته الحكومية؛ فقد صوَّر لنا منظر تنصيبه في وظيفة «المشرف على الحريم الملكي»، والمشرف على الخزانة، ومدير بيت الأم الملكية «تي».
«أحمس» كاتب الفرعون الحقيقي
كان «أحمس» هذا من خدام الفرعون المقربين، وكان متصلًا به اتصالًا شخصيًّا، وألقابه الحكومية هي: كاتب الفرعون الحقيقي، ومحبوبه، وحامل المروحة على يمين الفرعون، والمشرف على قاعة المحكمة، ومدير بيت «إخناتون». وقد كان يحمل غير هذه الألقاب بعض ألقاب شرف وهي: «حامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الذي على رأس السمار، والحارس لخطوات رب الأرضين.» وعلى أية حالٍ نلاحظ أن معظم موظفي «إخناتون» كانوا لا يحملون إلا ألقابًا حقيقية. أما ألقاب الشرف الجوفاء فقد اختُصرت، وأصبح عددها قليلًا بالنسبة للعهود السابقة، وهذا ليس بغريب عندما نعلم أن نظام هذا الملك في الحكم كان على أسس جديدة؛ ولذلك كان كل الرجال الذين في خدمته يحملون ألقابًا حقيقية.
«آني» قريب الفرعون
على أن هذه الظاهرة لم نجدها حتى الآن في أية مقبرة من مقابر هذه الجبانة؛ ومن ذلك نفهم أن «آني» هذا كان رجلًا رقيق العواطف حلو الشمائل؛ مما جذب إليه قلوب من كانوا في خدمته وأصدقائه. والواقع أن ما جاء من العبارات على هذه اللوحات يشعر بعطف وحنان وحب صادق، ومما يلفت النظر كذلك أن تقاطيع وجه «آني» قد مُثلت تمثيلًا صادقًا على هذه اللوحات، ومنها نفهم أن «آني» كان مرتفع السن عند وفاته، وأنه اعتنق مذهب «آتون» في أواخر أيامه. وهذا يتفق مع اللقب الذي كان يحمله في عهد «أمنحتب الثاني» وهو مدير بيت «أمنحتب الثاني»؛ وذلك أنه إذا كان فعلًا يشغل هذه الوظيفة في عهد «أمنحتب»، فلا بد أنه كان موظفًا مدة لا تقل عن خمسين سنة وعاصَر أربعة ملوك.
أما اللوحات التي أُهديت إلى «آني» فتستحق الذكر، وهاك وصفها:
- الأولى: لوحة قدمها «باخا» مدير الأعمال، ويُشاهد عليها وهو يقدم طاقة من الأزهار إلى «آني»، ويقول: إلى روحك طاقة من «آتون» ليمنحك النسيم، وليضم أعضاءك معًا، وليتك ترى «رع» عندما يشرق وتعبده، وليته يسمع ما تقول (راجع Ibid. p. 10. & Pl. XXI).
- واللوحة الثانية: أهداها كاتب يُدعى «نب وعوي» (Ibid. p. 10. Pl. XXI)، ويُرى في أعلى اللوحة واقفًا أمام «آني» قائلًا: تأمل الثور الذي قيل عنه «احضره». وفي أسفل يُشاهد «نب وعوي» يقود الثور إلى الأمام ويقول: لقد رأينا الأشياء الطيبة التي فعلها الحاكم الطيب، وكاتب موائد قربانه، لقد أمر له بدفن حسن في «إختاتون».
- واللوحة الثالثة: أهداها خادم كاتب الفرعون «آني» الذي يُسمَّى «آني من»، ويُشاهد وهو يقدم إناء ضخمًا من الخمر إلى «آني» قائلًا دع الخمر تُصب لك (راجع Ibid. p. 10, Pl. XXII).
- اللوحة الرابعة: يحتمل أنها كانت مهداة من سائق عربة «آني» المسمى «ثاي» وإن كانت النقوش لا تذكر ذلك، وقد مُثل عليها «آني» راكبًا في عربته وبجانبه «ثاي» يقود الجوادين (راجع Ibid).
- اللوحة الخامسة: قد أهداها «بتاح معي» وهو أخو «آني»، ويُشاهد الأخوان معًا على اللوحة، ويُوجد بينهما وجه شبه كبير (راجع Ibid. p. II, Pl. XXIII).
- اللوحة السادسة: وقد أهداها الخادم «آي»، ويُرى مقدمًا طاقة لسيده «آني» وهو يقول: لروحك (أو لحضرتك) طاقة من «آتون» الذي يحبوك ويحبك (راجع Ibid).
با آتون-محب
إبي
«بنثو» الطبيب الأول
كان «بنثو» يحمل الألقاب التالية: «كاتب الملك، والمدير الفرعوني، والخادم الأول للإله «آتون» في معبد «آتون» في «إختاتون»، والطبيب الأول والتشريفاتي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، ومقتفي قدمي رب الأرضين، والذي يقترب من شخص الفرعون وعظيم العظماء، والممدوح من الإله الطيب، والسمير رئيس السمار.» ومن هذه الألقاب نعلم أن هذا الموظف كان من الشخصيات البارزة في هذا العهد، ومن المقربين عند الفرعون، وبخاصة لأنه كان طبيبًا ماهرًا، ومما يؤسف له أن رسوم جدران مقبرة هذا العظيم وُجدت في حالة سيئة جدًّا؛ إذ قد تساقط معظمها، وكذلك لأن القبر كان قد اتُّخذ مسكنًا لبعض الأفراد الذين أرادوا أن يُدخلوا بعض التحسينات في داخله ليجعلوه صالحًا لسكناهم، والصور التي على الجدران كلها صور تقليدية من جهة الموضوع والفن؛ فنشاهد منظر ذهاب الفرعون لزيارة المعبد، وكذلك مكافأة المخلصين له في عملهم من الموظفين، ومنظر الأسرة المالكة على المائدة. ومن المدهش أن هذه المناظر التي كانت وقفًا في الأزمان السالفة على رجال من علية القوم مثل «بنثو»، غير أنها أصبحت تُرسم في بعض مقابر الموظفين في عهد «إخناتون».
نفر خبرو حر سخبر
ماع نختوف
وتدل ألقابه على أنه كان رجلًا مشغولًا طوال مدة خدمته الحكومية؛ إذ كان يحمل لقب المشرف على البنائين الذين كانوا يعملون في «إختاتون»، والواقع أننا عندما نفكر في عدد المباني الجديدة التي كان عليه أن ينجزها للفرعون، ورجال حكومته في أقصر زمن ممكن؛ أدركنا أن أولئك الذين كلفوا هذا العمل لم يعد لديهم من الفراغ شيء. وألقابه هي: مدير البنَّائين، ومدير بنَّائي آثار جلالته، ومدير بنَّائي رب الأرضين، ومدير البنَّائين في «إختاتون» ورجل البلاط الذي يتبع تعاليم جلالته.
«محو» رئيس الشرطة
وفي المنظر الذي نشاهد فيه الملك والملكة مغادرين أبواب المعبد نجد ثلة من الشرطة في ركابهما، وكذلك الوزير «محو» والكل يهرولون أمام العربة. حقًّا إن ذلك ليس بالشيء المتعب للجنود النشطين الذين كانوا يسرعون بعزم وقوة الشباب، ولكن «محو» كان يظهر عليه عدم الارتياح لهذا التمرين العنيف، وكان منظر الوزير البائس يثير الضحك وهو يتعثر في جريه، وكأنا نسمع دقات قلبه وسخطه وهو يجهد نفسه في السير بخطًا واسعة مع رفاقه الذين كانوا يبدون نشاطًا وحيوية في جريهم.
«باك» مدير أعمال محاجر الجبل الأحمر
كان «باك» هذا ابن أحد رؤساء النحاتين الذين قاموا بنحت الآثار العظيمة للفرعون «أمنحتب الثالث»، ووالده هو «مين» الذي تكلمنا عنه في عهد «أمنحتب الثالث» (راجع …)
وقد اقتفى «باك» خطوات والده؛ فكان يشغل الوظائف التالية: مدير أعمال محاجر الجبل الأحمر، والذي علمه جلالته بنفسه، ورئيس النحاتين للآثار العظيمة للملك في معبد «آتون» في بلدة «إختاتون».
«مري-إتي نيت» الكاهن المطهر الثاني
«سارا بيخينا» المسمى «أبي» كاهن الإلهة «عشتارت» والإله «بعل»
«معي» المشرف على جياد الفرعون
«رع نفر» المشرف على جياد كل الإصطبل
وكان «رع نفر» كذلك أحد الموظفين القائمين على صيانة جياد الفرعون؛ إذ كان يحمل لقب «المشرف على جياد كل الإصطبل».
«بارت نفر» ساقي الفرعون
توتو
لقد دلَّ البحث العلمي على أن «توتو» هو نفس «دود» الذي ورد في خطابات «تل العمارنة»، وهو الذي لعب دورًا مشينًا على حسب ما توحي به هذه الخطابات التي تُبودلت بين الفرعون وأمراء آسيا؛ مما أدى إلى سقوط الإمبراطورية المصرية.
وألقابه كما جاء في قبره هي: التشريفاتي، وتشريفاتي سيد الأرضين، والخادم الأول للفرعون، «نفر خبرو رع-وع-ن-رع» في بيت … معبد «آتون» في «إختاتون»، والخادم الأول للفرعون «نفر خبرو رع-وع-ن-رع» في السفينة، والمشرف على كل أوامر رب الأرضين، ومدير كل أعمال جلالته، والمشرف على كل الفضة والذهب، ملك رب الأرضين، والمشرف على الخزانة في «آتون» في معبد «آتون» في «إختاتون» الفم الأعلى لكل الأرضين، والخادم الأعظم للفرعون، والتابع الأول (؟) وخادم «وع-ن-رع» ومدير كل أعمال جلالته.
«رع موسى» المدير الملكي
«سوتي» حامل العلم
«حاتياي» مدير مخازن معبد آتون
ولذلك يُحتمل أن يُوحد هذا الرجل بصاحب المقبرة المذكور سالفًا.
«سوتاوي» مدير خزانة رب الأرضين
كان «سوتاوي» يحمل لقب مدير خزانة رب الأرضين.
«مري رع الثاني» كاتب الفرعون
وأمام الفرعون رُسم ستة صفوف تمثل إحضار العطايا بوساطة قبائل عبيد الجنوب، وفي الصف الأعلى نشاهد نماذج الهدايا، وهذه كانت تُقدم في صورة مجاميع مزخرفة على حسب ذوق الأهالي؛ فمثلًا نجد هنا كومة مزخرفة بالجلود وذيول الحيوان، والخواتم من الذهب مدلاة في هيئة سلاسل طويلة، في حين نرى كذلك صفًّا من ريش النعام يزين الجانب الأعلى، ويُشاهد هنا كذلك جزية أخرى مؤلفة من الدوم يحتمل أنها صُنعت من المعدن الثمين، وخلف ذلك يوجد أطباق عظيمة عليها ركائز من المعادن، وحقائب من التبر، وخواتم من الذهب، ودروع وسهام وأقواس، وأسفل ذلك نرى هدايا مماثلة للسالفة مقدمة من رؤساء بلاد «واوات» أو «يام» في بلاد النوبة، كما نشاهد من بينها بعض الحيوان مثل الفهود الأليفة والغزال (؟).
وفي الصف الثالث نشاهد أسرى ضمن الجزية، ومن بينهم نحو اثنتي عشرة جارية قد وُضعت الأغلال في أعناقهن وفي أيديهن، وكل واحدة منهن كان يتبعها ثلاثة أطفال أو أربعة، والكبار من الأطفال يسيرون بجانب الجواري، أما الصغار فقد حُملن على ظهورهن في سلات، وهذه على ما يظهر كانت عادة شائعة. أما الصف الذي يلي ذلك فيمثل منظرًا حربيًّا، ولكن من غير أسلحة، والظاهر أنه منظر ألعاب رياضية، ويشتمل على المصارعة ولعب العصا والملاكمة.
وفي هذه الأثناء نشاهد «مري رع» ومعه أربعة من الموظفين ينزلون الطوار ليقدموا أنفسهم للفرعون، ومعهم أتباعهم من حاملي المراوح وغيرهم ممن اشتركوا في هذه الحملة أو الرحلة، وفي الوسط نجد الصبية يحيونهم، وكذلك نرى جماعة صغيرة يشتركون في الاحتفال بمنح «مري رع» عقدين من الذهب.
- (أ)
ليت الإله الطيب يعيش، وهو الذي يفرح بالصدق، وسيد كل ما يحيط به «آتون» رب السماء ورب الأرض «آتون» الحي، العظيم، الذي يضيء الأرضين، ليت الوالد (المقدس والإلهي) يعيش: رع يعيش، وهو «حور أختي» الذي يفرح على الأفق باسمه: الحرارة التي في «آتون» والمعطي الحياة أبد الآبدين، آتون العائش، العظيم في عيد ثلاثيني، والذي يسكن في معبد «آتون» في «إخناتون».
- (ب)
رع يعيش حاكم الأفق، الذي يفرح على الأفق باسمه رع الأب الذي عاد في صورة «آتون».
والعبارة الأخيرة تشير إلى عودة إله الشمس «رع» إلى حكم العالم بعد أن رفع نفسه إلى السماء كما فصلنا ذلك في كتاب الأدب عند الكلام على قصة هلاك الإنسانية (راجع الأدب المصري القديم، ج١، ص٧١–٧٤).
تدل شواهد الأمور على أن إحدى لوحات حدود مدينة «إختاتون» تشير إلى أن «تحتمس» الرابع قد قام بمحاربة كهنة «آمون»، غير أن الفقرة التي جاء فيها ذكر هذا الحادث مهشمة تمامًا.
عُثر في حفائر الجامعة المصرية على لوحة «لتحتمس الثالث (؟)» يتعبد لقرص الشمس، وتتدلى منه الأيدي التي يمتاز بها «آتون» معبود «إخناتون».
يدل فن عصر «تحتمس الرابع» على أنه قد اتخذ صورة جديدة تحوي تمثيل الحقيقة والطبيعة.
عُثر على قطعة حجر في «تل العمارنة» يظهر عليها الملك إخناتون يقرِّب إلى «آتون» القربان، وقد وصف هذا الإله بأنه ساكن في بيت الملك «تحتمس الرابع» في بيت آتون في «إختاتون».
عُثر على تماثيل مجاوبين للمك «تحتمس الرابع» تشبه تماثيل «إخناتون»؛ لأنها لم يُكتب عليها إلا اسم الملك، وليس عليها أي صيغة سحرية.
عُثر على أشياء مكتوب عليها اسم «تحتمس الرابع» في العمارنة (انظر تحتمس الرابع ص؟).
ولكن أهم برهان قد وجدناه على هذا الجِعْران؛ إذ هو برهان قاطع إذ لم نجد فيه أن آتون كان قد اعتُبِر إلهًا منفصلًا في عهده عن إله الشمس، بل كان يُعبد بوصفه إله المعارك الذي أعطى النصر للفرعون، وأمن تفوُّقه وتسلطه على كل العالم، وجعل كل الإنسانية رعايا لقرص الشمس، والظاهر أن هذا الجِعْران قد نُقش ليخلد ذكرى حملة في سوريا وفلسطين، ومن المحتمل أن تكون الحملة التي قام بها في حكمه أو زيارة قام بها أمراء آسيا يحملون إليه الجزية (راجع J. E. A., XXII, p. 23).
Ibid, Vol. I, Pl. XXXVII, Tomb of Meryra,
Ibid, Vol. IV, Pls. XVI, XXIII, XXIX, XL,
Ibid, Vol. VI, Pl. XV, Tutw,
Ibid, Vol. IV, Pls. XXXII, XXXIII, Ani. And, Sandman. Hid, PP. 10ff.
١٩٤ لوحة في متحف «برلين».
٨٢ لوحة في المتحف «البريطاني».
٥٠ لوحة في متحف «القاهرة».
٢٣ لوحة في متحف «إشموليان». اثنتان منها صحيحة فقط.
٧ لوحات في متحف «اللوفر».
لوحة واحدة في متحف «القسطنطينية» من «تل الحسي» في فلسطين.
٤ لوحات في حيازة «روستوفيتز».
… لوحة في متحف «ليننجراد».
لوحة واحدة عند «أوبرت».
لوحتان في متحف «متروبوليتان».
لوحة واحدة في متحف «بركسل».
٨ لوحات قطع ملك جمعية الحفر الإنجليزية.
وأوثق المصادر التي يُعتمد عليها الآن لدرس هذه اللوحات اثنان وهما:
(1) Knudtzon, “Die el Amarna Tafeln” (1907–1715).
(2) Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, (1939).
ويُلاحظ أن كتاب الأستاذ «مرسر» قد أُلف على ضوء كل التراجم الحديثة والإضافات التي عُملت بعد سنة ١٩١٥، وسنعتمد عليه في دراستنا هذه عند الإشارة إلى الخطابات.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الكثير من متون سجلات «بوغازي كوي»، وكذلك من خطابات «تل العمارنة» لا يزال غامضًا، غير أن ما حُلَّ منها تمامًا قد كشف النقاب عن علاقة مصر ببلاد «خيتا» وغيرها من البلدان المتاخمة التي كانت لها صلة بالدولة الأخيرة أو بمصر في تلك الفترة.
أما لفظة «خبيرو» فقد جاءت في الخطابات التي كان يرسلها «عبدي خيبا» للفرعون (راجع الخطاب ٢٨٦ سطر ١٩، ٥٦). أما عن توحيد لفظة خبيري بلفظة «ساجاز» فقد فحصه الأستاذ «بول» Bôhl (راجع “Kanaanâer und Hebraier”, p. 87)، وأثبت في النهاية أنهما كلمتان مترادفتان وحسب، وإن كانت كلمة «ساجاز» تدل على معنى أوسع (راجع Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, p. 844).
إلى نوموريا ملك مصر، أخي وصهري الذي أحبه والذي يحبني، هكذا يتحدث «دوشرتا» ملك «متني» الذي يحبك وصهرك: إن حالتي حسنة، وأرجو أن تكون حالتك حسنة! وكذلك حالة بيتك و«تدوخيبا» ابنتي وزوجك التي تحبها أرجو أن تكون ناعمة البال! وكذلك أرجو أن تكون حالة أزواجك وأبنائك وعظماء رجالك وعرباتك وخيلك وجنودك وبلادك، وكل ممتلكاتك؛ حسنة جدًّا، وإن عشتارت ربة «نينوة» وسيدة الأراضي تقول: إني سأذهب إلى مصر الأرض التي أحبها وسأعود منها. وفي الحق لقد أرسلتها الآن وقد سارت في طريقها، والواقع أنه في عهد والدي … ذهبت السيدة إلى تلك الأرض، وقد كانت مبجلة طول مكثها هناك؛ ولذلك أرجو يا أخي أن تبجلها عشر مرات أكثر من قبل، وأرجو أخي أن يبجلها ويعيدها في فرح، وإني أرجو أن تعود، وليت «عشتار» إلهة السماء تحمي أخي وتحميني، وليت سيدتنا تمنح كل منا مائة ألف سنة سرورًا عظيمًا، وبذلك سنفعل الخير. إن «عشتار» هي إلهتي. أليست إلهة أخي — السنة الخامسة والثلاثون، الشهر الرابع من الشتاء، كانوا في الجبال الجنوبية …