توت عنخ آمون
ولقد أدَّى موت «سمنخكارع» أن يعتلي «توت عنخ آمون» عرش الملك، ومعه زوجه «عنخس-ن-با آتون» بنت «إخناتون» و«نفرتيتي».
وقد ظل كثير من الحقائق التاريخية التي تتعلق «بسمنخكارع» و«توت عنخ آمون» غامضًا إلى أن كُشفت مقبرة الأخير وفُحصت كنوزها فحصًا علميًّا دقيقًا، فاتضح أن كثيرًا من الحلي والجواهر التي وُجدت مع «توت عنخ آمون» كانت في الأصل قد صُنعت للملك «سمنخكارع» وحُليت باسمه، ثم نرى أثر التغيير باديًا عليها؛ فمُحي اسم «سمنخكارع» ونُقش مكانه اسم «توت عنخ آمون». وقد أرتنا هذه الكشوف أن النقوش الدينية التي كانت في الأصل «لسمنخكارع» لا تمت بصلة إلى ديانة «آتون»، بل كانت الأناشيد الدينية فيها تتجه إلى الإله «رع»، كما وُجدت أشكال آلهة لها رءوس حيوان وجسوم إنسان، وهذه بداهة لم تُصنع في «إختاتون» مقر عبادة القوة الشمسية الواحدة، بل إنها من صنع «طيبة» التي اتخذها «سمنخكارع» مقرًّا له بعد أن غادر عاصمة أخيه. وهذه الدلائل كلها تثبت لنا أن «سمنخكارع» قد عاد إلى الشعائر الجنازية القديمة الخاصة بالدفن.
والظاهر أن «سمنخكارع» قد حمل مقدارًا عظيمًا من سبائك الذهب التي كانت توجد بكثرة في «إختاتون»، وأن دالته على أخيه وسلطانه عليه كانا كفيلين بإجابته إلى كل ما يرنو إليه، وهذا يعلل لنا السر في إسراع «توت عنخ آمون» ورائديه، وبخاصة «نفرتيتي» والكاهن «آي» بالعودة إلى «طيبة»، فقد رموا من وراء ذلك الاستيلاء على ذلك النضار الذي حمله معه «سمنخكارع» من «إختاتون» أولًا والقضاء على التأثير الذي تركه «سمنخكارع» على كهنة «آمون» مدة إقامته ملكًا في «طيبة» ثانيًا بنشر فضائحه وعلاقته المشينة بأخيه كما يدعي البعض، وقد تم لهم ما أرادوا؛ فتملكوا أثاث «سمنخكارع» وجواهره، واستولوا على النضار الذي جلبه من «تل العمارنة»، واستلبوا كل الهدايا التي أغدقها عليه «إخناتون»؛ وبذلك حرموا «سمنخكارع» إقامة شعائر دينية تليق بملك مثله، كما حرموه أثاثه الجنازي. وليس بخافٍ أن «توت عنخ آمون» ذلك الصبي الساذج الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره يقصر عقله وتفكيره عن تدبير مثل هذه المكايد لأخيه. أما الرأس المفكر والعقل المدبر فهو ذلكم الداهية الكاهن «آي» الذي كانت له أطماع واسعة، وأهداف بعيدة يسعى إلى تحقيقها، ولكنه كان يتستر ويتخفى في كل خطوة يخطوها؛ لأنه ربما كان يخشى شخصية قوية هي شخصية القائد «حور محب» الذي كان يسيطر على جيش البلاد في تلك الآونة، وإن كانا في الظاهر يعملان معًا؛ إذ إنهما من رجال الجيش كما سنرى بعد.
بدا على المسرح الآن أمامنا بطلان، كلاهما طاعن في السن، وكلاهما طامع في العرش، ولكل منهما طريقته التي يراها توصله إلى مطمحه؛ «فآي» يتخذ السياسة والدهاء ونفوذه في بيت الملك ونقضه للدين الجديد، وعودته لعبادة «آمون» والقوة أيضًا وسائله لتحقيق ما تصبو إليه نفسه، و«حور محب» يرى أن القوة هي كل شيء، وأنه ما دام يأخذ بزمام الجيش فإنه لا بد واصل إلى ما يريد، واحتدمت الغيرة الشديدة بين الرجلين، واشتعلت نار الحقد بين القلبين، وأخذ كل منهما يعمل سرًّا في هدم صاحبه بدعوى الإخلاص للملك، وما الملك في أيديهما إلا ألعوبة يحركانها فتتحرك، ويقفانها فتقف، وليس لأحد منهما في خدمة الملك رغبة، وإنما لكل منهما في ذلك غاية، هي اغتصاب ملكه والوثوب على عرش آبائه.
عاد «توت عنخ» إلى «طيبة» كما قلنا، وبقي محتفظًا باسمه المركب مع كلمة «آتون» مدة ما، فصار يُدعى فيها «توت عنخ آتون»، ويعتقد بعض المؤرخين أنه غيَّر اسمه على إثر انتقاله إلى العاصمة القديمة «طيبة»؛ فصار يُدعى «توت عنخ آمون» اقتداء بالكاهن «آي» الذي عاد وقتها إلى عبادة «آمون» ثانية، وليس هناك ما يبرر هذا الإسراع في تغيير الاسم؛ فإن اسم «آتون» لم يكن ممقوتًا في «طيبة» أو في غيرها؛ لأنه يدل على عبادة «رع» الذي يؤمن به الجميع، وأكبر دليل على عدم مقتهم لهذا الاسم أن أعداء مذهب «إخناتون» لما أرادوا تشويه مقابر «إختاتون» (تل العمارنة) ومعابدها قصروا هذا التشويه على محو اسم «إخناتون» نفسه، ولم يتعرضوا لرمز الشمس «آتون» بالمحو أو التشويه، والظاهر أن «توت عنخ آمون» قد غيَّر اسمه بعد تركه «إختاتون» واستقراره في «طيبة»، فإن أثاثه الجنازي عدا أساس قصره الذي حمله معه في قبره يحمل اسم «توت عنخ آمون»، وأهم ما يسترعي النظر من التناقض في نقش اسم هذا الملك ما شوهد على كرسي عرشه وكرسي آخر له نموذجي، فقد نُقش على الأول صورة الفرعون وزوجه باسميهما مركبين مع لفظة «آمون»، ومع هذا نرى فوقهما «آتون» مرسلًا أشعته التي ينتهي كل شعاع منها بيد إنسان، فضلًا عن أن قرص الشمس هذا يكتنفه طغراء «آتون» من جانبيه، ونرى نفس الظاهرة بادية على ظهر الكرسي عينه، فإننا نجد اسم الملك مركبًا مع لفظة «آتون» كذلك. أما الكرسي الثاني وهو النموذجي فنرى أن الاسم المنقوش عليه هو «توت عنخ آتون» أيضًا أينما وُجد الاسم. ولعل هذين الكرسيين قد صُنعا في «طيبة» قبل أن يغير الملك اسمه، ولا داعي لأن نفترض أنهما صُنعا في «إختاتون» ثم أُرسلا إلى «طيبة»؛ لأنه لم يكن ثم كما قلنا من قبل كفر وجحود في النطق بلفظة «آتون» فيها، ومن الجائز أن يكون «توت عنخ آتون» قد غيَّر اسمه على ظهر كرسي عرشه، وهو الجزء البادي من الكرسي عند جلوسه عليه لأسباب سياسية خاصة، وترك اسمه الأصلي على الكرسي المثالي ليُدفن معه، وهذا دليل على أن عبادة آتون لم تُمحَ بسرعة جارفة بعد موت «إخناتون» كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
وعندنا من آثار «توت عنخ آتون» لوحة صغيرة من الحجر الجيري الأبيض محفوظة الآن بمتحف «برلين»، وهي تمثل «توت عنخ آتون» بلباس فضفاض يقدم القربان للإله «آمون رع» والإلهة «موت» زوجه، وهي لذلك ذات قيمة تاريخية عظيمة؛ لأنها تصور بصفة قاطعة رجوع الملك إلى عبادة آلهة طيبة مع احتفاظه باسمه الأصلي «توت عنخ آتون». ولا يمكننا أن نحدد بالدقة التاريخ الذي غيَّر فيه هذا الملك اسمه، وكل ما نعرفه أنه كان قبل السنة الرابعة من حكمه لا يحمل اسمه الأصلي المركب مع لفظه «آتون»؛ إذ وجدنا في قبره زجاجة نبيذ مختومة، وقد نُقش على الختم السنة الرابعة من حكم «توت عنخ آمون».
مكثت «طيبة» طيلة مدة حكمه مسرحًا للحكم بعد انتقاله إليها من «إخناتون»، وعلى الرغم مما بين «حور محب» و«آي» من تشاحن على الملك إلا أنهما أخذا يعملان معًا في الظاهر وكل منهما طامع في أن يتولى العرش بعد «توت عنخ آمون»، وسنرى فيما بعد أن الذي تولى عرش الملك بعد «توت عنخ آمون» هو الكاهن «آي» ومن بعده «حور محب»، ثم استولى مكانه «رعمسيس الأول»، وكلهم من رجال الجيش، كما سنأتي على كل ذلك بالتفصيل.
(١) «حور محب» الوصي على العرش والقائد المظفر في حروب «توت عنخ آمون»
تفزعت البلاد ووقف كل مصري خائفًا يترقب؛ «فالخيتا» بالمرصاد تهدد الكنانة وما بقي من أملاكها بالغزو، والشئون الداخلية في مصر مختلة نتيجة الارتباك الديني والفوضى الاجتماعية التي أعقبت إصلاحات «إخناتون» فتطلعت البلاد إلى يد قوية حازمة تبسط سلطانها على شعب مصر، وترهب في نفس الوقت أعداء البلاد، ووجدت رغبتها في القائد العظيم «حور محب»، فتولى زمامها وصيًّا على عرش الملك الصغير.
والظاهر أن «حور محب» كان من عامة الشعب ولا ينتسب إلى أسرة عريقة في المجد من بلدة «حت نسوت» من أعمال المقاطعة السابعة عشرة من مقاطعات الوجه القبلي. وقد عاش في كنف إله مقاطعته المحلي المسمى «حور». ولم يكن «حور محب» مغمورًا في حياته أو ظهر فجاءة في هذا الوقت العصيب، بل كان فذًّا في كل عمل وُكل إليه أمره؛ فكان كاتب المجندين الموفق في عهد الفرعون «تحتمس الرابع»، ثم ارتفع في عهده أيضًا إلى مرتبة «مربٍّ قدير لإحدى بناته»، ثم صعد إلى وظيفة «قائد لكتائب الفرسان»، ثم عهد إليه مولاه بمهمة خطيرة لا ينهض بأعبائها على الوجه الأكمل سواه، تلك هي محاربة كهنة «آمون» وانتزاع الرياسة الدينية لكهنة القطرين من أيديهم، وليس ذلك بالأمر الهين في هذا الوقت فهم أصحاب نفوذ كبير، وإليهم آلت السلطة المسيطرة في البلاد، هذا إلى أن إعلان الفرعون الحرب على كهنة «آمون» سابقة خطيرة لم يعتدها القوم ولم يألفوها من قبل، فإقدام الفرعون على ذلك يدل على أنه واثق تمام الوثوق من مقدرة ذلك القائد الذي عهد إليه بالأمر. وقد صدقت فراسته، ولم يخيب «حور محب» ظنه فانتصر فعلًا على هؤلاء القوم، وانتزع منهم تلك الوظيفة التي كان شاغلها يسيطر على المرافق الدينية والاقتصادية في كل المقاطعات، وهي وظيفة «رئيس الكهنة لكل آلهة القطرين»، وهنا ارتفعت منزلة «حور محب» في عين سيده فولاه راضيًا هذه الوظيفة مكافأة له على إخلاصه وصدق عزمه، وإن كان من رجال الجيش، وليس من كهنة الدين، على أن هذه الوظيفة لم تستطع أن تبقى طويلًا خارج حدود الكهنة، فقد اضطر «أمنحتب الثالث» أن ينزل عنها مرغمًا إلى الكهنة فرجعت إلى حوزتهم مرة ثانية إلى أن جاء «إخناتون» وانتزعها منهم إلى الأبد. وقد بقي «حور محب» — على ما يبدو — محتفظًا بوظيفة قائد الجيش في عهد إخناتون، كما كان كذلك مديرًا لأشغاله. والظاهر أنه لما أحدث «إخناتون» ذلك الانقلاب الديني غيَّر «حور محب» اسمه مسايرة للجو الذي يعيش فيه؛ فسمَّى نفسه «آتون-محب» (يعني آتون في عيد)، وقد رأينا هذا الاسم على قبر في «تل العمارنة» يحمل صاحبه لقب «قائد الجيش»، ثم مُحي ثانية، غير أننا لا نقطع بصحة هذا الاستنباط.
عظيم العظماء، وقائد القواد، والرئيس الأعلى لمجلس الحكام، والمنصب من الفرعون رئيسًا للقطرين، والقائد الأعلى لكل جيوش الملك، ومدير بيت الفرعون.» كما قال في هذه النقوش متحدثًا عن نفسه: «لقد وضعت القوانين للفرعون، وإن جلالته مسرور من كفايتي، وحسن إدارتي للبلاد.» كما حدثنا عن نفسه في وثيقة توليته أمور العرش فقال: «قد اغتبط الملك لحسن اختياره إياي؛ ولذلك نصبني رئيسًا أعلى للبلاد، ونفذت له قوانين هذه البلاد كلها، ولم يشركني أحد في ذلك، وكان الناس يُعجبون بما تنطق شفتاي. وإذا ما ناديت أحدًا بصوتي أمام الملك اهتزت أركان القصر، ولكني إذا حادثت جلالته مجيبًا على أسئلته سُر بعذب منطقي الذي وهبني إياه الإله «تحوت» رب العلم، و«بتاح» (رب الحرف والصنائع والجمال)، وهكذا حكمت القطرين عدة سنين، وكان رجال مجلس الحكام ينحتون أمامي عند مدخل القصر الملكي، وأمراء البلاد الأجنبية من الجنوب إلى الشمال يرفعون إلي أكف الضراعة كما يرفعونها للإله (أي الملك)، وكل شيء يجري وفق ما أريد، والناس يتمنون لي السعادة والصحة، والشعب يحبني كما يحب رب الأرضين (أي الملك).
هذا معنى ما قاله «حور محب»، ولا شك في أن مثل تلك الألقاب الضخمة، وهذه السلطات الواسعة التي نسبها لنفسه لا تكون إلا لحاكم بأمره، ولم يصل إليها حتى «سنموت» الذي مر الكلام عنه، وإن كان وجه الشبه بينهما عظيمًا. ولم يذكر لنا في هذا النقش اسم ذلك الذي ولَّاه قيادة الناس، وجعل له الأمر النافذ فيهم، والهيمنة على شئون البلاد، ولكن الآثار تدلنا بجلاء على أن ذلك الملك الذي أمده بكل تلك السلطة هو «توت عنخ آمون»؛ فلقد وجدنا تمثالًا «لحور محب» جالسًا في مقبرته وفي يده المرسوم الملكي الذي أعطاه فيه «توت عنخ آمون» كل هذه السلطة الواسعة، وقد نُقش فيه اسم هذا الفرعون.
وقد كان أهم عمل قام به «حور محب» في عهد «توت عنخ آمون» هو الحروب التي أشعل نارها وظفر بالانتصار فيها نصرًا مؤزرًا، ولقد اتخذ ذلك النصر فيما بعد ذريعة تؤهله لاعتلاء العرش بعد الملك «آي» كما سترى.
وكانت أولى حروبه تلك التي ادَّعى فيها أنه بدأ بإعلانها على «خيتا»، ومن جهة أخرى ادعى أهل «خيتا» أنهم هم البادئون بشنها على مصر، ويزعم «حور محب» أنه انتصر على «خيتا» في هذه الحرب كما ينقض «خيتا» هذا الزعم ويقررون أنهم هم المظفرون فيها.
وإذا استعرضنا الأمر في شيء من التبصر أمكننا أن نزيل هذا التناقض ونخرج بوقائع نرتاح لصحتها بعض الارتياح. فإنه كان من البدهي أن تأخذ النعرة ملك «خيتا» ويقدم سيدها «شوبيليوليوما» على الانتقام من مصر لقتلها ابنه الذي استُدعي إليها ليكون زوجًا وملكًا، فيشن الغارة عليها، ويجيء من بعده خليفته «مورسيل» فيسير في تلك الطريق التي اختارها سلفه انتقامًا للشرف الضائع والكرامة المجروحة، وأخذًا بثأر الدم الزكي المسفوح.
على أن هذا السلام الذي ساد جوَّ الدولتين «خيتا ومصر» قد مكن المصريين من متابعة حروبهم التي شنوها على أهل «فلسطين» بسبب ثورتهم على الحكم المصري، ومحاربتهم الأمراء الموالين لمصر، وكان أكثرهم إثارة للقلاقل قوم «خبيري» (اليهود فيما بعد)، ولكن «حور محب» تمكن من إخماد ثوراتهم، وانتصر عليهم نصرًا مبينًا. وكان يرافقه في هذه الحرب مليكه «توت عنخ آمون»، ونستخلص ذلك من لقب «حور محب» الفخري الذي خلعه على نفسه: «إنه مصاحب سيده في المعركة في ذلك اليوم الذي انتصر فيه على الآسيويين.»
ونشاهد فوق الصور المذكورة جنودًا من الآسيويين قد أرسلوا لحاهم، وجثوا يتوسلون إلى «حور محب» أن يعفو عنهم، وترى من بين المقهورين لوبيا، وزنجيا، وخلف هذين وأولئك آسيويون آخرون قد زالت لحاهم، وأرسلوا ذؤابات من الشعر على أصداغهم، وارتدوا ملابس سورية، ومعهم خيلهم، وأسبلوا خصلات من الشعر تدل على أنهم آريون، وترى نقوشًا أخرى تصف ما حاق بهؤلاء المنكوبين من جراء ولائهم لمصر؛ فتحدثنا بأن مساكنهم قد حُرقت، وحقولهم قد خُربت، واستولى عليها غيرهم، وأصبحوا جياعًا بلا مأوًى يهيمون كالسائمة بين الشعاب والجبال؛ ولذلك جاءوا إلى الفرعون يحتمون بسيفه الصارم، ويعتزون بقوته الغالبة، وترى بجانب هذا الحديث مترجمًا يحمل إلى «حور محب» — وقد بدا في جيده طوق من الذهب — قرار الفرعون في صدد هؤلاء المغلوبين على أمرهم، وهو يقضي بحمايتهم، وضمان حدود بلادهم.
وهذه الحال السيئة التي يعانيها أتباع مصر في البلاد الآسيوية هي نفس الحال التي كان يرسف في أغلالها أهل «لوبيا» وأهل «كوش» الذين كانوا يدينون لأهل مصر بالولاء والسلطان، فلا عجب أن تأخذ النخوة «حور محب» وينهض ليقوي نفوذ مصر في هذه الممتلكات، ويرجع إليها هيبتها، ويرد لها ما ضاع من ولاء القوم وخضوعهم. ويظهر أن «حور محب» قد أفلح في إنجاز هذا العمل، فإننا نقرأ في بعض النقوش بيانًا بالأسلاب التي عاد بها من بلاد «النوبة»، وفي أخرى أنه صعد بجيشه في النيل سفيرًا ملكيًّا لقهر العصاة من أهالي «كوش»، ثم نراه يظهر بعد ذلك أمام الملك على رأس رجال المجلس الأعلى يقدم الجزية، ثم نشاهد جزية الشمال (آسيا) وجزية الجنوب (بلاد كوش) محمولتين أمامه، و«حور محب» بين يديه يقدمهما لمولاه.
ولا نزاع في أن الملك المذكور الذي قُدِّمت إليه الجزية ووقف «حور محب» بين يديه هو الملك «توت عنخ آمون»؛ فقد رأينا منظرًا مطابقًا لهذا المنظر في مقبرة «حوي» وقد استُبدل باسم «حور محب» اسم «حوي» نائب الملك «توت عنخ آمون» في بلاد «كوش».
(٢) سلطان مصر في بلاد كوش
إن رؤساء «رتنو العليا» الذين لم يعرفوا مصر منذ أيام الآلهة يلتمسون الصلح من جلالته ويقولون: «امنحنا نسيم الحياة الذي تهبه أيها السيد، وسنتكلم عن قوتك الظافرة، ولا يوجد ثوَّار بجوارك بل كل أرض في سكينة.
والغريب في الأمر أن نائب الملك في «كوش» يقدم أيضًا جزية بلاد «آسيا» مع جزية بلاد النوبة، ولا توجد له علاقة بآسيا ولا الآسيويين، ولكن مما يخفف حدة هذه الغرابة أن «حور محب» كان يقدم أيضًا جزية بلاد «آسيا» و«كوش» في آن واحد، وإذا كان «حور محب» وصيًّا على العرش، فقد كان «حوي» نائبًا للملك ويُلقب بابن الملك، فلا بد أن مكانته كانت عظيمة في البلاط، وقد لا تقل عن مكانة «حور محب».
كل هذه المناظر التي سجلناها وفصلناها تدلنا على أن سلطان مصر كان لا يزال ممتدًّا على بعض أجزاء «آسيا» وبخاصة «فلسطين»، وأن «لحور محب» وقوته الحربية الفضل كل الفضل في إنعاش مصر وإرجاع ممتلكاتها إليها، وامتداد سلطانها الذي كان قد تقلص عن آسيا كلها تقريبًا في عهد «إخناتون»، كما بدأ وهو وصي على العرش يعيد إلى الكنانة الأمن والرخاء في ظل قوانين عادلة محترمة كما سيجيء بعد.
(٣) أعمال «توت عنخ آمون» السلمية
لقد وجدت المعابد قاعًا صفصفًا، والجيوش المصرية منهزمة في فينيقية، والآلهة قد ولَّت ظهورها للأهلين في طول البلاد وعرضها، فلا تسمع نداءهم ولا تستجيب دعاءهم، ولكنني أصلحت الحال؛ لأن الإله نفسه قد صوَّرني، وأرواح «عين شمس» مجتمعة قد سوَّتني، وإنني ملك رصين مخلد، وحاكم يعمل لسعادة آبائه الآلهة، ويسيطر على أرض «حور» (مصر)، وتنحني أمامي البلاد الأجنبية وغيرها إجلالًا، وقد أعدت بناء ما هدمته الأزمان الغابرة، وقضيت على الكذب ودعمت الصدق.
ولقد رسم «توت عنخ آمون» هذه الخطة لنفسه في جلسة ملكية في قصر «تحتمس الأول» بطيبة مقر حكمه الجديد؛ ولذلك كان أول عمل قام به أنه عظم شأن الإلهين «آمون طيبة» و«بتاح منف»، ولم يثنه ذلك عن التفكير في الآلهة الآخرين؛ فقد أرجع عبادتهم في معابدهم، ورصد لهم دخلًا عظيمًا، وبنى لهم سفن الآلهة التي كانت تُقام في عرض النيل لتستعمل في المحافل، وعند زيارة إله لآخر، ونصب لخدمتهم كهانًا وخدمًا من بين عظماء مدنهم، ممن صح نسبهم، وثبتت عراقتهم، بخلاف أولئك الذين رقَّاهم «إخناتون» وقلَّدهم هذه الوظائف وهم من سوقة الناس وعامتهم، كما وهب خزائن هؤلاء الآلهة مالًا وفيرًا، ورصد للمعابد من غنائم الحرب القينات والعبيد، وخصص لها المغنيات والراقصات لينهضن بالشعائر الدينية التي كان لهن دور كبير فيها.
ويعتقد العالم «لوكاس» أن هذا القبر كان في الأصل للكاهن «آي» صاحب الكلمة العليا في «طيبة» من عهد «توت عنخ آمون»، وليس معنى هذا أن «توت عنخ آمون» لم يفكر في بناء مثوًى له يضم رفاته بعد مماته، ولم يتخذ العدة لنحت قبر يتفق مع مكانة صاحبه وجلاله، بل تدل شواهد الأحوال على أنه قد أخذ فعلًا في نحت مقبرة له في وادي الملوك، وهو تلك التي وُجد عليها اسم «آي» ممحوًّا، ولكنه ما كان يتعجل الأمر، وهو لا يزال غض الشباب طري الإهاب، فقد تولى ملكه في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره فما الذي يتعجله وهو ما برح في مقتبل السن، ينتظره العمر الطويل، والحياة الحافلة، وما دام قد أعدَّ كل أثاثه الجنازي فأي داع يضطره إلى الإسراع في بناء القبر، والشقة بينهما طويلة الأجل! ولكن الموت كان على قيد خطوة منه، فاهتصر عوده اللدن وهو في ميعة الشباب، ودالة الصبا، فمات بعد حكم تسع سنوات حافلات، ولا ندري أي ميتة لاقاها؟ أمات حتف أنفه على فراشه أم انتزعت حياته بفعل وغد أثيم؟ ولكن الذي ندريه أن التاريخ قد أسدل ستارًا كثيفًا على هذه المأساة، وقد يتبدد هذا الستار بفضل كشف جديد في «وادي الملوك» أو بردية مطوية في جوف الأرض توقفنا إلى ملاقاتها الأقدار.
والآن نضع هنا أمام القارئ ترجمة حرفية للوحة «توت عنخ آمون» وهي تصف لنا أحوال البلاد التي كانت عليها قبل توليه الملك، والأعمال التي قام بها، وقد اغتصبها «حور محب» عند توليته العرش؛ لاعتقاده أنه هو الذي قام بكل ما جاء عليها من أعمال عظيمة.
لوحة إصلاح «توت عنخ آمون»
-
(١)
في السنة … الشهر الرابع من فصل الفيضان، اليوم التاسع عشر في عهد جلالة «حور» الثور القوي — الجميل الولادة، السيدتان١٣ — صاحب القوانين الطيبة، ومن يهدئ الأرضين، حور الذهبي — صاحب التيجان الرفيعة، مرضي الآلهة، ملك الوجه القبلي والبحري — نب خبرو رع، ابن الشمس — «توت عنخ آمون»، حاكم «أرمنت» — معطي الحياة مثل رع أبد الآبدين.
-
(٢)
محبوب آمون، رب عروش الأرضين وسيد «إبت إسوت» (الكرنك) و«أتوم» رب الأرضين و«عين شمس»، و«رع حور أختي»، و«بتاح جنوبي جداره» وسيد «عنخ تاوي» (اسم حي في منف)، و«تحوت» سيد كلام الإله، وهو الذي يظهر على عرش حور الأحياء مثل والده «رع» كل يوم، والإله الطيب ابن «آمون»، وصورة «كمفيس» (ثور أمه) والبذرة الفاخرة، والنسل الجليل، وسليل «آمون» نفسه، (والد الأرضين؟)، والمصور مصوره، وخالق خالقه، والذي يجتمع من أجله أرواح «عين شمس» لأجل أن يُهيأ ليكون ملكًا أبديًّا مثل «أبدية حور» الخالد، الحاكم الطيب الذي يعمل أشياء نافعة لوالده، ولكل الآلهة، وهو الذي جعل ما كان قد خرب صالحًا بمثابة أثر خالد، مدى الدهر، وقضى على الأعمال الخاطئة في كل الأرضين، ووطد الحق، وجعل الكذب ممقوتًا في البلاد كما كان في بادئ أمرها. وعندما أشرق جلالته الآن ملكًا كانت معابد الآلهة والإلهات من بداية «إلفنتين» حتى مناقع الدلتا … قد أهمل شأنها؛ إذ قد أصبحت محاريبها خاوية، وصارت أراضي تغشاها أعشاب كا (ث؟) ومعابدهم أصبحت كأن لم تغنَ بالأمس، وحجراتهم كانت طرقًا معبدة، والبلاد كانت في ارتباك، وهجرت الآلهة هذه الأرض، وإذا أرسل جيش (؟) إلى «زاهي» ليمد من حدود مصر لم ينل أي نجاح قط. وإذا دعا الله إنسان ليطلب إليه حاجة، فإنه لا يأتي إليه بأية حال، وإذا تضرع إنسان لآلهة فإنها كذلك لا تجيب تضرعه بأية حال؛ لأن قلوبهم كانت ضعيفة من نفسها بالغضب، فخربوا ما كان قد عُمل.
وبعد أن مضت بضعة أيام على ذلك ظهر جلالته على عرش والده، فحكم ممالك «حور»، وكانت الأرض السوداء والأرض الحمراء تحت سلطانه، وكل بلد كانت تخضع لقوته.
انظر! لقد كان جلالته في قصره في ضيعة «عا خبر كارع» (تحتمس الأول) (ذُكر هذا المكان كذلك في لوحة «آي» في السنة الثالثة من حكمه. على أن الأهمية التي يظهر بها «بتاح» هنا وذكر «عنخ تاوي» على هذه اللوحة من البراهين التي تدل على أن هذا المتن كُتب في «منف»؛ أي إنها العاصمة وقتئذٍ كما يدعي البعض، ولكن الحقيقة أنها كانت في «طيبة») مثل «رع» في السموات، وكان جلالته يحكم هذه الأرض، ويدير حركة شاطئ النهر يوميًّا، وبعد ذلك استشار الملك قلبه منقبًا عن كل فرصة ممتازة، باحثًا وراء ما يفيد والده «آمون»، فيصنع تمثاله الفاخر من الذهب الخالص الجميل، وأضاف إلى ما كان قد عُمل له فيما سلف من الأزمان؛ إذ نحت تمثال والده «آمون» ليُحمل على ثلاثة عشر قضيبًا، أما تمثاله المقدس فصُنع من الذهب الخالص الجميل، واللازورد، والفيروز، ومن كل ما ندر وغلا ثمنه من الأحجار، في حين أنه في الأزمان السالفة كان تمثال جلالة إلهه الفاخر يُحمل على أحد عشر قضيبًا، وكذلك صنع تمثالًا للإله «بتاح القاطن جنوبي جداره» رب «عنخ تاوي»، وكان تمثاله الفخم من الذهب الجميل (يُحمل على أحد عشر قضيبًا) وتمثاله المقدس صيغ من الذهب الخالص واللازورد والفيروز، في حين أن جلالة هذا الإله الفخم كان يُحمل على ستة قضبان، وكذلك صنع جلالته آثارًا للآلهة، فصاغ تماثيله من الذهب الخالص من أحسن ما في الأراضي الأجنبية. وأعاد بناء معابدهم لتكون آثارًا خالدة على الدهر، ومنحها أملاكًا إلى الأبد. وأسس لهم عطايا مقدسة لتكون قربانًا يوميًّا دائمًا، وأمدهم بقرابين من الطعام على الأرض. وأضاف إلى ما كان لهم في سالف الزمن. ففاق في ذلك ما كان قد عُمل منذ عهد أجداده. وعين كهانًا وسدنة وخدام الإله من أبناء أشراف البلاد، وكان كل ابن رجل مشهور واسمه معروفًا، وقد ضاعف ثروتهم بالذهب والفضة، والشبة، والنحاس، ومقادير لا حصر لها من كل الأشياء، وملأ مخازنهم بالعبيد رجالًا ونساء، وذلك من ثمرة ما سلبه جلالته، وتضاعفت كل ممتلكات المعابد فصارت ثلاث ورباع من الفضة والذهب واللازورد، والفيروز، وكل الأحجار النادرة الغالية، والكتان الملكي، والنسيج الأبيض، والكتان الرفيع، وزيت الزيتون والصمغ والشحم (…) والعطور وبخور «أهمت» «والمر»: مما لا يدخل تحت حصر من كل الأشياء الطيبة، وقد صنع جلالته (له الحياة والفلاح والعافية) سفنهم التي تجري على النهر من خشب الأرز الجديد، وهو أحسن ما ينمو على منحدرات الجبال، ونخبة بلاد «نجاو» (مكان بالقرب من جنوب «ببلوص») وغشي بالذهب، وهو أحسن ما تنتجه البلاد الأجنبية، وهي تضيء النهر. وقد خصص جلالته «له الحياة والصحة والعافية» لها عبيدًا وإماء، ومغنين وراقصات ممن كانوا خدمًا في بيت الفرعون، وكانت أجورهم تُدفع من … قصر رب الأرضين، وقد قمت بحمايتهم وحفظهم لآباء كل الآلهة؛ وذلك رغبة مني في إرضائهم بعمل ما تحبه نفوسهم حتى يحفظوا «تامري» (مصر)، وأصبحت الآلهة والإلهات التي في هذه الأرض قلوبهم فرحة وأصحاب المحاريب مبهجين، والأراضي في أعياد تقيم الأفراح، والسرور منتشر في كل الأرض بعد أن أصبحت حالة البلاد مرضية.
ولا نزاع في أن نقوش هذه اللوحة تقدم لنا صورة صادقة عن حالة البلاد وما كانت عليه معابد الآلهة ومحاريبهم في طول البلاد وعرضها في الفترة التي حكم فيها «إخناتون»؛ إذ كان ينعق فيها البوم الغربان، وأصبحت مأوًى للحشرات ومرتعًا للسائمة، خاوية على عروشها، لا يأوي إليها إنسان، بعد أن كانت تزخر بالثراء وعامرة بالأعياد التي كانت تُقام فيها، والمحافل التي كانت لا تنفك تترى في عرصاتها تؤمها الوفود من كل أرجاء العالم.
(٤) حياة «توت عنخ آمون» الخاصة من آثاره
ليس في مقدور التاريخ أن يصدر حكمًا سليمًا على هذا الشاب؛ فقد تولى أمر بلاده في بداية العقد الثاني من عمره، وتُوفي ولما يبلغ ختام هذا العقد، وهو غير مسئول بداهة عن الأعمال التي تمت في مستهل حكمه؛ إذ كان قاصرًا، ولم يكن له من الأمر شيء، بل كان في الواقع لعبة يتقاذفها الكاهن «آي» والقائد «حور محب»، يتلقفها هذا مرة وذاك أخرى، واستكانت اللعبة أخيرًا في يد القائد «حور محب» الذي سيطر على شئون الدولة، وهيمن على كل مرفق داخل البلاد وخارجها، فهذان اللاعبان اللذان تناوبا أمور البلاد في هذه الفترة هما المسئولان عما جرى فيها، ولقد كان من سوء طالع التاريخ أو من سوء طالع أمير البلاد الصغير أن القدر لم يمهله حينما قارب النضوج، وأخذ يدب فيه روح الرجولة، فاختفى فجاءة من مسرح الحياة دون أن يترك لنا كلمة عن حياته ونشأته، ومراميه التي كان يهدف إلى تحقيقها، وهو على سرير الملك، ولكنه ترك لنا في الصور التي أمر بنقشها على أثاثه الجنازي ما يكاد يغني عن الكتب المخطوطة، والوثائق المسطورة، فعرفنا منها ميوله وأخلاقه، وكثيرًا عن حياته الخاصة إذا كان فعلًا يقصد ما صوَّره.
ولقد كانت صحراء «رستاو» التي تشمل «منف» و«الجيزة» وأرباضهما، وبخاصة وادي الغزال تزخر بحيوان الصيد، فكان انتقال «توت عنخ آمون» إلى «منف» أحيانًا فرصة مكنته من إشباع رغبته، كما كان من قبله ملوك الأسرة الثامنة عشرة يفدون إلى هذا المعالم على كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فيصطادوا ويؤدوا مناسك الحج لهذا الإله العتيق الرابض في صحراء الجيزة «حور إم-أختي» (حور الأفق)، الذي كان يمثل إله الشمس «بولهول»، وكان كل فرعون يحرص على أن يسجل هذه الزيارة الميمونة لهذا المعبود العظيم عند كل توليته الملك، فيضع أثرًا يخلد به ذكرى هذا الحج المبرور. ومن الذين حجوا إلى هذا المشعر المقدس، وسجلوا تأديتهم لهذه الشعيرة الدينية «أمنمس بن تحتمس الأول»، وهو أول من سنَّ هذه البدعة على ما نعلم، ثم «تحتمس الثالث» وابنه «أمنحتب الثاني»، ثم «تحتمس الرابع» ثم «أمنحتب الثالث» ثم بطلنا «توت عنخ آمون»، فلم يمنعه صغر سنه أن يؤدي مناسك الحج، ويصطاد في حماه في وادي الغزال ويترك لنا لوحة تذكارية عثرنا على جزء منها في حفائر الجامعة المصرية سنة ١٩٣٦، وقد بدا فيها «توت عنخ آمون» وزوجه «عنخس-إن-آمون» يتعبدان «لبولهول»، وقد مُحي من اللوحة صورة «بولهول»، وهُشم جزء من اسم الملك كما مُحي اسم الملكة، وشُوِّه وجهاهما، ولا يبعد أن يكون هذا فعل بعض المتعصبين لعبادة «آتون».
وقد ترك لنا «توت عنخ آمون» في هذه المنطقة أثرًا آخر، وهو نزل من اللبن في الجنوب الغربي من معبد الوادي، وبابه من الحجر الأبيض، وقد كُتب عليه اسم «بوالهول» ثم اسم الملك ثم اسم الملكة، ولكن اسم «توت عنخ آمون»، قد غُطي بطبقة من الملاط بأمر «رعمسيس الثاني» الذي نقش اسمه مكانه؛ كما كانت عادته في اغتصاب الآثار.
ومما يستحق التنويه عنه هنا أن اسم «بولهول» قد نُقش على هذا الباب، وأول ظهوره على الآثار المصرية المعروفة كان في عهد «أمنحتب الثاني»، وقد نُقش بلفظ «حولنا»؛ مما يدل على أن المستعمرين من أهل فلسطين الذين استوطنوا هذه المنطقة قبل عهد «توت عنخ آمون» كانوا قد بدءوا في عبادة معبودهم «حولنا» أو «حول»، وهو اسم إله الكنعانيين الذي يشبه «حور أختي»، وهو اسم «بولهول» الأصلي، ومن ثم اشتُق اسم «بولهول» (فلفظ «بو» معناها مكان، و«حول» أي المعبود «حول»).
ومن الجائز أن هذا البناء وما حوله من الأبنية كان ديرًا للكهنة، واستراحة لرواد الصحراء الصائدين.
على أن النزل الذي كان يأوي إليه «توت عنخ آمون» بعد صيده كان مجهزًا بحمام يأوي إليه مليكنا الشاب ليغتسل ويزيل آثار وعثاء المطاردة والصيد، ويعطي جسمه حقه من النظافة والاستجمام، بعد هذه الرياضة الشاقة في تلك الصحراوات الرملية الحارة. هذا وقد نُقل بناء هذا الحمام بهيئته التي كان عليها إلى جهة أخرى بجوار الهرم الثاني ليُحفظ هناك تذكارًا من آثار هذا الشاب.
ولا نزاع في أن الخيال وقوة التأثير والحياة التي ظهرت في هذه المناظر تفوق حد المألوف، بل ليس لها نظائر في الفن المصري، وإن كانت لا تخلو أحيانًا من المبالغة، فقد جاء في بعضها صورة الملك النحيل، وقد بدا فيها عملاقًا ضخمًا حتى يتفق ذلك مع ما نُسب إليه من عمل جبار، كما رأينا في بعضها الآخر مليكنا يصوب سهامه من عربته فلا يكاد يصل إلى الأعداء حتى يحدث في صفوفهم الرعب والفزع، وتتساقط القتلى، ويتلاحق الصرعى، وتحل بالقوم الهزيمة، كما رأينا من مناظر الصيد ما يدل على قسوته، فنراه يطارد الحيوان على عربته التي تجرها الجياد المطهمة في غير هوادة، ونرى قطعانًا تطلق لساقيها العنان هربًا من سهامه الفتاكة، وهو يلاحقها في غير إشفاق حتى يودي بحياتها أو يتركها تعاني الآلام وهي مضرجة بدمائها والسهام لا تزال عالقة بأجسامها.
على أن هذه الصرامة في المعاملة لم تكن مسيطرة على خلقه بل كانت له نواح أخرى أظهرنا جوانب منها تدل على رقة القلب ودماثة الطبع.
وبعد فهذا قل من كثر من تاريخ هذا الشاب العظيم، وإنا لنعلق كثيرًا من آمالنا في معرفة ما خفي من تاريخ هذا الشاب على معول رجال الآثار، وإن كانت تلك البوادر التي كشفناها وحققناها تدل على أن هذا الفتى الصغير كان شهمًا، وقد خلد للبلاد مجدًا فنيًّا عظيمًا، ولو كان القدر قد أمهله لأرانا كثيرًا من عظمته، فمخايله في صباه كانت تبشر بما ننتظر منه في كهولته وشيخوخته.
(٥) الموظفون في عهد الفرعون «سمنخكارع» و«توت عنخ آمون»
«با-واح» أعظم الرائين
ليس لدينا معلومات تُذكر عن الموظفين في عهد هذا الفرعون، وذلك لا يدهشنا؛ لأنه عندما تولى «سمنخكارع» عرش الملك منفردًا كانت الإمبراطورية المصرية آيلة للسقوط والتمزق السريع، هذا فضلًا عن أنه لم يمكث على عرش الملك إلا فترة قصيرة، وبطبيعة الحال لدينا بعض آثار خاصة قليلة ترجع إلى عهده، ولا نزاع في أنه أبقى على معظم الموظفين الذين كانوا في خدمة سلفه، وإذا كان قد أظهر رغبة في العودة إلى اعتناق مذهب «آمون» فإن هؤلاء العظماء الذين كانوا في ركابه لن يتأخروا طرفة عين عن اقتفاء أثره عن طيب خاطر ولو ظاهرًا، وبخاصة إذا علمنا أن ديانة «آتون» كانت قد فُرضت على بعضهم فرضًا، وكبار الموظفين على دين ملوكهم، وعبيد لتنفيذ رغباتهم، حتى نبذ دينهم إرضاء لهم.
وهذا مثل من الأدعية والتضرعات التي أصبحت فيما بعد ذائعة في جبانة «طيبة»، وهي التي نرى فيها روح التقى والورع والتقرب من الآلهة، ولم تكن معروفة قبل ذلك العهد.