رجل من الشمع!
من بين أشجار الغابة الكثيفة ظهرت مجموعة من الوجوه الصفراء والعيون الضيقة … وبرزت في نفس الوقت فوهات البنادق والمسدسات … وعندما شاهدوا الشياطين الأربعة تبادلوا أحاديث سريعة بلغةٍ رجَّح «أحمد» أنها اللغة اليابانية … وسرعان ما كان «موكا» يتحدث إليهم بنفس اللغة مشيرًا إلى لفة «التمثال» المُمدَّد على الأرض الخضراء.
دار الحديث بين «موكا» وبين ذوي الوجوه الصفراء نحو دقيقة كاملة ثم التفت «موكا» إلى الشياطين وقال: سنَذهب معهم لتسليم التمثال إلى زعيمهم.
قال «أحمد»: أرجو أن تُعفينا من الذهاب معكم … لقد أدَّينا مهمتنا حتى توصيل التمثال إلى الجزيرة … وكل ما نرجوه أن تُعطونا قاربًا لنصل به إلى جزيرة «بورينو» لقد أضعنا وقتًا طويلًا في هذه الجزر والأدغال … وعندنا أعمال أخرى يجب أن نقوم بها في جهات أخرى من العالم.
عاد الحديث يدور بين «موكا» وبين الرجال الصفر … وبعد فترة دامت دقيقة أخرى قال «موكا»: يجب أن تُقابِلوا الزعيم … إن تعليماته إليهم واضحة … فقد طلب منهم أن يحضروا معهم من أحضروا التمثال … وهم يعدُونكم في هذه الحالة بأن يُعطوكم قاربًا.
لم يكن أمام «أحمد» ما يفعله إلا القبول، وتناقش مع الشياطين الثلاثة «خالد» و«قيس» و«عثمان» فوافقوا على الذهاب … وتقدم رجلان من ذوي الوجوه الصفراء حملوا لفَّة التمثال … وسارت القافلة بين الأدغال. رغم أنهم كانوا في الظهيرة إلا أن كثافة الغابة كانت تمنع ضوء الشمس من الوصول إلى طرقات الغابة … كانت أشعة الشمس متفرقة تصل من بين الأشجار العالية تنير المدقات الرفيعة التي ساروا فيها … وكان رجلان من الصفر يَسيران في المقدمة يحمل كلٌّ منهما سيفًا قصيرًا حادًّا يديره يمينًا ويسارًا ليقطع به الأغصان المدلَّاة ويفسح لهم الطريق.
استمرت المسيرة نحو ساعة ثم أشار لهم أول الرجال بالتوقُّف رافعًا ذراعه إلى فوق … ووقف الجميع. واختفى الرجل لحظات ثم عاد … وطلب منهم التقدُّم … وانحرفوا يمينًا في ممرٍّ نظيف … شاهدوا في نهايته كوخًا ضخمًا أحمر اللون من القماش … وقد وقف حوله عدد من الحراس الأشداء مُمسكين بالسيوف.
أشار الرجل إلى «موكا» وتحدث معه لحظات … فأشار «موكا» إلى «أحمد» وقال: إن الزعيم سيُقابلنا أنا وأنت ومعنا التمثال.
كان الكوخ عاليًا على مستوى الأرض بنحو مترٍ ونصف المتر … وقد ارتفع على بابه سلم من شجر البامبو الأحمر … وصعد «موكا» وخلفه «أحمد» وبعدهما صعد رجلان يحملان التمثال … وكان باب الكوخ مُغطًّى بستارة من الحصير الرفيع … رُسم عليها بالألوان صورة للوحش الخرافي … عصابة الوحش الأصفر … ودق قلب «أحمد» بسرعة وتذكَّر عصابة «الوحش الأصفر» التي خاضوا ضدها صراعًا في اليابان منذ أسابيع قليلة … وأزاح الستار جانبًا ودخل … وعلى كرسي كبير من الخشب كان رجل يجلس لا يكاد الداخل يتبيَّن ملامحه في الظلام الخفيف المسيطر على جو الكوخ … وانتظر «أحمد» لحظات حتى اعتادت عيناه على الظلام … ودقَّق النظر في الرجل … كان يابانيًّا عجوزًا يشبه الرهبان بصلعته اللامعة … وشاربه المدلَّى على جانبَي فمِه … والغُضون الكثيرة التي تُغطِّي وجهه … وملابس «الكيمونو الذهبية» مجرَّد تمثال من الشمع الساكن ويداه مُمدَّدتان على جانبي المقعد.
كان هناك عدد من الكراسي على الجانبين … أشار لهم حارس يقف خلف الرجل الشمعي بالجلوس … وجلس «أحمد» على اليمين … بينما جلس «موكا» على اليسار … وكم كان التناقض واضحًا بين الرجل الشمعي الصغير الجالس وبين حارسِه الضخم الواقف خلفه … بجسده الضخم … وعضلاته القوية والسيف المعقوف المدلى على جانبه.
دخل بعد ذلك الرجلان اللذان يحملان لفة التمثال. ووضعاه أمام الرجل الشمعي باحترام. وانحنيا حتى كاد رأساهما يصلان إلى الأرض … وتحرَّك الرجل الشمعي لأول مرة … فأشار إلى اللفة وقال كلمة واحدة باليابانية … وفهم «أحمد» على الفور أنه يَطلُب فكَّها.
أخرج الرجلان خنجرين قصيرين. ومزقا بهما القماش الخشن. وأخذا يفكان بعناية شديدة الحبال وقِطَع الحرير التي تُغلِّف التمثال … وشيئًا فشيئًا بدأت معالم التمثال تظهر … كان شيئًا مخيفًا … وجه من الخشب تتدرج فيه الزوايا … كل زاوية تُمثِّل وجهًا ضاحكًا … ولكن ضحكة الشيطان … والوجه الكبير يندرج تحته جسم ضخم ولكن ليس بحجم الوجه المخيف … فجأةً حدث شيء غير متوقع … فقد صاح الرجل الشمعي صيحة عالية خُيِّل ﻟ «أحمد» عندما سمعها أن الرجل قد فارقته روحه … ولكن عندما نظر إليه وجده ما زال يَنبض بالحياة … وقد التمعت عيناه بنظرة مُخيفة، وارتفعت يده اليمنى إلى فوق …
توقف الرجلان عن العمل ونظرا إليه … وانحنى المارد الذي يقف خلفه إلى الأمام وتحدث الرجل الشمعي باليابانية كلمات سريعة … وفُوجئ «أحمد» بالحارس العملاق يسحب سيفه … وبالرجلين الجالسين على الأرض يُخرِج كلٌّ منهما خنجره … وفي لحظات انقلب جو الغرفة الساكن إلى جو متوتر مخيف.
نظر «أحمد» إلى «موكا» … الذي بدا عليه الرعب … كان يريد تفسيرًا لما حدث، ولكن «موكا» كان يبدو شديد الاضطراب هو الآخر … وأخيرًا قال الرجل الشمعي بهدوء قاتل بضع كلمات موجهة إلى «موكا» الذي أخذ يتحدَّث على الفور في كلمات طويلة مضطربة.
ظل «أحمد» حائرًا فترة … وهو يسمع الحوار العنيف الدائر بين الرجل الشمعي وبين «موكا» وفي النهاية قال «موكا» بالإنجليزية موجهًا حديثه إلى «أحمد»: إن الزعيم «أوكاكورا» يقول إن هذا التمثال مُزيَّف، وأنه ليس التمثال الأصلي … الموجود في «شورنجي»، ويقول إننا خدعناه!
رغم خطورة الموقف أحسَّ «أحمد» ببعض الراحة … فهذا معناه أن الشياطين لم يُساهموا في نقل شيء مسروق … أما أن التمثال مزيف … فذلك ليس من اختصاصه؛ لقد طلب منه «مون» تسليم اللفة في جزيرة «لنجا» وقد وفَّى بوعدِه.
عاد «موكا» يتحدث إلى «أوكاكورا» ولكن الرجل الشمعي ظل ساكنًا كأنه قد مات … وكان واضحًا أنه قد أُصيبَ بالذهول التام … ومضَت دقائق ثقيلة و«موكا» يتحدث والرجل مُنصرِف تمامًا عن الاستماع إليه.
أخيرًا تحدث «أوكاكورا» إلى «موكا» كان الهدوء قد عاد إلى صوته. ولكنه أصبح باردًا ومُميتًا كحدِّ السكين. وبعد أن استمع إليه «موكا» تحدث إلى «أحمد» قائلًا: إن الزعيم «أوكاكورا» يقول إننا خدعناه … وإن الخيانة تعني الموت.
«أحمد»: إنني لم أشترك في أيَّة خدعة … لقد طلب مني الزعيم «مون» أن أنقل هذه اللفة إلى هذه الجزيرة … وقد نفَّذتُ ما طلب.
«موكا»: إنه لن يَفهم هذا أبدًا … وسوف يقتلنا جميعًا إذا لم نُحضِر التمثال الأصلي له … إنها لحظة تاريخية في حياته أن يَحصُل على هذا التمثال … فهو يُمثِّل بالنسبة لشعبه دليل قداسته.
أحمد: وكيف نحصل على التمثال الأصليِّ …؟ إننا لسنا عصابة من اللصوص يا «موكا»، إننا رجال شرفاء نعمل من أجل الحق.
موكا: الحل الوحيد أن نعود إلى «مون» في الجزيرة ونُفهمه ما حدث … لا بدَّ أن «مون» هو الآخر قد وقع ضحية خدعة ممَّن باعوا له التمثال.
أحمد: إننا لا نستطيع العودة إلى «مون» مرةً أخرى … هناك أعداء لنا يُطاردوننا إلى أقصى الأرض … وقد قبلنا نقل التمثال … مُقابل أن يقوم «مون» بتخدير هؤلاء الأعداء حتى نرحل عن الجزيرة.
تحدَّث «موكا» إلى «أوكاكورا» كان يتحدث إليه بضراعة وخوف أوضَحا بطش هذا الرجل الشمعي. وقدرته على الانتقام … وظلَّ «موكا» يشرح بكل قوتِه ما قاله «أحمد»، ولكن «أوكاكورا» لم يلتفت إلى كل ما قيل … بل أشاح بذراعِه … ثم تحدث إلى رجاله حديثًا سريعًا مُقتضبًا … فتحرك العملاق وأمسك بذراع «أحمد» ونزلا معًا السلَّم … كان الشياطين الثلاثة «قيس» و«خالد» و«عثمان» يقفون في الساحة معًا وقد أحاط بهم رجال «أوكاكورا» بأسلحتهم … وعندما شاهدوا «أحمد» نازلًا ومعه العملاق المسلح أدركوا أن شيئًا قد حدث … وأنهم مُقبلون على متاعب جديدة.
دفع العملاق «أحمد» إلى الشياطين وكان «موكا» قد أحضره هو الآخر حارسان … وتحدث العملاق إلى «موكا» غاضبًا مُهدِّدًا، وقد تطاير الشرر من عينَيه ثم تركهم وانصرف.
قال «موكا»: إنهم سيحتفظون بثلاثة منكم كرهائن وسأعود مع الرابع إلى «مون» لنروي له ما حدث ونعود بالتمثال الأصلي.
قال «قيس» متعجبًا: أيُّ تمثال؟ ألم يتسلَّموا التمثال الذي أرسله «مون»؟
قال «أحمد» موضِّحًا وهو يتنهَّد: يبدو أننا لن نخرج من هذا العالم العجيب؛ لقد اتَّضح للزعيم «أوكاكورا»، وهو رجلٌ يشبه تمثالًا من الشمع. ويسيطر على أتباعه تمامًا أن تمثال «كانون» ذا الأحد عشر وجهًا الذي أحضرناه من عند «مون» هو تمثال مزيَّف.
«قيس»: وما دخلُنا نحن بذلك؟
«أحمد»: لقد شرحت له هذا بضع مرات … وأوضحت له أننا قمنا فقط بنقل التمثال، ولكنه في ثورة غضبه لم يَلتفِت إلى أيِّ شيء أو أي تبرير … إنه يُريد التمثال الأصلي.
ساد الصمت بعد هذا الإيضاح الذي قدَّمه «أحمد» … وبدا واضحًا للشياطين الأربعة أنهم وقعوا في أيدٍ لا تَرحم … ونظرُوا حولهم … كانت الوجوه الصفراء تنظر إليهم كخوَنة … سرقوا التمثال الأصلي، وأتوا بتمثال مزيَّف، وكانوا جميعًا على استعداد لعمل أيِّ شيء من أجل قداسة «أوكاكورا».