السؤال عن الوجود
أمَّا الإنسان، فهو الذي يملك القدرة على إدراك الموجود على نحو ما يظهر ويتجلى من ثنايا الاحتجاب، وهو القادر على أن يجمعه في وحدته عن طريق «اللوجوس» الذي يكشف عن هذه الوحدة (إذ إن اللوجوس من ناحية اشتقاق الفعل المشهور «ليجين» يعني عنده التجميع)، وهكذا نجد أن الإنسان — في تفسير هيدجر للتجربة اليونانية — ليس هو مركز هذه التجربة ومحورها؛ لأن الموجود اللامتحجب هو الذي يشغل هذا المركز؛ ومِنْ ثَمَّ يستطيع الإنسان عن طريق اللوجوس أن يتجه إليه وينفتح عليه، ومعنى هذا بطبيعة الحال أن نفهم الإنسان من جهة الحقيقة (أي اللاتحجب) لا أن نفهم الحقيقة من جهة الإنسان.
السؤال إذن ذو شقين، ومن حوله يدور تفكير هيدجر في كل أعماله، وسنحاول أن نبين مدى ارتباط هذين الشقين أو هذين الجذرين الأساسيين لشجرة هذا الفكر، ولن يتسع المجال بطبيعة الحال لتتبع هذا السؤال في كل ما كتبه هيدجر؛ ولهذا سنقتصر على تناوله من خلال بعض أعماله التي تعد علامات واضحة على طريقه الطويل وبخاصة الوجود والزمان، وماهية الحقيقة، وهما أول ما يرد على الخاطر من مؤلَّفاته عند السؤال عن الحقيقة، ثم نتناوله في بعض محاولاته التي تتناوله من وجهة نظر معينة أو مجال محدد، كما في بحثه عن «الأصل في العمل الفني» ورسالته عن النزعة الإنسانية، ومحاضرته عن «ماهية اللغة» وكتابه عن «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر».
وقد صرَّح هيدجر نفسه بأن السؤال عن الوجود هو الذي حرَّك فكرَه وحدَّد نقطة انطلاقه، وكان ذلك — كما قدمنا — ثمرةَ تأثره برسالة برنتانو وكتاب أستاذه بريج عن الوجود وبحوث هسرل المنطقية التي أشرنا إليها جميعًا من قبل، ولكن كيف انضم السؤال عن الحقيقة إلى السؤال عن الوجود؟ وكيف ائتلفا في نسق واحد؟ كيف تطلَّب منه هذا أن يرجع لتجربة اليونان في الفكر والوجود، وأن يتأمل مسار الميتافيزيقا منذ بدايتها إلى تصورنا لها، وأن يلحَّ في كتاباته على «التغلب» على الميتافيزيقا أو تجاوزها وقهرها وتخطيها؟ هذا هو ما نودُّ أن نتحدث عنه الآن.
(١) السؤال عن الوجود في أفق الزمان
•••
•••
يبدأ هيدجر أول صفحات كتابه بالسؤال عن معنى الوجود، وكان حتمًا أن يكون هذا السؤال مثار الدهشة، ففيمَ السؤال اليوم عن الوجود والفلاسفة منذ القدم لا يسألون إلا عنه؟! وعلامَ قامت الأنطولوجيا إلا على أساس فكرة الوجود، وعمَّ بحثت الميتافيزيقا في تاريخها الطويل إلا عن معنى الوجود؟
ويريد هيدجر بهذا النص أن يُذكِّرَنا بأن السؤال القديم قدم الميتافيزيقا نفسها، وهو لا يبغي منه أن يصلنا بالتراث، بل يريد أن يتحدى هذا التراث ويحملنا على التفكير فيه أو بالأحرى على «تحطيمه» وخلخلته وتصفيته مما تراكم عليه من رواسبَ شوَّهَت مقصده الأصلي أو حجبته وألقت به في زوايا النسيان، وهو يعلِّق على النص فيسأل: أعندنا اليوم جوابٌ على السؤال عما نقصده حقًّا حين نستخدم كلمة «موجود»؟ كلا؛ ولهذا ينبغي أن نطرح السؤال عن معنى الوجود من جديد، أنحس اليوم الحيرةَ والارتباكَ لأننا لا نفهم تعبير «الوجود»؟ كلا؛ ولهذا يتعين علينا قبل كل شيء أن نوقظ الفهم لهذا السؤال. إن تناول السؤال عن معنى الوجود هو الغرض من هذا الكتاب، وتفسير الزمان، باعتباره الأفق الممكن لكل فهمٍ للوجود بوجهٍ عام، هو الهدف المؤقت منه.
ما هي إذن المهمة المزدوجة في تناول السؤال عن الوجود؟ إنها تقوم من ناحية على تحليل الموجود الإنساني، ومن ناحية أخرى على ما يسميه هيدجر «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا».
لنبدأ بالمهمة الأولى، نحن الذين نتواجد، ولهذا يؤثر الفيلسوف — كما قدمنا — أن ينحت لنا مصطلحًا يميزنا عن سائر الموجودات، وهو مصطلح الدازاين أو الموجود الإنساني كما تقدم، وأخص خصائص وجودنا هي أننا نعيش ونتحرك دائمًا من خلال فهم محدد للوجود، يبدو إذن أن من السهل علينا أن نقول شيئًا عن هذا الموجود الإنساني، غير أننا نتوهم هذا، فنحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي «لا نكونه»، هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكًا مُعيَّنًا ونصفه بأنه «العالم»، هذا الموجود المختلف تمام الاختلاف عن «موجوديتنا» يغرينا بأن نتخذ منه نموذجًا للفهم، أن نتصور أنفسنا على غراره، هكذا يعرف الإنسان ما يتعامل معه بأفضل مما يعرف نفسه! وهذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموجود الإنساني في أقرب أحواله وأكثرها حظًّا من الألفة والتكرار، أي في حياته اليومية، كما يحقق المطلب الفينومينولوجي الذي يحرم علينا أن نبدأ من مشروع مثالي، لكي نتمكن من رؤية الإنسان في أسلوب حياته ووجوده المعتاد، ولكن ليس الهدف من هذه الرؤية أن يستغرقنا وصف هذا الأسلوب في الحياة والوجود، وإنما الهدف منه أن نوضح الأسس التي يقوم عليها، أي «البناءات الماهوية» أو مقومات الوجود أو «الوجودات».
يبدو أن هيدجر يترسم هنا طريقًا دائريًّا يشبه أن يكون عودًا على بدء؛ فهو يقرِّر أن تحليل الموجود الإنساني مسألةٌ مؤقتة، الهدف منها أن تُعيننا على تحديد السؤال الأساسي عن الوجود، فإذا تمَّ هذا التحديد كان علينا عندئذٍ أن نرجع إلى تحليل الموجود الإنساني فنعيده مرة أخرى، وهذا هو الذي سنراه بالفعل في القسم الثاني من الكتاب الذي يتناول الارتباط بين الإنسان والزمانية تناولًا جديدًا، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن الأفق الذي نستطيع أن نفهم من خلاله وجود الإنسان هو في رأيه أفق الزمانية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يعيدَ التفكيرَ في مشكلة الزمان، وقد كان المأمول من هذا التفكير أن يمكننا من أن نفهم كذلك زمانية الوجود نفسه، غير أن هذا الجزء المهم هو الذي افتقده الناس، ولم يستطع هيدجر أن يكتبه حتى اليوم!
لا بد إذًا من إزالة الحُجُب التي تراكمَت على التراث، فغطَّتْه أو شوهتْه أو ألقتْه في مهاوي النسيان، ولا بد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدَّت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلَّت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها، وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلًا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة.
إن تحطيم تاريخ الأنطولوجيا معناه في المقام الأوَّل «كشف الغطاء» عن تاريخية تصوراته الأساسية، لا بل بعث الإحساس بمعنى التاريخية نفسها، على الرغم مما قد يكون في هذا التعبير من مفارقة، ومعناه أيضًا أن نكشف عما وقع في هذا التراث المستقر من إهمال للسؤال الأساسي عن الوجود، بحيث نُصبح على وعي بتاريخ الأنطولوجيا ونتبين حدودها ونفهمها.
(٢) وجود الإنسان وجود-في-العالم
ونسأل الآن: ما الوجود؟ فتواجهنا المشكلة الكبرى، ونضطر للاعتراف بأننا لا نعرفه! ومع هذا فإن من السهل علينا أن نفرق في الموجودات التي نعرفها بين موجود يدخل في علاقة مع نفسه ويقدر على تنميتها، وبين موجود آخر عاجز عن هذه القدرة؛ فالحجر يوجد أو يكون، ولكنه لا يملك الدخول في علاقة مع نفسه، وقُل مثل هذا عن الشجرة والبيت والكرسي وغيرها من الموجودات غير البشرية، أمَّا الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي لا يقتصر على أن يوجد أو يكون، وإنما يتعدَّى هذا إلى الدخول في علاقة مع ذاته ومع الذوات الأخرى التي يشترك معها في الوجود وتُشاركه فيه، ومع سائر الموجودات غير الإنسانية، والنتيجة الهامة التي نستخلصها من هذا هي أن الإنسان لا يوجد فحسب، وإنما «عليه أن يوجد»، وأن يحمل مسئولية الوجود وأمانته؛ ولهذا استحق أن ينحت الفيلسوف له كلمة خاصة به هي كلمة الدازاين أو الوجود الإنساني الملقى به هنا وهناك أو الآنية التي قد لا ترضينا كل الرضا! ولا يقعنَّ في ظننا أننا قد عرفنا بهذا شيئًا عن الوجود، فنحن لم نزل على الطريق، ولم نصل بعد إلا إلى معنًى أوليٍّ عن وجود موجود معين نصفه بالإنسان أو الدازاين، ونحاول تحديد معالمه التي تميزه عما عداه، هذا الوجود النوعي ليس وجودًا بسيطًا، وإنما هو وجود في سبيل التحقق وينبغي على صاحبه أن يعرف بنيته ويتحمل مسئوليته حتى يصل به إلى ما سنسميه بعدُ بالوجود الأصيل، وبذلك ينفذ من قشور الوجود الزائف الذي يحيا في الأغلب الأعم حياته اليومية مستغرقًا فيه.
هل ألفنا الآن هذا المصطلح الجديد؟ فلنتقدم خطوة أخرى لنواجه المزيد! ولنتذرع بالصبر على تكرار كلمتي الوجود والموجود!
ما معنى هذه الأصالة؟ وكيف يكون الوجود غير أصيل؟ ما الذي يجعل الموجود الإنساني يقضي معظم حياته أو كل حياته بعيدًا عن الأصالة غارقًا في الزيف كل يوم؟
- (١)
بالسؤال عن معنى «العالم» في هذا التعبير.
- (٢)
ثم بالسؤال عن اﻟ «من» أي عن الإنسان في وجوده الوسط وحياته اليومية من حيث إنَّها وجود-مع-الآخرين ووجود ذاته في نفس الوقت.
- (٣)
إن «الوجود-في» هو أحد «الوجودات» التي قلنا إنها تميز «الموجود الإنساني»، وهو يعني حالة من الإلف، فالشيء الذي آلفه هو الشيء الذي أكون بالقرب منه أو أتريث عنده أو أقيم بجواره، وإذا كنا لا نستطيع أن ننظر إلى «الوجود-في» على أنه نوع من الاحتواء في المكان، فليس معنى هذا أن الموجود الإنساني لا عَلاقة له بالمكان، بل معناه أن علاقته به لا يمكن أن تُفهم على غرار الأشياء المحتواة في المكان، ويجب ألَّا نتصور أيضًا أننا نستطيع أن نتوصَّل إلى هذا «الوجود-في» عن طريق المعرفة على اختلاف نظرياتها؛ لأن الأمر في الحقيقة على العكس من هذا، فنحن لا نتوصَّل أبدًا إلى هذا الأسلوب النوعي الذي يُطلَق عليه اسم المعرفة إلا لأننا على الدوام في حالة إلف بالموجود، وهذا الإلف يتجلَّى في صور شتى من الانشغال به والاهتمام بأمره.
•••
ماذا نفعل إذًا؟
سيقودنا هذا كله إلى تحليلات هيدجر المعروفة عن الأداة، وهي — في تقديري على الأقل — من أروع ما قدَّمه «الوجود والزمان» وأبقاه، ولا شك أن القارئ قد اطَّلع على بعض هذه التحليلات فيما اطَّلع عليه في العربية من فصول ودراسات عن هيدجر، ويبقى علينا الآن أن نحدِّد معنى هذه التحليلات.
لا يعني هيدجر، بطبيعة الحال، أن يوجِّه للناس نصائح تُفيدهم في التعامل مع الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم؛ لأن هذا التعامل هو أقرب الأشياء منا وآلفه عندنا؛ فنحن ننشأ في هذا العالم وننمو ومعنا ينشأ التعامل مع أشيائه وينمو، ولا يعني هيدجر كذلك بأن يلقي علينا درسًا في تغيير العالم باستخدام هذه الأشياء والأدوات، ولا في اغتراب الإنسان عن نفسه من خلال العمل وكيف يقضي على هذا الاغتراب، إن الهدف من التحليلات «الأداتية» أن تُبين لنا الفهم المسبق أو «المعرفة السابقة» التي تفترض في كل إلف يتم بين الإنسان والأداة (مع ملاحظة أن هذه المعرفة السابقة لا تصدر عن أي موقف معرفي نظري، وأن التعامل مع الأداة يتمُّ من منظور قبلي خاصٍّ سابق على كل معرفة نظرية، بل إن البدء من هذه المعرفة لن يمكننا من التواصل إلى طبيعة الأداة).
لنضرب مثلًا بسيطًا، فلو رأيت أمامي مِطْرَقة وحاولت أن أصفها وصفًا نظريًّا، كأن أصف حجمها وشكلها ولونها ووزنها والمادة التي صُنعت منها … إلخ، لَما أدركت ماهية هذه المِطْرقة ولا عرفت شيئًا عن الوظيفة التي جُعلت لها، وهي أنها شيء يُستخدم في الطَّرْق، ولن أدرك أبدًا من خلال التأمل النظري الخالص إن كانت هذه المطرقة خفيفة أو ثقيلة، مناسبة للحمل أو غير مناسبة، إنما أُدرك هذا من خلال التعامل معها واستخدامها، فكل أداةٍ تصلح لشيءٍ ما، وفي كل تعامل مع الأداة يخضع المرء لنوع من الصلاحية؛ ولهذا نرى هيدجر يصف الأسلوب النوعي الذي يميز وجود الأداة بأنه «الوجود في متناول اليد»، وإن راعك هذا التعبير أو فاجأك بغرابته فتذكر أن الفيلسوف لا يزيد عن استخدام لفظ عويص للتعبير عن خبرة نحياها كل يوم!
ولكن ما شأن هذا التحليل للأداة بسؤالنا السابق عن «عالمية» العالم، أي عما يجعل العالمَ عالمًا؟
هنا يتضح لنا ما سبق أن أكدناه من أن الموجود-في-العالم لا يمكن أن يكون مجرد موجودٍ بين سائر الموجودات، وإنما يتميَّز قبل كل شيء بما لديه من قدرة على تفهُّم العالم تمكنه، أو بالأحرى تمكن الموجود-الإنساني، من الانفتاح على الموجود، كما تيسر للموجود أن يكون في متناوله، وليس هذا من قبيل إضفاء الذاتية على مفهوم العالم، وإنما هي نتيجة مترتبة على الحقيقة الموضوعية التي تقول إن العالمَ نفسَه — أو بالأحرى فهم العالم — من المكونات الرئيسية للموجود الإنساني، وهيدجر يؤكد هذا حين يفرق تفرقةً واضحة — في تحليلات لا يتَّسع المجال للخوض فيها — بين «فهم العالم» وبين تحديد ديكارت للعالم بأنه «شيء ممتد»، وهو تحديد يمكن في رأيه أن يرد إلى الأنطولوجيا القديمة.
إذا كان هيدجر يرفض مفهوم الشيء الممتد، فما هو رأيه في مكانية العالم؟ وما المعنى المكاني «الموجود في متناول اليد»؟ إنه القرب، ولا يصح أن نفهم القرب فهمًا ديكارتيًّا على أساس البعد الهندسي القابل للقياس، فهذا الفهم لا قيمةَ له في تعاملنا اليومي مع الأداة تعاملًا يقوم على الانشغال والاهتمام الذي يحدِّد الاتجاه الذي نبلغ به الأداة أو تبلغ إلينا.
والأداة لا توجد في مكان مجرد متجانس، مستوٍ؛ لأن لها موضعًا محددًا بها، فمن طبيعتها أن تقوم في مثل هذا الموضع أو المحل المحدَّد، لكي تكون بعد ذلك «تحت التصرف»، وهذا الموضع هو الذي يُتيح لنا أن نرى وجه الاستخدام الذي تصلح له، ومن ترتيب المواضع المختلفة بالنسبة لأداةٍ معينة يتكوَّن ما وصفناه «بكلية الأداة»، والمهم أن هذه المواضع لا يمكن تبديلها كيفما اتفق؛ لأن كل موضع منها متوقف على وجود الأداة التي تكون هي الأداة المحددة التي نحتاج إليها في القيام بنشاط محدد، فالموضع إذًا هو موضع أداة تنتمي إليه وتجد فيه المكان الملائم لها.
ومجمل القول أننا لا نُعطي مواضع متعددة ثلاثية الأبعاد يمكن بعد ذلك أن «نملأها» بالأشياء؛ إذ الواقع أننا نصل إلى المكان من خلال المنطقة المحيطة التي يتم في داخلها كل تنوع في الأدوات، فالعالم المحيط بنا هو الذي يمدُّنا بالمكان على شكل تنظيم للمواضع التي تتخذ اتجاهها المحدد من خلال ما نفعله ونهيئ له حياتنا.
•••
والأداة وُجدت بطبيعتها لكي يستعملها الآخرون، كما ساهم الآخرون أيضًا في إيجادها، إنهم كذلك معنا-هناك، ليسوا أغرابًا عنَّا، بل نحن نحيا معهم في وجود مشترك، ولا نميز أنفسنا عنهم، إن عالم الموجود-الإنساني عالم مشترك، هو عالم «المعية» أو الوجود-مع، و«الوجود-في» هو في صميمه وجود-مع-الآخرين، ووجود الآخرين في ذاته داخل العالم هو كذلك وجود-مع-الموجود الإنساني.
ولكن عبارة «الوجود-الإنساني هو وجود-مع» تحتاج إلى شيء من الإيضاح، فليس معناها أن هناك من الناحية الفعلية والواقعية أُناسًا آخرين يمكنني أن أبرهن على وجودهم في البيئة المحيطة بي، بل معناه أنني على الدوام منفتحٌ على الآخرين، وأنني بصورة مسبقة مع الآخرين، وحتى لو عزلت نفسي عنهم واعتصمت بوحدتي، فلن يسعني أن أفعل هذا إلا لأن وجودي بطبيعته وجود مشترك أو وجود-مع، والإنسان الذي يتجنَّب الاختلاط بغيره من الناس إنما يُثبت بهذا الفعل نفسه أن الغير حاضرٌ بوصفه ذلك الذي يتجنَّبه!
الناس يحملون عبء وجودنا، ويحسمون القرارات نيابةً عنَّا، وهنا يتم نوع عجيب من «التغطية» أو «التنكير»، فالسيطرة التي يفرضها الناس تُجيد التخفي، كل إنسان يعمل ما يعمله وكأنه هو ذاته، وما من أحد هو ذاته، الناس هم كل الناس ولا أحد، لا بد إذًا أن تكون هناك أصالة تواجه عدم الأصالة هذه، ولا بد أن يحاول الموجود-الإنساني أن يختار نفسه، على أساس إمكاناته الذاتية، صحيح أن الأمر لا يخلو أبدًا من مواقف وحالات يتعذَّر فيها اتخاذ القرارات الحاسمة واختيار الذات، نتيجة الظروف الخارجية التي تتحكم فينا كل لحظة، ولكن هيدجر لا يناقشها صراحةً، ويُؤثِر أن يضمنها كلامه الذي سيأتي بعدُ عن «رمي» الموجود-الإنساني أو كونه مُلقى به هناك.
ولا يقف الأمر «بالناس» عند هذا الحد، إن سيطرتهم لتمتدُّ وتتسع فتحدِّد كذلك فَهْم العالم والذات، لقد ضاع «الناس» في عالمهم؛ عالم كل الآحاد ولا أحد! وليس عجيبًا بعد هذا أن يفهموا أنفسَهم على مثال الموجودات غير الإنسانية، أو الموجودات الحاضرة وحسب، أي أنهم يحدِّدون أنفسهم تحديدًا «مقولاتيًّا» لا «وجوديًّا»، على نحو ما فعلت الأنطولوجيا القديمة التي نظرت إلى الإنسان نظرتها إلى موجود حاضر بين الموجودات، ولم تستطع أن تقترب من إنيته المتواجدة ووجوده المهموم بإشكال الوجود.
ونأتي الآن إلى العنصر الثاني من العناصر التي تكون وجود الموجود-الإنساني وهو التفهم أو الفهم، والواقع أن الوجدانية (التوجد) والفهم كليهما أوليٌّ أصيل، وقد رأينا عند الكلام عن الوجدانية أنها تنطوي على الفهم، وعرفنا أن التأثُّر الوجداني بطبيعته انفتاح أو تفتُّح، وبقيَ علينا أن نعرف أن الفهم حالة أساسية من أحوال الموجود الإنساني، وأن كلمة «الفهم» نفسها ليست مفهومًا مضادًّا للتفسير أو الشرح، ولو مضينا قليلًا في تعمُّق معنى الفهم، باعتباره أحد «وجودات» الموجود الإنساني، لرأينا أنه يكشف عن طابع «المشروع» الذي يشغل مكانًا هامًّا في تفكير هيدجر.
كيف يرتبط الفهم بالإمكان أو القدرة؟ إن الفهم — وهو في صميمه انفتاح — يتعلق دائمًا بتكوين الوجود-في-العالم في مجموعه، وهذا الوجود-في-العالم يكون على الدوام إمكان وجود-في-العالم، والعالم هنا ليس هو مجموع الكائنات الموجودة في داخله، فقد نفينا هذا مرارًا، ونستطيع الآن أن نضيف إليه أن الوجود-في-العالم باعتباره إمكان وجود أو استطاعة وجود، هو الذي يحرِّر كائنات العالم حين يحرر إمكاناتها، عندئذٍ يكتشف الموجود-في متناول اليد من جهة استخدامه واستعماله أو من ناحية ضرره وأذاه، وعندئذٍ نفهم ما قلناه من قبل عن حال الوجود في متناول اليد وما جُعل له، وما قلناه عن وَحْدة النسق الارتباطي للأداة وعلاقتها بالمكان والعالم المحيط والنطاق … إلخ، وأخيرًا يمكن أن تكتشف الطبيعة، أو وحدة الموجودات الحاضرة المتنوعة، على أساس انفتاح إمكانياتها.
وختامًا نصل إلى العنصر الثالث الذي يدخل في تركيب وجود الموجود-الإنساني، وهو الكلام، ماذا يقصد هيدجر بالكلام؟ ها هو ذا يجمع بينه وبين العنصرين السابقين مؤكِّدًا أنه يقوم على انفتاح الموجود-الإنساني على نفسه، وعلى العالم جميعًا.
وأخيرًا أودُّ في نهاية هذا الفصل أن أُشير إلى رأي يسوقه هيدجر في هذا المقام، ولا أدري موقف علماء اللغة منه، فهو يطالب بضرورة إرساء علم اللغة على أسس أنطولوجية أصيلة وتحريره من المفاهيم والأفكار المنطقية المسبقة التي تتحكم فيه.
(٣) الموجود-الإنساني والزمانية
فرغنا من التحليل التمهيدي للموجود-الإنساني، فهل وصلنا إلى تفسير «أصيل» لوجوده؟ هل بلغنا وحدته الكلية؟ هل تقدمنا على الطريق المؤدي للإجابة على السؤال الأنطولوجي الأساسي عن معنى الوجود؟
كان على تحليل الموجود-الإنساني أن يحقِّق هدفين: بيان المكونات الأساسية للوجود-في-العالم، وتوضيح وحدة هذه المكونات وترابطها، ولقد حققْنا الهدف الأوَّل وبقيَ علينا أن نخطوَ الخطوة الثانية في سبيل الهدف الثاني، وقد رأينا أن بناء الوجود-في-العالم يقوم على الانفتاح، وأن كلية هذا البناء وتركيبه الأساسي هو الهم، وعلينا الآن أن نكرر تحليلنا للموجود-الإنساني على ضوء الزمانية أو «التزمن».
لنقف وقفة قصيرة نسترجع فيها الخصائص الثلاث المميزة للموجود-الإنساني قبل المضيِّ في تحليلاتنا التالية لها، هذه الخصائص الثلاث التي كشفنا عنها هي: التواجد (أي أن الموجود-الإنساني دائمًا في حالة إمكان-وجود عليه أن يحققه)، والوجود الفعلي (أي أنه يتحدد دائمًا بما أُلقي فيه، ما وجد قبل أن يوجد، وما يتحتم عليه أن يتقبله ويوكل إليه) والسقوط (أي أنه يفهم نفسه من خلال ما يكونه، ويضيع ذاته في الموجودات المألوفة، وإملاءات «الناس» التي تحجب عنه أصالته أو تصور له أن أسلوب وجودهم هو وحده الأسلوب الأصيل).
علينا إذًا أن نفهم «إمكان الوجود» في كليته ووَحْدته الشاملة، ولن نفعل هذا حتى ندخل نهاية الموجود-الإنساني في تحليلاتنا، والنهاية هي الموت، التجربة الوجودية بالموت هي «الوجود للموت»، أو من أجله، وهي التي يتناولها القسم الثاني من الكتاب، لكي يصل منها إلى المشكلة التي تكشف عن صميم الوجود وطابعه الحميم؛ وهي مشكلة الضمير التي تشغل الفصل الثاني من هذا القسم وتبلغ ذروتها في تحديد وجود الموجود-الإنساني بأنه تصميم، ثم نتطرق في الفصل الثالث إلى إمكان الوجود الكلي للموجود-الإنساني على ضوء الزمانية بوصفها المعنى الأنطولوجي للهمِّ، أمَّا الفصول التي تتناولها الزمانية والحياة اليومية، والزمانية والتاريخية، والزمانية الداخلية باعتبارها الأصل في المفهوم السائد عن الزمان — الذي يقوم عليه مفهوم هيجل له — فسوف نغفلها في هذا العرض، آملين أن نرجع إليها في مجال آخر حتى لا نخرج عن هدف هذا الكتاب من بيان الارتباط الوثيق بين الوجود والحقيقة.
(٣-١) الوجود-للموت
- (١)
هناك «ليس-بعد» سيكونه الموجود-الإنساني ويرتبط به ما بقيَ حيًّا، وهو نوع من الافتقاد الدائم الذي يجعله يندفع نحو تحقيق إمكانياته.
- (٢)
أن بلوغ الموجود — الذي لم ينتهِ بعدُ — إلى نهايته يحمل طابع عدم الوجود أو استحالته.
- (٣)
بلوغ النهاية ينطوي، بالنسبة للموجود-الإنساني، على حال وجود لا يقبل البدل أو المناوبة، بمعنى أنه يموت وحده ولا ينوب عنه أحد آخر.
ليس الموت «حدثًا» أو «حالة وفاة» أو نهاية تبلغها الأنا بعد أن تقطع عمرًا طويلًا أو قصيرًا، كما تُصور لها الأنطولوجيا التقليدية التي تتناول الموجودات الحاضرة أمامها دون تمييز، وتعدُّ الإنسان واحدًا منها يسري عليه ما يسري عليها من مقولات، إنما الموت ظاهرةٌ لا بد أن تُفهَم فهمًا وجوديًّا، ولا بد من توضيح معناها المتميز وتحديد معالمه.
كيف نفهم الموت باعتباره نهاية الموجود الإنساني؟ أهو صيرورته إلى ما لم يكنه بعد؟ أهو اكتمال تحققه أو السير نحو تحقيقه على نحو ما تكتمل الثمرة وتنضج من داخلها؟ ولكن كم من موجود-إنساني انتهى قبل أن يبلغ الكمال! وكم من موجود-إنساني بلغ الكمال قبل موته، أو انتهى — وهذا هو الأغلب الأعم — مستهلكًا وبعيدًا كل البعد عن الكمال! فكيف يكون الموت نهاية الموجود-الإنساني؟ أهو توقف وانقطاع، كما يتوقَّف المطر مثلًا؟ لكن وجود الموجود-الإنساني مختلف كل الاختلاف عن وجود الأشياء الحاضرة أمامنا أو الأشياء التي نستخدمها ونتناولها بأيدينا، ولا وجه للمقارنة بين النهاية في الحالين.
الموت ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة أسلوب وجود مرتبط بالوجود-في-العالم، فكأن الموت هو إمكانية عدم-الوجود-في العالم أو إمكانية استحالة كل إمكانية! وعبثًا نحاول أن نفهم الموت من تجربتنا بموت الآخرين أو من الملاحظات التي تجمعها علوم الحياة والطب والنفس واللاهوت والتاريخ والأثنولوجيا والأنثروبولوجيا … إلخ عن ظواهر الحياة والموت؛ لأن التفسير الوجودي للموت — أي موتي أنا — يتقدَّم على هذه التفسيرات جميعًا ويفترضها.
ولكن مَن منَّا يبلغ هذا الفهم الأصيل للوجود-للموت؟ ألا نعيش حياتنا اليومية مقيدين بحياة «التوسط» وما يقوله الناس ويُملُونه علينا؟ وما الذي يميز هذا الوجود اليومي للموت؛ هذا الوجود غير الأصيل الذي يُلقي ظله علينا ويحاول دائمًا أن يمدَّنا بالراحة والعزاء ويخفي عَنَّا فاجعة الموت؟
لن يتعذر علينا تبيُّن ملامح هذا الوجود اليومي للموت؛ لأننا سنعرفها من خلال ما عرفناه من قبل عن «الناس» الذين يكونون الرأي العام ويعبرون عن أنفسهم باللغو والثرثرة، إن للناس أيضًا فهمَهم للوجود من أجل الموت، فكيف يفهمونه ويثرثرون حوله؟
الحياة العامة التي نحياها مع الآخرين تعرف الموت بوصفه حادثًا يقع كل يوم، حالة وفاة تتكرر كل ساعة ولا يصح أن تُفاجئنا أو تشد انتباهنا أو تشغلنا أكثر مما ينبغي لها، ولا يصح أن توقف عجلة أعمالنا أو تعطل دولاب سيرنا وسعينا، والناس يهونون من شأن الموت، ويؤمِّنون أنفسهم منه، ويقذفون به في حلق المستقبل البعيد قائلين: أجل! كلنا لها، كل إنسان صائر للموت، ولكنه لا يعنينا الآن، ولم يصبنا في هذه المرة على الأقل، كل إنسان يموت، أي لا أحد يموت بحق، هذا هو الالتباس الذي يقع فيه الناس حين يلغون ويثرثرون عن الموت، إنه في نظرهم شيءٌ غير محدد، لا بد أن يأتيَ من مكانٍ مجهول، في وقت غير معلوم، ولكن لا خطرَ منه الآن! هو مجهول يُصيب مجهولين، مجرد حادث يصيب كل إنسان ولا يصيب إنسانًا بالذات، هو حالة مألوفة، واقع متكرر، ولهذا يهربون منه، يحجبون طابع الإمكان الذي ينطوي عليه وما يتصل به من توحُّد رهيب ينبع من انعدام كل علاقة واستحالة النجاة منه أو تخطِّيه، بهذا يحرمون الموجود-الإنساني من أخص إمكانيات وجوده، ويزيِّنون له أن يضيعَ في الناس ومسكناتهم المألوفة عن الموت، كما يئدون فيه شجاعة القلق الذي يواجهه به.
هكذا يسقط الموجود-الإنساني في هذا الفهم اليومي الذي يُصبح هروبًا مستمرًّا من الموت، وإن دلَّ هذا على شيء فهو يدل على أن الموجود-الإنساني في حياته اليومية يوجد أيضًا للموت أي لأخصِّ إمكانيات وجودِه وألصقِها بحقيقته، ولكنه وجود ناقص، لا يعدو أن يكون نوعًا من عدم الاكتراث بهذه الإمكانية القصوى، وإذا انشغل بالموت — كأن يُبديَ شيئًا من الرعاية للآخر الذي يحتضر — فإنما يفعل هذا ليُقنعه بأنه سوف يُشفَى ويرجع للحياة اليومية المألوفة، أو يهمس في سمعه بالكلمات المحفوظة: الموت حقٌّ على كل إنسان، الآخرة خير من الدنيا، الحياة الحقيقية هناك … إلخ، الموت عند الناس يقيني، محتوم، لا مفرَّ منه، ولكن هذا كله يأتي من تجربتهم بموت الآخرين، بحقيقة معروفة جربها كل الناس قبلنا، وقد تقع لمن «نرعاه» ونعزيه عنها، ولكنها لم تزل بعيدة عَنَّا مؤقتًا، ومثل هذا اليقين المزعوم يلغي اليقين المميز للموت ويحجبه — أعني يقين إمكانه في كل لحظة — وهو الذي ينبع من إمكانية الوجود الخاصة بالوجود الإنساني نفسه.
ما علاقة هذا بإمكان وجودنا الكلي الذي نشعر به من خلال الموت؟ وما الصلة بينه وبين الهمِّ باعتباره المكون الأساسي للموجود الإنساني؟
إن الوجود للموت يقوم على الهم، فالموجود الإنساني، من حيث هو وجود، مُلقى به — في العالم — مسلم دائمًا إلى موته، ووجوده لموته يجعله يموت دائمًا وبالفعل، ما بقيَ موجودًا ولم يبلغ نهايته بعد، ومعنى أنه يموت دائمًا وبالفعل في كل لحظة تقع بين الميلاد والوفاة؛ أنه قد اختار بشكل من الأشكال نوع وجوده للموت، وتهربه اليومي منه هو نفسه وجود غير أصيل للموت (فعدم الأصالة يقوم على الأصالة، كما أن اللاحقيقة تقوم على الحقيقة).
إذا كان الموجود الإنساني في حياته اليومية يوجد للموت وجودًا غير حقيقي وغير أصيل، فهل يمكنه أن يتوصَّل للفهم الحقيقي له، أي لإمكانيته الحميمة، الخالصة من كل علاقة، المُتأبية على كل تخطٍّ، اليقينية وإن تكن غير محددة؟ إن الوجود الأصيل للموت يدل على إمكانية الوجود الأصيل للموجود الإنساني. فما هي الشروط الوجودية لهذه الإمكانية؟
•••
الوجود-للموت مرتبط إذًا بالقلق ارتباطه بالاستباق والتصميم، وهذا كله بالوجود الذاتي الأصيل، فكيف يتم هذا؟ علينا قبل الكلام عن ظاهرة الضمير التي تقدم الشهادة الواقعية الحية على هذه الأصالة أن نتحدَّث بإيجازٍ عن القلق والتصميم.
أمَّا القلق الذي يشعر به الموجود الإنساني إزاء الموت فهو القلق إزاء أخص إمكانيات وجوده التي تجردت من كل علاقة واستحالت على كل تخطٍّ أو نجاة، وما يقلق منه القلق هو الوجود-في-العالم نفسه، وما من أجله يقلق هو إمكان وجود الموجود الإنساني، ولا يصح أن نخلط بين هذا القلق من الموت وبين الخوف من انتهاء الحياة، فليس هذا القلق حالة ضعف تنتاب الفرد، وإنما هو تأثر وجداني أساسي للموجود الإنساني، هو انفتاح على حقيقة كونه وجودًا «مرميًّا» مُلقى به، موجودًا لأجل موته، بهذا يختلف الموت عن التلاشي والاختفاء أو مجرد الانتهاء، كما يتضح تصور الوجود للموت باعتباره وجودًا مُلقى به نحو أخص إمكانياته.
(٣-٢) نداء الضمير
الوجود الأصيل إذن ولا شيء سواه!
هذا هو المثل الأعلى لفلسفة هيدجر التي يغلب عليها طابع «المباطنة» أو «الكمون» في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده، لكنها لم تستطع أن تصل إلى هذا الوجود عن طريق التحليل الفينومينولوجي (الظاهرياتي) الخالص؛ لأن طبيعة الأشياء لم تسمح لها بذلك، ولا بد لها الآن أن تبحث في أرض «ظاهراتية» تثبت عليها، وأن تفتش في جذور الموجود-الإنساني نفسه وفي أعماق تربته عن ظاهرة واقعية أو شاهد حي على قدرته على اختيار إمكانية وجوده الأصيل. أين تجد هذه الظاهرة؟ كيف تعثر على هذا الشاهد الحي؟
لقد وجدته بالفعل فيما نصفه عادةً «بصوت الضمير»، ففي الضمير ينادي الموجود-الإنساني ذاته، غير أنه نداء هاتف بلا صوت، يتردد في رهبة الصمت، ليس هناك شيءٌ محدد يُنادى به؛ لأن الموجود-الإنساني نفسه هو الذي يُنادى ويهاب به ويفزع من رقاده، ولأن الضمير لا يتكلم إلا بالصمت، فإن نداءه يحمل الموجود-الإنساني على التكتم، وليس عجيبًا أن يبدوَ النداء وكأنه صوت غريب عليه، فما من شيء يبدو في نظر الموجود-الإنساني السادر في عالم الناس أغرب من الذات الملقاة في العدم، المتوحدة مع نفسها توحُّدًا مطلقًا، أضف إلى هذا أن المنادي يصيب من يناديه إصابة مؤكدة، ولا تفسير لهذا إلا بالهوية التي تجمع بينهما.
ويصف هيدجر موقف التوتر الذي ينجم عن الإنصات الحقيقي لنداء الضمير، ويقرر فيه الموجود-الإنساني اختيارَ إمكانية وجوده الحق بأنه هو التصميم الذي يتحدَّد به وجود الموجود-الإنساني، فالانفتاح على نداء الضمير — أو إرادة أن يكون لي ضمير — ظاهرة تظل مستغلقة على الناس؛ لأنها مرتبطة بما يتهرَّب منه الناس وينشغلون عنه، بتجربة عدمية الموجود-الإنساني الذي يشعر بها في القلق، وبالفهم كشروع للذات على أقصى إمكانياتها الحميمة، وبالكلام (لأن أسلوب الصمت الذي يهتف به الضمير حالٌ من أحوال الكلام)؛ ومن ثَمَّ يُصبح التصميم حالًا متميِّزًا للانفتاح الحق الذي يوصد الناسُ أبوابَهم دونه، ونصل إلى هذه الصيغة النهائية العويصة التي تعبر عن التصميم أو المثل الوجودي الأعلى لإمكان الوجود الحق بأنه: «المشروع الذاتي المتكتم القلق على الوجود الحميم المذنب».
•••
إن الضمير ينادي إنية الموجود-الإنساني أو ذاته من غمرة الضياع في «الناس»، والمنادي والمنادى عليه غير محددين ولا معروفين، فالنداء لا يهتم بطبيعة من يناديه ولا بما يفهمه عن نفسه، ولا يكترث بشخصه أو اسمه أو أصله أو طبقته، ومع ذلك فهو يُصيبه — كما قلنا — إصابة مؤكدة؛ لأن الموجود الإنساني نفسه هو المنادِي والمنادَى.
ونحن لا نخطط لهذا النداء، لا نوجهه عن قصد ولا نعد له، إنه نداءٌ مجهول، لم نتوقَّعْه، ولم نُردْه، وهو لا يصدر عن «آخر» يشاركني أو أشاركه حياتي في العالم، إنه ينبعث من داخلي، ومع ذلك يرتفع فوقي ومن المستحيل أن يكون صوتًا غريبًا يأتي من قوةٍ عُلْيا تعلن عن وجودها فيَّ، أو أن يكون مظهرًا من مظاهر حياتي البيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية، إنه — من الناحية الأنطولوجية — ظاهرة متعلقة بالموجود-الإنساني مرتبطة بتكوينه الوجودي، وهذا وحده هو الذي يهدينا إلى تفسير الصوت الصامت المجهول الذي يصعد نداؤه من أعماقنا ويرتفع فوقنا ويهيب بنا أن نحقق إمكان وجودنا الأصيل.
•••
ما هو معنى الذنب وكيف نكون مذنبين؟
لا بد من الرجوع إلى الموجود-الإنساني نفسه لفهم ماهية الذنب، كما رجعنا إليه لفَهْم الضمير والموت، وطبيعي ألَّا نرجع للناس لنسأل عنه؛ لأن السؤال الحقيقي عن الماهية غريب عنهم غربة كل سؤال أنطولوجي أصيل، ولأن تصورهم للذنب نابعٌ من حياتهم المشتركة المنشغلة بالعمل والتملُّك؛ بحيث يكون الذنبُ في رأيهم مساويًا للإضرار بهما وبالصالح العام وتقاليده وقوانينه.
من أين نستمد إذًا معيار المعنى الوجودي عن الذنب والمذنب؟ من كونه صفة «للأنا أكون»، هل يكون الذنب في أسلوب وجود الموجود-الإنساني بما هو كذلك، بحيث يكون مذنبًا بقدر ما يكون موجودًا بالفعل؟ ألَا يستلزم هذا أن نرتفع بفكرة الذنب عن مستوى الوجود المشترك المنصرف إلى الشئون العملية الحاضرة، كما نرتفع به فوق مستوى ما ينبغي وما يحق للآخر، وما يفرضه العرف أو الخلق أو القانون؟
إن وجوده هو الهم، والهم ينطوي على الوجود الفعلي هناك (الإلقاء) والتواجد (الشروع) والسقوط، والموجود الإنساني ملقى به بلا إرادة منه في «الهناك»، ولقد عرفنا وجوده بأنه إمكانية وجود متعلقة به ومع ذلك لا يملك تحقيقها، ولهذا فهو السبب في إمكانية وجوده كما أنه من ناحية أخرى ليس هو الذي وضع هذا السبب بنفسه؛ ولهذا يحيا في التناقض والهمِّ الذي يكشف عنه التأثُّر والوجدان؛ فعليه أن يضع أساس هذا السبب (بأن يشرع نفسه على الإمكانيات التي ألقى فيها)، ولكنه في نفس الوقت لا يتمكن منه أبدًا، ويعجز عن تحقيق إمكانية وجوده التي يتعلق بها همه فيبقى دائمًا وراءها، أشبه بمن يجري وراء ظله وظله يجري وراءه! فهو يحيا من خلال إمكانية وجوده، بل هو هذه الإمكانية نفسها، غير أنه لا يتمكَّن أبدًا من تحقيقها، هذه «اللا» جزءٌ من المعنى الوجودي «للإلقاء»، أي أن «اللا» أو العدمية تكون وجود الموجود-الإنساني الملقى به، من هنا كان عليه دائمًا أن يكون وأن يفهم نفسه من خلال إمكانياته، أو من خلال مشروعه، والمشروع في صميم تكوينه سلبي أو عدمي، وهذه العدمية مرتبطة بحرية الموجود-الإنساني تجاه إمكانياته، والحرية تكمن في اختيار إحدى هذه الإمكانيات دون الأخرى، فكيف نجمع بين هذه العدمية الأساسية وبين الهم والذنب؟
إن بنية الإلقاء والمشروع كليهما تنطوي على العدمية، هذه العدمية هي السبب في إمكان عدمية الموجود-الإنساني الأصيلة في حالة السقوط التي تلازمه في الواقع، والهم نفسه — من جهة ماهيته — تتغلغل فيه العدمية تمامًا، والهم — أي وجود الموجود-الإنساني باعتباره مشروعًا ملقى به — يعني السبب «العدمي» للعدمية، وهذا يدل على أن الموجود-الإنساني من حيث هو كذلك مذنب، وذنبه الأساسي هو الشرط الأنطولوجي الذي يجعله مذنبًا من الناحية الفعلية، كما هو الأصل في الخير والشر والأخلاقية بعامة.
هكذا نرى أن نداء الضمير الذي يهتف بالموجود-الإنساني هو في الواقع نداء لا يحضُّه على الخطأ والشر، ولا يقلب وظيفة الضمير المتعارف عليها (فدعوته إلى الشعور الواعي بذنبه لا يعني بالضرورة أن يرتكبَ ذنبًا من الذنوب التي ينكرها الناس وتحرمها القواعد والقوانين!) إنه على العكس من ذلك نداءٌ منبعثٌ من أعماق الموجود-الإنساني نفسه، يحثُّه على تحقيق إمكانية وجوده، ولو أحسن الإنصات إليه لفهم أخص إمكانياته، وتحرَّر للاستجابة لها، واختار نفسه بنفسه! عندئذٍ يصبح معنى الفهم لنداء الضمير هو أن أريد أن يكون عندي ضمير! وعندئذٍ يصير الضمير شهادةً حية مجسدة — كامنة في أعماق الموجود الإنساني — على وجوده الممكن، أي على ذنبه الأصلي، ونداء يستحثه على أن يكون هو نفسه وأن يحقق وجودَه ويتحمَّل مسئوليته ويصمم على اختياره.
•••
ما علاقة هذا التصميم بالحقيقة؟
إن التصميم حال متميزة من أحوال انفتاح الموجود-الإنساني، وقد فسرنا الانفتاح أثناء كلامنا عن «السؤال عن الحقيقة» بأنه هو الحقيقة الأصلية، كما عرفنا أن الحقيقة ليست صفةً من صفات «الحكم» ولا هي صفة لأي سلوك معين، وإنما هي عنصر أساسي في تكوين الوجود-في-العالم، ولا بد من فَهْمها من خلال التركيب الوجودي — أو بالأحرى التواجدي! — للموجود-الإنساني، وقد رأينا أيضًا أن عبارة «الموجود-الإنساني يكون في الحقيقة» لا يمكن تفسيرها من الناحية الأنطولوجية إلا على أساس أن انفتاح الموجود-الإنساني يكشف لنا عن حقيقة الوجود وأصالته.
ونستطيع — بعد هذه الرحلة المضنية! — أن نقول إن التصميم نفسه هو حقيقة الموجود-الإنساني ولب أصالته، ولا نريد أن نكرِّر ما ذكرناه عن الانفتاح على العالم بما فيه من موجودات وأشياء حاضرة أمامنا أو في متناول أيدينا، فأهم من ذلك أن نقول إن النداء الذي يحثنا على الخلاص من التشتت والضياع وسط «الناس» يمكن أن يُفهَم الآن على أنه تصميم، هذا التصميم أو هذا الوجود الذاتي الأصيل للموجود-الإنساني لا ينتزعه من عالمه ولا يحيله إلى أنا منعزلة «خالصة» لا وجود لها في الواقع، وإنما يحرره لعالمه ولا مكان وجوده ووجود الآخرين المشتركين معه وجودًا حقيقيًّا.
ربما يسأل القارئ: لقد أطلت الكلام عن التصميم، فما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟
نعود فنسأل: ما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟
والجواب يقدمه قراره وحده، ونخطئ لو تصورنا أنه مجرد محاولة لبلوغ الممكنات المتاحة أو المرغوب فيها، فالقرار هو الذي يحدد هذه الممكنات وينفتح عليها من خلال المشروع، ولهذا كان التصميم مرتبطًا «بعدم التحدد» الذي يميز كل إمكان فعلي للموجود الإنساني؛ ولهذا أيضًا لا يؤكد التصميم إلا القرار، ولا يتحدَّد طابعه الوجودي إلا من خلاله.
ما الهدف إذًا من التصميم؟
يحدد هذا الهدف من الناحية الأنطولوجية «وجودية» الموجود الإنساني من حيث هو إمكان وجود على هيئة رعاية مهتمة بالآخرين، ونحن نعلم أن الموجود-الإنساني، بوصفه همًّا، يتحدَّد عن طريق وجوده الفعلي وسقوطه، وكلما انفتح على وجوده الفعلي «هناك» ألقى نفسه في الحقيقة واللاحقيقة على السواء، ويصدق هذا بوجه خاص على التصميم الذي وصفناه بأن هو الحقيقة الأصلية.
ولكن إلى أي مدى يرتبط هذا الوجود الكلي بالزمان؟ وفي أي بُعد من أبعاده أو أية «انبثاقة» من انبثاقاته يتحقَّق؟
هذا ما سنحاول الآن أن نراه.
(٣-٣) انبثاقات الزمان
طبيعي ألَّا تكون الزمانية دائمًا زمانية أصيلة، فكيف نفرق بين الأصيل منها وغير الأصيل؟ لا بد لهذا الغرض من بحث «الموجودات» التي تكلمنا عنها من قبل، وهي الفهم والتأثُّر الوجداني والسقوط والكلام، لنرى دورَ الزمان فيها ونبيِّن أنها في صميمها زمانية، هنا يجمع هيدجر الخيوط التي سبق أن قدَّمها متفرقة، ويرجع للتحليلات التي تابعناها من قبل لينظر إليها في أفق جديد، وليس هذا من قبيل التَّكرار، وإنما هو إضاءة للبناء الكلي ومحاولة لفهمه على ضوء الزمانية.
لنبدأ بالفهم، كيف يتجلَّى طابعه الزماني؟
هذا عن الموجود-الإنساني الأصيل، فماذا عن الموجود-الإنساني غير الأصيل؟
أمَّا التزمُّن غير الأصيل للفَهْم فيقابله — في انبثاقه الحاضر — الإحضار، ومعنى الإحضار أن الوجود-الإنساني — أو إمكانية الوجود — لا يفهم ذاته إلا من خلال ما ينشغل به وما يكون حاضرًا أمامه، على حين أن التزمُّن الأصيل مرتبطٌ بالمستقبل ولا يضيع نفسه أو يشتِّتها فيما ينشغل به.
بقيت الانبثاقة الثالثة للزمن، وقد تبيَّن مما قلناه عن الفهم الأصيل أن الموجود-الإنساني يحتفظ بما كانه أو انقضى منه أثناء الاستباق.
هنا يلمس هيدجر مسألة الهوية (أي هوية الذات مع ذاتها) التي يكثر حولها الجدل في الفكر المعاصر، فالموجود-الإنساني يسترد نفسه في أثناء هذا الاستباق ويعود من جديد إلى الإمكانية الحقة لوجوده؛ ولهذا يصف الانقضاء الأصيل بأنه تَكرار (وهو مصطلح نعرفه من كيركجورد الذي أنشأ حوله قصةً فلسفية مؤثرة شائقة، وإن اختلف مدلوله عند المفكرين اختلافًا كبيرًا) فإذا اقتصر الموجود-الإنساني على اكتساب إمكانياته من تعامله مع الموجودات المنشغل بها، نسي ما كانه وما يحدد له ما يمكن أن يكونه، فالنسيان حالة ناقصة من أحوال تزمُّن الانقضاء أو ما قد كان، حين يكون هذا التزمُّنُ غير أصيل، وفي حياتنا اليومية شواهدُ كثيرةٌ على تنكُّر الإنسان لماضيه ومحاولته إسدال ستر من التجاهل والنسيان عليه حين يكون بصدد التخطيط لمستقبله (أو الشروع له كما يقول هيدجر)! وهو بهذا الأسلوب ينغلق على نفسه، وينخدع فيها، ويتهرب منها، وفي الأدب المحلي والعالمي شواهد عديدة تقدم لنا شخصياتٍ تهرَّبت من شبح ماضيها وحاولت أن ترتفع إلى قمة الطموح والمجد فهوَتْ في وادي الآلام والموت (وتحضرني الآن بداية ونهاية لنجيب محفوظ، والأحمر والأسود لستندال، والبطة الوحشية لإبسن) وهذا هو موقف عدم التصميم الذي يقع على طرفي نقيض من موقف التصميم الذي ذكرناه.
فإذا انتقلنا أخيرًا إلى زمانية السقوط وجدنا أن خير ما يوضِّحها هو التطفل أو الفضول، في هذا الفضول يتمُّ نوع من «الإحضار» الذي يبقى مع ذلك حبيسًا بين جدران الزمن الحاضر؛ إذ ينغلق الفضول على نفسه دون الاستباق إلى الإمكانيات الحميمة التي تنغلق دونه، إن الفضولي يعيش في حاضر فاسد، كل همه فيه هو الإحضار أو تكويم المعلومات والأخبار، ويظل بعيدًا عن الحاضر الحقيقي الذي ينبع من استباق إلى المستقبل وتكرار ما كان وانقضى؛ ولهذا كان الفضول حفرةً بلا قرار.
الانبثاقات الزمنية | التزمن الأصيل | التزمن غير الأصيل |
المستقبل | الاستباق | التوقع (التهيؤ) |
الحاضر | اللحظة | الإحضار |
الانقضاء | التكرار | النسيان |
مهما يكن من شيءٍ فلا بأس من إعادة ما قلناه من أن انبثاقات الزمن الثلاثة — التي نسميها عادةً بالماضي والحاضر والمستقبل — ماثلةٌ على الدوام في كل تزمن، وإن كانت إحداها تطغى على الأخريين في كل حالة على حدة، فالفهم مثلًا يطغى عليه المستقبل (الاستباق أو التوقع)، والتأثُّر الوجداني يتفوَّق فيه الانقضاء (التكرار أو النسيان) والسقوط والكلام يغلب عليهما الحاضر (اللحظة أو الإحضار)، وفي نفس الوقت يمكن تأكيدُ ما قلناه من أن الانبثاقات الزمنية الأخرى تؤدي دورها مع الانبثاقة الغالبة، فالفهم حاضر انقضى وكان، والتأثُّر مستقبل وحاضر، ومعنى هذا أن الزمانية تتجلَّى كاملةً في كل انبثاقة على حدة، وأن «الوحدة الانبثاقية لتزمن الزمانية تقوم عليها كلية البناء الكامل للتواجد، والوجود بالفعل، والسقوط، وهذا هو معنى وحدة بناء الهم»، وهو كذلك المعنى الذي انتهينا إليه من كل هذه التحليلات التي بينت لنا أن الهم يقوم بناؤه وتركيبه على الزمانية، وهذا يدلنا في النهاية على أن الموجود-الإنساني — بإمكانياته الأساسية وانفتاحه، وأصالته، أو عدم أصالته — يقوم على الزمانية التي تتمثل فيها عناصر التزمن في وحدة واحدة.
(٤) السؤال عن الحقيقة
أليس من الطبيعي إذن في بحثٍ يصف نفسه بأنه بحث في «الأنطولوجيا الأساسية» أن يهتم بهذا الارتباط الأصلي بين الوجود والحقيقة ويُلقي الضوء كذلك على العلاقة بين الموجود-الإنساني والحقيقة، لكي يبين لنا في النهاية أن الوجود لا ينفصل عن الحقيقة، كما أن الحقيقة ملازمة للوجود؟
- (١)
التصور التقليدي للحقيقة والأسس الأنطولوجية التي يقوم عليها.
- (٢)
الظاهرة الأصلية للحقيقة والأصل في التصور التقليدي الذي وصلنا عنها.
- (٣)
نوع وجود الحقيقة والشروط التي تعتمد عليها.
إذا كانت طريقة السؤال هي أهم ما يُميِّز الفيلسوف ويوجِّه فكره، فإن هيدجر يتجه بسؤاله عن الحقيقة وجهة جديدة، إنه يبدأ من التصوُّر السائد المألوف عن الحقيقة، وهو تصور راسخ في أذهاننا منذ أرسطو وابن سينا وتوماس الأكويني؛ لكي يرجع إلى الظاهرة الأصلية التي حجبها هذا التصور، ولقد استقر الرأي في هذا التصور على أن العبارة — الحكم أو القضية — هو محل الحقيقة وموضوعها، وأن ماهية الحقيقة تقوم على تطابق الحكم مع الموضوع، وهو رأي يستند إلى أرسطو الذي يُنسَب إليه تحديد هذا الوضع وإطلاق هذه الصيغة، فهل قال أرسطو ذلك صراحةً؟
هكذا يكون فعل المعرفة — الذي نعبِّر عنه في صورة حكم أو عبارة — مسلكًا نتَّخذه من الموجود لكي نكشف عنه أو نكتشفه، هذا الاكتشاف هو مركز الثقل في الموضوع كله؛ لأن التوفيق بين العمليات النفسية والمضامين المثالية التي تُضفي على كل شيء واقعي هو في الحقيقة أمر عرضي لا أهمية له، إن معنى العبارة هو إتاحة رؤية الموجود الذي نعبر بها عنه؛ ومِنْ ثَمَّ تكون الحقيقة هي الاكتشاف، ويكون التوصُّل إلى الحق عن طريق الكشف، لكن من الذي يقوم بهذا الكشف غير الإنسان؟ ألا يتحتَّم أن يكون موجودًا-في العالم لكي يتمكَّن من القيام به؟ — الواقع أن هذا هو الذي يتعرَّض له القسم الثاني من هذا المبحث.
ربما اعترض معترض بأن الأمر لا يخرج عن وضع كلمة الموجود الإنساني (الدازاين) في مكان كلمة «الذات» وأنه لا يعدو أن يكون صورة جديدة من هذه الصيغة الفلسفية الحديثة: «الوعي هو الوعي بالذات»، ولكن هذا الاعتراض وأمثاله يخطئ تفكير هيدجر ويخرج عنه منذ البداية، فمفهوم الموجود الإنساني مختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الوعي، ولا يمكن أن يكون كلمة جديدة وضعت في مكان كلمة قديمة، وسيزول هذا الاعتراض إذا عرفْنا أن هيدجر ينأى بنفسه عن «الذاتية» و«الإنسانية» بمعانيها التقليدية التي تأكَّدت منذ ديكارت وعبر المثالية الألمانية حتى كيرجورد ونيتشه، كما أنه ينظر إلى الموجود الإنساني منذ البداية على أنه «وجود-في-العالم» ويرتب على ذلك نتيجة لم تكن تخطر للفلسفة الحديثة على بال، إنه لا ينطلق من ذاتٍ معزولة أو منعزلة، يكون عليها بعد ذلك أن تنتقل إلى «المتعالي» — سواء فهمناه بمعنى الوجود أو العالم الخارجي أو بمعنى العالم أو الله — وإنما يبدأ من الموجود الإنساني من حيث هو وجود-في-العالم، فيؤكد البناء الأساسي الذي يتميز به ويوضح كل ما يرتبط به من «وجودات» تقوم على تزمنه، وكلها آراء لا يشك منصف في أنه لم يسبق إليها.
نخلص من كل ما تقدم إلى نتيجتين: أولاهما أن الحقيقة الأصيلة تقوم على انفتاح الموجود الإنساني، وهي لا تقوم على تفتُّحه على ذاته فحسب، بل كذلك على تكشُّف الموجود في عالمه، وثانيتهما أن الموجودَ الإنسانيَّ يوجد أصلًا في الحقيقة واللاحقيقة على السواء.
يمكننا الآن — على ضوء ما ذكرناه من تميُّز الموجود الإنساني بفهم الوجود — أن نقول إن فهم الوجود نفسه مستحيلٌ بغير الانفتاح، وإن الموجود الإنساني لا يفهم نفسه وعالمه إلا لأنه يوجد أو يتواجد دائمًا في هذا الانفتاح، وهذا هو الذي يميِّزه تمييزًا واضحًا عن سائر الموجودات التي يستخدمها وتكون في متناول يده، كما يميزه عن الموجودات التي تكون حاضرة أمامه، وتختلف عنه في أسلوب وجودها.
قلنا إن هيدجر تناول مشكلة الحقيقة لأول مرة في كتاب «الوجود والزمان»، ثم توسَّع فيها بعد ذلك في دراسات ومحاضرات مختلفة، ولقد بدأ بحثه، كما رأينا، بالنظر في المفهوم التقليدي للحقيقة، وأرجع هذا المفهوم القائم على فكرة التطابق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل إلى تكوين الموجود الإنساني المتميز قبل كل شيء بالقدرة على الكشف والانفتاح على نفسه وعلى العالم، والقول بأن الموجود الإنساني «يكون في الحقيقة» لا يعني أن هناك حقائق تغرسها فيه قوى خارجية عنه، بل معناه أنه وجود-في-العالم منفتح بصورة دائمة على عالمه وكل ما يتصل به، ولا شك أن هذا الفهم الجديد للإنسان قد تجلى في فهم جديد مثله للحقيقة، وإذا كان هيدجر قد عزز رؤيته الجديدة بالتفسير الذي قدَّمه لبعض نصوص المفكرين اليونان المبكرين (أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز) إلى جانب تأويلاته لبعض نصوص أفلاطون وأرسططاليس، فلم يكن هذا مسألة عرضية، ولم يكن لونًا من ألوان التأريخ الفلسفي، أو ضربًا من ضروبِ الحذلقة اللغوية، لقد كان من الطبيعي أن يدخل في حوار مع أولئك الذين أسَّسوا الميتافيزيقا وأرسَوْا مناهج التفلسف وصاغوا مشكلاتِه التي لم تزل ملزمة للأجيال، وكان من الطبيعي أن يجد لديهم الأفكار التي كانت بمثابة العلامات على الطريق، ولا يملك أحد أن يغفلها أو يتنصل من واجب التفكير فيها.
وأخيرًا فقد كان البحث في وجود الإنسان في «الوجود والزمان» مجرد تمهيدٍ للسؤال الأساسي الذي لم يكف هيدجر عن إلقائه والتنبيه إليه، وهو السؤال عن معنى الوجود، ولهذا كان من الطبيعي أن يتناولَ مشكلةَ الحقيقة في نفس الكتاب بصورة مؤقتة، وأن يرجع إلى هذا الشطر الثاني من نواة تفكيره في بحوثه التالية، ولقد فعل هذا بوجهٍ خاصٍّ في رسالته عن «ماهية الحقيقة» التي يتعيَّن علينا الآن أن ننظر فيها لنرى ما أضافه إليها من جديد.
(٤-١) ماهية الحقيقة
كانت «ماهية الحقيقة» محاضرة ألقاها هيدجر في خريف وشتاء سنة ١٩٣٠م في مدن ألمانية مختلفة، ثم أعاد النظر فيها وأضاف إليها الملحوظة الختامية قبل نشرها سنة ١٩٤٣م، وإذا تذكرنا أن كتابه الأساسي «الوجود والزمان» قد ظهر سنة ١٩٢٧م، وأن محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا?» قد صدرت سنة ١٩٢٩م، أمكننا القول بأن «ماهية الحقيقة» هي أول عمل فلسفي بالمعنى الكامل يظهر بعدهما، ولعلنا لا نتورَّط في المبالغة إذا قلنا إنها من أهم أعماله الفلسفية.
والرسالة — كما سترى بنفسك! — من أصعب نصوص هذا الفيلسوف الذي يُتَّهَم دائمًا بالغموض والتعقيد والإسراف في نحت كلمات واشتقاقات غريبة على لغته نفسها! ولا شك أن الترجمة — بكل ضروراتها ومخاطرها — قد تزيدها غموضًا على غموض، وقد لا تنجح في تذليل وُعُورة النص الذي يتَّسم بالكثافة والدقة والتركيز والإحكام، أضف إلى هذا أن الرسالة نفسها تمثل آخر مرحلة وصل إليها تصور الحقيقة عند الفيلسوف؛ ولهذا لم أجد بأسًا من المقارنة بينه وبين تصوره السابق في «الوجود والزمان» أو تصوره اللاحق في رسالته عن «النزعة الإنسانية» وغيرها من دراساته ومحاضراته.
كان «الوجود والزمان» قد مَهَّدَ الطريق وبيَّن معالمه، ولكنه وقف عند مرحلة معينة حددتها خطة الكتاب وبنيته، ووصل إلى نتائج تُعَدُّ من منظور هذه الرسالة نتائج مرحلية، حتى لَيمكن القول إن الفيلسوف نفسه قد تجاوزها وردَّ بعضها أو تراجع عنه.
ويتفق «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» في أن تطابُقَ الحكم والموضوع أو تطابُق الموضوع والحكم لا يعبِّر إلا عن وجهٍ واحدٍ من وجوه المشكلة، فالقضية أو العبارة التي تحكم على قطعة نقدية بأنها مستديرة ليست هي نفسها شيئًا مستديرًا، ولا هي من المعدن الذي صُنعت منه القطعة النقدية، وليس الهدف منها (أي من العبارة) أن تصبح هي الشيء الذي تعبر عنه، بل أن تكشف عن الحالة التي يكون عليها هذا الشيء، أي أن العلاقة المميزة للحقيقة (أو الصدق) — وهي علاقة التطابق أو التوافق — علاقة من هذا النوع، كما — هي — عليه.
ونعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه: كيف تقوم هذه العلاقة؟ ما الذي يسمح بالتطابق بين الحكم والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم؟
وهذا هو الذي عبرت عنه كذلك ماهية الحقيقة في صراحة ووضوح، فإذا تكلمنا عن معرفة الموجود على ضوء اتجاه أو مسلك يتسم عادةً بالتنكُّر والزيف والوهم، تحتَّم علينا أن نبيِّن خصائص المعرفة الحقة التي تستحضر الموجود على ما هو عليه أو بالأحرى تحاول أن تكشف عنه.
قِس على هذا قضية أخرى أشار إليها «الوجود والزمان» ثم جاءت «ماهية الحقيقة» فأضفت عليها معنى مختلفًا، ونقصد بها القضية التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، فالكشف عن الموجود على ما هو عليه وفي كليته — وعلى هذا الكشف وحده تقوم كل حقيقة أساسية — يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمسلك الذي يسميه هيدجر «ترك-الموجود-يوجد».
هذا المسلك وحده هو الذي يقينا السقوط والتورط في اتخاذ الموجود الجزئي مقياسًا لكل وجود، وهو أمر نتعرَّض له على الدوام في حياتنا اليومية وتصرُّفاتنا العملية، ولهذا فلن يتسنَّى لنا الكشف عن الموجود في كُلِّيته ولا القرب من حالته التي هو عليها إلا بقدر ما نبتعد بأنفسنا عن الموجود الجزئي ونحميها من الانغماس فيه.
•••
•••
لعل من المفيد أيضًا قبل الدخول في «متاهة» الرسالة نفسها أن نلقي بعض الضوء — والضوء أو النور أو الإنارة هي كلمة هيدجر الأخيرة فيما يبدو! — على كلمات تتكرر كثيرًا على صفحاتها وتكاد تُوحي بقرب هيدجر من «ملكوت» التصوف والإشراق والروحانية، وإن كان هو نفسُه يصرُّ على رفض هذا الظن كل الإصرار، فهل يسمح تكرار كلمات الكشف والانكشاف في هذه الرسالة أن نلجأ إلى الاستعارة الديكارتية القديمة عن «النور الفطري» التي وردت لأول مرة عند شيشرون في كتابه عن العقل البشري، ثم أضاف إليها أوغسطين وبونافنتورا وأصحاب الإشراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر النورَ العلوي ليكون شرطًا للمعرفة الحقة؟ ربما جاز لنا القول بأن «الموجود الإنساني» قد أصبح عند هيدجر نوعًا من النور الفطري أو الطبيعي، وليس معنى هذا أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى ويوجد الحقيقة، بل معناه أنه يقوم بدور الكشف (بالمعنى الذي فهمه أصحاب الكيمياء من هذه الكلمة!) لأنه هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على التواجد، وبهذا يُضفي على نفسه المعنى الكامن في كل الموجودات.
قلنا إن الانصراف إلى الموجود الجزئي في غمرة الحياة العملية يحمل معه نذير السقوط والزيف، ومع ذلك فيجب ألا ننسى أن هناك علاقة جدلية قائمة بين معنى الوجود الجزئي ومعنى الوجود في كليته، وإذا كانت حياتنا اليومية والعملية واقعةً تحت رحمة الموجودات الجزئية، عاطلةً من القدرة على الكشف بمعناه الصحيح، فهي مع ذلك تظل محتفظة بعلاقة ضمنية تصلها بالوجود في مجموعه، ولعل من أعجب سمات الوجود الساقط في الزيف والضلال أنه يسعى بكل جهده لنسيان هذه العلاقة أو تناسيها، ويدع الموجودات الجزئية تتحكم فيه وتسيطر عليه بحيث يتوه بينها ويضيع، والغريب حقًّا أنه ينجح في محو هذه العلاقة الأصيلة أو نسيانها تمام النسيان! والأغرب من هذا أن الموجود الجزئي نفسه يقتص منه فيخفي عنه معناه الحق؛ لأن هذا المعنى لا يمكن أن ينكشف للإنسان الغارق في دوامة الحياة اليومية وضروب النشاط العملية حتى ينظر إلى علاقته الجدلية بالموجود في كليته نظرة الاعتبار، ولعل هذا أن يؤكد لنا أن الأصالة — أي «ترك-الموجود-يوجد» في كليته وعلى حاله التي يكون عليها — هي الشرط الذي لا غِنى عنه للتكشُّف والانكشاف.
كل ما قلناه الآن يفرض علينا أن ننظر إلى مشكلة اللاحقيقة نظرة أصيلة، فالرأي التقليدي الشائع عن اللاحقيقة يتصورها على معنى الخطأ وعدم الصواب، أي ينظر إليها كأنها على الوجه العكسي الآخر من التطابق والاتفاق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل، غير أن اللاحقيقة بمعناها الأصيل تختلف عن هذا كل الاختلاف، إنها الوجه الجدلي المقابل للحقيقة، وترتبط بالحقيقة الأصلية أو الأساسية في وحدة ماهوية أصيلة، فإذا صحَّ ما قلناه من أن الحقيقة لا تكون إلا في وجود الموجود، وإذا كُنَّا لا نصل إلى وجود الموجود إلا من خلال التقابل الجدلي بين الموجود الجزئي والموجود الكلي، فإن من الصحيح أيضًا أن يكون تكشف أحدهما ملازمًا لتحجب الآخر، أي ملازمًا للاحقيقة، غير أن هذه اللاحقيقة المبدئية المحتومة يمكن أن تنقلب بدورها إلى صورة من الصور العابرة للاحقيقة (والخطأ بمعناه الشائع في أسلوب المعرفة هو إحدى هذه الصور)، ويتم هذا التشوه أو هذا الانقلاب نحو اللاحقيقة عندما يتراخى التوتر الجدلي الذي أشرنا إليه، وينغمس الموجود الإنساني انغماسًا تامًّا في أحد طرفي التوتر الذي أشرنا إليه وينسى الطرف الآخر كل النسيان، والواقع أن هيدجر لا يعنى في هذه الرسالة إلا بوجه واحد من وجوه هذا النسيان، وهو الوقوف عند الموجودات الجزئية والانصراف إليها، ويرى في ذلك خطرًا كبيرًا يهدِّد الحضارة الغربية، وقد كان حريًّا به أن يلتفت إلى خطر آخر لعله لا يهدِّد هذه الحضارة بنفس الصورة الملحة لأنه لا يزال بعيدًا عن القلوب والأذهان؛ ألا وهو خطر الهروب الكامل من الموجود الجزئي إلى ضباب «الكلية» والتعميم والخيال والصوفية السلبية، والأحلام الرومانسية التي تكون فيها كل الأبقار سوداء (على حد تعبير هيجل!) وهو خطر طالما تعرضنا له في الشرق وطالما خلعنا عليه أسماء رنانة كالزهد والمثالية والتفاني في سبيل المبادئ الخالدة! ولعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل ليفيناس قد تنبَّه أيضًا إلى هذا الخطر فوجَّه فلسفته كلها من الوجود إلى الموجود (كما يقول عنوان أحد كتبه وكما يتكشَّف له في الوجه الإنساني) فقلب البناء الهيدجري كله على رأسه! مهما يكن من شيء فإن مشكلة-اللاحقيقة، شأنها في هذا شأن مشكلة الحقيقة التي لا تنفصم عنها، قد تطورت في هذه المرحلة من تفكير هيدجر بعد مرحلة «الوجود والزمان»، ولا عجب في هذا بطبيعة الحال، فقد اتَّسع نطاق الإشكال الذي يؤرِّقه منذ ذلك الحين واشتدت محنته وبعدت أعماقه.
•••
يعرف قارئ هيدجر أن كتاباتِه ورسائلَه ومحاضراتِه تتميَّز بالبناءِ الشكلي المحكم، كما يعرف أيضًا أن الإلمام بهذا البناء أمرٌ لا غِنى عنه لفهم مضمون النص والنفاذ إلى أغواره، وتلمس الطريق الذي يهديه في متاهاته ويصل به إلى لحنه الأساسي الذي تشبه جميع الأنغام أن تكون تنويعات عليه، وهنا تطلُّ علينا مشكلة الدور المشهور الذي يأخذه عليه الشارحون، أضِف إلى هذا أنه كثيرًا ما يلجأ إلى ما يسميه المناطقة بالمصادرة على المطلوب؛ إذ يفترض صحة النتيجة في بداية البحث ثم يحاول ما وسعه الجهد إثباتها والبرهنة عليها! ولهذا نجد من يسارع باتهامه بالمغالطة أو التحايل على الكلمات أو التعسف في الاشتقاقات أو لوي أعناق النصوص أو الغموض والإرباك المتعمد، ولعل خير السبل لإنصاف الرجل والبعد عن مزالق الاتهام هو محاولة فهمه «من الداخل»، وهذه ضرورة يفرضها أسلوبه في الكتابة والتفكير واستخدام المصطلحات، فكلمات كالحرية أو الوجود أو الحقيقة تكتسي على يديه ثوبًا مختلفًا عن ثوبها الذي تعودنا عليه أو تعلمناه من التراث، ولو أصررنا على قراءتها بمنظار معانيها التقليدية، لَكانت النتيجة الوحيدة هي الوقوف على بابه وقفة الشحاذ أمام قصر الأمير أو الريفي في محطة المدينة أو الكافر على باب الجنة! ولا بد لنا للنجاة من هذا المصير من السير خطوةً خطوة في داخل المتاهة، وتلمُّس الخيط الهادي الذي أنقذ ثيسيوس من فم الوحش الخرافي «القنطور»، وعرض أفكاره وتأمُّلاته ومراحل استدلاله في صبر وأناة.
نودُّ قبل كل شيء أن نُشير إلى الروح السقراطية التي تتغلغل في ثنايا هذه الرسالة وتبثُّ الحياة والحركة الجدلية في بنيتها، وتشدُّ حلقاتها وتتجاوزها في آن واحد، ولعل السباحة في تيار هذا الجدل الحي أن تكون أهم من الوقوف عند نتائجه؛ لأن النتائج لا تكتسب معناها الحق إلا من أنفاس التطور الذي يحركها وينفخ فيها شعلة الحياة، والأمر يعتمد بعد كل شيءٍ على الدخول في دائرة هذا الفكر والتحرُّك في مجاله والحوار مع إشكالاته والمشاركة في محنةِ السؤال ولو كلفنا العمر كله! ولا بد في النهاية من أن نَثِب الوثبة التي تحتمها علينا مخاطرة اللقاء مع كل فكر جاد!
والواقع أن التمهيد الذي وضعه هيدجر لهذه الرسالة يدور حول الإعداد لهذه الوثبة، فهو يؤكد منذ البداية أن السؤال ينصب على ماهية الحقيقة لا على «الحقائق» المألوفة، عملية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو دينية أو فنية، وهو يدعونا للخروج من دائرة التفكير اليومي الساذج، والنظر إلى مشكلة الحقيقة نظرةً جديدةً مختلفةً كل الاختلاف عما تعودت عليه عيون «الحس السليم» (الفهم العام أو الذوق الفطري)، هذه مسألة أساسية لا يفتأ ينبهنا إليها منذ البداية، بل إننا لا نكاد ننتهي من قراءة هذا التمهيد حتى نشعر أن هذا الحس السليم، أو ما شئت له من أسماء، هو أعدى أعداء الروح الفلسفي، إنه ضيق الأفق، معصوب العينين، عاجز عن العلو إلى الأسئلة الأخيرة أو الغوص في أعماقها، مطمئن إلى القريب المحسوس الذي يلمسه أو يقبض عليه بكلتا يديه، وهو إلى هذا كله عنيد مكابر، متشبث بحصنه الحصين في داخلنا، ومن أصعب الأمور أن نطرد شيطانه المقيم في نفوسنا مهما تذرعنا بالرقي والتمائم ونثرنا البخور والأدعية لإخراجه من قمقمه!
صحيح أن الحس السليم كامنٌ فينا جميعًا، وأننا لا نستغني عن الرجوع إليه في شئوننا العملية واليومية، وصحيح أيضًا أن له فلسفتَه التي يستند إليها، وإن تكن هذه الفلسفة قد تجمَّدت مع الزمن وانطفأت فيها شرارة الاندهاش، بل إن هناك فلسفاتٍ مشهورةً تقوم عليه منذ القدم، ابتداءً من السفسطائية والتجريبية حتى فلسفة مور التحليلية وغيرها من الفلسفات الوضعية، وليس من الصواب أن نهون من شأن هذه الفلسفات أو نتعالى عليها، فقصة الصراع بين الفلسفة والحس السليم مستمرة منذ عهد أفلاطون حتى عهد هيجل ونيتشه، ولكن المشكلة أن التفلسف الحق لا يبدأ أولى خطواته حتى يكافح هذا الحس السليم الرابض في أنفسنا ويتغلَّب على النزوع الطبيعي — أو الموقف الطبيعي بتعبير هسرل — الذي يسلم بالوجود ببساطة ويهرب من مشقة البحث في الماهيات والعودة للبدايات، ويضيق بالسؤال ويتجنب الإشكال، ويصرُّ دائمًا على أن كل شيءٍ واضحٌ مفهومٌ وعلى ما يُرام!
هكذا يبدأ هيدجر رسالته باستبعاد «الحقائق» المألوفة التي لا تتصل بماهية الحقيقة، وبيان العقبات التي تحول دون التفكير في مشكلتها تفكيرًا جديرًا بالنظر الفلسفي، وهي عقبات يضعها «تفكير» الحس السليم أو الفهم العام الذي يتحتم علينا أن نبدأ بقهره والعلو عليه إلى مستوى فكري آخر لا ينفر من البحث في الماهية ولا يفزع منه! وتحديد الماهية أمرٌ عسيرٌ محفوفٌ بالصعاب، فليست الماهية بالطبيعة الماثلة على الدوام في أفق تفكيرنا ومعرفتنا، وإنما هي الطبيعة الخافية التي لا تُكتشف بغير الجهد الجهيد، يبذله فكر اختار أن يرتفع فوق يقين الحس السليم وبداهة الحياة العملية، هكذا يدفع هيدجر الإشكال ويحرِّك السؤال، إنه يثير الاعتراضات الممكنة من جانب «الفكر» اليومي على جدوى البحث عن الماهية، فهذا «الفكر» الذي يزعم أنه يصدر عن حس سليم (لم يقصر هيدجر في الاعتراف به وبيان ضرورته ولا قصر في اتهامه بالعمى والصمم!) يدَّعي أن الأمور التي يغفلها السؤال عن الماهية هي بعينها الأمور الواقعية التي يجب أن تبقى بمنجاة من الشك، أي هي الأمور التي تتصل بحقيقةِ الحسِّ السليم نفسه! والحس السليم «يؤكد حقَّه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة ببداهةِ دعاويه واعتراضاتِه»، ولا جدوى من دخول الفلسفة في جدال معه؛ لأن كل جدال يفترض أساسًا مشتركًا بين الطرفين، وهذا الأساس لا وجود له على الإطلاق، كما أن البحث في حقيقة الحس السليم نفسه يستلزم النظر في ماهية الحقيقة من حيث هي كذلك، أي الحقيقة التي ينبثق عنها كل ما يحمل صفة الحق أو يدعيه لنفسه، فالحس السليم مُدان في كل الأحوال.
ولكن هل نحن أبرياء من هذا الوزر الذي يتحمَّله الحس السليم؟ ألسنا نحن أيضًا على مستواه؟ إن الفيلسوف يتجه إلينا بالسؤال حتى نصبح نحن السائل والمسئول، ولن يتسنى لنا أن ننصت لصوته أو ننتبه لتحذيرِه حتى ننتشل أنفسنا من براثن الحس السليم، ونُدير ظهورنا لجنته الزائفة، ولن نبلغ هذا حتى نشعر بالمحنة، حتى نعرف أنا نحن الممتحنون.
•••
بعد التمهيد للسؤال وإيقاظ شعلة الإشكال يبدأ الفصل الأوَّل بالحديث عن التصوُّر الشائع عن الحقيقة، هذا التصور الشائع — كما يُفهَم من اسمه — يعلن عن نفسه بنفسه كأنه أمر بدهي، ولكن جذوره ممتدة في أرض التراث الفلسفي منذ العصر الوسيط الذي يمتد بدوره إلى بعض العبارات المأثورة عن أرسطو، ورجعة هيدجر إلى التراث لا تعني أنه سيتناول المشكلة تناولًا تاريخيًّا، فما كان في يوم من الأيام مؤرخًا للفلسفة بالمعنى المألوف من هذه الكلمة، إنه يلتمس من التاريخ والتراث «شهادة»، ويستمد منهما دليلًا على معنى الحقيقة المتأصل في نفوسنا جميعًا.
•••
بعد العرض الأوَّلي لتصوُّر الحقيقة بمعنى التطابق (أو التوافق والتكافؤ) يأتي دور الفصل الثاني لتوضيح هذا التطابق نفسه، وبيان دلالته العميقة من وراء معانيه المختلفة، ثم الإجابة على هذا السؤال البسيط الذي سيؤدي بنا إلى قلب المشكلة: كيف يُصبح هذا التطابق ممكنًا؟ والحق أن الإجابة على هذا السؤال الأساسي هي التي ستُلقي الضوءَ الغامرَ على مشكلة الحقيقة بأكملها: الحقيقة هي الانكشاف أو اللاتحجب من صميم الاحتجاب لكائن تقوم ماهيته على مسلك الانفتاح لنورها.
هل نفهم من هذا أن هيدجر يرفض مفهوم الحقيقة بمعنى التطابق أو يتحفَّظ في قبوله؟ الواقع أنه لا يرفضه، وإنما لا يرجع به إلى «أساسه» الأوَّل الذي يجعله ممكنًا، وهذا شيءٌ لمسناه وكررناه أكثر من مرة.
يرى هيدجر أن توافق الحكمِ أو تطابقَه مع الشيء هو نوع من «التكافؤ»، ولا يعني هذا أن الحكم يريد أن يجعل من نفسه شيئًا (فالعبارة أو القضية التي تحكم على القطعة النقدية بأنها مستديرة لا يمكن — كما قدمنا — أن تُصبح هي نفسها قطعة نقدية!) بل معناه أنه يتخذ بالقياس إلى الشيء علاقة من نوع خاص، هي علاقة نعبِّر عنها بقولنا: على ما هو عليه أو من حيث هو كذلك، والتمثُّل أو الاستحضار هو جوهر هذه العلاقة، والتمثُّل هو «جعل الشيء يوضع أمامنا بوصفه موضوعًا»، أو التعبير عنه بما هو كذلك وبحالته التي يظهر بها، والشرط الذي يعتمد عليه التمثُّل هو أن يوضع الكائن القائم بالتمثل في «النور» الذي يتيح للشيء أن يظهر له، هذا الشيء المتمثل يتحتم عليه أن «يقطع أو يتخلل مجالًا مفتوحًا في مواجهتنا»، فالكائن الذي يقوم بالتمثل يملك القدرة على «التخارج»، على وضع نفسه في مجال المواجهة، على «الاستحمام» في ضوء هذا المجال، وكل هذا يسميه هيدجر «بالانفتاح»، هذا الانفتاح «مسلك»؛ لأن الإنسان الذي يضع نفسه في مجال المواجهة لا بدَّ أن يواجه شيئًا سبق له الظهور من قبل، ولا بد له بصورة أو بأخرى من أن يقفَ معه موقفًا أو يسلك منه مسلكًا.
لا يخطرن ببالنا أن هذه نسخة جديدة من التصور التقليدي للحقيقة، فالفيلسوف ينتقل الآن من مفهومَي التطابق والتكافؤ المعروفين إلى مفهوم آخر جديد لا غِنى عنه لإمكان قيامهما، ألا وهو المفهوم الذي أطلق عليه اسم «الانفتاح»، بهذا يتجاوز التصور التقليدي الذي جعل الحكم مكان الحقيقة، كما يتغلَّب في نفس الوقت على الصعوبات التي واجهتنا في ختام الفصل الأوَّل.
غير أننا لم نفرغ بعدُ من كل الصعوبات! فعلينا أن نخطوَ خطوةً أبعد لنعرف ما هو الأساس الذي تقوم عليه الإمكانية الباطنة لانفتاح المسلك، أو ما الذي يجعل المسلك يتخذ الموجود معيارًا لأفعاله، صحيح أن الإنسان منفتح بطبيعته على الموجود، ولكن ليس يلزم عن هذا أنه مستعد بطبيعته للخضوع له واختياره معيارًا يهتدي به في أفكاره وأفعاله، ما السبب في هذا؟ ومن أين تتأتَّى له هذه الإمكانية الباطنة؟
•••
الفصل الثالث يتولى الإجابة على هذين السؤالين، محاولًا تفسير هذه الإمكانية وبيان الأسباب التي حدَّدت ماهية الحقيقة وقصرَتْها على توافق الحكم أو تطابقه مع الشيء، على نحو ما رأينا في التصور التقليدي الذي تقدم الحديث عنه، وهيدجر لا يرفض هذا التصور كما قدمنا، ولكنه يوضح كيف انتهى — على الرغم من قصوره البيِّن — إلى الظهور في صورة التعبير الكامل عن ماهية الحقيقة.
إن ما نسمِّيه بالتطابق أو التوافق بين الإنسان والموجود الذي يتمثَّله لا يتحقق حتى «يحرر» الإنسان ليكون أهلًا للدخول في المجال المفتوح الذي يمكن من خلاله أن يتم ظهور ما يظهر له، بَيْدَ أن الإنسان لا يمكنه أن يحرِّر نفسه إلا إذا كان حُرًّا: «إن انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافق ممكنًا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.»
هذا أمر طبيعي لا شك فيه، ولكن ألا نبعد بهذا عن دائرة التصور المألوف عن الحرية والتحرر؟ ألا نُسيء فهم العبارة السابقة إن حاولنا أن نفهم الحرية بمعناها التقليدي من حيث هي حرية القبول أو الرفض، والسلب أو الإيجاب، والفعل أو عدم الفعل؟ ألا تختلط الأمور في أذهاننا، وتقحم الحرية في مجال الحقيقة الذي يبدو غريبًا عنها كما تبدو غريبة عنه؟ وكيف تخضع الحقيقة للتعسُّف والهوى والذاتية؟ لا بد إذًا أن نفهم الحرية فهمًا آخر يختلف عما درجنا عليه أو تعلَّمناه، وهذا هو الذي يتصدَّى له الفيلسوف في الفصل الرابع من رسالته.
•••
ما الحرية؟ سؤال ضخم، ولكنها ليست مقطوعة الصلة بماهية الإنسان، وإذا كان التصور الشائع عنها يجعلها خاصية من خصائص الإنسان، بحيث يملكها ولا تملكه، فإن علينا أن نبين الارتباط الأساسي بين الحقيقة والحرية ونبحث ماهية الإنسان بحثًا يضعنا في المجال الذي تفصح فيه الحقيقة بصورة أصيلة عن ماهيتها.
ألا نلمس هنا نوعًا من الدور المنطقي؟
ألم يكن الفيلسوف يريد أن يفسِّر ماهية الحقيقة فإذا به يقرِّر فجأة أن ماهية الحقيقة هي الحرية؟! وحين سألناه: وما الحرية؟ إذا به يفسِّرها عن طريق ماهية الحقيقة التي يزعم أنها أشدُّ منها أصالة؟
سيبقى هذا الدور قائمًا ما بقيت نظرتُنا إلى تفكير الفيلسوف نظرة تحليلية تهتم بالعزل والفصل، والقسمة والتمييز، ولو نظرنا إليه نظرةً كليةً توحد بين خطواته ومراحله لاختفى الدور الذي توحي به عبارته.
يؤكد هيدجر — بأسلوبه المعهود الذي لا يخلو من التقرير قبل الأوان! — إن ماهية الحقيقة هي الحرية، ومعنى هذا أن الانفتاح لا يقوم إلا على الحرية، ولكننا من ناحية أخرى لن نفهم معنى الحرية حتى نتجه ببصرنا إلى ماهية الإنسان بحيث نجد أنفسنا في «المجال الذي تُفصح فيه الحقيقة عن نفسها» وتحضر بنفسها حضورًا أصيلًا، بهذا يمتنع الدور لامتناع الاستدلال، فماهية الحقيقة لن تكون نتيجة برهان ولا ثمرة استنباط، وإذا كان الفيلسوف يفكِّر بطريقةٍ «لولبية» ترتب شيئًا على شيء، فإنما يفعل ذلك لكي يمهدَ «لتجربة» الحقيقة ويعدَّنا «لرؤيتها».
ما هي إذن الماهية «الأصلية» للحقيقة التي نصفها عادةً بالثبات والبقاء وتقول إن حقيقة الحكم تقوم عليها؟ لا بد من إلقاء الضوء على هذه الحقيقة لكي يتسنَّى لنا بعد ذلك أن نفهم معنى الحرية.
هكذا يتضح ما قلناه من قبل من أن الحرية ليست شيئًا يملكه الإنسان ويتصرف فيه على هواه، وإنما هي التي تمتلكه، إنها تؤسِّس علاقتَه بالوجود، وهذه العلاقة هي التي تؤسِّس التاريخ، فالتاريخ يبدأ بالوجود (أو الحضور)، والوجود يبدأ بالموجود الذي يتخارج أو يتواجد؛ لهذا لا يعرف الحيوان شيئًا عن التاريخ ولا يمكنه أن يكون كائنًا تاريخيًّا، وما السبب؟ لأنه يفتقد العلاقة التي ذكرناها بالموجود؛ لأنه لا ينفتح عليه ولا يتعرض لانكشافه.
بهذا يصبح الحديث عن الحقيقة الأصلية بحثًا تاريخيًّا بالضرورة، بل يصبح بحثًا عن أصل التاريخ، بل عن لحظة ابتدائه، عندما تتفتح الإنسانية على حقيقة الوجود كله وتتجه إليها وتلتزم بها وتصونها وترعاها، في هذه اللحظة نفسها عرف اليونان أن الموجود هو «الفيزبس» (الكينونة المتفتحة النامية) وبها بدأ تاريخ الغرب.
بَيْدَ أن الإنسان قد لا يترك الموجود يوجد في كليته وقد لا يتمثَّله أو يلتزم بحقيقته، بل نراه «يغطيه» ويزيفه ويشوهه، عندئذٍ ينتصر «المظهر» الخداع وتسود اللاحقيقة، عندئذٍ تنشأ مشكلة اللاحقيقة، لا على المعنى الذي يُفهَم عادةً من أنها مسألة ثانوية لاحقة لمشكلة الحقيقة، كأن تكون نتيجة مترتبة على الخطأ كما يتصور الحس السليم، أو على الغفلة وعدم الانتباه إلى بساطة الحقيقة وتميُّزها، كما يتصور إسبنوزا، بل بمعنى ارتباطها الأساسي بالحقيقة، وكونها خطوةً حاسمة على الطريق المؤدي للكشف عن طبيعة الحق: «ولهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي إلا إذا استطاع كذلك — من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة — أن يضمَّ التفكير في اللاحقيقة إلى أفق تكشف الماهية»، من هذا المنظور الجديد يبدأ الفيلسوف دراسة ماهية الحقيقة في الفصل الخامس من رسالته.
•••
ليس ما يقدِّمه المؤلف هنا عن الحقيقة على ضوء اللاحقيقة مجرد تكملة لما قدمه على ضوء الحرية، فنحن نصادف الآن فكرة جديدة لم ترد من قبل، تلك هي فكرة «التأثر» التي يُضفي عليها الآن معنى جديدًا غير معناها الذي عرفناه في كتاب الوجود والزمان حين جاءت في سياق تحليله لحالات التواجد والتأثر وكون الموجود الإنساني مُلقى به في العالم (والكلمة الأصلية — كما ذكرنا — تُوحي بضبط الأوتار والتوفيق بينها لإخراج الصوت أو اللحن المرجو)، ولكن التأثر هنا لا شأن له بأحوال الحياة النفسية، وإنما يتصل بما سبق الحديث عنه في الفصل السابق عن التعرُّض للتخارج، إنه في النهاية أسلوب محدَّد من أساليب الوجود يؤثر علينا ويوجهنا ويتحكم فينا، كما يُدخلنا في عَلاقة مع الموجود في مجموعه وكليته ويحول بيننا وبين الضياع في هذا الموجود الجزئي الخاص أو ذاك، ولكن ما هو هذا الموجود في مجموعه وكليته؟
وليت الأمر يقف عند هذا؛ فنحن نميل مع الزمن إلى أن نخفي عن أنفسنا هذا الحجب نفسه، وتلك هي محنة الإنسان في هذا العصر الذي اتَّسع فيه علمُه بالموجود الجزئي الخاص، وأصبح — أو كاد — يعيش في حالة نسيانٍ للموجود في كليته، بل في حالة نسيان للنسيان!
وهذا هو الذي حدث أيضًا في «الميتافيزيقا» الغربية على مدى تاريخها الطويل، صحيح أنها كانت تسأل عن الموجود بما هو موجود، وكانت في مراحل تطورها المختلفة تخلع عليه معاني مختلفة، ولكنها لم تحاول أبدًا أن تفكِّر في التحجُّب أو تجعل «السر» موضوعًا لها، ولهذا ظلَّت هائمةً في ضلال الموجودات وبعيدة عن حقيقة الموجود ومعناه.
•••
ويأتي الفصل السادس فيتناول تحجب الموجود الكلي وخفاءه، إن القضية الآن هي قضية اللاحقيقة الأصلية التي لا تنفصم عن الحقيقة، وقد نبَّه هيدجر في نهاية الفصل الرابع إلى هذه العلاقة الأساسية بين الحقيقة واللاحقيقة، وبيَّن لنا أن من المستحيل السؤال عن إحداهما دون السؤال عن الأخرى.
لنرجع إلى العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، إننا نُخطئ خطأً بالغًا إذا تصورنا أن اللاحقيقة مجرد صورةٍ باهتة من الحقيقة، كما نتصوَّر الظلام بالقياس إلى النور، والمرض بالقياس إلى الصحة، والشر بالقياس للخير، ليست اللاحقيقة هي عكس الحقيقة أو سلبها، على نحو ما نفهم من تصورَيْن متضادَّيْن، فكيف نتصور هذه «اللا» التي تسبق كلمة «اللاحقيقة»؟ (وما أكثر ما تتردد هذه اللا في الفصل السادس والفصول التالية في كلمات كاللاماهية واللاتحجب!)
لا شك أن القارئ سيُدرك بنفسه أن هذه «اللا» تختلف عن «لا» السلب العادية، فهي تُحيلنا إلى مجال أصلي (يفترضه أسلوب التفكير العادي وإن كان لا يلتفت إليه ولا يكترث به!) هو مجال التحجُّب، وهو مجال أسبق في الوجود من كل ظهور أو تكشُّف للوجود، في ظهور نطاق هذا المجال — الذي يتصل به الإنسان دائمًا على نحو أو آخر ونقف منه موقفًا لا يبلغ أبدًا مستوى الوعي — تكون «حقيقة الوجود»، ومن خلاله يمكن أن نقترب قليلًا أو كثيرًا من الوجود.
إن حقيقة الوجود أسبق من كل حقيقة متعلقة بالموجود، كما أنها أكثر منها أصالة وأهمية، هذه الحقيقة الأولية حاضرة دائمًا بصورة أو بأخرى، مهما تُكلفنا من الجهد لتجاهلها، ومهما تصور الإنسان أن كل علاقةٍ بالوجود قد اختفت، ومهما دخل في رُوعه أنه نسي الوجود وصار غريبًا عنه، ذلك أن الوجود لا ينفكُّ يظهر لنا ويقدِّم لنا نفسه باستمرار، مهما حاولنا إنكاره والانصراف عنه، ولو كف الوجود نوره فكيف يتسنى للإنسان أن يتعرَّف على الموجود الخاص الذي لا يني عن السعي وراءه، كيف يتأتَّى له أن ينطق فعل يوجد أو «يكون»، وهو أهم كلمات اللغة وأكثرها ابتذالًا في آن واحد؟!
من خلال «ترك-الموجود-يوجد» يكون هذا الموجود ويحضر؛ ولهذا يوصَف هذا الترك بأنه كشف له، ولكن حضور الموجد الخاص وظهوره يُلازمه احتجاب الموجود في كليته، ومن هنا يمكن فهم هذه العبارة العويصة: «في الحرية المتخارجة للموجود-الإنساني يتم حجب الموجود بكليته، يكون الاحتجاب».
لا بد إذن من تفسير معنى الحجب إذا أردنا أن نفهم العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، فلما كانت الحقيقة هي الكشف (أو بعبارة هيدجر المخيفة هي الترك المتخارج لوجود الموجود!) فلا بد أن تنطويَ على نوع من الحجب ما دام الأوَّل مستحيلًا بغير الثاني، بهذا يصبح الحجب أو الاحتجاب شرطًا للحقيقة بوصفها كشفًا، بل إن فعل الكشف لا يتم إلا على أساسه، لا معنى إذن لأن نتصور أن هذا الحجب نوعٌ من الظلام الذي سيبدده النور، أو أن ظهور «الموجود الإنساني» يكفي لتبديده؛ إذ لا بد من القول بأنه كامن بالضرورة في صميم الموجود الإنساني، وأنه محجوب عنه بحكم طبيعته، فالإنسان يخفي عن نفسه أن هناك نوعًا من الاحتجاب والخفاء يلازم انكشاف الموجود وظهوره، أي أن الاحتجاب كامن في الموجودات الإنسانية بقدر ما تكون هذه كاشفة، ولا يخطرن ببالنا أن هذا الاحتجاب متوقف على «الذات الإنسانية» لكي تتصرَّف فيه بحريتها، فالواقع أن فكرة الذاتية لا مكان لها في فلسفة هيدجر — اللهم إلا مكان الرفض والإنكار — كما أن كلمة الموجود الإنساني أو الدازاين عنده ليست بديلًا لكلمة «الذات» المعهودة في نظريات المعرفة، وإنما تدل على تصور مختلف للإنسان الذي يتميز قبل كل شيء بأنه «موجود-في-العالم»، ومِنْ ثَمَّ فليس الإنسان هو السيد المتحكم في الاحتجاب ولا في التكشف، بل إن هذين هما اللذان يسودانه ويتحكمان فيه، وهذا هو الذي تُوحي به العبارات التالية التي تأتي في بداية الفصل السادس الذي تتحدث عنه:
«إن التحجب يمنع «الأليثيا» من التكشف، بل لا يسمح لها بأن تكون «ستيريزس» (سلبًا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها.» أو هذه العبارات التي يستطرد فيها الفيلسوف: «إنه (أي التحجب) أقدم من ترك الموجود نفسه، الذي يحجبه أثناء قيامه بالكشف، كما يتخذ موقفًا من التحجب.»
لا بد من تعليق قصير على هذه العبارات التي لن تُفهم إلا في سياقها، فإذا كانت الحقيقة هي الكشف، وكان كل كشف يفترض الحجب، فإن اللاحقيقة ستصبح مرادفة لعدم الكشف؛ بهذا لا تكون العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة علاقة تضاد منطقي، بل علاقة المؤسس بالأساس الذي يقوم عليه، معنى هذا أن الحقيقة — على العكس مما يظن الراي الشائع — تتأسس على اللاحقيقة، وأن هذه — بوصفها لاماهية الحقيقة — تحيل إلى ماهية أسبق، وإذا كان الإنسان على علاقة مستمرة بالتحجب، فلا بد من القول بأنه يوجد دائمًا في اللاحقيقة، وأن هذا وحده هو الذي يجعله قادرًا على الكشف.
ولكن التحجُّب يؤكد نفسه — كما سبق أن رأينا — في كل ترك-للموجود، فترك-الموجود يحجب الموجود بكليته، والموجود بكليته هو المتحجب، ولما كان ترك-الموجود يقيم بالضرورة علاقة بالموجود بكليته الذي يظل في هذه العلاقة على احتجابه، فإن هيدجر يؤكد مع ذلك أن ترك-الموجود يحقِّق تحجب المحتجب، وهذا هو الذي يصفه بالسر، فليس السر في رأيه معضلةً أو لغزًا يتطلَّب الحل، وإنما هو الحدث الأساسي الذي يتغلغل في وجود الإنسان؛ ولهذا يمكن القول بأن الإنسان ليس بالكائن الذي يحتجب بقدر ما يكشف فحسب، بل إنه يصر على أن يحجب عن نفسه ذلك التحجب الأصلي، ولعل هذا أن يكون قريبًا مما يقصده هيدجر في النص الأوَّل الذي اقتبسناه في بداية هذا الفصل حين يقول: إن التحجب يحول بين «الأليثيا» وبين التكشُّف، وأنه لا يسمح لها أيضًا بأن تكون سلبًا، بل يحتفظ لها بأخص ما يخصها، ولعل المقصود «بأخص ما يخصها» هو السر نفسه؛ ومِنْ ثَمَّ يمكننا أن نفهم هذه العبارة العسيرة أو نحاول فهمها على أقل تقدير: فالتحجُّب الملازم للحقيقة يحول دون تصوُّر هذه الحقيقة باعتبارها كشفًا كليًّا كاملًا، ولما كان هذا التحجب نفسه يتحجب في «الموجود الإنساني» الذي يقوم بالكشف، فإن «الأليثيا» تعجز حتى عن اعتبار نفسها سلبًا للكشف الأصلي، لهذا فإن التحجب يحتفظ للحقيقة بصورة من صور السر الأساسي، أو بالأحرى يحتفظ لها بسر تختص به.
•••
وتبدأ الفقرة الثانية من هذا الفصل (السادس) بعبارةٍ قد تبدو محيرة، وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليَّته ويحجبه في نفس الوقت، أن يظهر التحجب في المقام الأوَّل في مظهر «المتحجِّب».
ولا بد أن يسأل القارئ نفسه: كيف يمكن أن يظهر التحجب، في حين أن الظهور لا يُقال إلا على الشيء الذي يقدِّم نفسَه لنا؛ بحيث تمكن معرفته أو التعرف عليه وإدراك ماهيته إدراكًا واضحًا؟
لا مفرَّ من فَهْم كلمة «الظهور» — شأنها في ذلك شأن بعض الكلمات التي يستخدمها هيدجر كالحرية والحقيقة واللاحقيقة — بمعنى مختلف عن معناها المألوف في التراث أو لدى الحسِّ المشترك والفهم العام، فظهور التحجُّب يدلُّ هنا على أنه يتم بصورة يحسها «الموجود الإنساني»، لا بمعنى أن هذا الظهور يمكن أن يؤديَ إلى ماهيته، ولا شك أن في إمكاننا أن نجرِّب ظاهرة ونحس بها وتبقى مع ذلك محوطةً بالسر، فظهور التحجب لا يعني اختفاء هذا التحجب وزواله.
وظهور هذا التحجب مرتبطٌ بالموجود الإنساني: «إن الموجود الإنساني، بقدر ما يتخارج، يتعهد (أو يؤدي إلى) أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية»، هل يتناقض هذا مع ما سبق قوله من أن التحجب أقدم من ترك-الموجود نفسه؟ الواقع أن المسألة لم تكن مسألة ترتيب تاريخي، بل مسألة ترتيب في الأساس وما يتأسس عليه، وهذا الترتيب لم يتغيَّر في الحالين.
وتعود الفقرة التالية إلى مشكلة الحرية فنقرأ هذه العبارة: «إن الحرية بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير مغلقة على نفسها.»
معنى هذا أن الحرية — من حيث هي ترك-الموجود-يوجد — أسلوب في الحياة يلزم الموجود الإنساني، كما يلزمه بالانفتاح على الأشياء، على هذا الانفتاح يقوم مسلك الموجود الإنساني تجاه الموجود، وعلى الرغم من هذا الانفتاح يخفي الموجود الإنساني عن نفسه علاقته بالتحجب، غير أن هذا الإخفاء نفسه يفترض الانفتاح؛ لأن التحجُّب أسبق من الموجود الإنساني نفسه، ولأنه لا يملك أن ينكشف أو يحتجب إلا عن طريق كائن قادر على الانفتاح.
ولقد بلغت هذه الذاتية الإنسانية ذروة تأكُّدها على يدي نيتشه وكيركجورد من ناحية، وأيدي العلماء والفلاسفة الوضعيين من ناحية أخرى، كما بلغت ذروة انتصارها وخطرها في النزعة التقنية المعاصرة، وقارئ هيدجر يعلم أنه لا يفصل هذه النزعة الأخيرة عن النزعة الذاتية في فهم الحقيقة بمعنى الصحة أو الصواب والتطابق التي بدأت خطواتها الأولى في تاريخ الميتافيزيقا مع تفكير أفلاطون، فالتقنية هي الانتصار العظيم الذي حققته الميتافيزيقا الغربية، وهي لا تعدو أن تكون طريقة لمد هذه الميتافيزيقا على الموجود بكليته.
ونحن نشهد اليوم كيف تحول هذا الانتصار — الذي يعبِّر عن نسيان للعلاقة الأصلية التي تجمعه بالسر — إلى ألوان من الحيرة والعجز واليأس والاغتراب في مواجهة أخطار التقنية، ونشهد أيضًا كيف انقلب هذا الوليد المعجز (أُلقِيت بذرته الحية يوم أَلقى أول إغريقي متفلسف سؤاله القدري ما الموجود؟) إلى طاغية ينشر ظلام المحنة على العصر الذي نعيش فيه.
الإنسان يحاول أن يستند إلى الموجود، أن يجد الراحة فيه، أن يختصَّه بعنايته وتفكيره، أي يحاول — بتعبير هيدجر — أن يتداخل … صحيح أنه بطبيعته يدخل دائمًا في علاقة بالموجود، ولكنه أصبح الآن يتمسَّك بهذا الموجود ويستمد منه مقاييسه، دون أن يسأل نفسه عن ماهية هذه المقاييس أو الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا يقول هيدجر هذه العبارة التي احتاجت مِنَّا إلى الوقوف عندها: «إن الموجود الإنساني-بتخارجه-متداخل.» في هذا التخارج المتداخل لم يعد للسر مكان، لقد فقد ماهيته.
هكذا يكون هيدجر قد تبيَّن أهمية السر بالنسبة للموجود الإنساني، وشرح لنا كيف نسي هذا السر والنتائج المترتبة على هذا النسيان في حياة الإنسان المتشبث بذاته وبالموجودات، وبهذا يكون أيضًا قد أكد الرابطة التي تؤلِّف بين الحقيقة واللاحقيقة، وأوضح لنا — على طريقته بالطبع! — أن اللاحقيقة هي الأساس الذي تنهض عليه الحقيقة وتنمو وتتفتح.
•••
ويجيء الفصل السابع فيتناول العلاقة بين النسيان والسر، بين انفتاح الموجود الإنساني أو تخارجه في اتجاه الموجود وبين تمسكه بالجانب الشائع المعتاد منه أو تداخله المؤدي إلى الضلال، هذا التداخل مستحيل بغير التخارج، ولهذا يقول هيدجر إن الموجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معًا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الوجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معًا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الموجود الإنساني، فهو بتخارجه يكون على علاقة بالسر؛ لأن كشف الموجود لا يتم إلا على أساس التحجب الذي ينبثق عنه هذا الكشف، ولكنه بتداخله، أي تمسكه بالموجود وتشبثه بخصائصه وتحديداته، تختلط عليه الرؤية، وينسى علاقته الأصيلة بالتحجب والسر، وتتهدده الحيرة والخطأ والضلال، صحيح أنه يتخذ من الموجود مقياسًا لأوجه نشاطه المختلفة، ولكنه ينغمس فيه فينسى الأساس الذي يستند إليه اختيار هذا المقياس، أي ينسى السر، بَيْدَ أن الموجود — الجزئي الخاص — لا يستمدُّ أهميته ووجوده نفسه إلا من خلال علاقته الوثيقة بالموجود بكليته (أو إن شئت بالوجود)، وهذه العلاقة الأصلية يحوطها السر، ولهذا فإن الوقوف عند الموجود والاستغراق فيه والتصلب على تحديداته المباشرة واتخاذه مقياسًا للأفعال، معناه الوحيد هو الانصراف عن السر وضياع الجذور، ومهما حاولنا أن نستخفَّ بالسر ونرجم من ينبهنا إليه بأحجار الكلمات السهلة والشعارات المحفوظة، مهما نسيناه أو تناسيناه وأنكرناه، فلن يفلح هذا في إلغائه؛ لأن النسيان والتناسي والإنكار لا تزال جميعها تعبيرًا عن صورة من صور العلاقة التي تربطنا به، أليس أدل على هذا من لهفة الإنسان وقلقه وتخبطه من موجود إلى آخر، دون أن يجد في واحد منها السلام والراحة التي يرجوها؟ ألا يحق للفيلسوف أن يقول إن لهفة الإنسان بين الهروب من السر واللجوء إلى الواقع المعتاد واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو «الضلال».
وما هو الضلال؟ ليس سلوكًا عرضيًّا ينجم عن خطأ أو سهو عارض يمكن تصحيحه وتحاشيه، إنما هو الذي يحدِّده وجود الإنسان تحديدًا أوليًّا؛ ومِنْ ثَمَّ يحدِّد سلوكه، ولا يعني هذا أن الضلال قدر محتوم لا فكاك منه؛ لأنه لا ينفي أننا نملك القدرة على مواجهته، بل ينبغي علينا أن نواجهه: «ليس الضلال الذي يمضي فيه الإنسان شيئًا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه كأنه حفر يسقط فيها أحيانًا، وإنما هو جزء من تكوين الموجود الإنساني الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه».
من أين تأتي حتمية الضلال؟ من الحقيقة التي عرفناها من قبل، وهي أن الإنسان لا يمكنه أن «يكشف» إلا بقدر ما يحتجب، وأنه هو نفسه يخفي هذا التحجب عن نفسه؛ ولهذا تظل علاقتنا نفسها بالتحجب محتجبة.
ويستطرد هيدجر فيقول: «إن الضلال بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي.» وربما تصورنا من هذه العبارة أن الحقيقة الأصلية — التي تتميز بعلاقتها الوثيقة بالسر — تستمد منها حقيقة أخرى فاسدة تكون بمثابة الضد من تلك وتستحق أن تُسَمَّى «الضلال»، ولكنَّا إذا واصلنا قراءة النص وجدنا هذه العبارة التي تحدد الأمر فنقول إن حجب المحتجب والضلال ينتميان معًا للماهية الأصلية للحقيقة، وإذًا فاللاحقيقة، بوصفها حجبًا للاحتجاب وبوصفها ضلالًا، تنتمي بوجهيها هذين للماهية الأصلية للحقيقة، يؤيِّد هذا وصف هيدجر لضد الماهية أو للماهية الضد بأنها أساسية، أي أنها أولية وأصلية، داخلة في بناء الحقيقة نفسها وماهيتها الأصلية، فكأن هذه الحقيقة ذات جذر مزدوج، يعاند أحد طرفيها صاحبه ويقف منه موقف الضد! ما السبب في هذا؟ ليس عسيرًا أن نلتمس هذا السبب، فالحقيقة علاقة بالسر ونسيان لهذه العلاقة، وكلا الأمرين يمثل في الواقع وحدة واحدة لا انشقاق فيها، ولو تأمل كلٌّ مِنَّا نفسه وحياته لرأى أنه ينتمي للحقيقة بما هو إنسان مهموم بالوجود، كما ينتمي للاحقيقة بما هو إنسان مشغول بشئون حياته اليومية وما يحيط به من موجودات تُنسيه علاقته الأصلية بحقيقة الوجود بكليته، ولعل هذا أن يوضِّح ما يؤكده هيدجر في العبارتين المذكورتين من أن الضلال هو ضد-الماهية الأساسي للماهية الأصلية للحقيقة، وأنه — أي الضلال — ينتمي لهذه الماهية الأصلية للحقيقة، وغنيٌّ عن الذكر أن الضدية هنا ليست منطقية؛ لأن الضدين المتقابلين تقابُلًا جدليًّا حاسمًا يرتبطان في وَحْدة أعلى وأسبق منهما، دون أن يحطما هذا التقابل أو يحاولا تحطيمه.
إن الإنسان يوجد دائمًا في الضلال، وهو يوجد فيه بصورةٍ أولية مسبقة، والضلال هو المسرح الذي تدور عليه كل ألوان الخطأ، فإذا عرفنا أن الضلال هو ضياع العلاقة الإيجابية التي تربطنا بالسر، وأن الحقيقة الماهوية أو الأساسية هي اتخاذ موقف من التحجب، أمكننا أن نفهم عبارة هيدجر: «إن الضلال ينفتح لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية.»
ولما كان الضلال — بوصفه الضد الأساسي للماهية — ينتمي انتماءً أصيلًا للحقيقة، فإن الإنسان يستطيع أن يستعيد السر من خلال الضلال، وذلك بمجرد أن يجرِّب الضلال ويحس أنه هو الضلال (لا الإحساس فحسب بصوره المختلفة التي تجربها في حياتنا اليومية من تخبُّط وخطأ وبلبلة واضطراب وعجز وجهل)، ولو جرَّبْنا الضلال بما هو كذلك وانتبهنا إليه لَعرفنا عندئذٍ من نحن وأين نحن، واستعدنا عَلاقتنا الأصيلة بالسر، فالانتقال من هذه المعرفة بالضلال إلى السر غيرُ مستحيل، إذا تذكَّرنا أن الحقيقة الأصلية تتكون منهما معًا على نحو أصيل، ويكفي أن نُدرك الخطر الذي يتهدَّدنا من جانب الضلال لكي نتحدَّد بالسر ونهتدي إلى الطريق إليه، مهما يكن من نسياننا أو تناسينا له.
«إن كليهما (السر والضلال) يحمله (أي الإنسان) على الحياة في محنة القهر»، فهل تحكم الحقيقة على الإنسان (أو الموجود الإنساني) بالمحنة والقهر؟
إن وجود الإنسان في غمرة الضلال يتضح من اضطرابه ولهفته ولهاثه من موجود بعينه إلى موجود آخر، دون أن يجد راحة القلب واطمئنان الضمير؛ ولهذا يتميز الإنسان باضطرابه، وتأرجحه، واندفاعه إلى المحنة، وخضوعه للقهر والضرورة (لاحظ بهذه المناسبة أن كلمات المحنة والقهر والضرورة مشتقةٌ في لغتها الأصيلة من جذر واحد!) ويجب ألَّا نتصور الضرورة أو القهر على معنى القهر المحتوم، ولا أن نأخذ المحنة على معنى يوحي باليأس أو الحزن.
فالقهر الذي يجد فيه الإنسان نفسه؛ نتيجة اضطرابه في الضلال، ليس قوة قدرية محتومة، وإنما هو صميم المحنة التي نعيشها وعلينا أن نجربها ونواجهها، هذه المحنة نفسها لا علاقة لها باليأس الذي نعرفه جميعًا، وإنما تأتي من أن السر لا ينقطع تأثيره حتى في غمرة الضلال، ولما كان وجود الإنسان خاضعًا للمحنة، فإن هذا هو الذي يمكنه من الكشف عن الضرورة، ووضع نفسه في «المحتوم»، ولن يتسنى له ذلك إلا عن طريق الحرية التي تشعر بتناهيها.
وتأتي خاتمة هذا الفصل فتجمع خيوطه في نسيج واحد مكثف، لقد كان الهدف منه هو بيان ماهية الحرية استنادًا إلى ماهية الحقيقة، وقد أوضح أن الحقيقة — التي هي في صميمها وبحسب معناها الذي فهمه فلاسفة اليونان قبل سقراط، كشف أو تكشُّف — هي في نفس الوقت تحجب الموجود بكليته.
هذا التحجب هو اللاحقيقة الأصلية المتلازمة لطبيعة الحقيقة نفسها، غير أن اللاحقيقة ليس تحجُّبًا (أو سِرًّا) فحسب، بل هي كذلك ضلال، أي نسيان للعلاقة الأصلية بالسر، فالضلال هو الماهية المضادة للحقيقة، وهذه الماهية المضادة تنتمي كما رأينا لماهية الحقيقة.
لو قلبنا الصفحات قليلًا لقرأنا هذه العبارة التي وردت في نهاية «الملحوظة» التي اختتم بها المؤلف محاضرته: «إن المعرفة (أو الفكر) الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجه هذه التجربة الأساسية: إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيَّأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقًا من الإنية التي يمكن أن يلتزم بها الإنسان.» وقد وردت هذه الفكرة نفسها في الفقرة الختامية التي نتحدث عنها في قول المؤلف: «إن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته أمر لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذٍ يبدأ الانفتاح على السر في التحقُّق في إطار الضلال، عندئذٍ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا أصيلًا، وعندئذٍ يتضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية».
معنى هذا أن ماهية الحقيقة تتحقَّق بصورةٍ أصيلة عندما يتمكن ذلك الذي يسأل من تحقيق وجوده الخاص على نحو أصيل، أي حين يدخل في علاقة أصيلة مع الوجود، ومعنى هذا مرة أخرى أن الأمر هنا يتصل بوجود السائل كما يتصل بالوجود بما هو كذلك؛ لأن الأوَّل (أي الموجود الإنساني) يتحدد وجوده من خلال علاقته بالوجود؛ ومِنْ ثَمَّ حرص هيدجر منذ أن وضع كتابه عن الوجود والزمان على الربط بين حقيقة الوجود وبين ماهية الموجود الإنساني أو ماهية الإنسان؛ فالإنسان لا يمكنه أن يتساءل عن الوجود إلا إذا كان يحيا في علاقة معه ويحس أنه في حماه، بل إن أسلوب الإنسان في الوجود هو الذي يحدِّد أسلوبه في فهم ماهية الحقيقة، وهي بالطبع حقيقة الوجود نفسه، ومن الواضح أن هذا الأسلوب في الوجود (الذي سيمكننا من اتخاذ موقف معين من ماهية الحقيقة) لن يكون أسلوبًا عقليًّا أو نظريًّا، بل ينبغي أن يكون مسلكًا أساسيًّا يوجه كل كياننا ويحدد كل وجودنا التاريخي، والأمر في اختيار هذا المسلك واتخاذ هذا القرار يتوقف على درجة الأصالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، ثم إن هذه الأصالة نفسها تعتمد على طبيعة علاقتنا بالوجود، إن كانت أصيلةً أصبحنا أُصَلاء، وإن كانت زائفة أصبحنا زائفين ضائعين، وهكذا نفهم عبارة هيدجر العويصة عن تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، والمهم بعد كل شيءٍ هو التفكير في حقيقة الوجود، لا في الموجودات فحسب، وتلك هي أسمى مهمة يمكن أن يلتزم بها الفكر، إنها هي المهمة التي واجهَت الفلسفة منذ نشأتها الأولى، وحاولت الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل أن تقوم بها دون أن تحقِّق هدفها حتى اليوم، لماذا؟ لأنها لم تفكر أبدًا في الوجود نفسه وحقيقته، ولأنها كانت تفكر دائمًا في الموجود وتنسى حقيقة الوجود (ومِنْ ثَمَّ كانت دعوة هيدجر المستترة لقهر الميتافيزيقا وتجاوزها، لا بتحطيمها أو إلغائها، فهذا شيء مستحيل، بل بالعودة إلى أساسها، ألا وهو التفكير في حقيقة الوجود نفسه، من خلال الموجود الوحيد المهموم بالسؤال عنها، القادر على كشفها والانفتاح على نورها)، ومن هنا نفهم هذه العبارة التي جاءت في الملحوظة التي تختتم بها هذه المحاضرة: «إن الفكر يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقِّق في خطواته الحاسمة — التي تنتقل من الحقيقة بوصفها تطابُقًا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة بوصفها حجبًا وضلالًا — (يحقق) تحوُّلًا في التساؤل ويؤدِّي إلى تجاوز الميتافيزيقا.»
•••
تحددت ماهية الحقيقة، وبقي أن نحدِّد ماهية الفلسفة التي تسأل عن هذه الحقيقة، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمن اللاحقيقة، فلا بد أن تكون الفلسفة بدورها منقسمة على ذاتها، وأن تكون — على حد تعبير هيدجر — متزنةً ولينة، متشددة ومتفتحة، معتدلة ووديعة … وربما أنكرنا هذه الكلمات الشاعرة في مجال قد لا يسمح بها، وقد نحار في العثور على مقابل للكلمتين الأصليتين اللتين تُفيدان بحروفهما «اتزان الرقة»، ولكن سواء آثرنا الرقة أو المرونة أو الوداعة، فالمعنى المقصود هو القدرة على الاتجاه نحو الموجود وتركه يوجد وينكشف، مع الحفاظ في نفس الوقت على التحجُّب الأصليِّ وصونِه ونقلِه إلى وضوح التعقُّل، دون أن يقترن هذا بأي قنوطٍ من جانب الإنسان أو تخلٍّ عن ماهيته الحقة التي تقوم على الانفتاح للموجود، فالاعتدال أو المرونة والوداعة التي نتحدَّث عنها تُتيح للفلسفة أو بالأحرى للمتفلْسِف أن يبقى هو نفسه، أن يظل قريبًا من الموجودات الأخرى بغير أن يحاول تغييرها أو تشويهها أو اقتحامها بالتعسف والقوة والاغتصاب، ولا شك أن كلمات كالرقة أو الوداعة أو اللين ترتعش عليها ظلال الرحمة والكرم والحنان والتعاطف التي تميِّز موقف المتفلسف من الموجود بكليته، ولعل هذا أن يذكرنا بعبارة هيدجر المشهورة التي يردِّدها في كثيرٍ من كتاباته: «الإنسان هو راعي الوجود وحامي بيته.»
•••
ويُلقي المؤلف في الفصل الثامن نظرةً أخيرةً على مشكلة الحقيقة والفلسفة، ويجدِّد هجومه على الحس السليم الذي يُعلن ضيقَه بطبيعة الفلسفة وأسئلتها وإشكالياتها منذ بداياتها الأولى! ثم يهتدي برأي «كانط» في ماهية الفلسفة ومحنتها الباطنة، ويُورد أحد نصوصه التي تشهد على إيمانه بكرامة الفلسفة وأصالتها، وجهده في الدفاع عنها وإنقاذها من سطحية أصحاب الفهم العام واستبعاد بعض الكُتَّاب والمفكرين الذين يحسبونها مجرد «تعبير» عن الحضارة، لقد كان «كانط» — على الرغم من وقوعه في أسر التراث الميتافيزيقي ومن موقفه القائم على الذاتية — عميق الحكمة كالعهد به في نظرته إلى طبيعة الفلسفة «حارسة قوانينها الخاصة»، وكان أصيلًا في حرصه على احتفاظ الفلسفة بماهيتها، والعودة بها إلى الحقيقة الأصلية التي يقوم عليها السؤال الفلسفي.
ونأتي إلى نهاية هذا الفصل فنجد المؤلف يلخِّص المسائل الأساسية التي عرضنا لها على الصفحات السابقة ويجمعها حول هذا السؤال الأساسي: «ألا يجب أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟» — ربما أوحت صيغة السؤال بالتكرار والتلاعب الحاذق بالألفاظ، ولكن الواقع أنها أبعد ما تكون عن هذا، فهي تريد أن تحيي في نفس القارئ جذوة السؤال الأساسي الذي حرك التفكير في هذه الرسالة بأكملها، كما تحرص على البعد عن وضع نتيجة «جاهزة» بين يديه، إن المفكر الحقيقي لا يقدم لقارئِه ثمرةَ بحثه على طبق فضي أو ذهبي، وإنما يحاول أن يُشركه في الجهد المبذول في غرس البذور ورعاية الأشجار وانتظار الثمار … إن همَّه هو إحياء الإشكال في نفس القارئ وعقله، وحثه على البقاء في محنة السؤال؛ لأنه في النهاية هو الممتحن والمسئول، وهل هناك ما هو أولى بالسؤال والعذاب والانتظار من مشكلة الحقيقة؟ هل هناك من هو أولى بالبحث عن حقيقة الوجود من ذلك الكائن الذي يهتمُّ — وحده — بالسؤال عنه وترقُّب أنواره والوصول، عبر جسوره، إلى طبيعته الحقة وإنقاذ وجوده الأصيل من بحار الزيف التي تغرقه صباح مساء؟!
هكذا يختم هيدجر رسالته ختامًا لا يخلو من التواضع الكريم حين يؤكد أنها «تساعد على التأمل» في قضية الحقيقة، وحسبه أنه ابتعد بنفسه عن الإجابات السهلة التي يتلهَّف عليها أصحاب الحس السليم، وأنه لم يحرص على شيءٍ حرصه على إثارة السؤال.
(٤-٢) حقيقة الفن
- (١)
أن حقيقة الموجود «تحدث» في العمل الفني.
- (٢)
أن «وضع العالم» و«إنتاج الأرض» مَلْمحان أساسيان من ملامح العمل الفني الذي يتم فيه «النزاع» بين الأرض والعالم.
- (٣)
ماهية الحقيقة تكمن في هذا النزاع الأصلي الذي يدور حول «الوسط المنفتح» الذي فيه يكون الموجود ويعود إلى نفسه.
- (٤)
أن ما يُظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها.
- (٥)
الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه.
- (٦)
الفن كله — بوصفه «إحداث» حقيقة الموجود بما هو موجود والكشف عنها وتجليتها — هو في ماهيته شعر (بمعناه الواسع من الإبداع والإنشاء).
تبدأ الدراسة بالسؤال عن الأصل الذي يستمد منه العمل الفني طبيعته وماهيته كعمل فني، فهي لا تستغرق في التأملات والخواطر المعتادة عن جمالياته، وإنما تتجه مباشرةً إلى السؤال المحدد عن ماهيته. إننا جميعًا متفقون على أن الفنان هو الذي يُبدع العمل الفني، فهل هو الأصل فيه؟ ألا يصح القول من ناحية أخرى أن إبداع العمل الفني هو الذي يجعل الفنان فنانًا؟ أليس معنى هذا أن الفنان هو أصل العمل الفني، كما أن العمل الفني هو الأصل في الفنان؟ ولكن أليس الفن نفسه هو الأصل في الفنان وعمله على السواء؟ ألا ينبغي علينا أن نسأل أوَّلًا عن ماهية الفن؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتِّم علينا الرجوع إلى الأعمال الفنية، فهل وقعنا إذن في الدور الذي يحذرنا منه المناطقة ويأباه الحس السليم؟ ولكن هذا الدور لا مناص منه في مواجهة هذه المشكلة بكل أطرافها، فلا بأس من الاعتراف به، ولا غِنى عن تحمله والتمسك به، لسنا هنا بصدد الدور الذي ينهى عنه المناطقة؛ لأننا لا تستنتج شيئًا ولا نبرهن على شيء، وإنما نحاول أن نتيح رؤية هذا الذي نسميه العمل الفني والكشف عن حقيقته، فلا ضير إذن من السير في دائرةٍ تمتد بنا من العمل الفني إلى الفن، ومن الفن إلى العمل الفني.
لو حللنا تحديدات الشيء المعروفة لَوجدناها تنحصر في الشيء بوصفه جوهرًا أو موضوعًا حاملًا للصفات والمحمولات، أو بوصفه وحدة تؤلف بين المعطيات الحسية المتنوعة، أو مادة تشكلت من خلال الصورة.
ولهذا فإن لدينا «الشيء الخالص» كما تقدِّمه لنا الطبيعة، و«الشيء-الأداة» كما أنتجها الإنسان ليستخدمها الإنسان، و«العمل» بمعنى العمل الفني، والواقع أن هذه الفروق المختلفة لن تساعدنا كثيرًا فيما نحن بصدده من فهم ماهية العمل الفني وحقيقته، كما لن تساعدنا صيغة الشكل والمضمون التي يكثر حولها الجدل، وكل ما سنخرج به منها هو أن العمل الفني «شيء»، وأننا ننساق فيها مع تيار الميتافيزيقا في محاولاتها المختلفة لفهم الوجود والتفكير فيه ابتداءً من «شيئيته»، فَلْنتَحدَّ تاريخ هذه الميتافزيقا! ولنحاول البحث عن طريق جديد! (وإن يكن طريقًا شاقًّا أشبه بطريق جحا عندما سألوه عن أذنه!)
حقيقة الموجود تحدث في العمل الفني، أو تضع نفسها فيه بالفعل، هذا الوضع الذي ينطوي على معنى الصيرورة والفاعلية مرادف كما قلنا «للإحضار» و«الإظهار»، ولا بد لنا الآن من تتبع هذه الظاهرة التي تُظهر نفسها بنفسها، إذا أردنا أن نصل إلى ما يميز العمل الفني عن الأداة وعن الشيء الخالص، وإذا كان العمل الفني «وضعًا» للحقيقة أو إحداثًا وإظهارًا لها، فكيف نفهم معنى الحقيقة وعلاقتها بماهية العمل الفني؟
هذه العلاقات التي يذكرها هيدجر في العبارة السابقة هي ما نسمِّيه باسم «العالم»، في هذه العلاقات يحيا البشر وتتم مسيرتهم في عصر معين نحو قدر مرسوم، وهي التي تحدِّد سبيلنا إلى فَهْمهم ومعرفة رؤيتهم لعالمهم ونظرتهم إلى أنفسهم.
هكذا تتم الدورة ويرجع هيدجر إلى ما قرَّره من أن حقيقة الوجود تحدث في العمل الفني، وكأننا لم نبحث في حقيقة العمل إلا لكي نصلَ إلى الحقيقة نفسها، وكأننا في هذه المرحلة كلها أشبه بالفارس الذي قطع المسافات الشاسعة بحثًا عن الجواد الذي كان يمتطي ظهره! مهما يكن من شيء فإن التأملاتِ حول العمل الفني ستدفعنا إلى التفكير في ماهية الحقيقة، وستجعلنا نراها كذلك رؤية جديدة، وطبيعي أن يرجع هيدجر إلى الأفكار الأساسية التي عرضها في محاضرته عن ماهية الحقيقة، وأن يؤكد أن «الأليثيا» (اللاتحجب) هي أكثر الأشياء تحجُّبًا (ص٤٠) وأنها هي السر واللغز نفسه، ولكي يكون مبدأ التطابق هو معيار الحقيقة والصدق، ولكي تعبِّر القضية عن التوافق بين المعرفة والشيء، فلا بد أن يسبق ذلك ظهور الشيء نفسه، وانفتاح الموجود للإنسان والإنسان للموجود، ولا بد أيضًا أن يسود الانفتاح علاقة الإنسان بشريكه الإنسان، ولا نريد أن نكرر ما قلناه عن ماهية الحقيقة؛ إذ يكفي أن نحتفظ منها — في سياق بحثنا عن حقيقة العمل الفني — بخاصية الظهور والانفتاح والإنارة والتجلي التي لا تنفصل عن جميعها عن التخفي والتحجب والانغلاق والانطواء، كما نحتفظ منها بكون الحقيقة لا تنفصل عن اللاحقيقة، وأنها صراع بين الإنارة والإظلام، والتحجب واللاتحجب، وهو صراع يوضع فيه الإنسان ويتعرض له على الدوام: «فماهية الحقيقة تكمن في هذا الصراع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح لانتزاع ذلك الوسط المفتوح الذي يكون فيه الموجود ومن خلاله يعود إلى نفسه» (ص٤٣) هذا الصراع أو النزاع في قلب الحقيقة نفسها بين الإنارة والتحجب يقربنا من ذلك الصراع الذي يدور في قلب العمل الفني بين العالم (الإنارة والانفتاح) والأرض (التحجب والانطواء).
لنسأل الآن: أين يمكن أن نعثر على هذا الصراع؟ والجواب قدمناه من قبل: في العمل الفني؛ ففيه «تحدث» الحقيقة ويتم الصراع بين قطبيها أو جذريها الأصليين، أيكون العمل الفني هو «المكان» الوحيد؟ بالطبع لا، فهناك «أماكن» أخرى يعاين فيها الإنسان هذا الصراع القدري الذي تتفتح فيه حقيقة الموجود بكليته، كالتضحية في سبيل الآخرين، وتأسيس دولة أو حياة جماعية، والتفكير نفسه عندما تصبح الحقيقة هي مشكلته الرئيسية وشغله الشاغل، والمهم أن نتذكر ما أكدناه من قبل من أن عنصري العمل الفني — وضع العالم وإنتاج الأرض — هما اللذان يؤلفان طرفي النزاع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح من أجل تجلي (لاتحجب) الموجود بكليته، أي من أجل الحقيقة (ص٤٤). نقول الحقيقة، أي الحقيقة الكلية لا حقيقة موجود أو شيء بعينه يمكن أن يعبِّر عنه العمل الفني أو يعكسه أو يحاكيه كما تقول نظرية المحاكاة التقليدية، ولا يتسنى ظهور هذه الحقيقة الكلية إلا في الأعمال الفنية الخارقة التي يصح عليها القول بأنها صنعت عصرًا وعبرت عن روح شعب أو جيل: «إن ما يُظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها» (ص٤٤). وغنيٌّ عن الذكر أن هذه العبارة تضع حدًّا للخلاف التاريخي الطويل الذي يتلخص في هذا السؤال: هل هناك علاقة بين الجمال والحقيقة أم أن الجميل ينبغي أن يُستبعد من مجال الحق؟ والعبارة تبين بوضوح أن الجمال أسلوب من أساليب مختلفة لتجربة الحقيقة، وأنه ليس هو الأسلوب الوحيد.
هكذا يكون هيدجر قد وجه المشكلة الجمالية وجهةً جديدة، فبدلًا من أن يسأل عن الحقيقة ابتداءً من الفن والعمل الفني، كما فعل الكثيرون من فلاسفة الفن ولا يزالون يفعلون، نجدُه قد عكس السؤال وأخذ يبحث عن ماهية الفن والعمل الفني ابتداءً من ماهية الحقيقة التي «تتجسَّد» فيه أو «تكون» وتظهر من خلاله؛ ولهذا نراه يقول: «لما كان من طبيعة الحقيقة أن ترتِّب أمرها في الموجود؛ لكي تصبح بذلك حقيقة، فإن الاتجاه إلى العمل شيء كامن في ماهيتها، وهذا تعبير عن إمكانية متميزة للحقيقة يجعلها توجد في قلب الموجود نفسه.» (ص٥٠)، وكلما نجح الإبداع في إظهار انفتاح الموجود أو حقيقته، كان هذا المبدع عملًا فنيًّا، والفنانون والأدباء العظام لم يفعلوا شيئًا غير هذا، فأعمال رمبرانت أو سيزان أو كافكا تُظهر إمكانية هذا الانفتاح، وتجعلنا نرى الموجود في ضوء جديد غير مألوف، هو باختصار نور الحقيقة التي لا بد أن يتفتح فيها حتى يمكننا أن نراه، ولعل هذا أن يكون هو المقصود بالعبارة الخامسة التي ذكرناها في صدر هذا الحديث من الحفاظ على العمل الفني، فليس المراد به أن نحميَه من التلف أو نصونه في مكان أمين — وهو أمر واجب بطبيعة الحال! — بل إن العمل الفني يغير علاقتنا بالعالم والأرض، وينتشلنا من مستنقع العادة، وينتزعنا من سأم المألوف والمعتاد، وتتم صدمة هذا التحول في العمل الفني نفسِه، وواجبنا ألَّا نتجاهله أو نهون من شأنه أو نقابله بالصمت، بل نجربه ونعانيه كأشد ما تكون التجربة والمعاناة: إن الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه، والتغلغل في باطن الانفتاح الذي يحدث في هذا العمل (ص٥٥)، ولا شك أن هذا التغلغل وتلك المعايشة يتطلبان من الإنسان مسلكًا خاصًّا يُتيح له — بالفعل والإرادة — أن يجرِّب الانفتاح ويهب نفسه لنور الحقيقة حين يتكشَّف عن وجهها الحجاب، ولا شك أيضًا أن هذه التجربة شيء مهول ورهيب؛ لأن الذي يظهر فيها ليس هذا الموجود المعتاد أو ذاك، بل الموجود بكليته، وإن شئت فحقيقة الوجود نفسه؛ لهذا تتطلب من الإنسان — وهو بطبيعته كائن متفتح متجاوز لنفسه باستمرار — غاية الصمود والاحتمال والاتزان في مواجهة الحدث الغريب المهول الذي لا شك في أنه سيغيره ويحوله من الأعماق، وهل يغير الإنسان شيء كما تغيره تجربة الحقيقة؟ وهل يقدر شيء على تحويله كما يقدر العمل الفني الذي يظهر الحقيقة؟ وهل يمكن أن يدهشنا الآن هذا التعريف الذي يقدِّمه هيدجر للفن بأنه «الحفاظ الخلَّاق على الحقيقة في العمل الفني»؟ وهل يمكن أن نرفضَ وصفَه لحدوث الحقيقة — أو بالأحرى إحداثها وإظهارها وتفتحها — بأنه شعر: «إن الفن كله، بوصفه إحداث حقيقة الوجود بما هو موجود، هو في ماهيته شعر» (ص٥٩).
لقد كان الشعر دائمًا وسيطًا بين السماء والبشر، فلِمَ لا يكون العمل الفني حلقة الوصل بين الإنسان والحقيقة؟
ليس المقصود بطبيعة الحال أن ترتدَّ كل الفنون إلى الشعر الذي نعرفه ونميزه عن النثر ونختلف حول طبيعته وخصائصه ومفهومه، وإن لم نختلف حول محبته وحول وقعه الغنائي على الوجدان، وإنما المراد بالشعر أن يكون الإبداع في مختلف الفنون هو السبيل إلى تحرير الحقيقة وتجليتها والكشف عنها، ولا شك أن لكلِّ فنٍّ سبلَه المختلفة عن غيره في تحقيق هذا الكشف والانفتاح، ولا شك أيضًا أن لكل عصر فنَّه أو فنونَه، أي أسلوبه في «تأسيس» الحقيقة وتصويرها والتعبير عنها.
كان هيدجر يريد أن يعرفنا بماهية العمل الفني، فإذا به يزيدنا علمًا بماهية الحقيقة! كُنَّا ننتظر منه أن يكشف لنا عن ماهية الفن، فإذا به يعود بنا إلى ماهية الحقيقة كما تظهر في العمل الفني، أيكون بهذا المقال قد خطا أول خطوة على طريق «العودة» أو «الرجعة» إلى الحقيقة الأصلية التي ينطلق منها لتفسير اللغة والفكر والإنسان … إلخ على نحو ما فسر الفن؟ أيكون بهذا قد غيَّر طريقه الأوَّل الذي جعله يبحث في وجود الإنسان تمهيدًا للبحث عن معنى الوجود بوجهٍ عام؟
هذا هو الذي حدث بالفعل.
لقد بدأ طريق العودة أو الرجعة إلى حقيقة الوجود، فلنحاول الآن أن نصحبه على هذا الطريق، بقدر ما يسعنا الجهد وتُسعفنا الأنفاس!
(٤-٣) حقيقة الإنسان
كتب هيدجر رسالتَه المشهورة عن النزعة الإنسانية (١٩٤٦م) ردًّا على خطاب وجَّهَه إليه المفكر الفرنسي جان بوفريه الذي زاره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوطدت وشائج الصداقة بينهما منذ ذلك الحين، والرسالة تدول حول هذا السؤال: ما هي إنسانية الإنسان وكيف نفكر فيها؟ هل تقتصر النزعة الإنسانية — كما نفهمها عادةً — على السؤال عن الإنسان والاهتمام به؟
كان كتيب سارتر عن «الوجودية نزعة إنسانية» قد صدر في ذلك الحين في باريس، وكان سارتر — قبل محاولاته الأخيرة للاقتراب من الماركسية — ما يزال على خلافه مع الماركسيين الذين أرادوا احتكار النزعة الإنسانية، فجاء سارتر ليؤكِّد لهم أن الوجودية هي الإنسانية الحقة، واغتنم «بوفريه» الفرصة ليسأل فيلسوف الوجود الأكبر: ما هي النزعة الإنسانية؟ أيمكن أن نُضفيَ على هذه الكلمة معنًى جديدًا؟ ويرد عليه هيدجر بسؤال مضاد: وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟
بهذا يضعنا في قلب المشكلة: كيف نفكر في ماهية الإنسان؟ ربما أوحى سؤال هيدجر المضاد بأنه لا يكترث بالبحث عن ماهية الإنسان، ولكن الواقع غير هذا، فهو يشك في كل محاولة لتحديد ماهية الإنسان بالاعتماد على المفهوم التقليدي للنزعة الإنسانية التي تضعه في مركز الوجود، صحيح أن مثل هذه المحاولة هي أقرب شيء مِنَّا وأيسره علينا، وهي كذلك نفس المحاولة التي قامت على أرض الميتافيزيقا وتحقَّقَت على مدى تاريخها، ولكنَّها ليست بأنسبِ الطرق المؤدِّية إلى فَهْم حقيقة الإنسان.
أين نجد النزعة الإنسانية، ومَنْ مِنَ الشعوب والحضارات تمثلها لأول مرة؟ لا شك عند هيدجر أنها ظاهرة رومانية خالصة، نشأت عن التقاء الرومان بالثقافة الإغريقية في عهودها الأخيرة، وليست «النهضة» التي تمت في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلا بعثًا للنزعة الرومانية، أي للنزعة الإنسانية القائمة على فكرة «البايدايا» أو التربية الإغريقية، والدليل على هذا أن النظرة إلى الروح الإغريقية المتأخرة كانت نظرة رومانية، وأن «الإنسان الروماني» الذي بعثه عصر النهضة كان يُعدُّ الطرف المقابل «للإنسان البربري» (بالمعنى الأصلي الذي كان يُطلَق على سائر الشعوب دون الإغريق وسلالتهم من الرومان)، كما كانت «البربرية» المنسوبة للشعوب القوطية في العصر المدرسي الوسيط مرادفةً لكل نزعة غير إنسانية، وقد كان من الضروري أن يستند هذا المفهوم التاريخي للنزعة الإنسانية على دراسة الإنسان، وأن يرتبط بالرجوع إلى العصور القديمة وبعث علومها وفنونها ونصوصها، ومحاكاة الروح الإغريقية بوجه خاص محاكاة خلاقة، وهذا هو الذي حدث على سبيل المثال مع النزعة الإنسانية التي قامت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ودعا إليها رجالٌ من أمثال فنكلمان وجوته وشيلر وهمبولت وهيردر.
بَيْدَ أن هذه الصورة التاريخية للنزعة الإنسانية ليست هي الصورة الوحيدة؛ ففي عصرنا الحديث نزعة أخرى تهتم بالإنسان دون أن تمدَّ جذورها في أرض الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، وتتمثَّل بوجه خاص في الماركسية وفي وجودية سارتر، ولقد كان من الضروري أن يختلف مفهوم النزعة الإنسانية باختلاف المذاهب والعصور؛ لأنه إذا كان المقصود منها أن يتحرر الإنسان ليسترد إنسانيته ويجد فيها قيمته وكرامته، فلا بد أن يختلف معناها باختلاف المعنى الذي يفهمه كل منها من حرية الإنسان وطبيعته.
وما الذي يأخذه هيدجر على هذا التصور العقلي؟ لِمَ لا يُرضيه؟
من المعروف أنه لم يكفَّ طوال حياته عن «تحدي» تاريخ الميتافيزيقا والدخول معها في حوار مستمر ومحاولة تجاوزها والرجوع بها إلى «أساسها» الذي نسيته أو قصرت في التفكير فيه؛ ولهذا فإنه يرفض هذا التصور لأنه يقوم على تفسير ميتافيزيقي محدد للإنسان، ولأن هذا التفسير لم يفهم من ناحيته الميتافيزيقية ولم يتمَّ التفكير فيه على نحو كاف.
وليس معن هذا أنه يريد أن يضع تفسيرًا جديدًا يحل محل التفسير القديم، وإلا كانت المسألة كما يقول هيدجر مسألة «وضع» لا يزيد في مشروعيته عن أي وضع آخر ولا يقلُّ عنه، بل معناه أنه يبحث في كل هذه الأوضاع والتفسيرات عن «مضمونها» الذي لم ينل حظه من التفكير المتعمِّق الأصيل.
ولكن ما علاقة هذا كله بإنسانية الإنسان وبرسالة النزعة الإنسانية؟
مهمة الفكر إذن تنحصر في التعبير عن الإنارة بالكلمة، والحفاظ عليها، وتيسير السبل إلى إدراك ماهيتها، ولعل هذه الفكرة هي التي حرَّكتْ هيدجر ودفعتْه منذ البداية للسؤال عن الوجود والحقيقة.
ما هي العلاقة بين الإنارة والوجود؟
إن الإنارة هي الوجود، بقدر ما يتيسر لنا إدراكه وفهمه فهمًا غير مباشر ولا موضوعي، وهذا هو الذي تُعبِّر عنه هذه الرسالة حين تقول: «إن الفكر يسمح للوجود بأن يستوليَ عليه كيما يعبر بالقول عن حقيقة الوجود، والفكر هو الذي يحقق هذا السماح.» فحقيقة الوجود هي هذه الإنارة التي «تحدث» وتحمل علاقتنا بالموجود وتبقى عليها، وبهذا تشهد الحقيقة نفسها تحولًا حاسمًا في مفهومها ووظيفتها، فلم تعد تحديدًا يتعلَّق بالموجود «وينطبق» عليه، وإنما أصبحت هي «اللاتحجب» أو الإنارة التي لا نفكِّر في الوجود إلا على ضوئها بل نجعلها مرادفة له، ربما يتحمل هيدجر مسئولية الارتباك الذي نقع فيه عند الاطِّلاع على هذه المصطلحات المختلفة من وجودٍ وإنارةٍ وحقيقةٍ ولاتحجُّب (أليثيا) في مؤلَّفاته العديدة، ولكن لعل للرجل عذرَه؛ فهي قد صحبت طريقه الطويل في التفلسف، كما أنه كان دائمًا «على الطريق» إليها، ومع ذلك نستطيع أن نقول الآن، بعد اكتمال دائرته الفكرية، إنها جميعًا تعبِّر عن شيء واحد وتجربة واحدة، والأهم من المصطلحات بطبيعة الحال هو تحقيق هذه التجربة وبذل الجهد المتصل في سبيلها.
ونسأل الآن: ما هي العلاقة بين الوجود وبين ماهية الإنسان الذي وصفنا وجوده بأنه «تواجد»؟ إن الوجود نفسه هو «العلاقة»، و«الموضع» الذي تكون فيه حقيقة الوجود «وترتب نفسها» فيه هو الموجود الإنساني أو على حد تعبير هيدجر: «إن التعرُّض لإنارة الوجود هو الذي أسميه بتواجد الإنسان، والإنسان وحده هو الذي يختص بهذا الأسلوب في الوجود، والتواجد المفهوم بهذا المعنى ليس هو الأصل في إمكان العقل فحسب، وإنما التواجد هو ذاك الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان منشأ تحديده.»
كلام عسير بغير شك، ولكنه يبين التحول الذي طرأ على وجهة نظر الفيلسوف بعد «الوجود والزمان» فأصبحت أوسع وأشمل، لم يعد «التواجد» مجرد جهد يبذله الإنسان لكي يصل إلى هُويته أو وجوده الأصيل عن طريق «شروعه» على إمكانياته، بل أصبح هو التعرض لإنارة الوجود والانفتاح عليها، هذه الإنارة لم يُحدثها الإنسان ولم يخلقها بإرادته وفعله، وإن كانت وراء كل خلق أو فعل، وتدور رسالة النزعة الإنسانية حول وجود الإنسان أو بالأحرى تواجده، أي حول فهم الإنسان بوصفه كائنًا متميزًا عن سائر الكائنات الحية بعلاقته بالوجود.
بهذا تنفتح لنا أبواب المجال الذي يمكن فيه تحديد ماهية الإنسان، وبهذا يكتسب من القيمة والكرامة أضعاف ما أعطتْه إياه النزعة الإنسانية، إن إنسانيته الآن مستمدة من قربه من الوجود، وفكره منصبٌّ على الانفتاح الحادث في التاريخ، أي على حقيقة الوجود: «إن الفكر لَيفعل في أثناء تفكيره، وربما كان هذا الفعل هو أبسط الأمور وأسماها في نفس الوقت؛ لأنه يتعلَّق بعلاقة الوجود بالإنسان.»
لن نحاول إذن أن نفهم الإنسان باعتباره «ذاتًا» تفسر الموجود من حولها تفسيرات مختلفة، كما فعلت النزعات الإنسانية على اختلافها، بل سنسير في الاتجاه الآخر ونجتهد في فهم الإنسان من ناحية الوجود نفسه كما نجتهد في فهمها من خلال علاقة الإنسان به، وسيكون علينا أن نتخلَّى عن مجال الميتافيزيقا — أو نقهرها ونتحدَّاها! — لأنها وإن تكن قد فكرت في وجود الموجود-أو موجوديته، فقد عجزت عن إدراك الفارق الأساسي بينهما، ولم تسأل عن حقيقة الوجود نفسه، ولا سألت عن العلاقة الحميمة بين ماهية الإنسان وبين الحقيقة، وسيكون علينا أن نفكر في الوجود الذي نعيش دائمًا في قربه وجواره، والذي يقرِّبنا من الموجودات كما يقرِّبنا من أنفسنا، وليس هذا الموجود كما قلنا إلا «الإنارة» التي لا بد من افتراضها حتى يتسنَّى للموجود أن يظهر كما يتسنى لنا أن نلتقي به.
وسنُخطئ لو تصورْنا أن هذه هي الغاية ونهاية المطاف؛ لأن مهمتنا ستبدأ في الواقع من هذه «المعرفة» — إن جاز لنا أن نسمِّيَها بهذا الاسم — التي ستمكننا من النظر إلى ماهية الإنسان على ضوء الإنارة التي تحدث في التاريخ، ولا شك أن هذه الإنارة قد تغيَّرت أساليب ظهورها وتجليها باختلاف الفلاسفة والعصور والشعوب، وكانت مهمة الإنسان دائمًا أن يتحمَّلها ويواجهها ويصمد لها وينفتح عليها، لا أن يصطنعها أو يخلقها من العدم، لقد كانت قدرًا — كما قال الفيلسوف — وما قدر على فرد أو شعب لا يلزم فردًا أو شعبًا آخر كل الإلزام، فهل آن لنا أن نفكِّر في وجودنا والإنارة التي سطع بريقها في طرقات تاريخنا؟ هل نأمل أن نحتشد ونتجمع لنتحمل قدرنا ونواجه مصيرنا ونعرف حقيقتنا بعد أن طال الرقود والركود، والتقصير والنسيان؟
(٤-٤) حقيقة اللغة
الشعر والفكر واللغة، هذا هو المجال الذي بقي علينا أن نستكشفه على هدي الحقيقة، وبنعمةِ نورها وتجلِّيها، فلعلنا أن نجد فيها الإنقاذ من المحنة التي تتهدَّد تاريخنا المعاصر، أو لعلَّنا أن نشارك بأنفسنا في هذا الإنقاذ.
علينا إذن أن نحيا تجربة اللغة بحيث تعبِّر عن نفسها بنفسها، فاللغة تتميَّز بأننا نعيش فيها ونألفها دون أن ننتبه لها في العادة أو نحاول تركيز أبصارنا عليها، فكيف نخرج من هذه الحال ونفكر في ماهيتها؟
إننا جميعًا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر نستشهد بها حين تتأزَّم مواقفنا في الحياة أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء هم أصحاب الرؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم من أبيات قليلة كشفت — كالبرق الخاطف — عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخصت في حكم قليلة ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة (ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه، كذلك فعل أفلاطون عندما غادر أرض الحس والمحسوس في رحلته إلى عالم المثل ولم يستطع أن يعبر عن تجربته الفكرية المجردة بمثال الخير — وهو أسماها جميعًا — إلا بالصورة والرمز، ورمز الكهف ورمز الشمس والخط كلها تعبير عن عجز اللغة حين يصعد الفكر إلى أفق مرتفع فوق الأشياء والموضوعات المرئية والمحسوسة، فتكبو كذلك جياد اللغة — التي خُلقت بطبيعة استعمالها لوصفها ومخاطبتها — عن اللحاق به).
تتحدث القصيدة في أبياتها الستة الأولى عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته الاسم، نعمة منها وهدية، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار، هنا نبلغ قمة الفعل الشعري؛ فالبيت السادس يقول: «وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام»، ويشير هذا إلى أن الأسماء هي التي «تحضر» الأشياء وتمدها بالوجود والثبات.
وفي الأبيات الستة الأخيرة يحدِّثنا الشاعر عن تجربةٍ مختلفة، فهو لم يحمل معه شيئًا من بعيد، وإنما رجع من رحلته الطيبة ومعه شيء قريب: جوهرة ثرية رقيقة، ما الذي نفهمه من هذه الجوهرة؟ ربما كانت هي الجوهرة التي تظهر وجود الشاعر نفسه، ولكن ربة القدر تفتِّش في نبعها فلا تجد لها اسمًا، لقد استطاعَت قبل ذلك أن تجد لكل موجود اسمًا، فما الذي يعجزها الآن عن العثور على اسم لهذه الجوهرة؟ أتكون شيئًا لا وجود له؟ ولكنها جوهرة، والجوهرة شيء غالٍ ونفيس، موجود من نوع متميز، وحين تغيب الكلمة تختفي الجوهرة وتفلت من يدي الشاعر، هذا الغياب يشير إلى وظيفة أخرى للكلمة، إلى أسلوب آخر من أساليب وجودها؛ فهي لا تقتصر على إضفاء الاسم على الموجودات، وليست مجرد يد تمتد بالاسم إلى ما نتصور وجوده، بل هي قبل كل شيء ذلك الذي يهب الوجود ويضفي الكينونة.
تنتهي القصيدة بهذين البيتين:
فكيف نفهم هذه النهاية؟ ما الذي يزهد فيه الشاعر أو يصدُّ عنه؟ وما الذي تعلَّمه هنا من جديد؟ إنه شيء يتعلَّق بالرأي الذي كان يؤمن به من قبل عن العلاقة بين الشيء والكلمة، لقد تعلَّم الآن أن يتخلَّى عن هذا الرأي السابق، والتخلِّي ينطوي في نفس الوقت على وعد، فالكلمة تبدو له الآن في ثوبٍ جديد: إنها هي التي تُضفي على الشيء وجوده وتحافظ عليه.
عرف الشاعر أنه حارس الكلمة ومدبِّرها، وإذا كانت تجربته قد انتهت بالإخفاق، إذا كانت ربة القدر قد عجزت عن العثور على كلمة تُسَمِّي بها تجربته الجديدة، فيجب ألَّا نفهم من هذا أنها تجربة سلبية خالصة، أو أنه خرج منها فاقدًا كل كنوزه، لقد تعلَّم الزهد والصد والتخلي عن عقيدته السابقة، ولكنه تعلَّم شيئًا لم يكن يعلمه عن سلطان الكلمة وقدرتها، والأسى الذي يشعر به على ما فقده وضاع منه، يحمل في طياته وعدًا بما يدخره المستقبل من حضور الغائب واقتراب البعيد، ولعل هذا الإحساس بالأسى أن يكون هو المسيطر على هيدجر نفسه، فهو الإحساس «بزمن المحنة» الذي عبَّر عنه هلدرلين ببيته المعروف: «لم الشعراء في الزمن الضنين؟» حين افتقد أولئك الذين يؤسِّسون بالكلمة «ما يبقى»، وإذا كان الوجود قد احتجب عَنَّا نوره، فإن التفكير في هذا الاحتجاب والإحساس العميق به يمكن أن يكونا إيذانًا بظهوره ووعدًا بحضوره، وموقف هيدجر من الميتافيزيقا يوضِّح ما نقول، فتاريخها في رأيه هو زمن نسيان الوجود، وطبيعي أن تفكير هيدجر لا يلغي هذا الزمن ببساطة، وإنما يُحاول أن يشعرَنا بغياب الوجود عنه، وبأنَّنا نعيش في زمن لم يفكر بعد في هذا الغياب تفكيرًا أصيلًا، حتى يمهِّد لإمكان التحول الذي لا يستطيع أحدٌ أن يتنبأ بموعده.
ما علاقة هذا بحديث هيدجر عن اللغة؟
ما شأنه بما يقوله عن قدرة الكلمة؟
الحق أن المشكلات التي يثيرها ليست مجرد مشكلات للبحث، وإنما هي وعاء يضم تجربته الأساسية، ويقدم من خلاله سؤالَه عن الوجود، كما فعل في بحوثه عن العمل الفني ومشكلة التقنية وشروحه لنصوص الفلاسفة وقصائد الشعراء … إلخ، إنه يريد أن يستمع إلى نداء اللغة، واللغة هي لغة الوجود، ولا بد أن تتحدث اللغة إلينا، أن تعبِّر لنا عن ماهيتها: «فماهية اللغة هي لغة الماهية»، ولن تتسنَّى لنا تجربة اللغة حتى يحدث هذا، وخير ما يمهد لهذا الحدث أن نحسَّ بجوار الشعر والفكر، ونتمكن من السكن في هذا الجوار، صحيح أن المفكرين قد قدموا لنا أفكارًا قيِّمة عن اللغة، وأن الشعراء قد أبدعوا آيات لغوية رائعة، غير أن ماهية اللغة لم تعبِّر عن نفسها عند أحد منهم ولا في أي مكان بوصفها لغة الماهية، فما تقوله اللغة نفسُها يختفي عادةً وراء ما يُقال من خلالها، وربما كان السبب في هذا أنها تتمسك بالأصل الذي انحدرت منه وتأبى على ماهيتها أن تظهر، وربما كان السبب أيضًا أننا لم نفكر بعدُ تفكيرًا أصيلًا في الشعر والفكر، وهما الأسلوبان المميزان في القول، ولم نحاول أن نلتمسهما حيث ينبغي أن يُلتمسا، أي في الجوار الذي يؤلف بينهما.
ونعود إلى تفسير قصيدة جئورجه عن الكلمة، فهي لا تقتصر على القول بأن هناك علاقةً بين الشيء (الموجود) والكلمة، بل تزيد عليه أن الكلمة هي التي تساعد الشيء على الوجود وتحفظه، إنما هي التي تجعل الشيء شيئًا، وما وصفناه بالعلاقة بينهما هو في الحقيقة أقرب إلى «التمكين»، فالكلمة هي التي تمكن الموجود من الوجود وتكفله له.
قلنا إن الشعر والفكر يربط بينهما الجوار، فما هو العنصر المشترك بينهما؟ إنه عنصر اللغة نفسها، ولكننا جميعًا نعلم أن الشعر غير الفكر، هذا ما يشهد به الحس السليم ولا يُنكره هيدجر، وإذا كان الشاعر والمفكر، والعالم ورجل الشارع يستخدمون لغةً واحدةً أو عنصرًا واحدًا، فإنهم يختلفون مع ذلك أشدَّ الاختلاف تبعًا لاستخدام الكلمة في الشعر أو الفكر أو العلم أو الحياة اليومية، وربما أوحى إلينا تفسير قصيدة جئورجه أننا لسنا في جوار الشعر والفكر؛ إذ كان الفكر هو طريقنا إلى فهم ما يقوله الشاعر، ولكن المسألة أعقد من هذا، فهذه المحاولة التي قمنا بها يعوزها إدراك الجوار في ذاته، إننا نقيم حقًّا في اللغة ونتخذ منها سكنًا لنا، ولكن الإحساس بهذا المقام والسكن من أصعب الأمور، وإذا كان هذا السكن هو الذي يحدِّد ماهية الإنسان، فإن العودة إلى ما يسمِّيه هيدجر «مقر الوجود الإنساني» هو الواجب الأسمى علينا، وهو الذي يتجه إليه بكل جهده وفكره، ولا ينبغي أن نتصور هذا «المقر» «مكانًا ثابتًا» لا يبرحه الإنسان، بل لا بد من اعتباره المكان أو المجال الذي تتفتح فيه إمكانياته الأصيلة التي عرفناها عند الحديث عن تحليل الوجود الإنساني في «الوجود والزمان»، ولا ينبغي أيضًا أن نفهم هذه العودة بمعنى الرجوع للقديم، فهذا شيء تأباه تاريخية الإنسان كما يأباه التكوين الزماني للوجود نفسه.
هذه «الرجعة» إلى مقرِّ الوجود الإنساني والماهية الإنسانية تقابل ما نلمسه اليوم من «تقدُّم» في ماهية الآلة مقابلة الضد للضد، وما بقي الإنسان على جهله بقوام ماهيته وأساسها، فسيظل كل تقدُّم في السيطرة الآلية والتقنية أمرًا مشكوكًا فيه؛ لأنه سيقيس تقدمه بمدى تحكمه في الطبيعة، لا بمدى معرفته بحقيقته أو بالطبيعة نفسها بما هي كذلك.
إنها تعطي بمعنى العطاء والإهداء، ولكن ما الذي تعطيه؟ الجواب بسيط: إنه الوجود، وهي لا تعطيه بالمعنى الذي كان مفهومًا في العصور الوسطى من أن الله أو الكلمة هي التي تخلق الموجود، بل بالمعنى الذي فهمناه من قبل من «الإنارة» التي تتجلَّى فيها الموجودات وتظهر، دون حاجةٍ منها إلى خلقها وإيجادها.
لا شك أن المتفرِّج الذكيَّ قد تذكر الشاعر هلدرين عند سماع كلمات الأرض والسماء والفانين والسماويين، وربما تذكر قصيدته الكبرى «خبز ونبيذ» التي يقول في نهاية المقطوعة الخامسة منها:
وقد لمح هيدجر «الكلمة» — زهرة الفهم كما يسمِّيها هلدرين! — أو الكلمات كما جاءت في هذه القصيدة، ففهم أنها هي «الجهة» التي تسمح للأرض والسماء وتدفق الأعماق وقوة الأعالي بأن تتقابل وتتفاعل، وفي هذا التفاعل كما قلنا يتم القرب والإظهار والإحضار، أي يكون الوجود، فليست اللغة شيئًا تربطنا به علاقة فحسب، بل هي — إن صح التعبير — سيدة العلاقات، هي محركة العالم وكاشفة الوجود، وهي التي تعطي وتمنح، وتحفظ وتحمي، وعلى الإنسان أن يسكن في بيتها ويحرسه ويرعاه.
ونخطئ لو تصورنا أن النطق في اللغة نتيجة عملية فيزيولوجية وفيزيائية ونفسية: «إن المنطوق المسموع من اللغة يحتفظ به في التوافق الذي يوفق بين جهات العمل الأربع أو رباعه الفريد ويجعلها تتفاعل وتتداخل» (ص٢٠٨).
كلام غريب كما قلت لكم، ولكن غرابته تأتي من تأصيله، فنحن ننظر الآن إلى أصل اللغة، لا إلى استخدامها ووظائفها، نتأمل ماهيتها التي «يكون» بها الموجود، ولا نعتبرها وسيلةً أو أداة، نراها تمنح وتعطي وتحرِّر وتثير، ولا نراها قيدًا يتحكَّم فينا طول العمر، هل تفهمون من هذا أنها قوة متعالية؟ ولكن هذا هو الفهم الميتافيزيقي الذي نريد أن نحولكم عنه إلى فكر الوجود، إنها القرب الكامن في قوى العالم الأربع، أو هي «التجميع» الأصلي — إن شئنا أن نوافق هيدجر على تفسيره لكلمة اللوجوس عند هيراقليطس — وهي، كتجميع أصلي، ساكنة وبلا صوت؛ لأنها هي التي تنعم على الإنسان بقول «يكون» و«يوجد»، لغة السكينة هذه هي لغة الماهية، ويمكننا أيضًا أن نقول: لغة الوجود (بشرط ألَّا نفهم الكلمة الأخيرة بمعانيها الميتافيزيقية القديمة!) والبيت الأخير من قصيدة «الكلمة» يُشير بوضوح إلى انكسار الكلمة، الكلمة التي ألفناها وتعودنا عليها، كما يدعونا إلى فهمها والتفكير فيها من حيث هي سكينة، ولن يمكننا أن نفهمها هذا الفهم إلا إذا عرفنا أن الشعر والفكر متجاوران، والجار حبيب الجار، وجوارهما في اللغة التي تمنح القرب وتهديه، فاللغة تعبر، وهي بهذا التعبير تدل وتشير، وتصل إلى كل جهات الوجود، فتظهر الموجودات أو تخفيها، تُنيرها أو تسدل عليها الحجاب، والإظهار «حدث» لن يدركَه الإنسان حتى يستمع إلى اللغة ويطيعها، لأنها لن تسمح له بأن يعبِّر بها حتى يقف منها موقف الطاعة، نفس الموقف الذي يقفه من نور الوجود، إن الإنسان محتاجٌ إلى اللغة، واللغة بحاجة إلى الإنسان، وإن لم تكن صنيعته أو خاضعة لإرادته ونشاطه اللغوي.
والحدث الذي تحدثه اللغة بعيد كل البعد عن تسلسل الأسباب والنتائج، إنه الحدث الذي يمنح الإنارة والانفتاح، فيظهر الموجود ويتجلَّى، أو يغيب ويحتجب.
وهذا الحدث أو هذا العطاء لا يمكن تفسيره أو فك رموزه؛ لأنه شيء أخير، تصطدم به النظرة ولا تعلِّله، فهو الذي يُعطي كلمة «يوجد» ويردُّ الموجود إلى أصله.
هل عرفتم دين الإنسان نحو اللغة؟ أدريتم كيف تتيح له أن يعبر بها، حين تتيح له «النور» الذي يظهر كل موجود؟ أرأيتم أن «النطق» في حقيقته «تطابق» مع قول اللغة وحدثها، وأن «اللغة تستخدم الإنسان لكي ينطق عما تقوله اللغة الساكنة»؟ (ص٢٦٠).
هل أصبحتم مستعدين لمواجهة «الحدث» الذي يظهر ويحتجب، ويتحول ويحولكم معه؟ وهل تملكون القدرة على القرب من هذا الحدث لكي تكون لكم لغة أصيلة؟ وهل يحسن شعراؤكم ومفكروكم الاستماع إلى ندائها لكي يصبح الشعر فكرًا والفكر شعرًا؟ أم تراكم مصرين على تحويل اللغة إلى أداة تستهلك معكم كالثوب البالي؟
(٤-٥) حقيقة الفكر
هل انتهت الفلسفة وبدأ الفكر؟
ما الذي يأخذه هيدجر على الميتافيزيقا بحيث ينبغي تجاوزها والرجوع إلى أساسها الذي نسيته ولم تفكر فيه؟ هذا سؤال شغل هيدجر مدى حياته، وأجاب عنه في العديد من كتبه ومحاضراته ودراساته، وكان من الطبيعي أن يطوِّر تفكيره في هذا الموضوع، شأنه في هذا شأن كل كائن حي، ولعل هذه المحاضرة الأخيرة أن تبيِّن لنا وجهة نظره التي استقر عليها.
غير أنها تصور هذا التأسيس كما تتصور السبب والمسبب أو العلة والمعلول، لقد وصفته عبر تاريخها الطويل بأوصافٍ مختلفة أخطأت معناه الحقيقيَّ في كل مرة: فتارة يكون هذا الأساس هو الله بوصفه السبب الأسمى والأخير (سواء عند أرسطو أو في العصر الوسيط) أو يكون هو السبب الترنسندنتالي أو الشارطي (كما نجده عند كانط شرطًا لإمكان التجربة أو بالأحرى لإمكان قيام موضوعات التجربة) وتارةً أخرى يكون هو الحركة الجدلية التي «يفض» بها الروح المطلق نفسه (كما نرى عند هيجل) أو يكون تفسيرًا لعملية الإنتاج (كما نرى عند ماركس) أو إرادة للقوة وهي في صميمها إرادة المزيد من الحياة التي تضع نفسها أو تُبدعها حين تبدع القيم (كما نجد عند نيتشه الذي يرى هيدجر أنه يمثِّل نهاية الميتافيزيقا الغربية بعد أن سارت في طريق «الذاتية» إلى آخر مداه).
وإذًا فالخاصية التي تميز التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث عن سبب الموجود هي أنه يبدأ من هذا الموجود (أو الكائن) فيتصوره من جهة وجوده (أو كينونته) ويعبر عنه تعبيره عن شيءٍ ما قد عرف أساسه بالفعل.
ولكن هذا التصور الميتافيزيقي قد بلغ نهايته: فما هو المعنى المقصود من نهاية الميتافيزيقا أو الفلسفة؟ ليس معناه بالطبع أنها توقفت أو انطفأت، ولا يمكن أن نفهم منه أننا نلغيها ببساطة أو نستخف بشأنها، فالمقصود بنهاية الفلسفة أنها وصلت إلى الموضع الذي فيه يتجمَّع تاريخها كله في أقصى إمكانياته، بهذا تكون قد تمَّت، والتمام غير الكمال أو الاكتمال؛ لأن المراد به أنها بلغت النهاية، سواء عند نيتشه أو عند هيدجر نفسه، والواقع أنه ليست هناك فلسفة أكمل من غيرها، فليست فلسفة كانط بأكمل من فلسفة أفلاطون، ولا هذه أكمل من فلسفة بارمنيدز، والأولى من هذا أن نقول إن كل فلسفة — مثلها في هذا مثل كل أدب أو فن عظيم — تعبر عن شيء يحمل ضرورته في ذاته، ونحن نقع في خطأ المفاضلة بين الفلسفات لو نظرنا إليها بمنظار العلم الوضعي المنظور، عندئذٍ يمكن أن نتصور أن المتأخِّر أكمل من المتقدم، أو أن الحاضر يلغي الماضي، وهذه النظرة «العلمية» لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تطبق على تاريخ الميتافيزيقا، فالفلسفات التي جاءت بعد أفلاطون لم تسقط فلسفته ولم تعزلها في متحف العاديات القديمة، ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن الفلسفة الأفلاطونية ماثلة في تاريخ الميتافيزقا كله، وإن صورتها الأخيرة عند نيتشه ليست في الحقيقة سوى أفلاطونية مقلوبة، ولعل الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد ألَّا يكون قد أسرف في المبالغة حين قال إن الفلسفة بأسرها ليست سوى هوامش وتعليقات على أفلاطون.
هذه هي الصورة التي انتهت إليها الفلسفة وكانت بذورها كامنةً في الفكر الغربي وطموحه إلى المدنية العالمية.
هل ذابت الفلسفة في هذه النزعة العلمية السائدة؟ هل انتقلت إلى العلوم المتخصِّصة وتبدَّدت كل إمكانياتها أو وصلت، كما قلنا، إلى غايتها الأخيرة؟ ألا تنطوي الفلسفة على إمكانية خافية عليها هي نفسها؟ هل يمكن أن تكون هذه النهاية بداية فكر جديد، وتتحقق خرافة العنقاء التي بُعثت من الرماد؟ ألم يبقَ أمام الفلسفة إلا أن تنوح كما ناحت «هيكوبا» زوجة الملك برياموس ملك طرواده على أبنائها الذين ذُبحوا أمام عينيها — كما قال كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص — أم تجتر أحزانها كاليمامة الوحيدة في عشها بعد أن هجرتها أفراخها وتنكَّرت لها؟
لا يمكن بطبيعة الحال أن نزيح الفلسفة ونتخلص منها كأنها عبءٌ ثقيل قديم أو جثة عزيز لا تدري كيف نتخلص منها، بل لا بد من التفكير فيها وفي تفتحها عبر التاريخ، على نحو ما فعل هيدجر طوال حياته، لم يكن همُّ هذا التفكير أن يبحث في تاريخ الفلسفة أو يبعث بعض حقائقها الماضية، بل كان في صميمه «تذكيرًا» بما نسيَته ولم تفكِّر فيه، أي بمعنى الوجود نفسه، كما كان «دعوة» إلى إمكانية لم تتبين معالمها ولم يتأكَّد بعدُ موعد تحققها، صحيح أن المدنية العالمية — التي بدأت في عصرنا الحاضر مسيرتها التقنية والعلمية الخطيرة — قد امتصت الفلسفة وأذابتها فيها، ولكننا نستطيع أن نقول أيضًا إن هذه المدنية العالمية ستتجاوز في يوم من الأيام طابعها التقني والعلمي والصناعي، وستكتشف أنه ليس هو المقياس الوحيد ولا «السكن» الوحيد في هذا العالم.
ما هي قضية هذا الفكر، ما هو موضوعه؟
إن هيدجر يتناول محاولتين من أهم المحاولات في العصر الحديث للإجابة عن هذا السؤال، وهما اللتان قام بهما هيجل وهسرل، وقد تبين له من التحليل أنهما لم يختلفا على موضوع الفكر، فقد اتفقا على أنه هو الذاتية، وإنما اختلفا على المنهج، فالجدل التأمُّلي مثلًا عند هيجل يوضِّح لنا كيف يظهر موضوع الفلسفة من ذاتها ويصبح حاضرًا واعيًا بذاته، والظهور يفترض النور الذي يتجلَّى فيه كل ما يظهر، والنور بدوره يفترض المكان المفتوح أو الانفتاح، والفكر التأملي لا يستغني عن هذا الانفتاح الذي يُيسر له النفاذ إلى الموضوع الذي يفكِّر فيه.
الإنارة إذن هي الأصل الذي نسيناه وأغفلناه حين انشغلنا بما يصدر عنه، ولا يجوز لنا الآن أن نخلط بين الأليثيا والحقيقة أو نسوي بينهما؛ لأن الأولى هي التي تضمن وجود الثانية وتكفله لها، وكلما فكرنا في الحقيقة بمعنى التطابق أو اليقين وجب علينا أن نفكر في الإنارة التي تسبقهما وتكمن وراءهما، ولعل خير شهادة يقدِّمها هيدجر على أمانته ومراجعته الدائمة لخطواته على الطريق أنه عمد في هذه المرحلة من تفكيره إلى تصحيح بعض آرائه السابقة؛ فهو يعدل الآن عن ترجمة الأليثيا بالحقيقة، كما فعل في الوجود والزمان، كما ينتقد تعبير «حقيقة الوجود» الذي قدَّمه في محاضرتِه عن ماهية الحقيقة ورسالته عن النزعة الإنسانية، بل إنه لَيُراجع رأيه الذي ذهب إليه في دراسته عن «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» وقال فيه إن تحوُّل معنى «الأليثيا» من اللاتحجُّب إلى الصحة أو الصواب قد تمَّ على يد أفلاطون، فهو يرى الآن أن «الأليثيا» قد فُسرت مباشرةً على معنى الصواب وبذلك غابت عن نظر أفلاطون، وكان أفلاطون ومن سبقه من مفكري اليونان قد فكروا — كما قدَّمنا — فيما تكفله الأليثيا أو الإنارة من ظهور الموجودات أو تحجبها، ولكنهم لم يفكروا في حقيقة الإنارة ذاتها، وكذلك يفعل الناس اليوم، يشغلون بالموجودات الحاضرة أمامهم ولا يعنون أنفسهم بالسؤال عن الوجود والحضور ولا عن الإنارة التي هي الأصل فيهما.
ما السبب في هذا؟ أهو أمر مقصود؟ أتكون غفلةً من جانب البشر أم قدرًا تاريخيًّا يتحكم فيهم؟ أيكون التحجُّب جزءًا لا ينفصل عن اللاتحجُّب؛ بحيث تنتمي الليثية (النسيان) «للأليثيا»؟ أيكون هذا في صميم ماهية الإنارة نفسها التي تكشف عن الوجود وتحجُّبه وتصونه وتحرِّره في آنٍ واحد؟ أنحن قادرون حقًّا على الإجابة على هذه الأسئلة أم يقتصر جهدنا على البقاءِ في السؤال والإصرارِ على متابعة طريقه ومعاناة تجربته؟ هل أصبحنا على استعداد لتحمُّل مشقة السؤال أم لا زالت أنوار المدنية التقنية تخلب أبصارنا؟ هل نشعر أننا السائل والمسئول أم نَنفُض أيدينا من المسألة كلِّها زاعمين أنها محض خيال وتلاعب بالألفاظ؟
ربما كان تفكير هيدجر كله مجرد دعوة وتوجيه إلى السؤال، وربما كان هذا الكتاب كله مجرد إعداد له؛ ولهذا سيظل مجرد تمهيد ومحاولة، حسبها أنها تثير فكرك وتقنعك بألَّا تتشبث بصخرة المألوف، وأن تُلقيَ بنفسِك في تيار الدهشة، فإن نجحت في تحقيق هذه الغاية، كان هذا خيرَ جزاءٍ يقدِّمه القارئ للكاتب فيعزيه عن تعبه ومعاناته، ويغفر له قصوره أو تقصيره.
(٥) لوحة بحياة هيدجر وأعماله
١٨٨٩م | مولد هيدجر في ٢٦ سبتمبر لأبويه فريدريش، صانع البراميل ببلدة مسكيرش، ويوهانا. |
١٩٠٣–١٩٠٩م | المدرسة الثانوية في مدينتي كونستانس وفرايبورج بالبريسجاو (عاصمة الغابة السوداء). |
١٩٠٩–١٩١١م | دراسة اللاهوت بجامعة فرايبورج. |
١٩١١–١٩١٣م | دراسة الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية بجامعة فرايبورج. |
١٩١٣م | الحصول على الدكتوراه برسالةٍ أعدها تحت إشراف الأستاذين شنيدر وريكرت بعنوان: «نظرية الحكم في النزعة النفسية» (في المنطق). |
١٩١٦م | الحصول على الدكتوراه المؤهلة للتدريس بالجامعة برسالة عن نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس (وقد نُشرت الرسالتان مع بحث عن مفهوم الزمن في علم التاريخ سنة ١٩٧٢م بمدينة فرانكفورت — على الماين تحت عنوان «الأعمال المبكرة»). |
١٩١٧م | زواجه من إلفريده بيتري. |
١٩١٩-١٩٢٠م | مولد ابنيه يورج وهرمان. |
١٩٢٢م | انتقاله إلى مدينة ماربورج للعمل أستاذًا بها وبقاؤه فيها حتى سنة ١٩٢٨م، بناء «كوخه» المشهور في توتناوبرج، وهو الذي أتمَّ فيه كتابه «الوجود والزمان». |
١٩٢٣م | إلقاء أولى محاضراته العامة «الوجود واليقظة» بدعوة من الفيلسوف ماكس شيلر في جمعية كانط بمدينة كولن (كولونيا). |
١٩٢٦م | محاضرة باتحاد الفلسفة بمدينة ماربورج عن مفهوم البحث الظاهرياتي (الفينومينولوجي) وتطوره (وقد ألقاها في الرابع من ديسمبر). |
١٩٢٨م | تعيينه أستاذًا لكرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج خلفًا لادموند هسرل، يلقي سلسلة من المحاضرات عن «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» في معهد هردر بمدينة ريجا، وقد صدر الكتاب في العام التالي بمدينة بون. |
١٩٢٩م | • الأنثروبولوجيا الفلسفية وميتافيزيقا «الدازاين» (الموجود الإنساني الملقى في العالم)، محاضرة ألقاها في ٢٤ يناير بمدينة فرانفكورت — على — الماين. |
• خطاب بمناسبة عيد ميلاد هسرل السبعين في الثامن من أبريل. | |
• ما الميتافيزيقا؟ — محاضرته الأولى التي افتتح بها حياته الجامعية بجامعة فرايبورج. وقد ألقاها بالقاعة الكبرى للجامعة في ٢٤ يوليه، وصدرت في نفس العالم ببون. | |
• مشكلة الفلسفة اليوم، محاضرة في مدينة كارلزروه. | |
• ماهية السبب، بحث أسهم به في الكتاب التذكاري الذي صدر تكريمًا لهسرل بمناسبة بلوغه السبعين من عمره (وقد ظهر ملحقًا بحولي هسرل السابقة). | |
١٩٣٠م | • مشكلة الفلسفة اليوم وهيجل ومشكلة الميتافيزيقا. محاضرتان ألقاهما في الاتحاد العلمي بمدينة أمستردام في ٢١ و٢٢ مارس. |
• ماهية الحقيقة، محاضرته الشهيرة التي تجدها بين نصوص هذا الكتاب، وقد ألقاها بمدينة بريمن في شهر أكتوبر، ثم في ماربورج وفرايبورج ودرسدن. | |
١٩٣٣م | انتخابه مديرًا لجامعة فرايبورج (في ظل النازي)، يُلقي محاضرة عن «تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها» عند تسلم منصبه في السابع والعشرين من مايو. |
١٩٣٤م | استقالته من هذا المنصب (في شهر أبريل). |
١٩٣٥م | الأصل في العمل الفني، محاضرة ألقاها في ١٣ نوفمبر في جمعية الفنون بمدينة فرايبورج وأعاد إلقاءها سنة ١٩٣٦م بمدينة زيوريخ، (وقد نُشرت بعد ذلك في كتاب المتاهات، أو الطرق المسدودة، سنة ١٩٥٠م بمدينة فرانكفورت). |
١٩٣٦م | هلدرين وماهية الشعر — محاضرة ألقاها في روما في الثاني من أبريل، وأُعيد نشرها سنة ١٩٤٤م مع دراستَيْن يشرح فيهما قصيدتَيْ هلدرين «العودة» و«إلى الأقارب» ضمن كتابه «شروح على شعر هلدرين». |
١٩٣٨م | تأسيس الصورة الكونية الحديثة عن طريق الميتافيزيقا، محاضرة ألقاها أمام جمعية البحوث الفنية والطبيعية والطبية بفرايبورج في التاسع من يونيو (وقد أُعيد نشرهما بكتاب المتاهات تحت عنوان عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية — أو الأيدلوجية). |
١٩٣٩م | أنشودة هلدرين: «كما في يوم عيد»، محاضرة ألقاها عدة مرات ونُشرت في كتابه السابق الذكر: «شروح على شعر هلدرين». |
١٩٤٠م | نظرية أفلاطون عن الحقيقة، محاضرة نُشرت بعد ذلك عدة مرات (أهمها سنة ١٩٤٧م و١٩٥٤م مع رسالته عن النزعة الإنسانية، كما نُشرت مع اثني عشر مقالًا ومحاضرةً أخرى مبكرة سنة ١٩٦٧م في كتابه «علامات على الطريق»). |
١٩٤٣م | • دراسة عن قصيدة هلدرين «ذكرى» نُشرت في الكتاب التذكاري الذي صدر بمدينة توبنجن بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة هلدرين. |
• محاضرة ألقاها في دائرة محدودة من خلصائه عن كلمة نيتشه عن موت الله، وقد نُشرت في المتاهات. | |
١٩٤٤م | جُنِّد في فرق «العاصفة الشعبية» التي كونها هتلر في أواخر الحرب العالمية الثانية. |
١٩٤٥م | قوات الاحتلال (الفرنسية) تحظر عليه التدريس، وقد استمر الحظر حتى سنة ١٩٥١م. |
١٩٤٦م | لِم الشعراء؟ محاضرة — مأخوذة من أحد أبيات هلدرين المشهورة: لم الشعراء في الزمن الضنين؟ — ألقاها في دائرة محدودة من التلاميذ والأصدقاء بمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة الشاعر رلكه (وقد نُشرت في المتاهات). |
١٩٤٧م | ظهور كتابه «نظرية أفلاطون عن الحقيقة مع رسالة عن النزعة الإنسانية» التي ردَّ فيها على خطابٍ وجَّهه إليه المفكِّر الفرنسي جان بوفريه. |
١٩٤٩م | • نداء الحقل — خواطر شاعرية نُشرت لأول مرة في صحيفة الأحد التي تصدر بمدينة هامبورج (بالعدد ٤٣ في ٢٣ أكتوبر). |
• أربع محاضرات ألقاها في نادي بريمن في شهر ديسمبر تحت عنوان «نظرة إلى ما يكون» وتضمُّ محاضراته التي نُشرت بعد ذلك في كتاب «من تجربة الفكر» وفي «المحاضرات والمقالات» عن الشيء، الوضع، الخطر، العود. | |
١٩٥٠م | • محاضرتان عن الشيء (تنقيح للمحاضرة السابقة) في الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة، وعن اللغة في بولرهيهه، وقد ألقاها في الاحتفال بذكرى الناقد الأدبي ماكس كومريل ونشرت بعد ذلك في كتابه على الطريق إلى اللغة، ١٩٥٩م. |
• ظهور كتابه المتاهات بمدينة فرانفكورت ويضم الدراسات الآتية: | |
– الأصل في العمل الفني. | |
– عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية. | |
– مفهوم هيجل عن التجربة. | |
– كلمة نيتشه: «الله مات». | |
– لم الشعراء؟ | |
– عبارة أنكسمندر. | |
١٩٥١م | • البناء، السكن، الفكر، محاضرة ألقاها في إطار الندوة السنوية التي تُعقد بمدينة دار مشتات تحت عنوان «حديث دار مشتات» عن الإنسان والمكان. |
• محاضرة بعنوان «سكن الإنسان شاعري …» ألقاها في بولرهيهه، والعنوان مأخوذ عن أحد أبيات هلدرين. | |
١٩٥٢م | ما الفكر؟ — بحث نُشر بمجلة «مركير»، العدد السادس، ص٦٠١–٦١١، ١٩٥٢م. |
١٩٥٣م | • مدخل إلى الميتافيزيقا، توبنجن، ص١٥٦. |
• جورج تراكل — شرح على قصيدة له، بحث نُشر بمجلة مركير، العدد السابع، ١٩٥٣م، ص٢٢٦–٢٥٨. | |
• من هو زرادشت نيتشه؟ — محاضرة ألقاها في بولرهيه في الثامن من أكتوبر. | |
• العلم والتفكُّر، محاضرة ألقاها في ١٥ مايو أمام أكاديمية الفنون الجميلة في بافاريا كما ألقاها بمدينة فرايبورج في ١٢ فبراير بمناسبة مرور ١٥٠ سنة على وفاة كانط. | |
١٩٥٤م | • تفكُّر، محاضرة ألقاها في زيوريخ وكونستانس وفرايبورج. |
• من تجربة الفكر، صدر في بفولنجن، ص٢٧. | |
• محاضرات ومقالات، صدر في بفولنجن، ١٩٥٤م، ٢٨٣ص، ويضم الكتاب المحاضرات والمقالات الآتية: | |
– السؤال عن التقنية. | |
– العلم والتفكر. | |
– قهر الميتافيزيقا (أو تجاوزها أو «تحطيمها» «وتفكيكها»). | |
– من هو زرادشت نيتشه؟ | |
– ما هو الفكر؟ | |
– البناء السكن الفكر. | |
– الشيء. | |
– رسالة إلى طالب شاب. | |
– سكن الإنسان شاعري. | |
– لوجوس (هيراقليطس، الشذرة ٥٠). | |
– مويرا (بارمنيدز، الشذرة ٨ والأبيات ٣٤ — من قصيدته). | |
– أليثيا (هيراقليطس، الشذرة ١٦)، وهو النصُّ الذي تجده في هذا الكتاب. | |
– ما الفكر؟ صدر في توبنجن، ١٧٤ص. | |
١٩٥٥م | • طمأنينة، خطبة بمناسبة الاحتفال بمرور ١٧٥ سنة على ميلاد المؤلف الموسيقي كونرادين كرويسر، ألقاها في ٣٠ أكتوبر ببلدة مسكيرش. |
• ما الفلسفة؟ حرفيًّا: ما هو الذي يُسَمَّى بالفلسفة؟ محاضرة ألقاها في مدينة «سيريزي لاسال» بفرنسا في شهر سبتمبر (وقد ترجمها الدكتور محمود رجب إلى العربية). | |
• عن الخط، دراسة نُشرت في كتاب تذكاري بعنوان «لقاءات ودية» صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الستين للكاتب المشهور أرنست يونجر وقد ظهرت في السنة التالية بمدينة فرانكفورت في كتاب بعنوان «السؤال عن الوجود». | |
١٩٥٦م | • مبدأ السبب، محاضرة في ٢٥ مايو بنادي بريمن، ثم أُعيدت في جامعة فيينا. |
• حديث مع هيبيل، أُلقيت في الاحتفال بذكرى الكاتب يوهان بيتر هيبيل، كاتب القصص والنوادر الشعبية باللهجة «الألمانية». | |
• محاضرة عن الرسام والكاتب بول كليه في جمعية المهندسين بفرايبورج. | |
١٩٥٧م | • مبدأ السبب، بفولنجن، ١٩٥٧م، ٢١٢ص (مع إعادة نشر المحاضرة السابقة الذكر). |
• مبدأ الهُوية، أُلقيت بمناسبة الاحتفال بمرور خمسمائة سنة على تأسيس جامعة فرايبورج. | |
• الهوية والاختلاف، بفولنجن، ١٩٥٧م، ص٧٦ ويضم محاضراتِه السابقةَ عن مبدأ الهُوية ومحاضرته عن التكوين الأنطي-واللاهوتي للميتافيزيقا. | |
• هيبيل صديقًا للبيت، بفولنجن، ٣٩ص. | |
• ماهية اللغة، ثلاث محاضرات ألقاها بجامعة فرايبورج، وكان لي حظ الاستماع إليها منه، ونُشرت بعد ذلك في كتابه «على الطريق إلى اللغة». | |
١٩٥٨م | • مبادئ الفكر، نُشرت في حولية علم النفس والعلاج النفسي، العدد السادس، ص٣٣–٤١، ١٩٥٨م. |
• ماهية الفيزيس ومفهومها، نُشرت أوَّلًا بمجلة «الفكر» الإيطالية، العدد الثالث، ميلانو ١٩٥٨م. | |
• هيجل والإغريق، محاضرة ألقاها بالفرنسية في الكلية الجديدة «إكس، أون-بروفينس» الفرنسية في العشرين من شهر مارس (نُشرت بعد ذلك في كتاب علامات على الطريق). | |
• الشعر والفكر، حول قصيدة «الكلمة» لستيفان جئورجه (نُشرت في كتابه على الطريق إلى اللغة). | |
١٩٥٩م | • طمأنينة، بفولنجن، ١٩٥٩م، ٧٣ص. |
• على الطريق إلى اللغة، بفولنجن، ١٩٥٩م، ٢٧٠ص، ويضم الكتاب البحوث والمحاضرات الآتية: | |
– اللغة. | |
– اللغة في القصيدة، شرح لقصيدة من شعر جورج تراكل. | |
– من حديث عن اللغة، بين أستاذ ياباني وطارح للسؤال. | |
– ماهية اللغة. | |
– الكلمة (شرح قصيدة ستيفان جئورجه التي تجدها في هذا الكتاب). | |
– محاضرة عن «أرض هلدرلين وسمائه» ألقاها في السادس من يونية بمسرح كوفييه بمدينة ميونخ في المؤتمر الذي عقدته جمعية هلدرلين. | |
– شكرًا لوطني مسكيرش، محاضرة بمناسبة اختياره مواطن شرف لبلدة مسكيرش مسقط رأسه في ٢٧ سبتمبر. | |
– مصير الفنون في العصر الحاضر، محاضرة أُلقيت في مدينة بادن — بادن. | |
١٩٦٠م | اللغة والوطن. محاضرة ألقاها في فيسلبورن في الثاني من يونية ونُشرت في حولية هيبيل. |
١٩٦١م | • نيتشه في جزئين، بفولنجن، ١٩٦١م، ويضم الجزء الأوَّل الدراسات الآتية: |
– إرادة القوة بما هي فن. | |
– عودة الشبيه الأبدية. | |
– إرادة القوة بما هي معرفة. | |
• ويحتوي الجزء الثاني على الدراسات الآتية: | |
– عودة الشبيه الأبدية وإرادة القوة. | |
– العدمية الأوروبية. | |
– ميتافيزيقا نيتشه. | |
– المصير التاريخي الوجودي للعدمية. | |
– الميتافيزيقا بوصفها تاريخًا للوجود. | |
– تخطيطات لتاريخ الوجود بوصفه ميتافيزيقا. | |
– تذكر الميتافيزيقا. | |
١٩٦٢م | • قيامه بأول رحلة له إلى بلاد اليونان. |
• السؤال عن الشيء، حول نظرية كانط عن المبادئ الترنسندنتالية، توبنجن، ١٩٦٢م، ١٨٩ص. | |
• مقولة كانط عن الشيء، نُشرت في الكتاب التذكاري «الوجود والنظام» الذي صدر احتفالًا بعيد الميلاد الستين لفيلسوف القانون إريك فولف، ص٢١٧–٢٤٥، كما نُشرت مستقلة سنة ١٩٦٣م في فرانكفورت لدى الناشر كلوسترمان. | |
١٩٦٤م | نُشر جزء من محاضراته الأخيرة في جامعة ماربورج عن ليبنتز في الكتاب التذكاري «الزمن والتاريخ» الذي صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الثمانين للفيلسوف اللاهوتي رودلف بولتمان. |
١٩٦٧م | • علامات على الطريق، فرانكفورت، ١٩٦٧م، ٣٩٨ص (ويضم الكتاب اثنتي عشر دراسة ومحاضرة نُشرت وأُلقيت بين سنتي ١٩٢٩م، ١٩٦٤م). |
• العدمية الأوروبية، بفولنجن، ١٩٦٧م، ٢٩٦ص. | |
• أصل الفن ومصير الفكر، محاضرة أُلقيت في الرابع من أبريل في أكاديمية العلوم والفنون بمدينة أثينا. | |
١٩٦٨م | • هلدرين: القصيدة، محاضرة في أمريسفيل بفرنسا، وقد قام الشاعر الفرنسي الكبير «رينيه شار» بإلقاء الترجمة الفرنسية. |
• حلقة دراسية (سمينار) في تور بالبروفانس الفرنسية عن كتاب هيجل عن الاختلاف بين مذهب فيتشه ومذهب شيلنج تستمر من ٣٠ أغسطس إلى ٨ سبتمبر. | |
١٩٦٩م | • الفن والمكان، سان-جالين، ٢٦ص (وقد نقلها جان بوفريه وفرانسوا فيدييه إلى الفرنسية). |
• حلقة دراسية في تور بالبروفانس عن كتاب كانط عن الدليل الممكن على وجود الله، واستمرت الحلقة من الثاني إلى الحادي عشر من سبتمبر. | |
١٩٧٠م | حلقة دراسية عن هيراقليطس عُقدت في الفصل الشتوي ١٩٦٦-١٩٦٧م بالاشتراك مع تلميذه الفيلسوف «أويجن فينك»، ونُشرت في كتاب صدر بمدينة فرانكفورت على نهر الماين، ٢٦١ص. |
١٩٧١م | • رسالة شيلنج عن ماهية الحرية الإنسانية (١٨٠٩م) — وقد نشرتها هيلدجارد فايك وصدرت في توبنجن، ١٩٧١م، ٢٣٧ص. |
• الكتابات المبكرة، فرانكفورت، ٣٨٦ص (ويضم رسالتيه في الدكتوراه إلى جانب بحثه عن مفهوم الزمن في علم التاريخ). | |
هذا وقد سُجلت أسطوانتان طويلتان (٣٣ لفة) بصوته تضمان محاضرتيه عن المكان والفن وعن مبدأ الهوية، كما صدرت أخيرًا ببليوجرافيا تحوي قائمة الدراسات التي كتبت عنه وتضم ٢٢٠١ عنوانًا! وقد قام بإعدادها الأستاذ ﻫ. م. ساس. وصدرت في ميزنهايم سنة ١٩٦٨م.* (وطبيعي أن هذا الكتاب الذي بين يديك ليس فيها!) |