فإذا لزم مع ذلك أن نسأل عن الحقيقة، فإن الناس تتوقَّع أن يكون الجواب عن هذا السؤال:
أين نقف اليوم؟ إنهم يريدون أن يعرفوا الحال التي وصلنا إليها اليوم، إنهم ينشدون معرفة
الهدف الذي ينبغي أن يحدد للإنسان خلال تاريخه كما ينبغي أن يحدد لهذا التاريخ نفسه،
إنهم يريدون «الحقيقة» الواقعية، أي إنهم يريدون الحقيقة دائمًا.
(١) التصور الشائع عن الحقيقة
ما الذي يُفهَم عادةً من كلمة «الحقيقة»؟ إن هذه الكلمة الرفيعة التي أصبحت مع
ذلك كلمة بالية، وأوشكت أن تكون صماء عاطلة من كل معنى، تدل على ما يجعل الحقيقي
حقيقيًّا، ما هو الحقيقي؟ نحن نقول مثلًا: «إنها لَفرحة حقيقية أن أساهم في نجاح هذه
المهمة.» ونقصد بهذا أنها فرحة خالصة واقعية، فالحقيقي إذن هو الواقعي، وبهذا
المعنى نتكلم عن الذهب الحقيقي تمييزًا له من الذهب الزائف، فالذهب الزائف ليس في
الواقع كما يبدو من مظهره، إنه مجرد «مظهر» ولهذا السبب فهو غير واقعي، وغير
الواقعي يؤخذ على أنه عكس الواقعي، ولكن الذهب المزيف
١٢ يُعدُّ كذلك واقعيًّا؛ من أجل هذا نعبر تعبيرًا أوضح فنقول: «الذهب
الواقعي هو الذهب الأصيل.» غير أن كليهما «واقعي»، لا يقل الذهب الأصيل في هذا ولا
يزيد عن الذهب الرائج غير الأصيل، وإذن فإن حقيقة الذهب الأصيل لا يمكن أن تكون
مضمونة عن طريق واقعيته، ولكن السؤال يعود مرة أخرى: ما المقصود هنا بالأصيل
والحقيقي؟ الذهب الأصيل هو ذلك الشيء الواقعي الذي تنطبق واقعيته على التصور الذي
نستحضره دائمًا في أذهاننا عندما نفكر في الذهب، وعلى العكس من ذلك فإننا نقول
عندما نشتبه في وجود ذهب مزيف: «هنا شيء غير صحيح»،
١٣ أمَّا ذلك الذي يكون «كما ينبغي له أن يكون»، فإننا ندلُّ عليه بقولنا:
«صحيح»، أي أن الشيء
١٤ متفق أو متطابق مع ما يتوقع منه أو يُراد له.
ولكننا لا نقتصر على وصف الفرحة الواقعية والذهب الأصيل وكل موجود من هذا النوع
بأنه حقيقي، وإنما نصف كذلك وقبل كل شيء بالحقيقة أو البطلان
١٥ عباراتنا التي نقولها عن الموجود الذي يمكن هو نفسه وحسب ما تقضي به
طبيعته أن يكون أصيلًا أو غير أصيل، وأن تكون واقعيتُه على هذا النحو أو ذاك، وتكون
العبارة حقيقيةً عندما يتطابق ما تعنيه وما تقوله مع الشيء الذي تعبِّر عنه، هنا أيضًا
نقول: هذا صحيح.
غير أن الصحيح في هذه الحالة ليس هو الشيء، بل القضية.
١٦
إن الحق، سواء أكان شيئًا حقيقيًّا أم قضية حقيقية، هو الصحيح (أو المتوافق)، والحق
والحقيقة يدلَّان هنا على الصحة أو التوافق، وذلك بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة: فهو
من ناحية توافق الشيء مع ما يفترض عنه (أو يقصد به)، ومن ناحية أخرى تطابق مدلول
العبارة مع الشيء.
هذا الطابع المزدوج للتوافق يوضِّح التعريف التقليدي الموروث لماهية الحقيقة:
الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل،
١٧ وقد يكون معنى هذا أن الحقيقة هي تطابق
١٨ الشيء مع المعرفة، ولكن قد يكون معناه أيضًا أن الحقيقة هي تطابق
المعرفة مع الشيء،
١٩ صحيح أنه قد جرت العادة في أغلب الأحيان على ذكر التعريف السابق في هذه
الصيغة وحدها: الحقيقة هي تطابق العقل مع الشيء، غير أن الحقيقة المفهومة على هذا
النحو، أي حقيقة القضية، لا تقوم إلا على أساس حقيقة الشيء، أي تطابق الشيء مع العقل،
٢٠ وكلا التصورين عن الحقيقة يدلُّ دائمًا على التوافق مع، ويفكر في
الحقيقة بوصفها صحةً أو صوابًا أو توافقًا.
٢١
ومع ذلك فإن أحد هذين التصورين ليس مجرد صورة معكوسة من الآخر، وإنما يفهم العقل
والشيء
٢٢ في كلا الحالين فهمًا مختلفًا، ولكي تعرف هذا يتحتم علينا أن نرد
الصيغة الشائعة عن التصور المعتاد للحقيقة إلى أصلها المباشر (الوسيط).
٢٣
إن الحقيقة بوصفها تطابق الشيء مع العقل
٢٤ لا تعبر عن الفكرة الشارطية (الترنسندنتالية) التي جاء بها كانط بعد
ذلك ولم تقم إلا على أساس تصور ماهية الإنسان من حيث هو ذاتية، وهي الفكرة التي
تذهب إلى أن الأشياء (أو الموضوعات) تتوافق مع معرفتنا،
٢٥ بل تعبر عن العقيدة المسيحية والفكرة اللاهوتية التي ترى أن الأشياء،
من جهة ماهيتها ووجودها، لا توجد — بوصفها كائنات مخلوقة
٢٦ — ألا بقدر ما تتوافق (أو تتطابق) مع الفكرة المتصورة عنها من قبل في
العقل الإلهي
٢٧ أو الروح الإلهية، بهذا تكون الأشياء منظمة وفقًا للفكرة (أي الصحيحة)،
ومِنْ ثَمَّ تكون بهذا المعنى حقيقة، ولكن العقل الإنساني
٢٨ أيضًا كائن مخلوق،
٢٩ ولما كان هو الملكة التي منحها الله للإنسان، فلا بد أن يكون مكافئًا
(مطابقًا) لفكرته،
٣٠ بَيْدَ أن العقل لا يكون مكافئًا (أو مطابقًا) لفكرتِه إلا إذا استطاع
أن يحقِّق في عباراته
٣١ توافق
٣٢ (الموضوع).
المتصور مع الشيء الذي يلزم بدوره أن يكون مطابقًا للفكرة، إن إمكانية حقيقة
المعرفة البشرية، إذا كانت كل الكائنات «مخلوقة»، تقوم على أساس أن الشيء والعبارة
كليهما وبنفس الطريقة مكافئ للفكرة ومترتِّب على وَحْدة خطة الخلق الإلهية، ومِنْ ثَمَّ
فكلٌّ منهما متوافق مع الآخر (أو متطابق معه)، إن الحقيقة،
٣٣ بوصفها تطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي)،
٣٤ هي التي تتضمن الحقيقة بوصفها تطابق العقل (الإنساني) مع الشيء (المخلوق)،
٣٥ فالحقيقة تدل أساسًا في وكل الأحوال على التوافق
٣٦ أو على تطابق الموجودات فيما بينها بوصفها مخلوقات من قبل الخالق، أي
على تجانس
٣٧ دبر بمقتضى نظام الخلق.
ولكن لو جرِّد هذا النظام من فكرة الخلق لَأمكن كذلك تصورُه بطريقةٍ عامة وغير محددة
بوصفه نظام العالم، وبدلًا من نظام الخلق المتصور تصوُّرًا لاهوتيًّا تظهر فكرة
تدبير جميع الموضوعات عن طريق العقل الكوني الذي يشرع قانونه لنفسه؛ ومِنْ ثَمَّ
يسلم لنفسه كذلك بمعقولية أساليبه
٣٨ معقولية مباشرة (وهو ما يُعتبَر «منطقيًّا»)، وعندئذٍ لا يكون هناك داعٍ
لتبرير أن ماهية حقيقة (صدق) القضية (أو الحكم) تكمن في صحة (مطابقة، صواب)
العبارة، وحتى في المواضع التي يحاول فيها المرءُ عبثًا أن يفسِّر كيف يمكن أن تتم هذه
الصحة أو المطابقة، فإنه يفترض وجودها سلفًا باعتبارها ماهية الحقيقة، كذلك تدل
حقيقة الشيء دائمًا على توافق الشيء المعطى مع التصور «المعقول» عن ماهيته، ويبدو
الأمر حينئذٍ وكأن هذا التصورَ
٣٩ لماهية الحقيقة مستقل عن التفسير المتعلق بماهية وجود كل موجود، في حين
أن هذا التفسير الأخير يتضمَّن بالضرورة تفسيرًا مشابهًا لماهية الإنسان من حيث هو
حامل العقل ومحقِّقه.
٤٠
وهكذا تكتسب الصيغة المعبرة عن ماهية الحقيقة (الحقيقة هي تطابق العقل والشيء)
٤١ صدقها الكلي مباشرةً في نظر كل إنسان وتحت سطوة بداهة
٤٢ هذا التصوُّر عن ماهية الحقيقة، وهي البداهة التي لم يكد أحد يلتفت إلى
أسسها الجوهرية — نجد أيضًا من يسلم تسليمًا بديهيًّا بأن للحقيقة ضدًّا يقابلها
وأن اللاحقيقة لها وجود، فلا حقيقة القضية (أو عدم صحتها أو انطباقها) هي عدم تطابق
العبارة مع الشيء، ولا حقيقة الشيء (عدم أصالته) تعني عدم توافق الموجود مع ماهيته،
وفي كل مرة تفهم اللاحقيقة بوصفها عدم اتفاق،
٤٣ وهذا يسقط خارج
٤٤ ماهية الحقيقة؛ من أجل هذا يمكن إهمال اللاحقيقة، بوصفها الضد المقابل
للحقيقة، حيثما أردنا إدراك الماهية الخالصة لهذه الأخيرة.
ولكن هل ما زلنا بحاجة للكشف عن ماهية الحقيقة؟ أليسَت الماهية الخالصة للحقيقة
متمثلة بصورة كافية في ذلك المفهوم الذي لا تعكره نظرية والذي تحميه بداهته ويتفق
الجميع على صحته وصدقه؟ وأخيرًا فإننا حين نأخذ رد حقيقة القضية إلى حقيقة الشيء
على معناه القريب المألوف، أي من جهة كونه تفسيرًا لاهوتيًّا، وحين نصرُّ على تنقية
التحديد الفلسفي للماهية من كل تدخل من جانب اللاهوت ونقصر تصور (مفهوم) الحقيقة
على حقيقة القضية، فإنما نلتقي بذلك مع تراثٍ فكريٍّ قديم، وإن لم يكن هو أقدم تراث،
وهو تراث يرى أن الحقيقة هي تطابق (هومويوزيس) عبارة (لوجوس) مع شيء (براجما)،
٤٥ فما حاجة العبارة إلى بحث أو سؤال، إذا فرضنا أننا نعرف معنى تطابق
العبارة مع الشيء؟ ولكن هل نعرف هذا؟
(٢) الإمكانية الباطنة للتطابق
نحن نتحدث عن التطابق ونقصد به معاني مختلفة، فنقول مثلًا عن قطعتين من العملة
النقدية فئة الماركات الخمس موضوعتين على المائدة: إنهما متفقتان في وَحْدة مظهرهما؛
ولهذا تشتركان في هذا المظهر وتكونان من وجهة النظر هذه متشابهتين، ثم إننا نتحدَّث
عن التطابق عندما نقول مثلًا عن إحدى هاتين القطعتين من فئة الخمسة ماركات: هذه
القطعة النقدية مستديرة، هنا ينطبق القول أو العبارة على الشيء، وفي هذه الحالة لا
تقوم العلاقة بين شيء وشيء، بل بين عبارة وشيء، ولكن ما الذي يمكن أن يجعل الشيء
والعبارة متطابقين، إذا كان من الواضح أن طرفي العلاقة مختلفان في مظهرهما؟ إن
العملة النقدية مصنوعة من المعدن، والعبارة غير مادية على الإطلاق، العملة النقدية
مستديرة، والعبارة ليس لها صفة مكانية على الإطلاق، بالعملة النقدية يمكن أن نشتري
شيئًا ما، والعبارة التي تُقال عنها لا تصلح أبدًا لأن تكون وسيلة شراء، ولكن على
الرغم من كل هذا الاختلاف بينهما فإن العبارة المذكورة تتطابق بوصفها عبارة حقيقية
(صادقة) مع القطعة النقدية، وينبغي أن يُفهم هذا التطابق، وفقًا للتصوُّر الشائع عن
الحقيقة، على أنه تكافؤ.
٤٦ كيف يمكن أن يتكافأ هذا الشيء المختلف تمام الاختلاف، وهو العبارة، مع
القطعة النقدية؟ يتحتَّم على العبارة لكي تحقق هذا أن تتحول إلى قطعة نقدية وأن تلغي
بذلك نفسها تمامًا، ولكن العبارة لن تُفلح في ذلك أبدًا، وفي اللحظة التي يتحقَّق فيها
مثل هذا التحول سيستحيل على العبارة، بما هي عبارة، أن تتطابق مع الشيء، إن العبارة
يجب أن تبقى في التكافؤ، بل إنها لا تصبح ما هي عليه إلا إذا بقيت كذلك.
٤٧ مم تتكون إذن ماهيتها المختلفة عن ماهية أي شيء آخر؟ كيف يتيسر للعبارة،
مع احتفاظها بماهيتها، أن تكون مكافئة لكائن آخر، أي الشيء؟
إن التكافؤ المقصود لا يعني في هذه الحالة أن يحدثَ تشابهٌ واقعيٌّ
٤٨ بين شيئين مختلفين في طبيعتهما، والأولى أن يُقال إن ماهية التكافؤ
تتحدَّد وفقًا لنوع العلاقة التي تقوم بين العبارة والشيء، وما بقيت هذه «العلاقة»
غير محددة وغير مؤسَّسة من جهة ماهيتها، فسوف يدور في الفراغ كل نزاع
٤٩ حول إمكان هذا التكافؤ أو عدم إمكانه، وحول نوعه ودرجته.
ولكن العبارة التي تُقال عن القطعة النقدية «تتعلق» بهذا الشيء عندما تتمثله
٥٠ (أو تستحضره أمامها) وتتكلم عن حالة هذا الشيء المتمثل (المستحضر) من
وجهة النظر السائدة، والعبارة المتمثلة (المستحضرة) تقول ما تقوله عن الشيء المتمثل
بحيث تعبِّر عنه بما هو كذلك. هذه الطريقة في التعبير
٥١ تنصب على التمثُّل (الاستحضار) وما يتمثله (أو يستحضره)، والمراد هنا
بالتمثُّل — مع استبعاد كل الآراء «السيكولوجية» و«المعرفية» المسبقة — هو جعل الشيء
يوضَع أمامنا بوصفه موضوعًا،
٥٢ والذي يوضع أمامنا، من حيث وضعه بهذه الكيفية، لا بد له أن يقطع (أو
يغطي ويتخلل) مجالًا مفتوحًا في مواجهتنا وأن يبقى مع ذلك في ذاتِه شيئًا ويظهر
بوصفه كيانًا ثابتًا، هذا الظهور للشيء عن طريق قطعه أو تخلُّله مجالًا يقع في
مواجهتنا يتحقَّق داخل منفتح (أو مجال مفتوح) لم يعمل التمثل (الاستحضار) على خلق
انفتاحه، وإنما أخذ — من جانب التمثل — مأخذ مجال للعلاقات، والعلاقة بين العبارة
المتمثِّلة وبين الشيء هي تحقُّق تلك الإحالة التي تتمُّ في الأصل كما تتمُّ في كل مرةٍ
على
صورة مسلك،
٥٣ والمسلك يتصف دائمًا بأنه — وهو الذي يتم داخل المجال المنفتح — يرتبط
باستمرار بما هو متكشف
٥٤ من حيث هو كذلك، هذا المتكشف وبهذا المعنى الدقيق وحده قد جربه الفكر
الغربي منذ وقت مبكر بوصفه «ذلك الذي يحضر»
٥٥ كما سمَّاه منذ وقت طويل ﺑ «الموجود».
إن المسلك منفتح على الموجود، وكل علاقة انفتاح مسلك، وتفتُّح الإنسان (أو انفتاحه)
يتفاوت حسب طبيعة الموجود وأسلوب مسلكه نحوه،
٥٦ وكل عمل وإنجاز، كل فعل وتدبير، يبقى في انفتاح مجال يستطيع الموجود
في داخله أن يوضع الوضع الذي يسمح بالتعبير عنه من حيث ماهويته
٥٧ وكيفيته، ولا يتأتَّى هذا إلا إذا أصبح الموجود نفسه متمثلًا (أو مستحضرًا)
في التعبير الذي يمثله، بحيث يخضع هذا التعبير لفرض يُلزِمه بأن يعبِّر عن الموجود من
حيث هو كذلك، وبقدر ما يلتزم التعبير بهذا الفرض، فإنه يتوافق
٥٨ مع الموجود، والتعبير الذي يلتزم بهذا الفرض يكون تعبيرًا صحيحًا أو
متوافقًا (حقيقيًّا)،
٥٩ وما يعبر عنه بهذه الطريقة هو الصحيح المتوافق (الحقيقي).
يجب على العبارة أن تستمدَّ توافقَها (صحتها) من تفتُّح المسلك (أو انفتاحه)؛ إذ
إن هذا
التفتح وحده هو الذي يُتيح للمنكشف
٦٠ بوجه عامٍّ أن يصبح معيارًا للتمثُّل المكافئ، ولكن المسلك المنفتح نفسه هو
الذي يجب عليه أن يهتدي بهذا المعيار، ومعنى هذا أن المسلك يتحتَّم عليه أن يقبل
العطية السابقة لهذا المعيار الذي يوجه كل تمثل، وهذا متضمن في تفتُّح المسلك، ولكن
إذا كان تفتُّح المسلك هذا هو وحده الذي يجعل توافق العبارة أو صحتها (حقيقتها)
ممكنة، فيلزم عن هذا أن يكون ذلك الذي يجعل التوافق (أو الصحة) ممكنًا هو صاحب الحق
الأصلي في أن يعتبر ماهية الحقيقة.
بهذا تسقط الإحالة
٦١ التقليدية والنهائية للحقيقة إلى العبارة منظورًا إليها بوصفها الموضع
الوحيد الذي تحلُّ فيه ماهيتها،
٦٢ إن القضية ليست هي الموطن الأصلي للحقيقة، ولكن في نفس الوقت يبرز هذا
السؤال عن أساس الإمكانية الباطنة للمسلك المنفتح الذي يعطي نفسه المعيار بصورة
مسبقة؛ إذ إن هذه الإمكانية وحدها هي التي تخلع على توافق (أو صحة) القضية
٦٣ المظهر الذي يخوِّل له تحقيق ماهية الحقيقة.
(٣) أساس إمكانية التوافق٦٤
من أين يستمد التعبير المتمثِّل الفرض
٦٥ الذي يوعز إليه بأن يتجه نحو الموضوع ويتوافق معه حسب «قانون» التطابق؟
لماذا يُسهم هذا التوافق في تحديد ماهية الحقيقة؟ كيف تتم مثل هذه العطية الأولية
للمعيار وهذا الإيعاز بالتوافق؟ لا يتم هذا حتى تكون هذه العطية الأولية قد تمكَّنت
من تحريرنا بحيث ننفتح على ما يتكشَّف فيها وما يلزم كل تمثُّل،
٦٦ إن التحرُّر من أجل معيار ملزم لا يتيسر إلا إذا كان تحرُّرًا إزاء
المنكشف الذي يظهر في «مجال» مفتوح،
٦٧ مثل هذا التحرُّر يُشير إلى الماهية التي لم تفهم حتى الآن للحرية. إن
انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافقَ ممكنًا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس
الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.
ولكن ألا تضع هذه القضية «التي تؤكد» ماهية التوافق أمرًا بدهيًّا مكان أمر بدهي
آخر؟ إن الفعل لا يمكن أن يتحقَّق إلا إذا كان الفاعل حُرًّا، كذلك الشأن في فعل
التعبير المتمثل وفي قبول إحدى الحقائق أو رفضها، بَيْدَ أن القضية لا تعني مع ذلك
أن تكوين عبارة أو توصيلها «للغير» أو استيعابها يحتاج بالضرورة إلى الفعل الخالص
من الضغط والإلزام، وإنما تقول: إن الحرية هي ماهية الحقيقة ذاتها، والمقصود
ﺑ «الماهية» هنا هو أساس الإمكان الباطن لما يسلم بأنه معروف مباشرةً وبوجه عام،
ولكننا إذا ذكرنا تصور الحرية لا نفكِّر في الحقيقة بل ولا نفكر أيضًا في ماهيتها؛
ولهذا فإن القضية التي تزعم أن ماهية الحقيقة (أو توافق العبارة وصحتها) هي الحرية،
لا بد أن تُثير الحيرة.
أليس وضع ماهية الحقيقة في الحرية معناه أن نضع الحقيقة تحت رحمة الهوى؟
٦٨ وهل هناك شيء أقدر على تقويض الحقيقة من تركها نهبًا لتعسف هذه «القصبة المرتعشة»
٦٩ وتحكمها؟ إن الشيء الذي ظل يلحُّ على الحكم السليم
٧٠ أثناء هذه المناقشة قد ظهر الآن أكثر وضوحًا: إن الحقيقة هنا ترد
٧١ إلى ذاتية الذات الإنسانية، وحتى لو أمكن أن تصلَ هذه الذات إلى
الموضوعية، فإن هذه الموضوعية ستظلُّ إنسانيةً شأنها شأن الذاتية، كما ستبقى تحت تصرُّف
الإنسان.
ما من شك في أن الإنسان ينسب إليه الزيف والنفاق، والكذب والخداع، والغش
والتظاهر، وعلى الجملة كل ألوان اللاحقيقة، ولكن اللاحقيقة تعد كذلك نقيض الحقيقة،
ولهذا يرى الناس من حقهم أن يستبعدوها من دائرة السؤال عن الماهية الخالصة للحقيقة،
وذلك على أساس أنها الوجه السلبي من الحقيقة،
٧٢ هذا الأصل الإنساني للاحقيقة إنما يؤكد، بطريق مضاد، أن ماهية الحقيقة
في ذاتها هي التي لها السيادة على الإنسان، هذه الحقيقة في ذاتها تعدُّ في نظر
الميتافيزيقا خالدة وأبدية؛ ومِنْ ثَمَّ فلا يمكن أن تنبني على زوال الكائن البشري وهشاشته،
٧٣ فكيف إذن يتيسَّر لماهية الحقيقة أن تجد حماها وأساسها في حرية
الإنسان؟
إن النفور الذي تلقاه القضية القائلة بأن ماهية الحقيقة هي الحرية يقوم على بعض
الأحكام المسبقة،
٧٤ ومن أشد هذه الأحكام عنادًا تلك التي تزعم أن الحرية خاصيةٌ من خصائص
الإنسان، وأن ماهية الحرية لا تحتاج إلى مزيد من البحث، وأن كل الناس تعرف ما هو
الإنسان.
(٤) ماهية الحرية
ومع هذا التنبيه إلى الارتباط الماهوي
٧٥ بين الحقيقة بوصفها توافقًا (أو صحةً وصوابًا) وبين الحرية يزعزع هذه
الأحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد «لإجراء» تحول في التفكير، إن التأمُّل في
الارتباط الماهوي القائم بين الحقيقة والحرية يؤدِّي بنا إلى البحث في ماهية الإنسان
من منظور
٧٦ يضمن لنا تجربة أساس ماهوي خفي للموجود-الإنساني (أو الآنية)،
٧٧ بحيث يضعنا «هذا التأمل» قبل ذلك
٧٨ في المجال الذي تُفصح فيه الحقيقة عن ماهيتها،
٧٩ من هنا يتضح أيضًا أن الحرية ليست هي أساس الإمكانية الباطنة للتوافق
(الصحة والصواب) إلا لأنها تتلقَّى ماهيتها الخاصة بها
٨٠ من ماهية أخرى أشد منها أصالة، وهي ماهية الحقيقة التي تعد وحدها
ماهوية بحق.
٨١
لقد حددت الحرية بادئ ذي بدء بأنها حرِّية
٨٢ لأجل المنكشف في «نطاق» المفتوح،
٨٣ كيف يتعين علينا أن نفكِّر في ماهية الحرية؟ إن المنكشف،
٨٤ الذي يَتكافَأ معه التعبير المتمثِّل
٨٥ بوصفه متوافقًا معه، هو الموجود المفتوح في مسلك منفتح،
٨٦ والحرية لأجل انكشاف المفتوح هي التي تسمح للموجود بأن يكون الموجود
على النحو الذي هو عليه،
٨٧ وهكذا يتبيَّن أن الحرية هي «ترك-الموجود-يوجد».
إننا نتحدث عادةً عن «التَّرْك»
٨٨ عندما ننفض أيدينا مثلًا من مشروع خططنا له، ومعنى قولنا: «نحن نترك
شيئًا يوجد» أننا لن نلمسه بعد ذلك ولن نشغلَ أنفسنا به، وفي هذه الحالة يفيد «ترك
الشيء يوجد» المعنى السلبي من انصراف عن الشيء وتخلٍّ عنه، ويعبِّر عن عدم الاكتراث به
وإسقاطه، والكلمة الضرورية التي نلجأ إليها هنا للتعبير عن «تَرْك-الموجود-يوجد» لا
تقصد الإسقاط وعدم الاكتراث، وإنما تقصد العكس من ذلك، إن «ترك-الموجود-يوجد» معناه
أن نهب أنفسنا له، ولا ينبغي أن يُفهم هذا مرة أخرى على أنه مجرد تعاملٍ مع الموجود
الذي نصادفه أو نبحث عنه، ولا على أنه مجرد صون ورعاية وتنظيم له، إن ترك الموجود
يوجد — أي من جهة وجوده على ما هو عليه — معناه أن يَهَب الإنسان نفسه للمنفتح،
وانفتاحه الذي يدخل فيه كل موجود ويستقر فيه، كما يأتي به هذا الموجود معه،
٨٩ هذا المنفتح هو الذي تصوَّره الفكر الغربي في بدايته ووصفه باللا-محتجب (تاألليثيا).
٩٠
ولو ترجمنا الكلمة اليونانية (أليثيا)
٩١ باللاتحجُّب بدلًا من ترجمتها «بالحقيقة»، فإن هذه الترجمة لن تكون فحسب
أكثر أمانة من الناحية «الحرفية»، بل إنها ستوجِّهنا إلى تغيير تفكيرنا في التصوُّر
الشائع للحقيقة بمعنى توافُق العبارة وستجعلنا نرجع إلى المعنى الأصلي — الذي لم
يُفهم بعدُ حقَّ الفهم — وهو انكشاف الموجود أو تكشفه،
٩٢ إن هبة النفس
٩٣ لتكشف الموجود «لا تعني» أن تضيع فيها، بل أن تتهيَّأ
٩٤ لنوع من التراجُع أمام الموجود حتى يتجلَّى وينكشف فيما هو عليه وعلى ما
هو عليه ويتمكَّن التكافُؤ المتمثِّل من أن يستمدَّ منه المعيار، ومثل هذا الترك للموجود
معناه أن نعرض أنفسنا للموجود بما هو كذلك وأن نضع مسلكنا كله في الانفتاح، إن «ترك-
الموجود-يوجد»، هو في ذاته تعرُّض وتخارج،
٩٥ وماهية الحرية، منظورًا إليها على ضوء ماهية الحقيقة، تتضح الآن بوصفها
التعرُّض لتكشُّف الموجود.
وليست الحرية مقصورةً على ما يطيب للفهم العام أن يتصوَّره تحت هذا الاسم: أي معنى
الهوى أو النزوة التي تنبثق أحيانًا في أنفسنا وتدفعنا إلى اختيار هذا الجانب أو
ذاك، وليست الحرية هي انتفاء الضغط والإلزام بأن نفعل شيئًا (مُعيَّنًا) أو لا
نفعله، وليست الحرية كذلك بالتهيُّؤ أو الاستعداد لقضاء مطلب أو ضرورة (ومِنْ ثَمَّ
موجود من نوع ما)، إن الحرية قبل هذا كله (أي قبل الحرية السلبية والإيجابية) هي
الهبة أو الانصراف إلى انكشاف الموجود بما هو كذلك، والتكشُّف نفسه يُحافَظ عليه ويُصان
في الهبة المتخارجة، وبفضل هذه الهبة (أو هذا الانصراف والتوجه) يكون انفتاح
المفتوح، أي يكون الهناك (أو الحضور)
٩٦ ما يكون عليه.
في الهناك (الدازاين أو الحضور) يُصان للإنسان (ذلك) الأساس الماهوي الذي طال
العهد على عدم تأسيسه، والذي يُتيح له أن يتخارَج،
٩٧ والوجود هنا لا يُقصَد به وجود الموجود بمعنى وروده أو حضوره أمامنا،
ولا ينبغي كذلك أن يُفهم بالمعنى «الوجودي» أي بمعنى الجهد الأخلاقي الذي نقصده من
اهتمام الإنسان بنفسه اهتمامًا قائمًا على تكوينِه الجسدي والنفسي، إن الوجود
(التخارج) الذي يمدُّ جذوره في الحقيقة بوصفها حرية، هو التعرُّض لتكشف الموجود بما هو
موجود، ويبدأ وجود الإنسان التاريخي أو يبدأ تخارجه — وهو بعد لا يزال غير مفهومٍ
وغير محتاجٍ إلى تأسيس ماهيته — في تلك اللحظة التي يتجه فيها المفكر الأوَّل إلى لاتحجُّب
الموجود لكي يسأل ما هو الموجود،
٩٨ في هذا السؤال يجرب اللاتحجب لأول مرة، ويتجلَّى الموجود في مجموعِه بوصفِه «فيزيس»
٩٩ أي «طبيعة»، وهي هنا كلمة لا تعني بعدُ مجالًا مُعيَّنًا من مجالات
الوجود، وإنما تعني الموجود بما هو كذلك في مجموعه، منظورًا إليه من حيث هو حضور في
حالة بزوغ (أو انبثاق)، ولا يبدأ التاريخ إلا حيث يرفع الموجود نفسه ويُحفظ ويُصان
بصورة واضحة في لاتحجبه، وحيث يفهم هذا الحفظ والصون على ضوء السؤال عن الموجود
بما هو موجود، إن التكشُّف المبدئي للموجود في مجموعِه، والسؤال عن الموجود بما هو
موجود، وبداية التاريخ الغربي كلها شيء واحد، وتتم في وقت وزمن واحد، (لكن) هذا
الزمن الذي لا سبيل إلى قياسه هو الذي يفتتح به كل مقياس.
١٠٠
ولكن إذا كان الموجود المتخارج هناك،
١٠١ وبوصفه «ترك-الموجود-يوجد»، هو الذي يحرِّر الإنسان «لحريته»؛ وذلك حين تخوله
١٠٢ (حق) اختيار إمكانية (موجود) ما، أو تفرض عليه ضرورة (موجود ما)، فليس
التعسُّف البشري
١٠٣ هو الذي يملك «التصرف في» الحرية، إن الإنسان لا يملك الحرية كما لو
كانت خاصية له، بل إن العكس هو الأصح؛ فالحرية، أي الدازاين (أو الوجود-هناك)
المتخارج الكاشف، هي التي تملكه على نحو أصيل يبلغ من أصالته أنها هي وحدها التي
تكفل لبشرية
١٠٤ ما أن تُنشئ العلاقة بالموجود في مجموعه وبما هو موجود، وهي العلاقة
التي يقوم عليها التاريخ ويميز بها، إن الإنسان المتخارج هو وحده الإنسان التاريخي،
أمَّا «الطبيعة» فهي بلا تاريخ.
إن الحرية التي تفهم هذا الفهم بحيث تعني «ترك-الموجود-يوجد» (هي حرية) تعمل على
تحقيق ماهية الحقيقة بمعنى تكشف الموجود، وليست الحقيقة خاصية مميزة للقضية الصحيحة
(المتوافقة) التي تقولها «ذات» بشرية عن موضوع ما ثم تعتبر بعد ذلك قضية «صادقة»
دون أن نعرف شيئًا عن المجال الذي ستصدق فيه، وإنما الحقيقة هي تكشُّف الموجود الذي
يتم بفضله
١٠٥ انفتاح، وفي هذا الانفتاح يتكوَّن كل مسلك بشري وكل موقف يتخذه الإنسان،
وذلك بفضل تعرضها له،
١٠٦ من أجل هذا يكون (وجود) الإنسان على نحو متخارج،
١٠٧ ولما كان كل مسلك إنساني منفتحًا على طريقته، فضلًا عن أنه يتواءم
١٠٨ مع ما يتعلق به،
١٠٩ فيلزم عن هذا أن يكون مسلك ترك-الوجود،
١١٠ أي الحرية، قد أنعم عليه بنعمة الإيعاز الباطن
١١١ الذي يطابق
١١٢ بين تمثُّله وبين الموجود، (وهكذا) يصبح الآن معنى تخارج الإنسان: إن
تاريخ الإمكانيات الأساسية
١١٣ لبشرية تاريخية مُدخَّر
١١٤ له في الكشف عن الموجود في مجموعه، ومن الأسلوب الذي تحضر
١١٥ به الماهية الأصلية للحقيقة تنشأ القرارات الأساسية النادرة عبر
التاريخ.
ولكن لما كانت الحقيقة في صميم ماهيتها حرية، فقد يتفق للإنسان التاريخي، وهو
بصدد ترك-الموجود-يوجد، ألَّا يتركه يوجد فيما هو عليه أو كما هو عليه، عندئذٍ يُنكر
الموجود ويحور،
١١٦ وعندئذٍ يؤكد المظهر سلطانه وقوته، وفي هذه القوة تَتبدَّى
١١٧ لاماهية الحقيقة، ولكن لما لم تكن الحرية المتخارجة — بوصفها ماهية
الحقيقة — خاصية من خصائص الإنسان، بل يتخارج الإنسان ويصبح بذلك قادرًا على
التاريخ لأن الحرية هي التي تملكه، فإن لاماهية الحقيقة لا يمكن أيضًا أن تنجم عن
مجرد عجز الإنسان وإهماله،
١١٨ إن اللاحقيقة — على العكس مما سبق — لا بدَّ أن تأتيَ من ماهية
الحقيقة.
وارتباط الحقيقة باللاحقيقة ارتباطًا ماهويًّا يمنعهما من الوقوف من بعضهما موقفًا
ينمُّ عن عدم الاكتراث، هو الذي يسمح للقضية الحقيقية (الصادقة) أن تضاد القضية غير
الحقيقية (الكاذبة) تضادًّا حادًّا،
١١٩ لهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي
١٢٠ إلا إذا استطاع من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة أن
يضمَّ كذلك التفكير في اللاحقيقة إلى أفقٍ تكشف الماهية،
١٢١ إن البحث في لاماهية الحقيقة ليس مجرد ملء ثغرة ثانوية،
١٢٢ بل هو الخطوة الحاسمة نحو وضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا مناسبًا،
ولكن كيف يمكننا أن ندرك اللاماهية في (صميم) ماهية الحقيقة؟ إذا كانت ماهية
الحقيقة لا تستنفد في توافق العبارة (أو صحتها وصوابها)، فلا يمكن بالمثل أن تسوَّى
اللاحقيقة بعدم توافق (أو عدم صحة) الحكم.
(٥) ماهية الحقيقة
تبيَّن لنا أن ماهية الحقيقة هي الحرية، هذه الحرية هي التَّرْك المتخارج الكاشف
للموجود، وكل مسلك منفتح يتحرك
١٢٣ في (مجال) ترك الموجود-يوجد، ويقف موقفًا (معينًا) من هذا الموجود أو
ذاك، والحرية، من حيث هي انصراف
١٢٤ إلى انكشاف الموجود في مجموعه بما هو موجود، قد أثرت على كل سلوك بحيث
يتوافق مع الموجود في مجموعه وبكليته،
١٢٥ غير أن هذا التأثر
١٢٦ لا يُفهم أبدًا على أنه «تجربة» أو «حالة شعورية»؛
١٢٧ لأن هذا معناه أن يفقد ماهيته ويفسر بشيء («كالحياة» أو «النفس») لا
يمكنه أن يزعم لنفسه شرف الماهية إلا في الظاهر، ولا يتسنَّى له (أن يمضي في هذا
الزعم) إلا إذا ظل منطويًا على تزييف لهذا التأثر وإساءة فهمه، إن التأثر — أي
التعرض المتخارج للموجود في مجموعه — لا «يجرب» ولا يشعر إلا لأن «الإنسان المجرب»
١٢٨ قد «وهب نفسه» أو انصراف إلى حالة تأثُّر كاشفة عن الموجود بكليته، دون
أن يكون لديه إحساس سابق بماهية هذا التأثر، إن كل مسلك «يقوم به» الإنسان
التاريخي، سواء شعر بذلك صراحةً أو لم يشعر به، وسواء فهمه أو لم يفهمه، إنما هو
مسلك متأثِّر
١٢٩ كما هو مستقر،
١٣٠ عن طريق هذا التأثُّر، في الموجود الكلي في مجموعه، إن تكشُّف الوجودِ
بكليته وفي مجموعه ليس مطابقًا
١٣١ لمجموع الموجودات المعرفية في الواقع، إنما الأمر على عكس ذلك، فحيثما
قلَّت معرفة الإنسان بالموجود ولم يعرفه عن طريق العلم إلا معرفة تقريبية وأولية،
١٣٢ أمكن لتكشف الموجود بكليته أن يتأكَّد بصورة أكثر ماهوية
١٣٣ مما لو أصبح المعروف وما يسهل معرفته في كل وقت من الضخامة والاتساع
بحيث لا يحيط به النظر ولا يقوى على مقاومة جهود المعرفة ومحاولاتها الدائبة عندما
تتجاوز القدرة التقنية
١٣٤ على السيطرة على الأشياء كلَّ حدٍّ ممكن، بلى إن الهذر والمذر الذي تلغو
به معرفة تدعى الإلمام بكل شيء — ولم تعد إلا معرفة وحسب — يصيب تكشف الموجود
بالتسطح ويهوي به في ظلام العدم الظاهر لكل ما لم يعد يصل حتى إلى درجة الشيء الذي
لا يستحق الاكتراث، ولم يبقَ له من وجود إلا كمثل ما يبقى لشيء منسي.
١٣٥
إن ترك الموجود-يوجد، وهو الأصل في التوافق
١٣٦ مع الموجود بكليته، ينفذ في كل مسلك منفتح يتحرَّك في مجالِه كما يسبقه
أيضًا، ومسلك الإنسان يتغلغل فيه تكشف الموجود بكليته وفي مجموعه، ولكن هذه «الكلية
أو المجموع» تبدو في نظر التقدير
١٣٧ والانشغال اليومي كأنها أمر يتعذَّر التنبؤ به وإدراكه،
١٣٨ ومن المستحيل إدراكها عن طريق الموجود الذي يكشف نفسه، سواء أكان هذا
الموجود ينتمي للطبيعة أو التاريخ.
ومع أنها تتغلغل باستمرار في كل شيء وتطبعه على التوافق،
١٣٩ فإنها تظل على الرغم من ذلك هي اللامحدد والذي لا يقبل التحديد، كما
تختلط لهذا السبب في أغلب الأحيان بأكثر الأمور شيوعًا وأقلها لفتًا للانتباه، ولكن
هذا الذي يتغلغل في كل شيء ويطبعه على التأثُّر أو التوافق
١٤٠ ليس عدمًا، وإنما هو حجب (إخفاء) الموجود بكليته، فبقدر ما يسمح
ترك-الوجود في كل مسلك على حدة بأن يوجد الموجود الذي يتعلق به، وبذلك يكشف عنه،
فإنه يحجب الموجود بكليته؛ ولهذا فإن ترك-الموجود (يوجد) هو في نفس الوقت حجب
وإخفاء، في الحرية المتخارجة للدازاين (الموجود الإنساني-هناك) يتم حجب (إخفاء)
الموجود بكليته، ويكون الاحتجاب أو الاختفاء.
(٦) اللاحقيقة من حيث هي حجب (أو إخفاء)
إن التحجُّب (الاختفاء) يمنع «الأليثيا»
١٤١ من التكشُّف (أو اللاتحجُّب)، بل لا يسمح لها بأن تكون ستيريزس
١٤٢ (سلبًا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها (لكي يكون) ملكًا
لها، وإذًا فالتحجُّب (الاختفاء)، إذا فكرنا فيه من جهة الحقيقة بوصفها لاتحجُّبًا
(أو تكشُّفًا)، هو عدم-التكشُّف، وهو يعدُّ بهذه المثابة اللا-حقيقة الأصلية التي تنتمي
لماهية الحقيقة انتماءً أصيلًا،
١٤٣ وتحجُّب الموجود بكليته لا يتم أبدًا كما لو كان نتيجة لاحقة ومترتبة على
المعرفة الجزئية دائمًا بالموجود، إن تحجُّب الموجود بكليته، (أي) اللاحقيقة الأصلية،
أقدم من كل انكشاف لهذا الموجود أو ذاك، وهو كذلك أقدم من ترك-الموجود نفسه الذي
يُحجب أثناء الكشف
١٤٤ ويتخذ موقفًا من الحجب،
١٤٥ ما الذي يحافظ عليه ترك-الموجود في علاقته هذه بالحجب؟ إنه (شيء) لا
يقلُّ عن حجب الموجود بما هو موجود وبكليته، أي السر، ولا يتعلَّق الأمر بسر مفرد
١٤٦ خاص بهذا الشيء أو ذاك، وإنما يتعلَّق بأمر واحد، وهو أن السرَّ (حجب
المحتجب) بما هو سر يتغلغل في الوجود الإنساني
١٤٧ ويتحكم فيه.
وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليته ويحجبه في نفس
الوقت، أن يظهر الحجب (الإخفاء) بمظهر المحتجب في المقام الأول،
١٤٨ والدازاين (الموجود-الإنساني)، بقدر ما يتخارج، يتعهد
١٤٩ أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية، إن اللاماهية
١٥٠ الأصلية للحقيقة هي السر، وكلمة اللاماهية لا تتضمَّن هنا معنى التدهور
في الماهية الذي ننسبه لها عندما تتسع فتصبح مرادفة للكلي العام (كوينون، جينوس)
١٥١ ولإمكانه
١٥٢ وأساسه، إن اللاماهية تدل هنا على الماهية السابقة في الوجود،
١٥٣ ولكن اللاماهية تدل عادةً على تشوُّه تلك الماهية التي سقطت وتدهورت
بالفعل، ومع هذا فإن اللاماهية، على طريقتها ووفق الحالة المطابقة، تبقى في جميع
هذه الدلالات والمعاني مرتبطةً بالماهية ارتباطًا أساسيًّا ولا تصبح أبدًا غير
أساسية بمعنى أن تتحول إلى شيء لا يستحق الاهتمام.
ولكن الكلام بهذه الصورة عن اللاماهية يؤذي الرأي الشائع حتى الآن أذًى شديدًا
ويبدو في مظهره أشبه ما يكون بتكديس مجموعة من «المفارقات» المغتصبة المصطنعة، ولما
كان من الصعب تلافي هذا المظهر، فإننا نؤثر التخلي عن هذه اللغة التي تبدو في نظر
الظن الشائع (الدوكسا)
١٥٤ وحده لغة مليئة بالمفارقات، أمَّا الذي يعلم (الأمور على حقيقتها) فإن
«اللا»، في اللاماهية الأصلية للحقيقة بوصفها لا حقيقة، تشير عنده إلى مجال حقيقة
الوجود الذي لم يعرف بعد (لا مجال للوجود وحده).
إن الحرية، بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير
منغلقة على نفسها، في هذه العلاقة يتأسَّس كل مسلك ويتلقى منها التوجه للموجود وتكشفه،
١٥٥ بَيْدَ أن هذه العلاقة بالحجب (أو الإخفاء) تحجب نفسها بإعطائها
الصدارة لنسيان السر
١٥٦ وتختفي في هذا النسيان، ومع أن الإنسان يدخل دائمًا — عن طريق مسلكه —
في علاقة بالموجود، إلا أنه يقف عادةً عند هذا الموجود أو ذاك وما يتكشف منه،
١٥٧ وهو كذلك يظل على تمسُّكه بالواقع المعتاد والواقع الذي يمكن التحكم فيه
والسيطرة عليه، حتى في الأحوال التي تستوجب النظر في المسائل الأولى والأخيرة،
١٥٨ وعندما يشرع في التوسع في تكشف الموجود
١٥٩ وتعديله وإعادة تحصيله
١٦٠ وتأمينه في مختلف مجالات عمله ونشاطه، فإنه في هذه الحالة أيضًا يستمد
التعاليم التي توجهه إلى هذه الغاية من دائرة أهدافه المعتادة وحاجاته
المألوفة.
ولكن الاستقرار في (إطار) الحياة المعتادة يساوي في ذاته رفض الاعتراف بتحجُّب
المتحجِّب، صحيح أن الحياة المعتادة نفسها لا تخلو من الألغاز، والغوامض، والقضايا
التي لم تُحسم، والمسائل التي تحتمل الشك، غير أن جميع هذه المشاكل الواثقة بنفسها
١٦١ ليست إلا معابر ووسائط لحركة الحياة العادية على طريقها المعتاد؛ ولهذا
فليست بالمشاكل الجوهرية، وحيثما تم التجاوز
١٦٢ عن تحجُّب الموجود بكليته واعتبر مجرد حد يعلن عن نفسه أحيانًا بصورة
عرضية، فإن الحجب (أو الإخفاء) بوصفه حدثًا أساسيًّا، يكون في هذه الحالة قد هوى في
(قاع) النسيان.
بَيْدَ أن السر المنسي للدازاين لا يستبعده النسيان، وإنما يُضفي هذا النسيان
حضورًا خاصًّا على الاختفاء الظاهري للمنسي، وبينما ينتفي
١٦٣ السر في النسيان ومن أجل النسيان، فإنه يفرض على الإنسان التاريخي
الاستقرار في حياته العادية والركون إلى أمجاده الزائفة،
١٦٤ وهكذا تعمد البشرية
١٦٥ التي خُلِّي بينها وبين هذه الحياة إلى استكمال «عالمها» بما يستجد لها من
حاجات وأهداف، وتملؤه بخططها ومشاريعها، عندئذٍ يستمدُّ الإنسان، الذي نسي الموجود
بكليته، مقاييسه من هذه الخطط والمشروعات، ثم يثبت على هذه المقاييس ويظل يتزوَّد
بمقاييس جديدة، دون أن يفكِّر بعد ذلك في الأساس الذي يقوم عليه اتخاذ المقاييس ولا
في ماهية ذلك الذي يقدمها ويعطيها، وعلى الرغم من التقدُّم المتصل نحو مقاييس جديدة
وأهداف وغايات جديدة، فإن الإنسان يُخطئ في تقدير الماهية الأصيلة للمقاييس التي
يتخذها، إنه يزلُّ في القياس، ويستفحل الزلل كلما تصور أنه وحده — بوصفه ذاتًا — هو
مقياس كل موجود، وتصرُّ البشرية، في غمرة هذا النسيان الذي فقد المقياس، على تأكيد
ذاتها بفضل ما تيسَّر لها من أسباب الحياة المعتادة، ويجد هذا الإصرار سنده الذي
يعتمد عليه، ولا سبيل له إلى معرفته، في العلاقة التي لا تسمح له فحسب بأن يتخارج،
بل تسمح له في نفس الوقت أيضًا بأن يتداخل، أي بأن يتشدَّد في تمسُّكه بما يقدِّمه له
الموجود الذي يبدو أنه يظهر من نفسه وفي نفسه.
إن الدازاين (الموجود-الإنساني) المتخارج متداخل،
١٦٦ وحتى الوجود المتداخل يسوده السر،
١٦٧ ولكنه يكون عندئذٍ هو ماهية الحقيقة التي نسيت وصارت غير أساسية.
١٦٨
(٧) اللاحقيقة من حيث هي ضلال
إن الإنسان، بطبيعته المتداخلة،
١٦٩ متجه نحو (الجانب) الشائع المعتاد من الوجود، غير أنه لا «يتداخل» إلا
إذا كان قبل ذلك قد «تخارج»، أي إلا إذا أخذ الموجود في نفس الوقت مأخذ المقياس
الموجه له، ولكن البشرية، من خلال اتخاذ المقياس الخاص بها، تصرف عن السر، هذا
التوجه المتداخل نحو الشائع المعتاد، وهذا الانصراف المتخارج عن السر، مرتبطان
برباط وثيق، إنهما شيء واحد ونفس الشيء، وذلك الاتجاه وهذا الانصراف يأتيان في واقع
الأمر من الحيرة أو البلبلة التي يتميَّز بها الدازاين،
١٧٠ فلهفة
١٧١ الإنسان بين الهرب من السر واللجوء إلى (الواقع) المعتاد، واندفاعه من
موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو الضلال
١٧٢ (أو الزيغ والخطأ).
الإنسان يضل، إنه لا يقع في الضلال في لحظة معينة، وإنما يمضي إليه دائمًا لأنه
(بطبعه) يتداخل من حيث يتخارج؛ ومِنْ ثَمَّ فهو موجود بالفعل (أو بصورة مسبقة) في
الضلال، والضلال الذي يمضي فيه الإنسان ليس شيئًا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه وكأنه
حفرة يسقط فيها أحيانًا، وإنما الضلال جزء من تكوين الدازاين الذي خلى بين الإنسان
التاريخي وبينه،
١٧٣ والضلال هو مجال تلك البلبلة
١٧٤ التي يتم فيها دائمًا، ببراعة ومرونة، نسيان التخارج المتداخل نفسه
وغفلته عن نفسه،
١٧٥ ويتأكد حجب الموجود بكليته — الذي يكون هو نفسه محتجبًا — في انكشاف
الموجود المعيَّن، وهذا الانكشاف، بوصفه نسيان الحجب، هو الذي يكون الضلال.
إن الضلال، بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي،
١٧٦ الضلال ينفتح انفتاحًا لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية (أو الأساسية)،
١٧٧ والضلال هو مسرح الخطأ وسببه،
١٧٨ وليس الخطأ غلطة فردية أو عرضية، إنما هو مملكة (سيادة أو حكم) ذلك
التاريخ الذي تختلط فيه كل أسباب الضلال المتشابكة.
إن لكل مسلك أسلوبه في الخطأ، وذلك طبقًا لانفتاحه وعلاقته بالموجود بكليته،
ويمتد الخطأ من الغلط والسهو وسوء التقدير إلى التعثر والشطط في المواقف والقرارات
الأساسية الحاسمة،
١٧٩ والواقع أن ما نسميه في العادة بل وما تدعوه المذاهب الفلسفية أيضًا
باسم الخطأ، أي عدم تطابق الحكم وكذب المعرفة، ليس في حقيقة الأمر سوى أسلوب واحد
من أساليب الخطأ، بل هو أكثر هذه الأساليب سطحية، إن الضلال الذي يتحتَّم على
البشرية التاريخية أن تمضي فيه لكي يكون سعيها ضالًّا، هو مكون أساسي من مكونات
انفتاح الدازاين (الموجود-الإنساني)، إن الضلال يغلب على الإنسان ويسيطر عليه من
حيث يسوقه أو يدفعه إلى الضلال، ولكن الضلال باعتباره دفعًا على الضلال، يُسهم في
نفس الوقت في إيجاد تلك الإمكانية التي يستطيع الإنسان أن ينتزعها من التخارج، وهي
إمكانية ألَّا يقع في الضلال، وأن يتجنَّب إغفال سر (الدازاين).
ولما كان التخارج المتداخل للإنسان يتحرَّك في الضلال، وكان الضلال — من حيث إنه
يوقع في الخطأ — يهدِّد الإنسان دائمًا على نحو من الأنحاء ويجعله بسبب هذا التهديد
مُثقلًا بالسر وإن يكن هو السر المنسي، فإن الإنسان يكون في تخارج موجوديته أو
تواجُده خاضعًا في وقت واحد لغلبة السر عليه وتهديد الضلال له، إن كليهما
١٨٠ يحمله على الحياة في محنة القهر،
١٨١ والماهية الكاملة للحقيقة، والتي تنطوي على ضد ماهيتها،
١٨٢ تبقي الموجود الإنساني في المحنة بواسطة هذا التأرجح الدائم (بين السر
وبين تهديد الضلال)،
١٨٣ إن الدازاين خاضع للمحنة،
١٨٤ ومن موجودية الإنسان ومنها وحدها ينبثق انكشاف الضرورة،
١٨٥ وعن طريق هذا الانكشاف يستطيع الوجود الإنساني أن يضع نفسه في المحتوم.
١٨٦
إن تكشُّف لا-تحجُّب الموجود بما هو موجود هو في ذاته وفي نفس الوقت تحجُّب الموجود
بكليته، وفي هذه المعية
١٨٧ التي تجمع بين التكشف والتحجب يثبت الضلال ويتأكد، إن حجب المتحجب
والضلال ينتميان معًا للماهية الأصلية للحقيقة، وليست الحرية، مفهومة من خلال
التخارج المتداخل للموجود-الإنساني، هي ماهية الحقيقة (بمعنى توافق التمثُّل أو
تطابقه) إلا لأن الحرية نفسها تصدر عن الماهية الأصلية للحقيقة، عن سيادة السر في
(غمرة) الضلال، إن «ترك-الموجود-يوجد» يتحقق في (مجال) المسلك المنفتح، ومع ذلك فإن
ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته (أمر) لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية
إلا إذا أخذ في الاعتبار
١٨٨ من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذٍ يبدأ الانفتاح
١٨٩ على السر في التحقق في (إطار) الضلال من حيث هو ضلال، عندئذٍ يوضع
السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا أصيلًا، وعندئذٍ يتَّضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك
ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، إن النظر إلى السر انطلاقًا من الضلال (هو الذي)
يضع مشكلة السؤال الأوحد: ما هو الموجود بما هو موجود وفي كليته؟ مثل هذا السؤال
يتفكَّر في المشكلة الأساسية المميزة التي لم يتم التوصل بعدُ إلى إزالة التباسها، ألا
وهي مشكلة وجود الموجود، إن التفكير في الموجود الذي ينشأ عنه هذا التساؤل أصلًا،
هو الذي عُرف منذ عهد أفلاطون ﺑ «الفلسفة»
١٩٠ ثم أطلق عليه بعد ذلك اسم «الميتافيزيقا».
(٨) السؤال عن الحقيقة والفلسفة
في فكر الوجود يُتاح لتحرُّر الإنسان من أجل التخارُج،
١٩١ وهو التحرُّر الذي يؤسس التاريخ، أن ينطق (عن نفسه) بالكلمة،
١٩٢ والكلمة ليست في المقام الأوَّل «تعبيرًا» عن رأي، وإنما هي النسق المصون
١٩٣ لحقيقة الموجود بكليته، ولا يهم عدد الذين يمكنهم أن يسمعوا إلى هذه
الكلمة، فنوعية أولئك الذين يمكنهم الإصغاء إليها هي التي تقرِّر وضع الإنسان في التاريخ،
١٩٤ ولكن في نفس تلك اللحظة من تاريخ العالم التي تتحقق فيها بداية
الفلسفة، تبدأ كذلك السيطرة الصريحة للفهم العام
١٩٥ (أو السفسطائية).
إن هذا الفهم العام يَهيب ببداهة
١٩٦ الموجود المنكشف ويفسر كل تساؤل فكري (أو فلسفي) بأنه تهجُّم على الفهم السليم
١٩٧ واعتداء على حساسيته المريبة.
١٩٨
بَيْدَ أن رأي
١٩٩ الفهم السليم — المبرر تبريرًا تامًّا في مجاله الخاص — لا يصدق على
ماهية الفلسفة التي لا يمكن أن تتحدَّد إلا من خلال علاقتها بالحقيقة الأصلية للموجود
بما هو كذلك وبكليته، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمَّن
٢٠٠ اللاحقيقة وتتأكَّد
٢٠١ قبل كل شيء على صورة الحجب (أو الإخفاء)، فإن الفلسفة، بوصفها التساؤل
عن هذه الحقيقة (لا بد أن تكون منقسمةً على ذاتها)، إن فكرها هو الاتزان اللين
(المرن) الذي لا يمتنع على تحجب الموجود بكليته، وفكرها كذلك هو التشدُّد المتفتح
٢٠٢ الذي لا يدمر التحجب وإنما ينقله — مع الحفاظ على طبيعته — إلى وضوح
التعقل وبهذا يلزمه «بأن يتجلَّى» في حقيقته الخاصة به.
والفلسفة في هذا الاتزان المرن وهذه المرونة المتزنة اللذين يُتيحان للموجود أن
يوجد بما هو كذلك وبكليته، تنمو وتتحوَّل إلى تساؤل (من طبيعته) أنه إذا لم يستطع أن
يقصر (كل) علاقته على الموجود وحده، فإنه لا يحتمل أدنى تسلُّط عليه من الخارج، وقد
شعر كانط بهذه المحنة الباطنية (العميقة) للفكر؛ إذ يقول عن الفلسفة: الواقع أننا
نجد الفلسفة هنا في موقف عصيب، ولقد كان ينبغي لهذا الموقف أن يكون ثابتًا، ولو أنه
لا يجد في الأرض ولا في السماء ما يتعلَّق به أو يستند إليه، إن عليها هنا أن تقيم
البرهان على نقائها بأن تجعل من نفسها حارسةً على قوانينها (أو مدبرة لها)، بدلًا من
أن تكون الرسول المبشر بقوانين يوصي بها حس فطري أو ما لا أدريه من طبيعة وصية عليها.
٢٠٣
إن كانط، الذي تُمهِّد أعماله للمرحلة الأخيرة من مراحل الميتافيزيقا الغربية، إنما
يتطلع إلى مجال لم يستطع أن يفهمه تبعًا لموقفه الميتافيزيقي الأساسي القائم على
الذاتية — إلا من خلال هذه الذاتية وحدها — ولهذا كان حتمًا عليه أن يفسِّر الفلسفة
بأنها هي الحارسة المدبِّرة لقوانينها الخاصة، وهذه النظرة الجوهرية
٢٠٤ إلى مصير الفلسفة تبلغ مع ذلك من الاتساع قدرًا يجعلها تستنكر كل
استبعاد للفكر،
٢٠٥ وإن أشد صور هذا الاستبعاد عجزًا هي تلك التي تتذرَّع بالقول بأن الفلسفة
«تعبير» عن الحضارة (كما فعل اشبنجلر) أو بأنها ترف (أو زخرف تزهو به) إنسانية
منكبة على العمل والإنتاج، ولكن سواء حققت الفلسفة ماهيتها التي تقرَّرت لها في الأصل
بوصفها «مدبرة» قوانينها الخاصة، أو لم تتأيَّد لها صفة تبرير قوانينها ولم تحدد من
خلال حقيقة ذلك الذي يجعل قوانينها قوانين،
٢٠٦ فإن الذي يحسم الأمر في الحالين هو الأصالة
٢٠٧ التي تجعل الماهية الأولية
٢٠٨ للحقيقة أساسية بالنسبة للتساؤل الفلسفي.
٢٠٩
إن المحاولة التي تقدمها هنا تتجاوز بالسؤال عن ماهية الحقيقة الحدود التقليدية
للتصوُّر الشائع عن مفهوم الماهية وتساعد على التأمل في هذه القضية: ألا ينبغي أن
يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة
الماهية؟ ولكن الفلسفة تفكر في الوجود (عندما تفكر) في مفهوم الماهية.
٢١٠
ولعل رد الإمكانية الباطنة لتوافُق (أو تطابُق) العبارة إلى الحرية المتخارجة
(لترك-الموجود-يوجد) على اعتبار أنها هي «الأساس» الذي يقوم عليه، ووضع مبدأ ماهية
هذا الأساس في التحجُّب والضلال — لعلهما أن يَشِيا (أو يُوحيا) بشمول (أو عمومية)
«مجردة»، وإنما هي على العكس من ذلك الفريد
٢١١ المتحجب لتاريخ فريد يكشف عن «معنى» ما نسميه بالوجود وما اعتدنا منذ
زمن طويل على التفكير فيه على أنه هو الموجود بكليته.
(٩) ملحوظة
إن السؤال عن ماهية الحقيقة ينبع من السؤال عن حقيقة الماهية، وذلك السؤال يفهم
الماهية بمعناها القريب وهو «المائية»
٢١٢ أو «الشيئية»،
٢١٣ وأمَّا الحقيقة فيفهمها باعتبارها خاصية تميِّز المعرفة، والسؤال عن
حقيقة الماهية يفهم الماهية من جهة الفعل ويفكر من خلال هذه الكلمة — مع بقائه في
إطار التصور الميتافيزيقي — في الوجود
٢١٤ بوصفه الفارق الكائن بين الوجود والموجود، إن الحقيقة تعني الحجب
المضيء بوصفه خاصية أساسية للوجود.
والسؤال عن ماهية الحقيقة يجد الجواب عنه في هذه القضية: «ماهية الحقيقة هي حقيقة
الماهية»، ويتبين من الشرح السابق أن القضية ليست مجرد قلب لتركيب الألفاظ، وأنها
تهدف إلى الظهور بمظهر المفارقة، إن «الموضوع»
٢١٥ في هذه القضية — إن جاز استخدام هذه المقولة النحوية المشئومة على
الإطلاق — هو حقيقة الماهية، إن الحجب المضيء يكون، أي يترك التوافق (التطابق) بين
المعرفة والموجود يتحقق،
٢١٦ إن القضية جلية، ليست على الإطلاق من النوع الذي يُفهم من «العبارة»، إن
الجواب عن السؤال عن ماهية الحقيقة هو سيرة
٢١٧ تحول تم في تاريخ الوجود، ولما كان الحجب المضيء من مكونات الوجود، فإنه
٢١٨ يظهر في مبدأ أمره في ضوء الإخفاء المانع والاسم الذي يُطلَق على هذه
الإضاءة هو الأليثيا.
٢١٩
كان في النية تكملة هذه المحاضرة عن «ماهية الحقيقة» بمحاضرة أخرى عن «حقيقة
الماهية»، غير أن هذا المشروع لم يتحقَّق للأسباب التي أشرت إليها في رسالتي عن
«النزعة الإنسانية»، وقد ألقيت «ماهية الحقيقة» في شكل محاضرة عامة في خريف وشتاء
سنة ١٩٣٠م في بريمن وماربورج وفرايبورج (بالبريسجاو)، كما ألقيت في صيف سنة ١٩٣٢م
بمدينة درسدن.
٢٢٠
إن السؤال الأساسي (الوجود والزمان، ١٩٢٧م) عن «معنى» الوجود، أي عن أهمية المشروع
(الوجود والزمان، ص١٥١)، أي عن الانفتاح، أي عن حقيقة الموجود وحسب، قد أُغفل عمدًا
في هذه المحاضرة، إن الفكر فيها يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه
الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقِّق في خطواته الحاسمة، التي تنتقل من الحقيقة بوصفها
توافقًا أو تطابقًا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة باعتبارها حجبًا
وضلالًا — يحقِّق تحوُّلًا في التساؤل يؤدي إلى تجاوز الميتافيزيقا.
إن الفكر الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجَّه هذه التجربة الأساسية، إن القرب من
حقيقة الوجود لا يتهيَّأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقًا من الدازاين أو الموجودية
التي يمكن أن يرتبط بها الإنسان،
٢٢١ ولم تتخلَّ المحاضرة فحسب عن كل نوع من الأنثروبولوجيا وكل تصور للإنسان
باعتباره ذاتية، وهو نفس ما حدث في كتاب الوجود والزمان، ولم يقتصر الأمر أيضًا على
تقصي حقيقة الوجود باعتبار أنها الأساس الذي يشهد عليه موقف تاريخي جديد، بل إن
مسار العرض في المحاضرة يبذل ما في وسعه للتفكير انطلاقًا من هذا الأساس الجديد
(وهو الدازاين)، وإن تسلسل السؤال في مراحله المتلاحقة لَيعبِّر عن الطريق الذي يتابعه
فكر لا يريد أن يقدم تمثلات (تصورات) ومفاهيم، وإنما يؤثر أن يجرب نفسه ويمتحنها
باعتباره تحولًا في العلاقة بالوجود.