نظرية أفلاطون عن الحقيقة
يُعبَّر عادةً عن المعارف التي تصل إليها العلوم في قضايا، وتُقدَّم للإنسان في صورة
نتائج
صالحة للتطبيق، و«نظرية» أحد المفكرين هي ذلك الذي لم يقُله في ثنايا قوله، وهي ذلك الذي
يتعرض له الإنسان بحيث يَهَب له نفسه في سخاء.
ومن أجل أن نجرِّب ذلك الذي لم يقله أحد المفكرين — أيًّا كان نوعه — ونتمكن من معرفته
والإحاطة به في المستقبل، فلا بد لنا أن نتفكَّر فيما يقوله، والوفاء بهذا المطلب يقتضي
مِنَّا أن نتناول «بالدرس والتحليل» جميع «محاورات» أفلاطون في صورة متَّسقة، ولما كان
هذا الأمر مستحيلًا، فإن علينا أن نسلك طريقًا آخر يؤدي بنا إلى ذلك «الجانب» الذي لم
يقله أفلاطون ولم يُفصح عنه فكره.
هذا الجانب الذي ظلَّ «مطويًّا»، فلم يقُله أفلاطون؛ يعبِّر عن تحول في تحديد ماهية
الحقيقة. وتحقق هذا التحوُّل في ماهية الحقيقة، ومضمونه، وما تأسَّس عليه، هو ما سوف
نحاول
توضيحه على ضوء التفسير الذي سنقدِّمه ﻟ «رمز للكهف».
١
يبدأ الكتاب السابع من «محاورة» أفلاطون عن ماهية «البوليس»
٢ بتقديم صورة عن «رمز الكهف» (الجمهورية، ٧، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧)،
٣ والرمز يروي حكاية، والحكاية تنمو وتتطوَّر في حوار سقراط مع جلوكون، الأوَّل
يصورها، والثاني يعبِّر عن الدهشة التي تستيقظ في نفسه، والترجمة التالية
٤ توضح النص الأصلي وتشرحه ببعض الإضافات الموضوعة بين قوسين.
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة التربية
٥ بمثل هذه التجربة، تأمَّل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف،
مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يُقيمون منذ الطفولة مقيدين
بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى
الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم، بسبب هذه القيود والسلاسل، عاجزون عن التلفُّت حولهم
برءوسهم، في إمكانهم مع ذلك أن يُبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من
نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتدُّ في الجهة
العلوية طريق بُني على طوله — تصور هذا — جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون
(أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم
ألعابهم.
قال: هذا ما أراه.
– تأمل كذلك كيف يَعْبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء، من
تماثيل وصورٍ من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو
منتظر، ويمر البعض الآخر صامتين.
– صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، شبهًا تامًّا، مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينُهم منذ
البداية، سواء أكان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم، إلا على الظلال التي تُلقيها النار على
جدار الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال
حياتهم.
– ولكن ماذا عساهم يَرَوْن من هذه الأشياء التي يحملها الناس (خلف ظهورهم)؟ ألَا يرون
هذه «الظلال» نفسها؟
– الأمر كذلك في الواقع.
– لو كان في وسعهم أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض عمَّا يرَوْن، ألا نعتقد أنهم كانوا
سيحسبون
أن ما يرونه هو الوجود؟
– بالضرورة.
– ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردَّد فيه صدًى من الجدار المواجِه لهم؟ ألَا
تظن
أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرُّون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر
عن الظلال التي تمرُّ أمامهم؟
– لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى
ظلال الأدوات (التي يحملها العابرون).
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك كيف يفك هؤلاء المساجين من قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان
البصيرة، وتَفكَّر عندئذٍ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي، كلما
فُكَّت
السلاسل عن أحدهم وأُجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قُدُمًا
والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا (شديدًا)، ولن يستطيع من خلال
الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل (لو أن ذلك كله حدث له)، فماذا
تحسبه يقول لو أن أحدًا أخبره بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدمًا، وأنه الآن أقرَبُ
إلى
الوجود، وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟
ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يُجيب
عن
سؤاله عمَّا هو هذا الشيء، ألَا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه
من
قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟
– بالطبع.
– وإذا أُجبِر أحد على النظر إلى النور (المنبعث من النار)، ألن تؤلمه عيناه ويتمنَّى
أن
يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير
مما يُعرض الآن عليه؟
– الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف)
ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس، وقد وقف
في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا
مما يُقال له الآن إنه حق؟
– لن يقوى أبدًا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.
– أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك (أي خارج الكهف
في
ضوء الشمس)، إنه سيتمكَّن في أول الأمر (نتيجة لهذا التعود) من النظر في يسرٍ شديد إلى
الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء،
إلى أن يتمكَّنَ أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها (أي الموجودات الحقيقية بدلًا من
انعكاساتها)، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما «يتجلى» منها في قبة
السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلَّع ببصره إلى ضوء
النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟
– لا شك في ذلك.
– أعتقد أنه سيتمكَّن في آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة
في الماء أو حيثما ظهرت فحسب (وسيتمكَّن من النظر) إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها،
وفي الموضع المحدد لها، لكي يتأمَّلها ويتعرَّف طبيعتها.
– من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.
– وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمل القول عنها (أي عن الشمس) فيعرف أنها
هي
التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مر» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في
محيط الرؤية، بل إنها (أي الشمس) هي علة كل ما يجده أولئك (المقيمون في الكهف) على نحو
من الأنحاء حاضرًا أمامهم.
– واضح أنه سيصل إلى هذا (أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها) بعد أن تجاوز ذاك (أي ما
كان
ظلًّا وانعكاسًا فحسب).
– ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر سكنه الأوَّل وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه
والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له، بينما يأسف
لأولئك؟
– أسفًا شديدًا!
– فإذا حددت في المكان القديم (بين من كانوا يقيمون في الكهف) جوائز وألوان معينة
من
التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما
يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد، ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في
المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه (أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة) سيحس
بالشوق إليهم (أي إلى الذين ما يزالون في الكهف) لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع
التكريم والقوة، أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل
غريب فقير»
٦ وسيحتمل كل ما يمكن احتماله ويؤثره على اعتناق الآراء (التي يؤمنون بها في
الكهف) والحياة كما يحبون؟
– أعتقد أنه سيفضِّل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة (التي يحيونها في
الكهف).
قلت: والآن تفكَّر في هذا، لو حدثَ لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه
مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه)، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه
فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.
– فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال،
في
الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان (من الضوء) قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر
الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعود عليه — ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه هناك
للسخرية، وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين،
وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشقَّ الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد
أن
يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، (ألَا تعتقد) أنهم لو استطاعوا أن
يُمسكوا
به ويقتلوه، فسوف يقتلونه حقًّا؟
قال: يقينًا سيفعلون ذلك.
٧
•••
ما معنى هذه الحكاية؟ — إن أفلاطون يتولَّى الجواب بنفسه، فهو يقوم بتفسيرها بعد
الانتهاء من روايتها مباشرة (٥١٧أ، ٨ إلى ٥١٧د، ٧).
المسكن الشبيه بالكهف هو «صورة»، «المقر الذي يتبدى للنظر» (كل يوم)،
٨ والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف
تمثِّل قبة السماء، تحت هذه القبة يعيش البشر، مرتبطين بالأرض ومقيدين بها، وكل ما يُحيط
بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أي الموجود، في هذا المسكن الشبيه بالكهف يجدون
أنهم «في العالم» وأنهم «في بيتهم» ويجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
أمَّا الأشياء التي يسميها «الرمز» وتمكن رؤيتها خارج الكهف فهي صورة ذلك الذي تتقوم
به الموجودية التي يختص بها الموجود، وهذا في رأي أفلاطون هو ما به يتجلى الموجود في
«مظهره»، هذا المظهر لا يعدُّه أفلاطون مجرد «وجه» من وجوهه،
٩ إن «المظهر» في رأيه ينطوي على نوع من «البروز» أو «البزوغ» الذي يجعل كل
شيء «يحضر» أو يمثل أو يقدم نفسه، إن الموجود يتبدَّى أو يتجلَّى في «مظهره».
والمظهر في اللغة اليونانية هو «الأيدوس» أو «الأيديا»،
١٠ والأشياء التي يغمرها ضوء النهار خارج الكهف، حيث يمتدُّ مجال الرؤية الحرة
إلى كل شيء، تصور «المثل» في «الرمز» في صورة عيانية، ولو لم تكن هذه المثل — أي هذه
المظاهر المتنوعة التي تتبدَّى بها الأشياء والكائنات الحية والبشر والأعداد والآلهة
—
نصب عيني الإنسان، لَما أمكنه في رأي أفلاطون أن يُدرك هذا أو ذاك، ويعرف أنه بيت أو
شجرة
أو إله. إن الإنسان يتصوَّر عادةً أنه يرى أمامه هذا البيت وتلك الشجرة وسائر الموجودات،
غير أنه في معظم الأحوال لا يشعر أدنى شعور بأنه لا يرى كل ما يألفه ويعتقد أنه
«الواقع» إلا على ضوء «المثل»، ولكن كل ما يتصور الإنسان أنه وحده هو الواقع، كل ما
يمكن أن يرى مباشرةً ويسمع ويلمس ويقدر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرد انعكاس باهت
للمثل، أي مجرد ظل، هذا الشيء القريب من الإنسان أشد القرب، هذا الذي يبقى ظلًّا على
الرغم من كل شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويقيده في حياته اليومية، إنه يحيا في سجن ويترك
جميع «المثل» وراء ظهره، ولأنه لا يعلم أن هذا السجن سجن، تجده يتصور أن هذا المجال
الذي تدور فيه حياته اليومية تحت قبة السماء هو مجال التجربة والحكم اللذين يحدِّدان
مقياس
جميع الأشياء والعلاقات، ويضعان القاعدة التي يقوم عليها كيانها ونظامها.
لو فكرنا بلغة «الرمز»
١١ وتخيَّلنا الإنسان وقد التفت فجأة إلى النار المشتعلة خلف ظهره في داخل الكهف
— هذه النار التي يعكس لهبها ظلال الأشياء التي تمر هنا وهناك — لَوجدنا أنه سيحس على
الفور بأن هذا التحول غير المعتاد في الرؤية والنظر إنما هو إزعاج للسلوك المألوف والظن
الشائع، بل إن مجرد التفكير في مثل الموقف الغريب الذي يُنتظر من الإنسان أن يتَّخذه
في
داخل الكهف سيرفض رفضًا باتًّا؛ لأنه هناك في الكهف «يعتقد أنه» يمتلك الواقع امتلاكًا
كاملًا واضحًا لا لَبْس فيه، هذا الإنسان الذي يحيا في الكهف متشبِّثًا «برأيه» لن يكون
في وسعه أن يحس أدنى إحساس بأن واقعه قد لا يكون إلا ظِلًّا، وكيف يتسنَّى له أن يعرف
شيئًا عن الظلال إذا كان لا يُريد أن يعرف أي شيء عن النار المشتعلة في الكهف ولا عن
الضوء المنبعث منها، مع أن هذه النار لا تخرج عن كونها نارًا صناعية، ومن المفروض فيها
أن تكون مألوفةً لديه. وعلى العكس من ذلك نور الشمس الساطع خارج الكهف، فهو نور لم «يصنعه»
١٢ الإنسان، إن الكائنات النامية والأشياء الماثلة
١٣ تتجلَّى في نوره الساطع تجليًا مباشرًا دون حاجة إلى تصوُّرها عن طريق الظلال
التي تعكسها، والأشياء التي تتجلَّى بنفسها تُعتبر في الرمز صورة «للمثل»، ولكن الشمس
في
«الرمز» تمثِّل «صورة» ذلك الذي يجعل جميع المثل مرئية، إنها صورة مثال المثل، هذا المثال
يسمِّيه أفلاطون «هي توأجاثو» ويُترجَم عادةً ترجمة حرفية لا تخلو من سوء فهم ﺑ «مثال
الخير».
١٤
هذه الأنواع المختلفة من التطابق التي حصرناها الآن بين الظلال والواقع الذي يجرِّبه
الإنسان كل يوم، بين انعكاس ضوء النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب
المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس وأعلى المثل (هذه الأنواع
المختلفة من التطابق) لا تستنفد مضمون «الرمز»، أجل! إننا لم نتوصَّلْ بعد إلى أخص ما
يخص
هذا الرمز، ذلك لأنه يروي لنا أحداثًا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها
الإنسان والمواقع التي يشغلها داخل الكهف وخارجه، ولكن الأحداث التي يعرضها علينا هي
في
الواقع مراحل انتقال من الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى
الكهف.
ماذا يحدث في مراحل الانتقال هذه؟ ما الذي يجعلها ممكنة؟ مِمَّ تستمد ضرورتها؟ ما
هي
أهميتها؟
إن الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار والعودة من هناك مرة أخرى يتطلَّب من الأعين
أن
تُغيِّر ما اعتادت عليه فتتحوَّل من الظلام إلى النور ثم من النور إلى الظلام، ستعاني
الأعين
في كل مرة من الحيرة والارتباك وستكون معاناتها لسببين مختلفين كل الاختلاف: «ستحسُّ
الأعين بنوعين من الحيرة والارتباك؛ وذلك لسببين مختلفين».
١٥
معنى هذا أن الإنسان يمكن أن ينتقل من جهل لا يكاد ينتبه له، إلى حيث يتجلَّى له
الموجود في صورة أكثر ماهوية،
١٦ وإن لم ينضج بعدُ ولم يتهيَّأ لمثل هذا الموجود، وقد يمكنه من ناحية أخرى أن
ينتزع من موقف المعرفة الماهوية (الأساسية) الذي وصل إليه فيلقي به في مجال يتحكَّم فيه
الواقع الشائع المعتاد، دون أن يكون على استعداد للاعتراف بأن ما يألفه ويباشره في هذا
المجال هو الواقع، وكما يتحتَّم على العين الجسدية أن تُثابر على تغيير عاداتها في بطء
ودأب، سواء أرادت أن تتعود على النور الساطع أو على الظلام الدامس، كذلك يتحتَّم على
النفس أيضًا أن تأخذ نفسها بالصبر والتأني حتى تتعوَّد على مجال الموجود الذي تُواجهه
وتتعرَّض له، غير أن مثل هذا التعود يتطلَّب أوَّلًا من النفس أن تتحول بكليتها نحو الاتجاه
الأساسي الذي تنزع إليه، شأنها في هذا شأن العين التي لا يُمكنها أن ترى الرؤية الصحيحة
الشاملة إلا إذا سبق للجسم كله اتخاذ الوضع الملائم لذلك.
لكن لم يتطلب التعود على هذا المجال أو ذاك كل هذا الدأب والصبر والأناة؟ لأن التحول
(في الاتجاه) يمس وجود الإنسان، ولهذا يتمُّ في صميم كيانه (ماهيته)،
١٧ معنى هذا أن الموقف الأساسي
١٨ الذي ينبغي أن ينشأ عن تحول في الاتجاه، لا بد أن ينبثق من علاقة تحمل
الكائن الإنساني
١٩ بالفعل وتتطور إلى مسلك ثابت، هذا التحول والتغيُّر الذي يؤدي إلى تعود
الكائن الإنساني على المجال الذي يوجه إليه هو الذي يؤلف ماهية ذلك الذي يُطلِق عليه
أفلاطون اسم «البايديا»،
٢٠ وليس من سبيل إلى ترجمة هذه الكلمة، «فالبايديا» — بحسب تحديد أفلاطون
لماهيتها — هي «التمهيد لتحول اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،
٢١ ولهذا فإن «البايديا» في ماهيتها انتقال، وهذا الانتقال يتم من «الأبايدويزيا»
٢٢ إلى «البايديا»، وتبقى «الباديديا» — طبقًا لطابع الانتقال هذا — على علاقة
مستمرة «بالأبايدويزيا»، ولعل أنسب كلمة ألمانية يمكن أن تُقابل الاسم اليوناني
«بايديا» هي كلمة «التكوين»
٢٣ وإن كانت في الواقع لا تفي به وفاءً تامًّا، ويجب علينا بطبيعة الحال أن
نرد للكلمة الأخيرة طاقتها التعبيرية الأصلية وأن ننسى ما لحق بها في أواخر القرن
التاسع عشر من سوء التأويل، إن «التكوين» يدل على معنيين: فهو من ناحية تكوين بمعنى
الصياغة أو التشكيل (الذي يصوغ مادة الشيء ويظهره)،
٢٤ ولكن هذا «التكوين» «يكون» (أو يشكل ويصوغ) في نفس الوقت تبعًا لمطابقة
مسبقة مع صورة أولية معتمدة عليها، تُسَمَّى لهذا السبب نموذجًا،
٢٥ إن «التكوين» تشكيل وصياغة، وهو بالإضافة إلى هذا مدخل إلى صورة معينة،
والماهية المضادة «للبايديا» هي «الأبايدويزيا» أي الافتقار إلى التكوين (التشكيل
والصياغة) أو نقصه وعدمه، وهذا النقص في التكوين لا يتفتح فيه الموقف الأساسي، ولا يوضح
فيه النموذج الذي يمكن الاعتماد عليه.
إن مكمن القوة في دلالة «رمز الكهف» هو أنه يحاول عن طريق الصورة القصصية الحية أن
يجعل ماهية «البايديا» (شيئًا) تمكن رؤيته ومعرفته، وفي الوقت نفسه نجد أفلاطون يحاول
أن يعصم ماهية «البايديا» من أن تتحول إلى مجرد معلومات تفرغ في النفس التي لم تتهيأ
لها كما لو كانت وعاءً فارغًا ينتظر مَن يملؤه، فالواقع أن «التكوين» الأصيل يستولي على
النفس ذاتها ويحولها بكليتها، وذلك حين يمهد لهذا بوضع الإنسان في مكانه الماهوي
(الأساسي) ويعوده عليه، والعبارة التي يفتتح بها أفلاطون حكاية الكهف في بداية الباب
السابع من الجمهورية تبيِّن بوضوح كافٍ أن الهدف من «الرمز» هو تصوير ماهية «البايديا»:
«عليك بعد هذا أن تكون لنفسك من التجربة (التي سيقدمها فيما بعد) نظرة في (ماهية)
«التكوين» و«عدم التكوين»؛ إذ إنهما أمران (مرتبطان) متصلان بصميم وجودنا الإنساني».
٢٦
إن «رمز الكهف» — كما تقول عبارة أفلاطون بوضوح — بصور ماهية «التكوين»، ولكن هذا
التفسير الذي نحاول تقديمه للرمز يهدف على العكس من ذلك إلى بيان «نظرية» أفلاطون عن
الحقيقة، ألا نحمل «الرمز» عن طريق هذه المحاولة بشيء غريب عليه؟ إن التفسير (في هذه
الحالة) مهدد بالانحراف إلى نوع من التأويل المغتصب، ربما يبدو هذا في الظاهر، إلى أن
يثبت الرأي القائل بأن تفكير أفلاطون يخضع لتحوُّل (تم في مفهوم) ماهية الحقيقة، بحيث
أصبح هذا التحوُّل هو القانون الخفي الذي يعتمد عليه ما يقوله (هذا) المفكر، هذا التفسير
الذي فرضته محنة متأخرة يذهب إلى أن «الرمز» لا يقتصر على تصوير ماهية «التكوين» في
صورة (حية ملموسة)، بل يُضيف إلى ذلك أنه في نفس الوقت يوسع أفق البصر لكي ينفتح على
التحول الذي تم في ماهية الحقيقة، وإذا كان الرمز قادرًا على توضيح هذين الأمرين، ألا
يستلزم هذا أن تكون هناك علاقة ماهوية (أساسية) تجمع بين «التكوين» و«الحقيقة»، الواقع
أن هذه العلاقة قائمة، وهي تكمن في أن ماهية الحقيقة وأسلوب التحوُّل (في مفهومها) هما
اللذان يجعلان «التكوين» من ناحية بنيته الأساسية أمرًا ممكنًا.
ولكن ما الذي يجمع بين «التكوين» و«الحقيقة» في وحدة ماهوية (أساسية) أصيلة؟
إن «البايدايا» تدل على تحول الإنسان بكليته، بمعنى أن يخرج من دائرة الأشياء
المألوفة التي يواجهها في حياته ويتعود على وضعه الجديد في دائرة أو مجال آخر يظهر فيه
الموجود نفسه، ولا يُصبح هذا الوضع ممكنًا حتى يتغير كل ما كان واضحًا أو متكشفًا
بالنسبة للإنسان ويتغير كذلك أسلوب وضوحه وتكشفه، لا بد أن يتحول هذا الذي يعتبر في نظر
الإنسان لامحتجبًا كما يتحول أسلوب لا تحجبه،
٢٧ واللاتحجب يُسَمَّى في اليونانية «أليثيا»،
٢٨ وهي كلمة تُترجَم عادةً «بالحقيقة»، وقد ظل معنى «الحقيقة» في نظر الفكر
الغربي منذ عهد قديم هو تطابق
٢٩ التصور الفكري مع الموضوع، تطابق العقل مع الشيء.
٣٠
لو حاولنا مع ذلك أن تتخلَّى عن ترجمة كلمتي «بايدايا» و«أليثيا» ترجمة حرفية، وحاولنا
بدلًا من ذلك أن نفكِّر في الماهية الموضوعية التي تنطوي عليها الكلمتان اللتان نجتهد
في
ترجمتهما من خلال المعرفة اليونانية،
٣١ لَوجدنا على الفور أن «التكوين» و«الحقيقة» يلتقيان في وَحْدة ماهوية واحدة،
ولو أخذنا ماهية ذلك الذي تسميه كلمة «أليثيا» مأخذ الجد لوجدنا هذا السؤال يطرح نفسه:
من أين يستمد أفلاطون تحديده لماهية اللاتحجُّب؟ إن كل محاولة للإجابة على هذا السؤال
نفسه مضطرة للرجوع إلى المضمون الحقيقي «لرمز الكهف»، وسوف تبين أن «الرمز» يتناول
ماهية الحقيقة كما تبين طريقة تناوله له.
إننا بالكلام عن المتحجِّب وتحجُّبه إنما نصف ذلك الموجود الحاضر
٣٢ في كل مجال من المجالات التي يقيم فيها الإنسان، ولكن «الرمز» يحكي قصة
الانتقال من مكان إقامة إلى آخر، ومن هنا تنقسم هذه الحكاية إلى مجموعة من الأماكن
المختلفة (التي يقيم فيها السجناء) وتتسلسل صعودًا وهبوطًا على نحو عجيب، وتقوم الفروق
المختلفة بين أماكن الإقامة كما تقوم مستويات الانتقال (من مرحلة إلى أخرى) على
الاختلاف في معنى الأليثيس
٣٣ المأخوذ به كمقياس ملزم، وعلى نوع الحقيقة السائد في كل مرحلة؛ لهذا ينبغي
أن نفكِّر في مفهوم «الأليثيس»، أو اللاتحجب، ونحدِّد أوصافه عند كل مستوى.
في المستوى الأول يحيا البشر في الكهف مقيدين بالسلاسل والأغلال، أسارى ما يلتقون
به
لقاءً مباشرًا، ويختم أفلاطون وصفه لهذا المكان الذي يُقيم فيه البشر بهذه العبارة
الجازمة: «إن السجناء المغلولين على هذه الصورة لن يعتقدوا على الإطلاق أن ثمة ما هو
غير
محجَّب سوى ظلال الأدوات.»
٣٤ (٥١٥ج، ١-٢).
وفي المستوى الثاني يحدِّثنا «الرمز» عن الخلاص من القيود والأغلال، لقد توصَّل السجناء
إلى شيء من الحرية، ولكنهم ما زالوا محبوسين داخل الكهف، إنهم يستطيعون الآن أن يتلفَّتوا
برءوسهم ويحرِّكوا أجسامهم في كل اتجاه، أصبح في إمكانهم أن يرَوْا بأنفسِهم الأشياء
التي
كانت تمرُّ خلف ظهورهم ويحملها العابرون في أيديهم، وصار أولئك الذين لم يكونوا يُبصرون
إلا الضلال والأشباح «أكثر اقترابًا من الموجود»
٣٥ (٥١٥د، ٢)، أخذت الأشياء نفسها تعرض منظرها بشكل من الأشكال، أي على ضوء
النار الصناعية المشتعلة داخل الكهف، ولم تعد الظلال تُخفيها كما كانت تفعل من قبل، فإذا
اتفق للأعيُن أن تقعَ على الظلال، غشيت هذه الظلال على البصر وحجبت عنه رؤية الأشياء
نفسها، ولكن ما إن يتخلص البصر من أسر الظلال حتى يتمكَّن الإنسان الذي تحرَّر هذا التحرر
من الوصول إلى دائرة ذلك الذي يصفه «الرمز» بأنه «أليثيسترا»
٣٦ (٥١٥د، ٦) أي أكثر تكشُّفًا أو لاتحجُّبًا، ومع ذلك فلا بد من أن يقالَ عمَّن
تحرَّر على هذه الصورة أنه «سيعتبر أن ما رآه من قبل (أي الظلال) أكثر تكشفًا (أو لاتحجبًا)
مما يظهر له الآن»
٣٧ (نفس الموضع من الجمهورية).
ما السبب في هذا؟
إن الضوء الذي تعكسه النار يَعشَى عينَيِ السجين المتحرِّر الذي لم يتعوَّد عليه،
هذا العشى
يحول بينه وبين رؤية النار نفسها كما يمنعه من أن يدرك كيف ينعكس نورها على الأشياء
فيُتيح لهذه الأشياء أن تظهر؛ ولهذا لا يستطيع هذا الشيء عَشِي الضوء بصره أن يفطن إلى
أن
ما كان يراه من قبلُ لم يكن سوى ظلال الأشياء التي انعكست على ضوء هذه النار ذاتها، صحيح
أن السجين الذي تحرَّر سيرى أشياء أخرى غير الظلال، ولكن كل ما يراه سيختلط عليه اختلاطًا
شديدًا، وإذا قارن بين هذا الخلط المضطرب وبين ما كان يراه من ظلال منعكسة على ضوء
النار التي لم يكن يعرفها أو يُبصرها، تبيَّن له أن هذه الظلال كانت ذات معالم ثابتة
محددة؛ ولهذا فلا غرابة في أن يبدو هذا الجانب الظاهر الثابت من الظلال في نظر السجين
المتحرِّر «أكثر لاتحجبًا أو تكشُّفًا»؛ لأنه كان يراه واضحًا لا اختلاط فيه، من أجل
هذا
نجد كلمة «أليثيس»
٣٨ تتكرر في نهاية العرض الذي يقدِّمه رمز «الكهف» عن المستوى الثاني، وإن كانت
تأتي في صيغة التفضيل «أليثيسترا» (الأكثر لاتحجبًا)، إن الحقيقة على الأصالة تكمن
(في نظر هذا السجين المتحرر) في الظلال، فهو على الرغم من تخلُّصه من الأغلال لا يزال
يُسيء تقدير مفهوم «الحق» ووضعه؛ لأنه لا يزال يفتقر إلى الأساس الذي ينبني عليه
«التقدير»، ألا وهو الحرية، صحيح أن الخلاص من الأغلال يحرِّره بعض التحرر، ولكن هذا
الخلاص لم يصل به بعد إلى الحرية الحقيقية.
ويصل السجين المتحرِّر من الأغلال إلى هذه الحرية الحقيقة عندما يبلغ المستوى الثالث،
فهنا يكون هذا السجين الذي تحرَّر من أغلاله قد انطلق إلى خارج الكهف حيث «الحرية
الرحيبة»، هناك يتضح كل شيء وينفتح في ضوء النهار، إن منظر الأشياء على ما هي عليه لا
يظهر له الآن كما كان الحال من قبل في داخل الكهف عندما كانت مجرد انعكاس لضوء النار
الصناعية التي سببت له الخلط والاضطراب، إن الأشياء نفسها تظهر له الآن بكل ما يكتنف
منظرها الخاص من إلزام والتزام، والحرية التي أصبح المتحرِّر يجد نفسه فيها ليست مجرد
فضاء رحب لا تحدُّه الحدود، وإنما هي الإلزام الذي يفرضه نورٌ ساطع يشعُّ من الشمس التي
يراها في نفس الوقت، والمناظر التي تُبدي الأشياء على ما هي عليه، أي الأيدية
٣٩ (أو المثل)، هي التي تكون الماهية التي يتجلَّى هذا الموجود المفرد أو ذاك
على ضوئها، وفي هذا التجلِّي يمكن أن يتكشف
٤٠ هذا الذي يظهر كما يمكن أن يصبح ميسرًا (للنظر).
ويتحدد هذا المستوى (الذي يقيم فيه السجين المتحرر) مرة أخرى على أساس اللامحتجب
الذي يتكون له هنا صفة المقياس الحقيقي الملزم؛ ولهذا يسارع أفلاطون في بداية عرضه
للمستوى الثالث بالكلام عن ذلك «الذي يقال عنه الآن أنه لامحتجب»
٤١ (الجمهورية، ٥١٦أ، ٣) هذا اللامحتحب (يصفه أفلاطون) بأنه «أليثيستيرون» أي
الأكثر لاتحجُّبًا (تكشُّفًا) من الأشياء التي كانت تظهر على الضوء الصناعي في داخل الكهف،
كما كانت مختلفةً عن الظلال، إن اللامحتجب الذي بلغه (السجين المتحرِّر) في هذه المرحلة
هو
«الأشدُّ لاتحجبًا» (تا أليثيستاتا)،
٤٢ صحيح أن أفلاطون لا يستخدم الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع من حديثه، ولكنه
يذكر «الأشد لاتحجبًا» (توأليثياتون)
٤٣ في سياق الشرح الهام المماثل في بداية الباب السادس من الجمهورية، فنحن
نراه في هذا الموضع الأخير (٤٧٤ﺟ، ٥ وما بعدها) يذكر أولئك «الذين يتطلَّعون إلى الأشد
لاتحجبًا»
٤٤ (أو أعظم الأشياء تكشُّفًا)، وهكذا الأشد لاتحجبًا يتجلَّى أو يظهر فيما يكون
عليه الموجود، وبغير هذا التجلِّي أو الظهور لمائية
٤٥ (المثل) لأمكن أن يبقى هذا (الموجود) وذاك وكل شيء على الإطلاق متحجبًا
مخفيًّا، ويوصف «الأشد لاتحجبًا» بهذا الوصف لأنه يظهر بصورة مسبقة في كل ما هو ظاهر،
كما ييسر هذا الظاهر (أو يجعله في متناول النظر).
ولكن إذا كان تحول البصر — في داخل الكهف نفسه — من الظلال إلى النار والأشياء التي
تظهر على ضوئها؛ أمرًا عسيرًا بل محكومًا عليه بالإخفاق، فلا بد أن يتطلَّب التحرر في
«المكان» الحر الرحيب خارج الكهف غاية الصبر والجهد، إن التحرُّر لا يأتي نتيجة الخلاص
من
الأغلال ولا هو مجرد انفلات من القيود، وإنما يبدأ بالتعود المتصل على تثبيت النظر على
المعالم المحددة
٤٦ للأشياء ذات المنظر المحدَّد الثابت، التحرُّر الحقيقي هو مداومة التحوُّل نحو ما
يظهر في منظره ويكون لدى ظهوره هو الأشد لاتحجُّبًا (تكشُّفًا)، ولا وجود للحرية إلا
في مثل هذا التحوُّل، ولكن هذا التحول لن تحققه إلا ماهية «البايدايا» من حيث هي تحوُّل،
ومِنْ ثَمَّ فإن اكتمال ماهية «التكوين» لا يمكن أن يتمَّ إلا في مجال «الأكثر لاتحجُّبًا»
وعلى أساسه، أي في مجال «الأليثيستاتون»، أي الأكثر حقيقة، أي الحقيقة
الخالصة، إن ماهية «التكوين» تقوم على أساس ماهية «الحقيقة»، ولما كانت ماهية
«البايدايا» تكمن في التمهيد «لتحويل اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،
٤٧ فإنها تظل بهذا الاعتبار
٤٨ تجاوزًا مستمرًّا للأبايدويزيا،
٤٩ إن البايدايا تحمل في ذاتها العلاقة الأساسية التي ترجع بها
٥٠ إلى نقص التكوين، وإذا كان على رمز الكهف، كما يفسِّره أفلاطون نفسه، أن يصوِّر
ماهية «البايدايا» (في صورة حية ملموسة) فلا بد أن يتَّجه هذا التصوير أيضًا إلى توضيح
هذه النقطة الجوهرية وهي التجاوُز المستمر لنقص التكوين؛ ولهذا لا تنتهي القصة التي
يحكيها «الرمز» بالنهاية التي يحلو للبعض أن يتخيلوها، أي بوصف أعلى مستوى يصل إليه
السجين المتحرِّر وهو الخروج من الكهف، إن العكس من هذا هو الصحيح، فهبوط السجين المتحرر
إلى الكهف ورجوعه إلى زملائه الذين لا يزالون مقيدين بالأغلال؛ جزءٌ متمم للحكاية التي
يرويها «الرمز»، إن السجين المتحرِّر يرى الآن من واجبه أيضًا أن يحول (عيون) هؤلاء عما
يبدو لهم لامحتجبًا لكي يرتفع بهم إلى الأكثر لاتحجُّبًا، غير أن السجين المتحرِّر لا
يستقيم له الأمر في داخل الكهف، إنه يتعرَّض لخطر الوقوع تحت سيطرة الحقيقة السائدة هناك،
أي لخطر الوقوع في قبضة «الواقع» الشائع المألوف الذي يعد (في نظرهم) هو الواقع الوحيد،
بل إن السجين لَيشعر بأنه مهدَّد باحتمال قتله، وهو احتمال تحول إلى واقع، كما نعرف من
قدر
سقراط الذي «عَلَّمَ» أفلاطون.
إن الهبوط إلى الكهف، والصراع الذي يدور في داخله بين المحرر وبين السجناء الذين
يقاومون كل تحرر، يكونان المستوى الرابع الذي يكتمل به «الرمز»، صحيح أن كلمة «أليثيس»
لا ترد في هذا الجزء من الحكاية، ولكنها لن تستغني في هذا المستوى (الأخير) عن التعرُّض
للامحتجب الذي يحدِّد مجال الكهف الذي يعود السجين المتحرر لزيارته، ولكن ألم تسبق تسمية
«اللامحتجب» الذي كان يسود الكهف
٥١ في المستوى الأوَّل؟ ألم يكن اسمه عندئذٍ هو «الظلال»؟ لا شك في هذا، غير
أن دور اللامحتجب لا يقتصر على جعل الظاهر بأي شكل من الأشكال ميسرًا
٥٢ ومفتوحًا في ظهوره، وإنما يقوم اللامحتجب دائمًا بتجاوز تحجب المتحجب، إن
من الضروري أن ينتزع اللامحتجب (من ثنايا) التحجب، أن يسلب بمعنى من المعاني من هذا
التحجب.
ولما كان الأصل في اللاتحجُّب عند اليونان أنه يتغلغل
٥٣ في ماهية الوجود وبذلك يحدِّد الموجود من جهة حضوره
٥٤ وييسِّره
٥٥ (حقيقته)، فإن الكلمة التي يستخدمها اليونان للدلالة على ما كان الرومان
يسمُّونه «الصدق»
٥٦ ونسمِّيه نحن «الحقيقة» تتميز بأنها تبدأ بالحرف
a الذي يدل على السلب «أليثيا»،
٥٧ إن الأصل في الحقيقة أنها تدل على ما يُنتزع من التحجُّب والخفاء، والحقيقة من
حيث هي هذا الانتزاع تكون في كل مرة على هيئة كشف أو انكشاف،
٥٨ وقد يكون التحجُّب على أنحاء مختلفة: فهو غلق، أو حفظ، أو ستر، أو تغطية، أو
تقنع، أو تنكر، ولما كان من المحتم، في «رمز» أفلاطون، أن ينتزع أعلى أنواع اللاتحجُّب
انتزاعًا من (ثنايا) حجب (أو خفاء) دنيء وعنيد، فمن الطبيعي أيضًا أن يكون تخليص
(السجين) من الكهف ووضعه في (مجال) الحرية التي يغمرها ضوء النهار صراعَ حياة أو موت،
والمستوى الرابع من مستويات «الرمز» يُشير إشارة لماحة إلى أن «السلب»، أو الكفاح في
سبيل انتزاع اللامحتجب، مرتبط بماهية الحقيقة، ولهذا نجد أن هذا المستوى يتناول كذلك
(مسألة) «الأليثيا»، شأنه في هذا شأن المستويات الثلاثة المتقدمة عليه.
مهما يكن الأمر فإن هذا «الرمز» لم يكن ليقوم على صورة الكهف إلا لأن التجربة
الأساسية التي كانت بديهية عند اليونان، ألا وهي تجربة «الأليثيا» أو لاتحجب الموجود،
قد عملت من قبل على تحديد طبيعته، إذ ماذا عسى أن يكون الكهف العميق في باطن الأرض إن
لم يكن شيئًا مفتوحًا وتحوطه الجدران من كل جانب فتعزله عن الأرض على الرغم من فتحة
المدخل الذي يؤدي إليه؟ إن انغلاق
٥٩ الكهف — المفتوح في ذاته — وما يتسبَّب في تغيير وضعه ومِنْ ثَمَّ في حجبه،
إنما تُشير كلها في نفس الوقت إلى ما يقع خارجه، أي اللامحتجب الذي ينفسح في ضوء النهار،
وإن ماهية الحقيقة التي فكَّر فيها اليونان في الأصل بمعنى «الأليثيا»، أي اللاتحجب
المرتبط بالمتحجب (المنكر والمقنع)، «هذه الحقيقة» وحدها ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بصورة
الكهف القائم تحت الأرض بعيدًا عن ضوء النهار، ولو كان للحقيقة ماهية أخرى غير اللاتحجب
أو لو تحددت على أقل تقدير بشيء آخر غيره لَما كان «لرمز الكهف» أية قيمة تصويرية أو
تعبيرية.
ومع أن «الأليثيا» قد تكون موضوع تجربة أصيلة في «رمز الكهف» وقد تذكر وتؤكد في مواضع
بارزة (من النص)، فإن ثمة ماهيةً أخرى للحقيقة تحتل مكان الصدارة بدلًا من اللاتحجب،
وهذا في الواقع إنما يدل ضمنًا على أن اللاتحجب أيضًا لا يزال يحتفظ بمكانه.
إن تصوير الرمز والتفسير الخاص الذي يقدمه أفلاطون له يكادان يسلمان بأن الكهف السفلي
وما يقع خارجه هما المجال الذي تتم الأحداث المروية في إطاره، ولعل أهم هذه الأحداث هي
مراحل الانتقال التي يحكيها «الرمز» والصعود من دائرة النار الصناعية إلى إشراق الشمس
الساطعة، ثم الهبوط مرة أخرى من منبع النور كله إلى ظلام الكهف، ولا تأتي قوة التعبير
والتصوير في «رمز الكهف» من صورة الانغلاق التي يوحي بها القبو السفلي والبقاء في أسر
الانغلاق، ولا من رؤية (الأفق) المفتوح خارج الكهف، فالواقع أن مكمن القوة في تفسير
أفلاطون وتصويره «للرمز» يتركز في الدور الذي تقوم به النار، والضوء المنعكس منها،
والظلال، ونور النهار الساطع، وضوء الشمس والشمس ذاتها، إن كل شيء فيه يعتمد على ظهور
الظاهر والتمكين من رؤيته،
٦٠ حقًّا أن اللاتحجب يرد ذكره «أثناء الكلام عن» المستويات المختلفة، ولكن
التفكير فيه ينصبُّ على طريقته في تيسير تجلِّي الظاهر في منظره (أيدوس)
٦١ والتمكين لهذا الظاهر المتجلِّي بنفسه (الأيدايا)
٦٢ من أن يصبح قابلًا للرؤية، بل إن التأمل الحقيقي ينصبُّ على ظهور المنظر الذي
يكفله الضوء الساطع، هذا المنظر هو الذي يسمح بالتطلُّع إلى كينونة كل موجود،
٦٣ فالتأمل الحقيقي إذن ينصبُّ على «الأيدايا»، وهذا (أي الأيدايا أو المثال) هو
المنظر الذي يُتيح التطلُّع إلى الموجود (الكائن الحاضر)، «الأيدايا» هو الظهور الخالص
بالمعنى الذي نقصده عندما نقول «إن الشمس تظهر»، إن «المثال»
٦٤ لا يسمح «بظهور» شيء آخر (وراءه)، إن هو ذاته الظاهر الذي لا يعنيه إلا
إظهار نفسه، «الأيدايا» هو الظاهر (المتبدِّي)، وماهية المثال تكمن في قابليته لأن يظهر
ويرى، هذه (القابلية للظهور والرؤية) هي التي تحقِّق الحضور (الكينونة) أي حضور ما يكون
عليه الموجود، في «ما-ئية»
٦٥ الموجود يحضر
٦٦ هذا في كل حالة معينة؛ ولهذا فإن الماهية الحقيقية للوجود تكمن في نظر
أفلاطون في «الما-ئية»، وحتى التسمية المتأخرة تشي بان «الما-ئية» (في اللغة اللاتينية)
٦٧ هي الكينونة
٦٨ الحقَّة، أي هي الماهية
٦٩ وليست هي الموجود،
٧٠ وما يقدمه المثال (بهذه الطريقة) للرؤية ويجعله مُتاحًا لها هو بالنسبة
للنظر المتجه إليه لا تحجب (تكشف) الكينونة (أو المائية) التي يظهر بها، بهذا يفهم
اللامتحجب فهمًا أوليًّا مسبقًا ووحيدًا باعتباره ذلك المدرك أثناء إدراك «الأيدايا»،
٧١ والمعروف
٧٢ من خلال المعرفة،
٧٣ إن التعقل (نوآين)
٧٤ والعقل (نوس)
٧٥ أو (الإدراك) يكتسبان في هذه الصياغة الأفلاطونية علاقتهما الأساسية
«بالمثال»، والتهيُّؤ لهذا التوجُّه إلى المثل هو الذي يحدِّد ماهية الإدراك وبالتالي
ماهية
«العقل».
إن «اللاتحجُّب» يُقصَد به (ذلك) اللامتحجب الذي ييسِّر باستمرارٍ طريق ظهور المثال،
ولما
كان هذا التيسير يتحقَّق بالضرورة من خلال «رؤية» أو «نظر»، فلا بد أن يدخل اللاتحجب
في
«علاقة» مع الرؤية، وأن يكون «متضايفًا» معها؛ ولهذا نجد أفلاطون يطرح هذا السؤال في
ختام الباب السادس من الجمهورية: ما الذي يجمع بين المرئي والرؤية في علاقتهما بعضهما
ببعض؟ ما طبيعة العلاقة المتشابكة بينهما؟ أي نير
٧٦ (زيجون، الجموهرية ٥٠٨أ، ١) يربطهما؟
إن الإجابة التي يوضحها «رمز الكهف» تتم على هذه الصورة: إن الشمس، وهي منبع النور،
تجعل المرئي قابلًا للرؤية، ولكن البصر لا يرى المرئي إلا بقدر ما تكون العين مشمسة
(هيلو أيديس)،
٧٧ أي بقدر ما تكون لديه القدرة على الانتماء لماهية الشمس، أي لظهورها،
والعين ذاتها «تستنير» وتهب نفسها لظهور (الشمس)، وبهذا يمكنها أن تستقبل ما يظهر وأن
تُدركه، هذه الصورة تدل من الناحية الموضوعية على فكرة متسقة يعبِّر عنها أفلاطون على
هذا
النحو: «وإذن فهذا الذي يتيح للمعروف أن يتكشف (لا يتحجب)، كما يهب العارف القدرة (على
المعرفة)، هو ما يمكنك أن تقول عنه إن مثال الخير.»
٧٨ (الجمهورية، الباب السادس، ٥٠٨ﻫ، ١ وما بعدها).
يصف «الرمز» الشمس بأنها صورة لمثال الخير، ما هي ماهية هذا المثال؟ باعتبار الخير
مثالًا (أيدايا)
٧٩ فهو الظاهر، وهو — بهذا الاعتبار أيضًا — واهب الرؤية، وهو المرئي ومِنْ
ثَمَّ القابل للمعرفة: «إن مثال الخير، في مجال المعرفة، هو الذي يحقِّق كل ظهور، ولهذا
أيضًا فهو في نهاية الأمر الرؤية المرئية، ولذلك فمن شأنه أنه لا يكاد يُرى (إلا بالجهد
الجهيد).» (الجمهورية، ٥١٧ب، ٧)، وتُترجم كلمة «تو أجاثون»
٨٠ بتعبير يبدو مفهومًا في ظاهره وهو «الخير»، وأغلب من يستخدمون هذا التعبير
يخطر على بالهم معنى «الخير الأخلاقي» الذي يوصف بهذه الصفة؛ لأنه يتفق مع القانون
الأخلاقي، ولكن هذا المعنى يحيد عن الفكر اليوناني، وإن كان تفسير أفلاطون نفسه «للأجاثون»
٨١ بأنه مثال هو الذي أوحى بالتفكير في «الخير» تفكيرًا أخلاقيًّا كما جعل
المتأخرين يسيئون تقديره فيجعلونه «قيمة»، إن فكرة القيمة التي نشأت في القرن التاسع
عشر وترتبت على المفهوم الحديث «للحقيقة» هي آخر خلف «للأجاثون» وأضعفه، وبقدر ما
تتغلغل «القيمة» والتفسير من خلال «القيم» في ميتافيزيقا نيتشه على هذه الصورة المطلقة
التي عبَّر عنها بعبارته المعروفة «قلب جميع القيم»، بقدر ما يمكننا أن نعد نيتشه نفسه
—
الذي غابت عنه كل معرفة بالأصل الميتافيزيقي «للقيمة» — أشد الأفلاطونيين تطرُّفًا عبر
تاريخ الميتافيزيقا الغربية، والسبب في هذا أن نيتشه قد اعتبر أن القيمة هي الشرط الذي
وضعتْه «الحياة نفسها» لإمكان «الحياة»، وبهذا فهم ماهية «الأجاثون» فهمًا بعيدًا عن
كل
تحيُّز أو حكم مسبق وقع فيه أولئك الذين يلهثون وراء المسخ الذي يسمونه «القيم الصادقة
في ذاتها».
ولو شئنا أن نفكر في ماهية «المثال» من وجهة النظر الحديثة واعتبرناه «إدراكًا»
٨٢ (أي تصوُّرًا ذاتيًّا) لَوجدنا في «مثال الخير أو فكرته» … «قيمة» معينة في
ذاتها، لها بالإضافة إلى ذلك «فكرة» أو «مثال»، وهذا المثال يستلزم بطبيعة الحال أن
يكون أعلى المثل؛ لأن كل شيء (في الحياة) يتوقَّف على اتِّباع الخير (للصالح العام أو
لتوطيد دعائم النظام)، وطبيعي أن يضيع كل أثر للماهية الأصلية «لمثال الخير»
٨٣ الأفلاطوني في إطار هذا التفكير الحديث.
يدل «التو أجاثون»
٨٤ (الخير) في المفهوم اليوناني على ما يصلح لشيء أو يمنح غيره الصلاحية، وكل «أيدايا»
٨٥ (مثال)، أو منظر شيء ما، هو الذي يسمح برؤية ما يكون عليه (أو كينونة)
موجود ما، وعلى هذا فإن «المثل» هي التي تجعل الشيء صالحًا لأن يظهر على ما هو عليه
٨٦ وبهذا يمكن أن يكون له كيان.
٨٧ إن المثل هي موجودية كل موجود؛ ومِنْ ثَمَّ فإن ذلك الذي يجعل كل مثال
صالحًا لأن يكون مثال المثل على حد تعبير أفلاطون، هو الذي يمكن لظهور كل ما هو كائن
في
كل ما يتبدَّى منه للنظر.
فماهية المثال تكمن في أنه هو علة إمكان الظهور والصلاحية له، وهذا الظهور هو الذي
يكفل رؤية «الموجود» في منظره (الذي يبدو عليه)، ومن أجل هذا كان مثال المثل هو واهب
الصلاحية على الإطلاق، أي «تو أجاثون»، وهذا الأخير هو الذي يُتيح الظهور لكل ما يظهر؛
ولهذا كان هو نفسه الظاهر بحق، أي أشد «الموجودات» ظهورًا، ولهذا أيضًا فإن أفلاطون
يُسَمِّي «الأجاثون»: أشد الموجودات ظهورًا،
٨٨ (الجمهورية، ٥١٨ﺟ، ٩).
إن تعبير «مثال الخير» الذي يعد تعبيرًا مضلِّلًا للرأي الحديث
٨٩ أشد التضليل، هو الاسم الذي يُطلقه أفلاطون على ذلك المثال المتميز، الذي
يظل — باعتباره مثال المثل — هو واهب الصلاحية لكل شيء، هذا المثال، الذي يمكنه وحده
أن
يُسمَّى «الخير»، يبقى «المثال الكامل أو الأعلى» (أيدايا تيلويتايا)
٩٠ لأن ماهية المثال تتحقَّق فيه، أي تبدأ كينونتها، بحيث يصدر عنه إمكان جميع
المثل الأخرى، ويجوز أن يوصف الخير بأنه «أعلى المثل» من جهتين: فهو من جهة أعلى المثل
من حيث رتبته في التمكين،
٩١ كما أن التطلع إليه يعد من جهة أخرى (أشد أنواع التطلع) وعورة ومِنْ ثَمَّ
أحوجها للجهد والعناء، وعلى الرغم من عناء الإدراك
٩٢ الحقيقي ومشقته، فإن المثال الذي يتحتم بحسب ماهية المثال ووفق المفهوم
اليوناني له أن يُسَمَّى «الخير»، يظل بمعنى من المعاني وبصورة دائمة في مرمى النظر،
وذلك حيثما تجلَّى أي موجود على الإطلاق أو ظهر، وحتى عندما ترى الظلال التي لا تزال
ماهيتها خافية محجوبة،
٩٣ فلا بد أن تكون هناك ثمة نار يشتعل ضوءها، ولو لم يدرك هذا الضوء الإدراك
الحق ولم يعرف أنه منحة من النار ولا عرف أيضًا أن هذه النار لا تخرج عن كونها وليدة
(أنكونون)
٩٤ الشمس (الجمهورية، الباب السادس، ٥٠٧أ، ٣) إن الشمس تظل غير مرئية في داخل
الكهف، ومع ذلك فإن الظلال نفسها تعيش على ضوئها، أمَّا النار المشتعلة في داخل الكهف،
التي تمكن من إدراك الظلال إدراكًا لا يعي ماهيته الذاتية، فهي صورة تعبِّر عن الأساس
المجهول لتجربة الموجود التي تعني الموجود حقًّا وإن كانت لا تعرفه من حيث هو كذلك،
ولكن الشمس بما ترسله من ضوء لا يقتصر دورها على ما تمنحه من نور ساطع وما تجود به على
كل (الموجودات) الظاهرة من ظهور (للنظر) و«لاتحجُّب» أو تكشُّف، إن ظهورها
٩٥ يشع الدفء في نفس الوقت ويساعد، عن طريق توهجها، كل «ما ينشأ ويكون» على أن
يبلغ كيانه المرئي (الجمهورية، ٥٠٩ب)، فإذا تمَّت رؤية الشمس نفسها رؤية حقيقية
٩٦ — ونقول هذا ونعنيه حرفيًّا دون حاجة إلى صورة أو مجاز — وإذا أمكن رؤية
المثال الأعلى، عندئذٍ يمكن «أن نستنتج بشكل عام وموحد (من المثال الأعلى) أنه بالنسبة
للناس جميعًا هو علة كل صواب (في سلوكهم) كما هو علة كل جمال»، أي أنه هو علة ما يَتبدَّى
للسلوك على نحو يمكنه
٩٧ من إظهار منظره، إن المثال الأعلى هو مصدر كل «الموضوعات» ومصدر موضوعيتها،
أي هو علتها، و«الخير» هو الذي يضمن ظهور المنظر، وهو الذي يجعل للكائن (الحاضر) كيانه
الذي هو عليه،
٩٨ وعن طريق هذا الضمان يتم حفظ الموجود في الوجود و«إنقاذه».
ومن ماهية المثال الأعلى ينتج — فيما يتصل بكل نظر ينطوي على الحرص على الذات — «أن
الذي يعنى بأن يكون مسلكه عن حرص وبصيرة سواء كان ذلك في أموره الخاصة أو في الأمور
العامة، لا بد أن يكون هذا المثال (أي المثال الذي يُسَمَّى بالخير لأنه يجعل ماهية
المثال ممكنة) نصب عينيه وأمام بصره.»
٩٩ (الجمهورية، ٥١٧ﺟ، ٣ / ٤) من شاء أن يعمل أو يريد في عالم يحدده «المثال»
فلا غنى له قبل كل شيء عن النظر إلى المثال، وفي هذا تكمن أيضًا ماهية «البايدايا» التي
تقوم على تحرير الإنسان وشد أزره لكي يكون قادرًا على النظر الواضح الثابت إلى الماهية،
ولما كان الهدف من «رمز الكهف» حسب تفسير أفلاطون له هو تصوير ماهية «البايدايا» في
صورة حية، فلا بد أيضًا أن يحكي (لنا) عن الصعود والارتفاع للنظر إلى المثال
الأعلى.
هل معنى هذا أن «رمز الكهف» لا يهتم أساسًا «بالأليثيا»؟ بالطبع لا، ومع ذلك فمن
الثابت أن هذا «الرمز» ينطوي على «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة، ذلك أنه يقوم على الحدث
الضمني الذي يبين سيطرة «الأيدايا» على «الأليثيا»،
١٠٠ إن الرمز يقدم لنا صورة عما يقوله أفلاطون عن «مثال الخير»: إنه هو نفسه سيد،
١٠١ لأنه يضمن اللاتحجب (لما يظهر نفسه) كما يضمن إدراك (المتحجب) (الجمهورية
٥١٧ﺧ، ٤)، إن «الأليثيا» تقع في نير «الأيدايا»، وإن أفلاطون عندما يقول عن «الأيدايا»
إنه هو السيد الذي يسمح باللاتحجب، فإنما يشير بذلك إلى شيء لم يقله، وهو أن ماهية
الحقيقة لم تعد تنفتح (أو تتجلَّى) كماهية للاتحجب عن فيض ماهيتها، بل تزحزحت (عن مكانها
الأصلي) إلى ماهية «الأيدايا»، إن ماهية الحقيقة قد تخلَّت عن خاصية اللاتحجُّب
الأساسية.
إذا كان المهم في كل مسلك (متعلق) بالموجود هو النظر
١٠٢ إلى «المنظر»،
١٠٣ فلا بد أن يتركز كل جهد على التمكين من مثل هذا النظر، وهذا يستلزم النظر الصحيح،
١٠٤ وعندما ينصرف المتحرر — الذي لا يزال داخل الكهف — عن الظلال ليتجه إلى
الأشياء، فإننا نجده يلتفت ببصره إلى ما هو «أكثر وجودًا» من الظلال: «فإن اتجه إلى ما
هو أكثر وجودًا، أُتيح له أن ينظر نظرة أسلم»
١٠٥ (٥١٥د. ٣ / ٤)، إن الانتقال من وضع إلى آخر يقوم على النظر نظرة أسلم، كل شيء
يتوقف على سلامة النظرة (أو صوابها وصحتها)، وبفضل هذه النظرة الصحيحة تصح الرؤية
والمعرفة، بحيث يتجهان مباشرةً إلى المثال الأعلى، ويثبتان على هذا الاتجاه بحيث يتوافق
الإدراك مع ما يتعين رؤيته، وهذا هو «منظر» الموجود، وينشأ عن هذا التوافق بين الإدراك
— بوصفه نظرًا
١٠٦ — وبين المثال تطابق
١٠٧ بين المعرفة والموضوع، وهكذا ينشأ عن تقدم «المثال»
١٠٨ و«النظر»
١٠٩ في الرتبة على «الأليثايا» تحول في ماهية الحقيقة، وتصبح الحقيقة هي صواب (أورثوتيس)
١١٠ الإدراك والتعبير.
في هذا التحول الذي يطرأ على ماهية الحقيقة يتم في نفس الوقت تحول في مكان الحقيقة،
صحيح أنها باعتبارها لاتحجبًا، لا تزال تمثل خاصية أساسية من خصائص الموجود نفسه،
ولكنها — باعتبارها صواب النظرة — ستصبح ميزة يختص بها المسلك الإنساني من
الموجود.
بَيْدَ أن أفلاطون مضطر على نحو من الأنحاء إلى إثبات الحقيقة باعتبارها خاصية (من
خصائص) الموجود؛ لأن الموجود من جهة وجوده (أو حضوره وكينونته) يكون له وجود في أثناء
ظهوره، وهذا الموجود يأتي معه باللاتحجب، ولكن السؤال عن المتحجب ينتقل في نفس الوقت
إلى سؤال عن ظهور المنظر، وبالتالي إلى النظر (أو الرؤية) المتصلة بهذا المنظر وصحة هذه
الرؤية وصوابها، ومن أجل هذا نجد في نظرية أفلاطون ازدواجية ضرورية، وهذه الازدواجية
نفسها هي التي تؤيد ما لم نقله من قبل وما ينبغي أن نقوله الآن عن التحول في ماهية
الحقيقة، وتتضح الازدواجية بكل حدتها إذا عرفنا أن أفلاطون يتناول «الأليثيا» ويتحدث
عنها في الوقت الذي يقصد فيه الأورثوتيس (الصحة والصواب) ويضعها موضع المقياس الملزم،
وكل هذا يتم في نفس السياق الفكري.
ويمكن أن نستخلص هذه الازدواجية في تحديد أفلاطون لماهية الحقيقة من عبارة واحدة
ترد
في الفقرة التي تتضمن تفسيره الخاص لرمز الكهف (٥١٧ب، ٧ إلى ﺟ، ٥)، والفكرة الأساسية
في هذه العبارة هي أن المثال الأعلى هو الذي يحكم النير الذي يشد المعرفة إلى الموضوع
الذي تعرفه، ولكن هذه العلاقة (بين المعرفة والمعروف) تُفهم من جهتين، ففي البداية يقول
أفلاطون هذه العبارة الهامة: «إن مثال الخير هو علة كل صحيح وكل جميل»
١١١ (أي علة إمكان الماهية)، ثم يقول بعد ذلك إن مثال الخير هو «السيد الذي
يكفل (تحقيق) اللاتحجب كما يكفل الإدراك»،
١١٢ وهاتان العبارتان لا تسيران في خطَّيْن متوازيين، بحيث تطابق «الأليثيا»
(اللاتحجُّب) «الأورثا» (الصحيح والصائب) ويُطابق النوس (العقل أو الفهم) «الكالا»
١١٣ (الجميل)، وإنما يتم هذا التطابق بطريقة التقاطع؛ فالصحيح أو الصائب
(أورثا) وصحته أو صوابه يطابقه الإدراك الصحيح، والجميل يطابقه اللامحتجب، ذلك أن ماهية
الجميل تكمن في أنه هو الظاهر أو المتجلي بذاته ومن ذاته أشد ظهور وأنقاه،
١١٤ وأنه هو الذي يظهر المنظر وبذلك يكون لامتحجبًا، وكلا العبارتين تتحدثان
عن صدارة مثال الخير أو تقدمه في الرتبة باعتبار أنه هو الذي يجعل صحة المعرفة ولا تحجب
المعروف أمرًا ممكنًا، فالحقيقة هنا لا تحجب وصحة (أو صواب) في آن واحد، وإن كان هذا
(لا يمنع) أن اللاتحجب لا يزال خاضعًا لنير «الأيدايا» (المثال).
ونفس هذه الازدواجية في تحديد ماهية الحقيقة نجدها سائدة عند أرسطو؛ ففي الفصل
الختامي من الكتاب السابع من الميتافيزيقا (كتاب الثيتا، ١٠، ١٠٥١أ، ٣٤ وما بعدها)
الذي يصل فيه تفكير أرسطو عن وجود الموجود إلى ذروته، نجد أن اللاتحجُّب هو الطابع
الأساسي الغالب على الموجود، ومع ذلك فإن أرسطو يقول: «ليس الكذب «الباطل» والصدق
«الحق» في الأشياء «الموضوعات» نفسها وإنما هو في الفهم»،
١١٥ (الميتافيزيقا، باب الإيتا، ١٠٢٧ب، ٢٥ وما بعدها).
إن حكم الفهم هو موطن الحقيقة والبطلان
١١٦ والفارق بينهما، وتكون العبارة حقيقية (صادقة) بقدر ما تتطابق مع الموضوع،
أي بقدر ما تكون تطابُقًا (هومويوزيس)،
١١٧ هذا التحديد لماهية الحقيقة لم يعد يتضمَّن أية إهابة «بالأليثيا» مفهومة
بمعنى اللاتحجب، وإنما أصبحت «الأليثيا» بوصفها الضد المقابل «للبسويدوس» — أي للكذب
أو
عدم الصحة — على العكس من ذلك تُفهم بمعنى الصحة أو الصواب، ومنذ ذلك الحين أصبحت صياغة
مفهوم الحقيقة بوصفها صحة التصوُّر المعبر عنه بالقول هي الصياغة الملزمة للفكر الغربي
كله، ويكفي أن نستشهد على هذا بالقضايا الأساسية التي تمثِّل الصيغة المعبِّرة عن ماهية
الحقيقة في العصور الرئيسية التي تعاقَبَت على الميتافيزيقا.
ففي العصر المدرسي الوسيط نجد عبارة توماس الأكويني: «توجد الحقيقة بمعناها الصحيح
في
العقل (الفهم) البشري أو العقل الإلهي»
١١٨ (مسائل الحقيقة، السؤال الأوَّل، المادة الرابعة، الإجابة). إن مكانها
الأساسي في العقل، ولم تعد الحقيقة هنا هي «الأليثيا» (اللاتحجب) وإنما أصبحت هي
«الهومويوزيس» (التطابق أو التوافق)،
١١٩ وفي بداية العصر الحديث نجد ديكارت يقول في عبارة تفوق العبارة السابقة
حدة: «إن الحقيقة (الصدق) أو البطلان (الكذب) بمعناها الصحيح لا يمكن أن توجد إلا في
العقل (الفهم) وحده»
١٢٠ (قواعد لهداية الذهن، القاعدة الثامنة، الاعتراض العاشر، ٣٩٦). ومع بداية
اكتمال العصر الحديث نجد نيتشه يقول في عبارة تفوق العبارة الأخيرة أيضًا في حدَّتِها:
«إن
الحقيقة هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يستطيع نوعٌ معين من الكائنات الحية أن يعيش
بدونه.» إن قيمة الحياة هي الشيء الحاسم في نهاية الأمر (من خاطرة دوَّنها نيتشه في سنة
١٨٨٥م، إرادة القوة، الحكمة ٤٩٣).
إذا كانت الحقيقة في نظر نيتشه نوعًا من الخطأ، فإن ماهيتها تكمن في طريقة التفكير
التي قضى عليها بأن تزيف الواقع كلما اتجه التصور (العقلي) إلى تثبيت «الصيرورة» الدائمة،
١٢١ وبذلك تدَّعي أن هذا الذي تثبَّته هو الواقع، مع أنه لا يتطابق مع الصيرورة
السيالة (المتدفقة)، أي أنه بالنسبة إليها مخالفٌ للصواب بل خطأ بيِّن، وتحديد نيتشه
للحقيقة بأنها عدم صواب الفكر ينطوي على الرضا بالتحديد التقليدي لماهية الحقيقة بأنها
صواب (صحة) القول (لوجوس)،
١٢٢ ومفهوم نيتشه عن الحقيقة يعكس النتيجة النهائية التي تمخَّض عنها ذلك التحوُّل
الذي تم في ماهية الحقيقة فجعلها تنتقل من لاتحجُّب الموجود إلى صواب النظر، وقد تحقَّق
التحوُّل نفسه في تحديد الموجود (أي كينونة الكائن أو حضور الحاضر كما يفهمه الفكر اليوناني)
١٢٣ بأنه أيدايا (مثال).
والنتيجة التي نستخلصها من هذا التفسير للموجود هي أن الكينونة (الحضور) لم تَعُد
— كما
كانت في بداية الفكر الغربي — هي استشراف
١٢٤ المتحجب للاتحجُّب، مع العلم بأن هذا اللاتحجب نفسه، باعتباره تكشُّفًا أو
انكشافًا، يعبِّر عن الخاصية الأساسية للكينونة، إن أفلاطون يفهم الكينونة (حضور الماهية
أو الأوزيا)
١٢٥ بوصفها مثالًا (أيدايا)، ولكن هذا المثال لا يخضع للاتحجُّب ولا يمكن أن
نقول عنه: إنه يظهر اللامتحجب أداء لخدمة له،
١٢٦ وإنما الأولى أن يُقال إنه يحدِّد الظهور (التجلِّي) الذي قد يجوز — في إطار
ماهيته نفسها وبالرجوع إلى ذاته وحدها — أن يُسَمَّى لاتحجُّبًا، إن «الأيدايا» (المثل)
لم تعد هي المجال
١٢٧ الذي تعبِّر فيه «الأليثيا» عن نفسها، وإنما أصبح الأساس الذي يجعلها ممكنةً،
ولكن حتى (هذا التفسير) يجعل «الأيدايا» تصرُّ على شيءٍ من الماهية الأصلية — التي لا
تزال غيرَ معروفة — «للأليثيا».
لم تَعُد الحقيقة إذن — بوصفها لاتحجُّبًا — هي الطابع الأساسي للوجود، وإنما أصبحَت
—
نتيجة لخضوعِها لنير المثال — صحةً وصوابًا، كما أصبحَت بعد ذلك خاصيةً مميزة (لطريقة)
معرفة الموجود، ومنذ ذلك الحين بدأ النزوع إلى «الحقيقة» بمعنى صحة النظر وصواب (حكمه)،
منذ ذلك الحين أصبح اكتساب النظرة الصائبة إلى المثل هو الأمر الحاسم في كل المواقف
الأساسية من الموجود، ومن أجل هذا ارتبط التفكير في «البايدايا» بالتحوُّل الذي تم في
ماهية «الأليثيا» كما ارتبطا بنفس الحكاية التي يصوِّرها رمز الكهف عن الانتقالِ من مستوى
(للإقامة) إلى مستوى آخر.
والفارق بين مستويي الإقامة
١٢٨ في داخل الكهف وخارجه هو (في الواقع) فارق في «الصوفيا»،
١٢٩ وتدل هذه الكلمة بوجه عام على الإحاطة به ومعرفته وتفهُّمه، ولكن معناها
الأصيل هو الإحاطة بما (يكون في حالة) اللاتحجب، وبهذه الكينونة يتم له كيان ثابت، وهذه
الإحاطة أو المعرفة تختلف عن مجرد تحصيل المعارف والمعلومات، إنها تدل على الاستقرار
في مقام
١٣٠ يستند بادئ ذي بَدْء إلى كيان ثابت.
إن المعرفة أو الإحاطة التي يعتد
١٣١ بها هناك في الكهف السفلي (أو إيكاي صوفيا، الجمهورية، ٥١٦ﺟ، ٥)
١٣٢ تتفوَّق عليها «صوفيا» أو معرفة أخرى، وهذه «الصوفيا» أو المعرفة الأخيرة
تتجه قبل كل شيء لرؤية وجود الموجود في «المثل»، وهي إلى جانب هذا تتميز — بالقياس إلى
تلك «الصوفيا» المأخوذ بها في داخل الكهف — بذلك الدافع الذي يدفعها لتجاوز الكائن
(الحاضر) القريب والتماس المقام في الكيان الثابت الذي يُظهر نفسه بنفسه، إن هذه
«الصوفيا» في ذاتها محبة وصداقة (فيليا)
١٣٣ «المثل» التي تتضمن اللاتحجب، هذه الصوفيا التي يؤخذ بها خارج الكهف هي الفلسفة،
١٣٤ والفلسفة كلمة عرفتْها لغة اليونان قبل عهد أفلاطون واستخدمتها بوجه عام
للدلالة على المحبة (أو الميل) لمعرفة صحيحة، وقد كان أفلاطون هو أول من أطلق الكلمة
على معرفةٍ معينةٍ بالموجود تحدد
١٣٥ في نفس الوقت وجود الموجود بأنه مثال، ومنذ أفلاطون أصبح التفكير في الوجود
«فلسفة»؛ لأنه تطلع إلى «المثل» (أو نظر يحاول استشرافها)، ولكن «الفلسفة» التي بدأت
مع
أفلاطون قد احتفظت من بعده بطابع ذلك الذي سمِّي في وقت متأخر «ميتافيزيقا»، وأفلاطون
نفسه يقدِّم لنا الصورة الأساسية للميتافيزيقا في الحكاية التي يحكيها رمز الكهف، بل
إن
كلمة «الميتافيزيقا» نفسها قد سبق أفلاطون إلى صياغتها صياغة أولية في رمز
الكهف.
فعندما يصور لنا (الجمهورية، ٥١٦) تعود النظر على المثل نجده يقول (٥١٦ﺟ، ٣): إن
الفكر يتجاوز
١٣٦ ذلك الذي لا يعرف إلا معرفة الظل والانعكاس (ويعلو فوقه) «إلى»
١٣٧ هذه، أي إلى «المثل»، إنها
١٣٨ هي فوق المحسوس الذي يرى من خلال الرؤية غير الحسية، وهي وجود الموجود الذي
لا يمكن أن يفهم بأدوات الجسد، وأسمى ما في مجال «فوق المحسوس» هو ذلك «المثال» الذي
يوصف بأنه «مثال المثل» ويظل لهذا السبب هو علة ظهور كل وجود وثبات كيانه، ولما كان هذا
«المثال» هو علة كل (شيء)، فإنه لهذا السبب هو «المثال» الذي يُسَمَّى «بالخير»، هذه
العلة التي تُعتبر أسمى العلل وأولها يسميها أفلاطون كما يسميها أرسطو «الإلهية» (توثيون)
١٣٩ ومنذ أن فسر الوجود بأنه «إيدايا» (مثال) أصبح التفكير في وجود الموجود
تفكيرًا ميتافيزيقا، كما أصبحت الميتافيزيقا لاهوتية،
١٤٠ إن اللاهوت معناه هنا تفسير «علة» الموجود بأنه هو «الإله»، ونقل الوجود
إلى هذه العلة التي تحوي في ذاتها الوجود كما تسمح له بالصدور عن ذاتها؛ لأنها هي أعلى
الموجودات رتبةً في الوجود.
ونفس هذا التفسير للوجود بأنه (إيدايا) — وهو تفسير يرجع الفضل في أهميته وصدارته
إلى التحوُّل الذي تمَّ في ماهية «الأليثيا» — يستلزم نظرة متميزة
١٤١ إلى المثل، وهذا التميز يتناظر مع الدور الذي تقوم به «البايدايا» أو
«صياغة» الإنسان؛ ومِنْ ثَمَّ غلب على الميتافيزيقا الاهتمام بوجود الإنسان ووضعه بين
الموجودات.
وبداية الميتافيزيقا في تفكير أفلاطون تمثِّل في الوقت نفسه بداية «النزعة الإنسانية»،
ونحن نستخدم الكلمة الأخيرة في هذا السياق بمعناها الجوهري، أي بأوسع معانيها، وتدل
«النزعة الإنسانية» بهذا المعنى على ذلك الحدث الذي ارتبط ببداية الميتافيزيقا وتطوُّرها
١٤٢ ونهايتها، وهو حلول الإنسان — من وجهات نظر متفاوتة ولكن عن علم وقصد — في
وسط الموجودات (ومركزها)، دون أن يستلزم هذا بالضرورة أن يكون هو أعلى الموجودات، نقول
«الإنسان» وقد نقصد به زُمْرة بشرية معينة أو البشرية كلها، فردًا أو جماعةً، شعبًا أو
مجموعة من الشعوب، والمقصود به في كل الأحوال، وفي إطار سياق ميتافيزيقي أساسي يضم
الموجودات، هو الأخذ بيَد الإنسان الذي تحددت (ماهيته) بهذه الطريقة — أي الحيوان الناطق
١٤٣ — ومساعدته على تحرير إمكاناته وبلوغ اليقين عن مصيره والأمان في «حياته»،
ويتم هذا على هيئة صياغة للسلوك «الأخلاقي»، وخلاص للنفس الخالدة، وتفتح للطاقات
للبدعة، وتهذيب للعقل، ورعاية للشخصية، وإيقاظ للإحساس بالقضايا العامة، وصقل للجسد،
وقد يتم أيضًا على صورة تشابك بين بعض هذه «النزعات الإنسانية» أو بينها جميعًا، وفي
كل
حالةٍ يتحقَّق نوع من الدوران الميتافيزيقي المحدد حول الإنسان في فلك ضيق أو واسع، ومع
اكتمال الميتافيزيقا تلحُّ «النزعة الميتافيزيقية» أيضًا (أو الأنثروبولوجيا بالمفهوم
اليوناني) على أشدِّ «الأوضاع» تطرُّفًا وأكثرها في نفس الوقت إطلاقًا.
إنَّ تفكير أفلاطون يخضع للتحوُّل الذي تمَّ في ماهية الحقيقة، هذا التحوُّل الذي
أصبح فيما
بعدُ تاريخ الميتافيزيقا التي بدأت تحقق اكتمالها المطلق في تفكير نيتشه؛ ولهذا فلا يمكن
أن تكون «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة قطعةً من الماضي، إنها «حاضر» تاريخي، ونحن لا نقصد
هذا بمعنى التأثير التاريخي اللاحق فحسب «لنظرية» من النظريات، ولا نقصده أيضًا بمعنى
بعث الروح القديمة أو محاكاتها، ولا مجرد الحفاظ على التراث المأثور (إن الأمر لَأكبر
من هذا بكثير)، فذلك التحوُّل في ماهية الحقيقة «قطعة من» الحاضر؛ لأنه هو الواقع الأساسي
الراسخ منذ أقدم الأزمنة، هو الواقع الذي يتغلغل في كل شيء ويغلب على كل شيء، واقع
تاريخ الكرة الأرضية الذي لا تزال عجلته دائرة حتى الزمن المعاصر.
كل ما يعرض للإنسان التاريخي من أحداث فإنما هو نتيجة مترتبة على قرارٍ حاسم عن ماهية
الحقيقة، وهو قرار اتخذ من قبل ولم يتوقَّف أبدًا على «إرادة» الإنسان نفسه، هذا القرار
الفاصل هو الذي كان يبيِّن في كل مرةٍ نوع الحقيقة التي «ينبغي» البحث عنها وإثباتها،
أو
نبذها وإسقاطها، وذلك على ضوء الماهية التي تم تحديدها للحقيقة.
والحكاية التي يرويها رمز الكهف تُعطينا صورة دقيقة عما يحدث الآن أو سوف يحدث في
تاريخ البشرية المطبوعة بالطابع الغربي: إن الإنسان يفكِّر في كل ما هو موجود وفي ذهنِه
أن
ماهية الحقيقة هي صواب التصوُّر (العقلي) أو صحته، ولهذا نجده يفكِّر في كل موجود على
أساس
«المثل» كما يقدِّر كل واقع على أساس «القيم»، وليس المهم في هذا هو نوع المثل والقيم
التي يضعها «نصب عينيه»، وإنما المعيار الوحيد الفاصل في هذا هو أن الواقع قد أصبح يفسَّر
على أساس «المثل» وأن العالم يوزَن بميزان «القيم».
ذكرنا القارئ فيما سبق بالماهية الأصلية للحقيقة، وقد تبيَّن أن اللاتحجُّب هو الخاصية
الأساسية للموجود، والتذكير بالماهية الأصلية للحقيقة يقتضي بالضرورة أن نفكر في هذه
الماهية تفكيرًا أكثر أصالة، ولهذا فلا يمكن أبدًا أن نقف «في فهمنا» للاتحجب عند
المعنى الذي فهمه أفلاطون منه عندما أخضعه «للأيدايا» (المثال)، والسبب في هذا هو أن
اللاتحجُّب كما يفهمه أفلاطون يظل متعلِّقًا بالنظر، والإدراك، والفكر، والقول، والتقيُّد
بهذه العلاقة معناه التخلِّي عن ماهية اللاتحجُّب.
وكل محاولة لوضع ماهية اللاتحجب في «العقل» أو «الروح» أو «الفكر» أو «اللوجوس» أو
تأسيسها على أي نوع آخر من أنواع «الذاتية» لن تُفلح في إنقاذ ماهية اللاتحجُّب، ذلك
أن
هذا الذي يحتاج إلى تأسيسٍ، وهو ماهية اللاتحجُّب نفسه، لم يتم السؤال عنه هنا سؤالًا
كافيًا، إن ما سنفعله في كل الأحوال لن يخرج عن «تفسير» نتيجة مترتبة على ماهية
اللاتحجُّب التي لم تفهم على الوجه الصحيح.
لا غنى لنا قبل هذا عن تقدير (الجانب) «الإيجابي» الكامن في الماهية «السلبية»
«للأليثيا» (أو اللاتحجب)، ولا غنى لنا عن الإحساس بأن هذا «الجانب الإيجابي» هو
الخاصية الأساسية للوجود نفسه، ولا بد أن تأتي المحنة التي لا يُكتفى فيها بالسؤال عن
الموجود وحده، وإنما يصبح الوجود لأول مرة موضعَ السؤال، ولما كانت هذه المحنة وشيكة
الوقوع، فإن الماهية الأصلية للحقيقة لا تزال راقدةً في أصلها
١٤٤ المحتجب الخفي.