جيني على وشك اكتشاف سِرٍّ حكومي
وفاءً بوعدها؛ انتظرت الأميرة فون شتاينهايمر في محطة القطار الضخمة بفيينا، واستقبلَت صديقتها بمشاعرَ فيَّاضة. وقد غادرت جيني القطار أنيقةً كما كانت عندما دخلت إليه؛ إذ إن العديد من النساء لديهن القدرة على القيام برحلاتٍ طويلة دون أن يبدوَ عليهن التأثيرُ الأشعث غير المُرتَّب الذي يبدو أن السفر لمسافاتٍ طويلة عبر السكك الحديدية يتركه على الرجال، بوصفهم النصف الأكثر إهمالًا على الأرجح من المجتمع البشري.
صاحت الأميرة: «أوه، أيَّتها الفتاة العزيزة! لا يُمكنكِ أن تتصوَّري مدى سعادتي برؤيتكِ. فأنا أتوق إلى شخصٍ أتحدَّث معه الإنجليزية. لقد سئمتُ من الفرنسية والألمانية، على الرغم من أنهم يقولون لي على سبيل الإطراء إنني أتحدث هاتَين اللغتَين بطلاقة؛ ومع ذلك، فإن الإنجليزية هي لغتي الأم، ومن المُمتع جدًّا أن يتحدَّث المرء مع شخصٍ يمكنه فهمُ كل كلمة مباركة يقولها، على عكس أولئك الذين يتظاهرون بالتحدُّث باللغة الإنجليزية في فيينا. كم من موضوعاتٍ لدَينا لنتحدث عنها معًا! والآن تعالي من هذا الطريق حيث تنتظرنا العربة، وسيتولى الخادم هنا العناية بأمتعتكِ. ستأتين معي إلى القصر وتظلِّين في ضيافتي طيلة فترة وجودكِ في فيينا. لا ترفضي، ولا تُقدِّمي أيَّ عذر، ولا تتحدَّثي عن الذَّهاب إلى فندق؛ لأني خصَّصتُ لكِ جناحًا كاملًا، وستسبقنا أمتعتُكِ إلى هناك. والآن، دعينا ندخل إلى العربة؛ فأنا أشتاق إلى سماع تفاصيل المهمة التي أتيتِ من أجلها. آمُل أن تكون فضيحة مُسلِّية.»
أجابت جيني: «لا، إنها تخصُّ شئونًا حكومية.»
صاحت الأميرة: «يا لخيبة الأمل! كم هي مهمة مُملة! إنَّ السياسة مُضجرة للغاية.»
قالت جيني: «لا أعتقدُ أن هذه القضية مُملة؛ لأنها جعلَت النمسا وإنجلترا على شفا الحرب.»
«يا لها من فكرة مُروعة! لم أسمع أيَّ شيءٍ عنها. متى حدث هذا؟»
«قبل أقلَّ من شهر.» ثم تحدَّثت جيني عن كل الملابسات، وأعطَت مُلخصًا لخطاب رئيس الوزراء.
احتجت الأميرة على ذلك قائلة: «لكنني لا أرى في ذلك الخطاب أي شيءٍ يُؤدي إلى نشوب الحرب؛ إنه معتدل اللهجة وصافٍ مثل الحليب الطازج.»
تابعَت جيني قائلة: «أنا لا أتظاهر بفهم الدبلوماسية وفنِّ التفاوض.» وكانت خَجلى إلى حدٍّ ما وهي تتذكَّر اللورد دونال على ذكر الدبلوماسية، وبدا أن نفس الفكرة طرأت على ذهن الأميرة في اللحظة نفسِها؛ إذ نظرت مازحةً إلى جيني وانفجرت ضاحكة.
صاحت الفتاة: «اضحكي كما تشائين، لكني أُؤكِّد لكِ أن هذا شأن جاد. يقولون ما هو إلا خطاب ثانٍ «معتدل اللهجة وصافٍ» من رئيس الوزراء وسوف تردُّ إنجلترا بأكثر العبارات تهذيبًا وبكلماتٍ معسولة للغاية، وفي اللحظة التالية سوف تشتعل جذوة العَدَاء بينهما.»
قالت الأميرة وهي لا تزال تضحك: «لِمَ لا نكتب إلى اللورد دونال في سانت بطرسبرج ونطلُب منه أن يأتي إلى فيينا ويُساعدنا؟ إنه يفهم كل شيءٍ عن العمل الدبلوماسي. بالمناسبة يا جيني، هل اكتشف اللورد دونال هُوية مَن التقى بها في الحفل تلك الليلة؟»
أجابت الآنسة باكستر باقتضاب: «لا، لم يكتشف.»
«ألا تنوين إخباره يومًا؟ هل ستتركين هذه القصة الرومانسية غيرَ مكتملة هكذا، مثل إحدى روايات هنري جيمس؟»
«إنها ليست قصةً رومانسية. إنها مجرد حادثة عارِضة مُزعجة للغاية أُحاول أن أنساها منذ ذلك الحين. ولتضحكي كما تشائين، ولكن إذا ذكَرْتِ الموضوع مرةً أخرى سأترككِ وأذهب إلى فندق.»
قالت الأميرة بصوتٍ مغرِّد مرح: «أوه، لا، لن تفعلي، ولا تجرُئين. فأنتِ تعلمين أنني أملك في يدي كل الأوراق الرابحة؛ ويُمكنني في أي وقتٍ إرسالُ رسالة إلى اللورد دونال وإراحة عقل الشاب المسكين. ولذا كما ترَين يا آنسة جيني، سيتعيَّن عليكِ التحدُّث معي بلطفٍ وأدبٍ شديدين وعدمُ توجيه أي تهديدات؛ لأنني مثل هؤلاء الأشرار في المسرحيات المُثيرة الذين يعلمون أسرارًا آثِمة عن الآخرين ويبتزُّونهم بها. ولكنكِ فتاة لطيفة، ولن أقول أي شيءٍ لا تُريدين سماعه. والآن، ما الذي ترغبين في معرفته عن هذه الأزمة السياسية؟»
«أريد أن أكتشف السبب الذي جعل رئيس الوزراء لا يُتْبِع خطَابه بخطابٍ آخر. لا بدَّ أنه كان يعلم حتمًا عندما ألقى خطابه كيف ستُفهَم كلماته في إنجلترا، ولذا فمن المُعتقَد أنه كانت لديه بعض الخطط التي اعترضَت مسارَها ظروفٌ طارئة غير مُتوقَّعة فألغتها. وأريدُ أن أعرف ماهية هذه الظروف وتلك الخطط. فقد أرسلت صحيفة دايلي بيجل زميلَين إلى هنا في فيينا خلال الأسبوعين الماضيين لمحاولة سَبْر أغوار الأسرار الخَفية في دهاليز الدبلوماسية. وقد أخفقا في ذلك حتى الآن، لكنهما قد ينجحان في أي لحظة؛ ولقد أُرسِلْتُ إلى هنا بسبب إخفاقهما. والآن، هل لديكِ أي شيءٍ تقترحينه يا سيدتي الأميرة؟»
«أقترحُ يا جيني أن نُفكر معًا لمعرفة كل ما يرغب هؤلاء الدبلوماسيون في إخفائه. هل لديكِ أنتِ أي خطط؟»
«ليس لديَّ خطة مُحدَّدة، لكنْ لديَّ مخطَّط عام. هذان الزميلان اللذان تحدثتُ عنهما يُحاولان اكتشاف ما يسعى الرجال الآخرون جاهدين من أجل إخفائه. وكل المسئولين في حالة تَحفُّز واستنفار. وهم يَشغلون مناصبَ مرموقة، وليس من الوارد أن يقبلوا الرشوة. كما أنهم رجال أذكياء وحَذِرون ومُحنَّكون، ولذا فإن خداعهم هو أمر غير وارد على الإطلاق، لذلك أعتقد أن زميلَيَّ الصحفيَّين أمامهما مهمة صعبة.»
«لكنها نفس المهمة التي أنتِ بصددها؛ فما الذي لا يجعلها بنفس القدْر من الصعوبة عليكِ يا جيني؟»
«لأنني أقترحُ العمل مع أشخاصٍ ليسوا مُستنفَرين ولا مُتحفِّزين، وهذا هو ما يمكنكِ أن تُساعديني فيه، إذا لم يصدمكِ اقتراحي. فكل مسئول لديه زوجة، أو على الأقل معظمهم لديه. وبعض هذه الزوجات، على الأرجح، يمتلكْنَ المعلومات التي نرغب في الحصول عليها. والنساء يتحدَّثن مع النساء بحرية أكبر مما يتحدَّث بها الرجالُ مع الرجال. ومن ثمَّ، أقترحُ ترك المسئولين تمامًا وشأنهم، وإجراءَ مقابلاتٍ مع زوجاتهم.»
صاحت الأميرة وهي تُصفق بيدَيها:
«ممتاز! إنَّ النساء في فيينا يُحببن الثرثرة والنميمة للغاية. وأنا لم أكن أبدًا مهتمة بالسياسة، وإلا لأصبحَتْ في حوزتي بعضُ أسرار الحكومة المهمة. والآن يا جيني، سأُخبركِ بما أقترحُ فعله؛ سأُقيم حفل شاي رسميًّا بعد ظهر الخميس المقبل. وسأدعو إليه عشرًا، أو عشرين، أو ثلاثين من زوجات المسئولين ذَوي النفوذ في قصر الحكم. سيُسَرُّ زوجي لذلك؛ لأنه يشكو دائمًا من أنني لا أُولي اهتمامًا كافيًا لسيدات الأوساط السياسية في فيينا. وهو يهتم كثيرًا بالسياسة. وإذا لم نكتشِف شيئًا في حفل الشاي الأول، فسنُقيم آخَرَ ثم آخَرَ ثم آخر حتى نكتشف. وأنا على يقينٍ أننا سندعو المرأة المناسبة في إحدى تلك الحفلات، وعندما نجدها سأضمن لكِ حصولنا على السر. آه، ها قد وصلنا المنزل، وسوف نُؤجل مناقشة مؤامرتنا المُبهجة حتى تتناولي الطعام وتنالي قسطًا من الراحة.»
توقفت العربة أمام القصر المهيب، المشهور في فيينا، الذي يمتلكه الأمير فون شتاينهايمر؛ وبعد ذلك بوقتٍ قصير، وجدَت جيني باكستر نفسها داخل أفضل جناحٍ شاهدَتْه في حياتها. فضحكت جيني مُبتهجة وهي تتفقَّد الجناح الذي ستُقيم فيه وما فيه من تجهيزاتٍ فخمة.
وقالت للأميرة التي وقفت بجانبها مسرورةً بسرور صديقتها: «هذا لا يُحاكي حتى ما يمكن أن نُسمِّيه «غرفًا مستأجرة» في لندن، أليس كذلك؟ وكثيرًا ما نقرأ عن الصحفيين الفقراء الذين يسكنون في غُرَف السطح، لكنني لا أعتقد أن أيَّ صحفيٍّ كانت لديه غرفة سطح بفخامة هذا الجناح تحت تصرفه.»
صاحت الأميرة بمرح: «كنت أعلم أن هذا الجناح سوف يُعجبكِ، فهو يُعجبني أنا نفسي، وآمُل أن يُساعد في تشجيعكِ على البقاء في فيينا لأطول فترةٍ ممكنة. لقد وضعتُ خادمتي الخاصة جريتليش في خدمتكِ، وأؤكِّد لكِ أنني لا أفعل هذا مع كل صديقة؛ فهي خادمة نموذجية.»
قالت جيني: «أوه، لكن لم يكن عليكِ أن تفعلي ذلك؛ لا يمكنني أن أحرمكِ من خادمتكِ وأن أكون أنانيةً بالقدر الذي يجعلني أحتكرُ هذا الجناح.»
«أنتِ لا تحرمينني منها، في الواقع، ربما مكرٌ مني بعض الشيء أن أُهديَكِ جريتليش؛ فهي تبدو مكتئبة منذ أسبوع أو أسبوعين، ولا أعرفُ أبدًا ما ألمَّ بها. أظن أنها علاقة حب؛ لكنها لم تَبُح بشيء، رغم أنني سألتُها مرارًا وتكرارًا ما الخطب. والآن، بما أنكِ شابة مبتهجة وتُجيدين مواساة الآخر، فقد فكرتُ أن جريتليش إذا وُضِعت في خدمتكِ لفترةٍ من الوقت، فربما تصفو روحها وتعود إلى سابق عهدها مرةً أخرى. وهكذا، أنتِ لم تحرميني منها، لكنني في الواقع أستفيد من طبيعتكِ الطيبة.»
«أخشى أنكِ تقولين ذلك فقط لتسهيل الأمر عليَّ. ومع ذلك، أنتِ كريمة جدًّا أيَّتها الأميرة، لدرجة أنني لن أعترض على أي شيء تفعلينه، وسأستمتع بكل هذه الرفاهية خلال فترة إقامتي في فيينا.»
«حسنًا. ها هي جريتليش. الآن يا جريتليش، أريدكِ أن تجعلي إقامة الآنسة باكستر هنا مُمتعة للغاية، بما يجعلها لا ترغب في تركنا أبدًا.»
قالت الفتاة بإجلال هادئ: «سأبذل قصارى جهدي، سموَّك.»
تركَت الأميرة الاثنتَين بمفردهما، ورأت جيني أن جريتليش لم تكن أقلَّ أناقةً من الجناح الفخم الذي ستُقيم فيه. كانت جريتليش مثالًا ممتازًا لذلك النوع من النساء الجميلات اللواتي تشتهر بهن فيينا؛ لكنها كانت — كما قالت الأميرة — مُكتئبةً للغاية، وجيني، التي تُكِنُّ تعاطفًا عميقًا تجاه كل مَنْ يُمارس عملًا لكسْب عيشه، تحدثت بلُطفٍ إلى الفتاة وسَعَت إلى إبهاجها. كان هناك شيء من الحنان غير المألوف في النبرات العطوفة لصوت جيني؛ وهو أمر لامسَ الفتاةَ وأثَّر فيها، حتى إنها بعد محاولةٍ وجيزة وغير مُجدية لكبح جماح نفسها، انهارت وانخرطت في البكاء. ثم حكَت قصتها لجيني التي أنصتت إليها بشفقةٍ وتعاطف. كانت جريتليش مخطوبةً لجندي تتمركز فرقته في بورج. وفي آخر مرة رأت الفتاةُ حبيبها كان من المفترض أن يتولَّى ليلتها حراسة مبنى الخِزانة. وقبل طلوع الصباح وقعت كارثة من نوع ما، ولم تعلم الفتاة ما حدث. لكن قال البعض إنه قد وقع انفجار مروع وفقد حبيبها حياته. ولم يُسمَح لأقارب الجندي ولا خطيبته برؤيته بعد الكارثة؛ حيث دُفن في الخفاء، ويبدو أن السلطات كانت تعتزم تجنُّب أي ترويج للحادث. وقد حذَّرت أقارب الجندي القتيل وخطيبته بأن عليهم التزام الصمت وعدم السعي وراء المزيد من المعلومات. وقبل عدة أيامٍ من معرفة جريتليش بوفاة خطيبها، كانت تشعر بالقلق لأنه لم يُحافظ على موعده معها، ولم تصِلها منه أي أخبار؛ ولأنها خشيت أن يكون مريضًا، بدأت في الاستفسار عنه، وعندئذٍ تلقَّت الخبر والتحذير معًا.
في حضرة الموت، تُصبح كلُّ أشكال المواساة بلا جدوى، وهذا ما أدركتْه جيني وهي تحاول قدر استطاعتها تهدئة الفتاة. وقد تعاطف قلبها معها للغاية لدرجةٍ أثرت على نشاط عقلها؛ لكن ها هي تقف على عتبة السِّر الذي أتَت إلى فيينا لتكتشفه، ولم يكن لديها أدنى شك في أن مأساة الفتاة تتَّصِل اتصالًا وثيقًا بمهمتها الخاصة. تعجَّبَت جيني من غباء كادبوري تايلور، الذي فشل في رؤية ما بدا واضحًا أمامه، بينما ها هي نفسها قد قطعت آلاف الأميال، بطريقةٍ أو بأخرى، للحصول على معلوماتٍ مُعينة، لتجد فتاةً ناحبة تروي الخبر ذاته الذي جاءت من بلدٍ بعيد لكي تكتشفه. وهذا ما يُوضِّح أن لا أحدَ منا ذكيٌّ وماهر كما نتخيل أنفسنا.
وبعد الظهيرة، دخلت الأميرة غرفة جلوس جيني وهي تحمل في يدها مجموعةً من الرسائل.
وقالت: «انظري! بينما كنتِ تستريحين؛ كنتُ أعمل، ولن نسمح بإضاعة أي وقت. لقد كتبتُ بيدي دعواتٍ لحوالي عشرين مدعوةً إلى حفل الشاي الذي سنُقيمه يوم الخميس، ومن بينهن، زوجة رئيس الوزراء، الكونتيسة شترون. أتوقَّع منكِ أن تتجاذبي أطراف الحديث مع تلك السيدة وتُخبريني بنتيجة المحادثة بعد انتهائها. هل واسيتِ جريتليش؟ لقد جئتُ إلى هنا منذ نصف ساعة، وبدا لي أنني سمعتُ صوت بكاء في هذه الغرفة.»
قالت جيني: «أوه، نعم، لقد كانت تُخبرني بمشكلتها. يبدو أن خطيبها جنديٌّ في الجيش، وقد قُتِلَ في حادث ما وقع في مبنى الخِزانة.»
«وما هو نوع ذلك الحادث؟»
«قالت جريتليش إنَّ انفجارًا قد وقع هناك.»
«يا إلهي! لم أسمع بهذا الأمر. إنه لأمرٌ غريب أن يأتي أحد من لندن ليُخبرنا بأخبارنا. انفجارٌ في مبنى الخزانة! وخطير للغاية لدرجة قتل جندي! هذا يُثير فضولي، ولذا سأكتبُ دعوة أخرى إلى زوجة أمين الخزانة.»
«أتمنَّى أن تفعلي ذلك؛ لأنني أودُّ أن أعرف المزيد عن هذا بنفسي. يبدو أن جريتليش لم تكن لديها إلا معلومات ضئيلة عن الحادث، وأودُّ أن أعرف المزيد عنه؛ حتى أتمكن من إخبارها.»
«سنعلَم كلَّ شيءٍ عنها من الزوجات المحترمات، ويجب أن أكتُب تلك الرسالة الموجزة على الفور خشيةَ نسيانها.»