جيني تتكبَّد العناءَ خلال رحلةٍ ليلية مُروعة
ذهبَت جيني إلى المحطة قبل موعدِها في ليلة الحادي والعِشرين، ودخلَت إلى عرَبة النوم في القطار بمجرد السماحِ لها بذلك. وبدا المُشرِفُ على العربة مُرتبكًا على نحوٍ غير مُبرَّر من قلقِها ورغبتها في الوصول إلى الكابينة بسرعة، وفحَص تذكرتَها بعنايةٍ كبيرة، ثم طلب منها أن تتبعه، حتى أوصلها إلى الكابينة «ب»، حيث يُوجَد السرير رقم ٥ والسرير رقم ٦، عُلوي وسُفلي. لم تكن الأسِرَّة مُرتَّبة، كما تحتوي الكابينة على مقعدٍ واحد يتَّسع لشخصَين. ثم نزل المشرف إلى الرصيف مرةً أخرى، ووجدَت جيني نفسها وحيدةً في العربة، وسارت ذهابًا وإيابًا في الممر الضيِّق على الجانب، الذي يصِل بين الكبائن، للحصول على فكرةٍ أفضلَ عن مُحيطها.
[رسم توضيحي: مخطط عربة النوم.]
الكابينة «ﺟ»، المجاورة لكابينتها، هي المُخصَّصة للسفارة البريطانية. والكابينة «د» هي المُخصصة للشرطة وهي أبعدُ قليلًا، وقد وقفَت جيني لبضع لحظاتٍ بجوار النافذة الزجاجية العريضة على جانب الممرِّ لتُطلَّ على الرصيف المزدحِم. ولفترةٍ من الوقت راقبَت مشرفَ العربة الذي بدا وكأنه يُحدِّق بقلقٍ نحو الاتجاه الذي يأتي منه الرُّكَّاب، وكأنه يبحث عن شخص معيَّن. وبعد قليلٍ ظهر رجلٌ ضخم، يرتدي معطفًا طويلًا، ذو وجهٍ مُلتحٍ صارم — ظنَّت الفتاة قطعًا أنه روسي — وتقدَّم نحو المُشرف وتحدَّث إليه بجِدية. ثم اتجه الاثنان نحو سُلَّم العربة، فهُرِعت جيني إلى كابينتها الصغيرة الضيقة، وتركت الباب مُواربًا بمقدار بوصةٍ واحدة. بعد لحظةٍ جاء الرجلان وهما يتحدَّثان معًا بالفرنسية. كان صوت الرجل الضخم خشنًا، ويتحدَّث الفرنسية بطريقةٍ يتضح منها أنها ليست لغتَه الأصلية.
سأل الرجل بصوتٍ أجش: «متى علمتَ أنه قد غيَّر غرفته؟»
أجاب المشرف: «بعد ظهر اليوم فقط.»
«هل صنعتَ ثقوبًا بين هذه الكابينة والكابينة المجاورة؟»
«أجل يا سيدي؛ لكن أزوف لم يُخبرني ما إذا كنتَ تُريد الثقوب في الأعلى أم في الأسفل.»
أجاب الروسي: «في الأسفل بالطبع، أيُّ أحمق قد يعرف ذلك؛ فالغاز يرتفع حتمًا لا يهبط، ثم عندما يشعُر بتأثيره ويَخرُّ ساقطًا، سيُحاط بطبقة غاز كثيفة للغاية، بينما إذا وضعناه في الأعلى، وسقط هو لأسفل، فسيُحاط بالهواء النقي، ومن ثمَّ قد يهرب. هل صنعتَ الثقب فوق السرير العلوي؟»
«أجل يا سيدي، لكني صنعتُ واحدًا في الأسفل أيضًا.»
«حسنًا، يُمكننا بسهولةٍ سَدُّ الثقب العلوي. هل أحكَمتَ النافذة كي لا تُفتح؟ فأول ما يفعله هؤلاء الإنجليز هو فتح نافذة.»
«النافذة مُغلَقة بإحكامٍ يا سيدي، ما لم يُكسَر الزجاج.»
«لا بأس، لن يُفكر في فعل ذلك إلا بعد فوات الأوان، فالإنجليز شعب يحترم القانون. كم الرُّكَّاب الآخَرون في العربة؟»
«عُذرًا، لقد نسيتُ أن أُخبرك يا سيدي، لقد حجزَت سيدة إنجليزية الكابينة «ب»، وهي بداخلها الآن.»
صاح الروسي بصوتٍ أجش: «لتَصُبَّ عليك الأرواحُ الشريرة جامَ غضبها! لماذا لم تقُل هذا من قبل؟»
ثم انخفض صوت حديثهما لدرجة أن جيني لم تستطع تمييز كلامهما. وبعد لحظة سمعت أحدَهما يطرق بابها، وكان لديها من الحضور الذهني ما يكفي لأن تذهب إلى الزاوية الأخرى وتقول بصوتٍ يغلبه النعاس:
«ادخل!»
ففتح المشرف الباب، وقال بالفرنسية:
«تذكرتُكِ، إذا سمحتِ يا سيدتي.»
سألته جيني: «ألا تتحدَّث الإنجليزية؟»
كرَّر المشرف سؤاله فحسْب، وبينما كانت جيني تهزُّ رأسها؛ نظر الروسي الضخم من فوق كتف المشرف وقال بلغة إنجليزية مقبولة:
«إنه يطلب تذكرتكِ يا سيدتي. ألا تتحدَّثين الفرنسية؟» وردًّا على هذا السؤال المباشر، أجابت جيني، وهي تبحث في حقيبتها عن التذكرة:
«أنا أتحدث الإنجليزية، وقد أظهرتُ له تذكرتي من قبل.» وناوَلَتْ تذكرة عربة النوم ذات الورقة العريضة إلى الروسي، الذي دفع المشرف جانبًا ووقف الآن داخل الكابينة.
وقال: «لقد حدث خطأ؛ فالكابينة «ﺟ» هي التي حُجِزَت لكِ.»
قالت جيني: «أنا مُتأكدة من عدم حدوث أي خطأ؛ لقد حجزت السريرَين رقمَي ٥ و٦. انظر، ها هي الأرقام.» ثم أشارت إلى اللوحة المعدنية المُثبَّتة على الباب، «وها هما نفس الرقمَين اللذين تحملهما التذكرة.»
هزَّ الروسي رأسه.
«لقد حدث الخطأ في مكتب شركة عربات النوم. وأنا مدير الشركة.»
سألت جيني ببراءة: «حقًّا؟ وهل الكابينة «ﺟ» مُريحة مثل هذه؟»
أجاب الروسي: «إنها نسخة طبق الأصل من هذه الكابينة يا سيدتي، بل هي مريحة أكثر؛ لأنها أقربُ إلى وسط العربة.»
«حسنًا، ولا مشكلة في حجزي للسريرَين، أليس كذلك؟»
«بالطبع، لا يا سيدتي، إنَّ الكابينة بالكامل تحت تصرُّفكِ.»
قالت جيني: «حسنًا، في هذه الحالة، ليس لديَّ أيُّ اعتراضٍ على التغيير.»
كانت تعلم أنها ستُجبَر على التغيير، بغضِّ النظر عن صحة تسجيل تذكرتها، ومن ثمَّ رأت أنَّ من الأفضل أن تلعب دور الفتاة البسيطة المُغتربة، وعدم إحداث ضجةٍ قدرَ الإمكان حول تغيير الكابينة، وعليها أن تُراجع ترتيب الكبائن في ذهنها. فهي الآن في الكابينة «ﺟ»، التي حجزتها السفارة البريطانية في البداية. كان من الواضح أنه في اللحظة الأخيرة قرَّر المبعوث أن يأخذ الكابينة «أ»، المكوَّنة من أربعة أسِرَّة في نهاية العربة. وأخذَت الشرطة بعد ذلك الكابينة «ب»، التي كانت محجوزة لجيني في البداية، ومن خلال المحادثة الصغيرة التي سمِعتْها، فهمت جيني أنهم يعتزمون قتل المبعوث الذي يحمل الرسالة المهمة أو تخديره. وهكذا لم تأتِ الشرطة هنا للحماية، ولكن للهجوم. ركَّز هذا التعقيدُ المُذهِل في المؤامرة كلَّ تعاطف الفتاة مع الرجل التعيس الذي هو مجرد رسول بين شخصيَّتَين رفيعتَي المستوى، على الرغم من أنه يُسافر على ما يبدو تحت حماية السفارة البريطانية في سانت بطرسبرج. وبوضوحٍ تام، فإن حقيقة أنها كانت تنوي سرقته إذا سنحَت الفرصة، تجسَّدت أمامها مثل شبحِ اتهام، فصرخَت في نفسها: «لن أقبل بأي مهمة كهذه مرةً أخرى، أبدًا، أبدًا.» وهي الآن مُصرَّة على مساعدة الرجل الذي كانت تنوي الإيقاع به. وستنتظر وصوله إلى ممر العربة حتى تُحذِّره من خلال سرْد ما سمعته. كانت قد خلعت قُبعتها عند دخولها الكابينة. والآن ارتدَتْها على عجَل، ودفعت دبوسًا طويلًا خلالها، وعندما نهضت، حدثَت رجَّة في القطار جعلتها تجلس مرةً أخرى على عجلٍ إلى حدٍّ ما، وعبر نافذتها رأت أنوار المحطة تبتعِد، حيث بدأ القطار في التحرُّك، فصاحت بحرارة: «حمدًا لله! لقد تأخَّر المبعوث عن موعد القطار. ستذهب مؤامرةُ أولئك الأشرار سُدًى.»
ونظرت إلى الأعلى نحو السقف، فلاحظَت وجود ثقبٍ يبلغ قطره حوالي بوصةٍ واحدة محفور في الحاجز الخشبي الرقيق بين كابينتها والكابينة التالية. وعندما التفتت إلى الحائط خلفها، رأت أن هناك ثقبًا آخَرَ قد حُفِر في موضعٍ مُماثل عبر الكابينة «ب»، وهكذا جُهِّزَت العربة جيدًا من أجل هذه المهمة. فضحكت جيني بصوتٍ خفيض وهي تتصوَّر خيبة الأمل على وجوه المتآمرين. كان القطار يندفع بسرعةٍ عبر ضواحي سانت بطرسبرج، عندما ذُهِلت جيني بسماع صوت شخصٍ غريب يقول بالفرنسية:
«أيُّها المشرف، أنا مَنْ حجزت الكابينة «أ»؛ فأين توجد؟»
أجاب المشرف: «إنها هناك يا سيدي.» بدا أنه يُنادي الجميع بهذه العبارة «يا سيدي.» شعرَت جيني، التي نهضت على قدمَيها مرةً أخرى، بالذُّعر عندما علمت أن المبعوث قد جاء، وسمعت صوت باب كابينته يُغلَق، وهكذا عَمَّ الصمتُ أرجاء المكان باستثناء صوت القطار الذي يتحرك بسرعة. ظلت جيني واقفةً هناك لبضع لحظاتٍ وهي مُتوترة من الانفعال، ثم ذكَّرَت نفسها بالفتحة الموجودة بين كابينتها الحاليَّة والكابينة التي تركَتها مؤخرًا. فقفزت على المقعد، ووضعت عينها ببعض الحذَر على الثقب، واسترَقَتِ النظر من خلاله. في البداية ظنَّت أن الكابينة خالية، ثم لاحظت وجود أسطوانة ضخمة في نهايتها بجانب النافذة وصلت إلى السقف تقريبًا. كان مصباح الكابينة يُضيء ويُظهِر كلَّ شيءٍ بوضوح، فاستطاعت رؤية كل تفاصيلها، باستثناء الأرضية. ثم ارتفع ظَهر رجلٍ ببطء، بعد أن كان فيما يبدو جاثيًا على رُكبتَيه على الأرض، وهو يُمسك بيده لفة أنبوب مطاطي. فنظرت إلى الأسفل ورأت أنها مُتصلة بالأسطوانة، وأنها بلا شك تضخُّ الغاز الذي تحتويه الأسطوانة من خلال الثقب إلى داخل الكابينة «أ». وللحظةٍ، واجهت جيني صعوبةً في كَبْتِ صرخة، لكنها أدركَت أنها غير قادرة على تقديم المساعدة مُطلقًا، حتى لو أُطلِق إنذار، ولذا قاومَت رغبتها في الصراخ، ورأتْ أن الرجل الذي كان يُنظِّم ضخَّ الغاز ليس نفسه الذي تحدَّث إلى مشرف العربة. وانتباها الخوف من أن يُدير رأسه ويلمح عينها عبر الفتحة الصغيرة، فمدَّت يدَها وغطَّت المصباح، وتركت كابينتها في ظلام دامس. كان الغطاء المُزدوَج، الذي غطَّت به المصباح شبه الكروي مثل جفن العين عندما تُغلقه، يمنع وصول أي شعاع ضوء إلى كابينتها.
عندما عادت جيني إلى تجسُّسها مرةً أخرى، سمعت صوتَ طَرْقٍ على الباب في الكابينة «أ» جعله يُطقطق، ثم صوت سقوط جسمٍ ثقيل على الأرض. وفُتح باب الكابينة «ب»، فرأت رأسَ الروسي الأول، الذي تحدَّث بلغته الخاصة كلمةً فظَّة واحدة. فأغلق مُساعِده المَحْبَس وأوقف ضخَّ الغاز من الأسطوانة. ثم أغلق باب الكابينة «ب» على الفور مرةً أخرى، وسمعت جيني صوت المفتاح أثناء محاولة فتح الكابينة «أ».
فقفزت جيني عن المقعد، وألقت قُبعتها، وبأقلِّ قدْر ممكن من الضوضاء، وارَبَت بابها للخلف بمقدار بوصةٍ أو اثنتين. فرأت المُشرف يفتح باب الكابينة «أ»، والروسي الطويل يقف بجانبه ويقول بصوتٍ هامس:
«لا تقلق على الرجل، سوف يتعافى بمجرد فتح الباب والنافذة، احصل على الصندوق. وأمسك أنفك بأصابعك وأغلِق فمك. ها هو الصندوق الأسود في الزاوية.»
انحنى المشرف تجاه زاوية الكابينة وحمل صندوق مراسلاتٍ أسودَ عاديًّا إلى الخارج.
بدا الشرطي مُجهَّزًا تمامًا بالمواد اللازمة لغرَض السطو. فقد اختار مفتاحًا من وسط مجموعة مفاتيح، وجرَّبه ثم جرَّب الثانيَ والثالث، ومن ثمَّ فتح غطاء الصندوق. فأخرج رسالة مُشابهة تمامًا للرسالة التي بحوزة جيني؛ لدرجة أنها تفقَّدَتها لتتأكَّد أنها لا تزال في جيبها، ثم وضع الروسيُّ المظروف بين رُكبتَيه وأغلق الصندوق. ولم يَدُر بباله أن نسخةً وهمية قد وُضِعَت مكان النسخة الأصلية. فتصرَّفت جيني بسرعة، حيث فتحت البابَ بهدوءٍ وخرجت إلى الممر، بينما الرجلان مُنهمكان في عملهما فلم يرَها أحدٌ منهما. أعاد الرجل الطويل الصندوق إلى المُشرف، ثم أخذ الرسالة من بين رُكبتَيه وأمسكها بيده اليمنى، وفي ذات اللحظة تمايلت جيني تجاهه، كما لو كانت تتمايل بسبب حركة القطار، وبخفة يدٍ من شأنها أن تضعها في مصافِّ مُقدِّمي الألعاب السحرية، انتزعت الرسالة من يد الرجل المندهش والمتوتر؛ وأسقطَت الرسالة الزائفة على أرضية العربة من يدها الأخرى. كان المشرف قد خرج للتوِّ من الكابينة «أ»، مُمسكًا أنفه وبدا مُضحِكًا للغاية وهو يقف هناك في هذا الوضع، ومندهشًا من الظهور المفاجئ للسيدة. فضربَ الروسيُّ أصابع المشرف بيده اليمنى، وبحركة سريعة من يده اليسرى أغلق باب الكابينة «أ»، وحدث كل ذلك في عُشر الوقت الذي استغرقه وصف الموقف.
صاحت جيني بالإنجليزية: «معذرة! لقد دفعني تأرجُّح العربة تجاهك.»
وقبل أن يرد، ألقى الروسي نظرة على الأرضية ورأى المظروف الكبير مُلقًى هناك وختمه في الأعلى. فوضع قدمه الضخمة عليه بهدوء، ثم قال مُتصنعًا التأدُّب:
«لا عليكِ يا سيدتي. أخشى أن أكون ضخمًا للغاية لدرجة أنني أشغل معظم مساحة الممر.»
قالت جيني: «إنه لطفٌ بالغ منك أن تقبل اعتذاري، لقد خرجتُ فقط لأسأل المشرف عما إذا كان سيُرتِّب السرير داخل كابينتي، هل تتكرَّم وتُترجم ذلك إليه؟»
طلب الروسي من المشرف أن يمتثل لطلب السيدة، فأجاب بصوتٍ خافت، وترجمَ الروسي الرد.
«سيُصبح في خدمتكِ خلال لحظاتٍ قليلة يا سيدتي. ولكن عليه أولًا ترتيبُ الكابينة «أ».»
قالت جيني: «حسنًا، شكرًا جزيلًا؛ لستُ في عجلةٍ من أمري؛ في أي وقت في غضون الساعة سيفي بالغرض.»
بعد ذلك عادت مرةً أخرى إلى كابينتها، وقد أخفت الرسالة الحقيقية في ثنايا فستانها، وتركَت الزائفة على الأرض تحت قدم الروسي. ثم أغلقت البابَ بإحكام، وتأكَّدت من عدم مُراقبتها من خلال أيٍّ من الثقوب التي صنعها مشرف العربة في الحاجز، ووضعت الوثيقة الهامة بسرعة في جيبٍ داخلي عميق بسُترتها. بصفةٍ عامة، تُوجَد جيوب داخلية في رداء المرأة، وجيوب خارجية في سترتها، لكن جيني، نظرًا لأنها تتعامل مع العديد من الوثائق في سياق عملها، كانت قد زوَّدَت هذه السترة بجيبٍ داخلي عميق وواسعٍ خصوصًا لهذا الغرَض. ثم جلسَت على زاوية المقعد متسائلة عن مصير المبعوث المسكين، فعلى الرغم من إغلاق الباب على نحوٍ مفاجئ من قِبَل الروسي، فقد لمحت الرجل المُستلقيَ على الأرض داخل كابينته بعد ضخ الغاز إليها. كما أنها استنشقت نفحةً من الغاز الثقيل غير السام الذي استُخدِم، والذي يبدو أنه انتشر الآن في مُحيط العربة بالكامل، لا سيَّما في الممر الطويل الضيق. لم يكن من المُرجَّح أنهم يعتزمون قتل الرجل؛ إذ إن موته سيُسفر عن تحقيقٍ صعب، في حين أن أقواله بأنه خُدِّرَ قد تُنكَر بسهولة. وبينما كانت جالسة هناك، لم يقطع صمتَ المكان سوى صوتِ ضجيج القطار المنخفض، وبعد فترةٍ سمعت صوتَ ارتطام الأسطوانة المعدنية بالحاجز الخشبي للكابينة المجاورة؛ إذ من الواضح أن الرجال كانوا يُزيلون أجهزتهم. وبعدها، تباطأت سرعة القطار، حتى توقَّف في النهاية، فنظرَت من النافذة إلى الظلام، ووجدت أنهم توقفوا عند محطةٍ ريفية ذات إضاءة ضعيفة. فغطَّت مصباح السقف مرةً أخرى لكي تتمكن من رؤية الخارج بوضوحٍ أفضل، دون أن يُلاحظها أحد، ثم لاحظت المشرف ورجلًا آخر يضَعان الأسطوانة الضخمة على رصيف المحطة، دون بذْل أدنى جهدٍ لإخفائها. ووقف الروسي الطويل القامة بجانبهم وأصدر أوامره باقتضاب. وبعد لحظاتٍ، تحرَّك القطارُ مرةً أخرى، وبعدما انطلق القطار مواصلًا رحلته، سمِعَت جيني طَرقةً على بابها. وعندما فتحته، قال المُشرف إنه سيُرتب سريرها الآن، إذا كانت تودُّ ذلك. فوقفت خارجًا في الممر بينما أنهى الرجل عمله ببراعةٍ وسرعة. ولم تستطع كبح فضولها تجاه الراكب الغامض في الكابينة «أ»، ولإشباع فضولها، سارت ببطءٍ ذهابًا وإيابًا في الممر، عاقدةً يدَيها خلف ظهرها، ومرَّت أمام باب كابينتها المفتوح عدة مرات، فلاحظت أن المشرف يُراقبها في شَكٍّ.
كان باب الكابينة «أ» مفتوحًا على نحوٍ جزئي، لكن المصباح المُغطَّى في السقف ترك الداخل غارقًا في الظلام الدامس. لم يعُد هناك الآن أيُّ أثرٍ للغاز المُخدِّر في الممر، وبينما كانت تمر أمام الكابينة «أ»، شعرت بهبوب نسيمٍ مُنعش عبر المدخل المفتوح جزئيًّا، ومن ثمَّ استنتجت أن النافذة قد فُتِحَت. وبمجرد أن مرت أمام باب كابينتها، رأت المشرف مشغولًا بمهمة من شأنها أن تمنعه من النظر إلى الممر لمدة دقيقة على الأقل، فاستغلَّت تلك اللحظات لتهدئة شكوكها حيث اشرأبَّت برأسها بسرعةٍ داخل الكابينة «أ» وألقت نظرةً خاطفة. فرأت الرجل في وضعٍ مُمَدَّد على المقعد ووجهه نحو الحائط ورأسه على وسادة. بينما كان صندوق المراسلات موجودًا في زاوية المقعد حيث كان قد تركه بلا شك. كان الرجل يتنفَّس بصعوبةٍ مثل رجلٍ وقعَ تحت تأثير الشراب؛ لكن هواء الكابينة أصبح نقيًّا ومنعشًا، ولذا فإنه حتمًا سوف يتعافى.
استمرت جيني في السير ذهابًا وإيابًا، وهي تُفكر مَليًّا فيما حدث. في البداية، عندما حصلت على الوثيقة المهمة، قرَّرت إعادتها إلى المبعوث، لكنها عندما تفكَّرت في الأمر أكثرَ دفعَها ذلك إلى تغيير رأيِها. لقد تعرَّض المبعوث للسرقة من قِبَل الشرطة الروسية، وسيُخبر رؤساءه بما حدث بالضبط، ومع ذلك ستصل الرسالة إلى وجهتها بسرعةٍ كما لو كان قد أحضرها بنفسه، وكأن شيئًا لم يحدُث له على الإطلاق. ولأنها تعرف الهدف الذي كان يدور في ذهن السيد هاردويك، رأت جيني أن الرسالة الآن تضاعفت قيمتها عشرات المرَّات عما لو كانت قد أخذتها هي من المبعوث. كان من الواضح أن السفارة البريطانية، أو المبعوث نفسه، لديه شكوك في أن هناك محاولةً ستحدُث من أجل سرقة الوثيقة، وإلا فلِمَ استُبدِلَت كابينته بأخرى في اللحظة الأخيرة. إذن، يمكن لرئيس التحرير أن يُخبر المسئول قائلًا: «لقد سرقَتِ الشرطة الروسية رسالتك من الشخص الذي أرسلته على الرغم من كل الاحتياطات التي يُمكن اتخاذها، بينما استطاع المبعوث الخاص بي أن يخدع الروس ويستردَّ الرسالة. وهكذا، كما ترى، لقد أنجزتُ ما عجزَتْ سلطة الحكومة البريطانية بأكملها عن تحقيقه، ولذا سيكون من الحكمة أن تتصالح معي.»
قرَّرت جيني أن تُخبر هاردويك كيف حصلَت على الوثيقة بالضبط؛ فهي تعرف جيدًا طبيعتَه اليقظة، ولذا فهي متأكدة من أنه سيستفيد إلى أقصى حدٍّ من البطاقة الرابحة التي حصل عليها.
قال المشرف باللغة الفرنسية: «الكابينة جاهزة الآن.»
كان ذهنها حاضرًا بما يكفي كي تتصنَّع أنها لم تفهم عبارته، إلى أن شرح معناها بحركةِ يده. ثم دخلت كابينتها وأغلقَت الباب.
وبعد أن قرَّرت ما ستفعله بالوثيقة المهمة، تبادرت إلى ذِهنها مشكلة مُقلقة، وهي موقف الشرطة الروسية مما فعلَتْه وما إذا كانت ستسمح لها بالإفلات بفَعْلتها. فكَّرَت في الموقف بعناية وحاولت إجراء حساباته في ذهنها. فالقطارات نادرةٌ على خطوط السكك الحديدية الروسية، ولم تكن لديها أيُّ وسيلةٍ لتقدير الوقت الذي سيعود فيه ذلك المتوحش قوي البنية الذي خطَّط للسرقة ونفَّذها إلى سانت بطرسبرج. ولم يكن لديه حتمًا أوامرُ بفتح الرسالة وقراءة محتوياتها؛ هذا الامتياز فيما يبدو مسموحٌ به فقط لمسئولٍ أعلى في سانت بطرسبرج. ترجَّل رَجُلا الشرطة عند أول توقُّفٍ للقطار، ومن الوارد جدًّا ألا يصِلا إلى العاصمة قبل صباح اليوم التالي، حينها يكون قطار برلين السريعُ قد اقترب من عبور الحدود. وبمجرد عبورها ستكون في مأمن، ولكن في اللحظة التي سيكتشفون فيها أن المظروف المسروق يحتوي فقط على نسخةٍ من صحيفة إنجليزية، فسيكون المجال مفتوحًا لحدوث أي شيء. هل يُمكن للسلطات الروسية أن تُرسل برقيةً إلى الحدود لتفتيشها، أم أن المسئول الكبير الذي خطَّط لعملية السطو سيشتبه في أنها المسئولة عن اختفاء الرسالة المطلوبة بشدةٍ بسبب خفَّة يدها؟ وحتى لو اشتبه بها، فمِن المؤكَّد أن ذكاءه لن يخونه ليعترِف بشيءٍ مثل هذا. وستكون خُطته هي التأكيد على أن هذه هي الوثيقة الحقيقية التي كانت موجودةً في صندوق مراسلات الرجل الإنجليزي، وهو أمر مُرجَّح للغاية مع أخذِ تغيير الكابينة في الاعتبار في اللحظة الأخيرة؛ ممَّا سيُظهر للمسئولين ارتيابَ المبعوث أو مَنْ أرسلوه، وسيُصبح التخمين الطبيعي أن هناك مبعوثًا آخر قد ذهب بالوثيقة الحقيقية، وأنَّ الرجل المسروق كان مُجرَّد خُدعة لتضليل الشرطة الروسية. على أي حال، خَلُصَتْ جيني إلى أنه لم يكن هناك شيء لتفعله على الإطلاق سوى البقاء مُستيقظة طوال الليل، وحراسة الكنز الذي منحها إيَّاه الحظُّ السعيد. وقفتْ على سريرها، وهي على وشك وضع منديلها داخل الثقب المحفور في الحاجز، لكنها توقفت فجأةً ونزلت على الأرض مرةً أخرى. فعلى الرغم من أنها مُنزعجة من البقاء في مكانٍ عُرضَة لأي تجسُّس مُحتمَل، فإنها لم تجرؤ على سدِّ الثقوب؛ لأن ذلك سيكشف أنها كانت على علمٍ بوجودها، وسيُثير ذلك شكَّ المشرف في أنها فهِمت في النهاية ما قيل، بينما إذا تركتها كما هي، فإن هذا سيُصبح تأكيدًا قويًّا على جهلها بالمُخطط. وهكذا أخذت من حقيبتها وشاحًا، وربطت أحد طرَفَيه حول معصمها والآخر في الباب، حتى لا يُفتَح، إذا غَطَّت في النوم، دون إيقاظها. وقبل أن تُحصِّن نفسها على هذا النحو، غطَّت المصباح وعَمَّ الظلامُ غرفتها، حتى إذا تجسَّس عليها أحد، فلن يرى الوشاح الأسود الذي يصِل بين معصمها والباب.
وعلى الرغم من خطورة موقفها، فقد واجهت صعوبةً بالغة في البقاء مُستيقظة؛ إذ كان لِدَمدمة القطار تأثيرٌ مُهدئ للغاية، وقد استفاقت مرة أو مرتَين مَخافةَ أن تغطَّ في نومٍ عميق. وبمجرد أن شعرت بضيقٍ في حلقها، ونزلت بقدَمِها على الأرض، حيث رأت الغاز المُتصاعِد يظهر بطريقةٍ ما، مثل لون الدم. ولكن جذبَها الوشاح لتجثُوَ على رُكبتَيها، وظنَّت للحظةٍ أن شخصًا ما يُمسك معصمها. ففكَّت الوشاح وهي تلهث ورفعت الغطاء عن المصباح لتُضيء الغرفة مرةً أخرى. كان قلبها ينبض بسرعة، لكن كل شيءٍ كان لا يزال في موضعه، باستثناء الدَّمدَمة المُستمرة للقطار المندفع عبر الظلام يشقُّ طريقه فوق سهول روسيا المُترامية الأطراف. ونظرت إلى ساعتها الصغيرة، فوجدَتْها تُشير إلى الثانية صباحًا. وعرَفَت حينها أنها قد غَطَّت في نومٍ عميق على الرغم من عزمها القوي على أن تبقى مُستيقظة. كانت الرسالة لا تزال في الجيب الداخلي لسُترتها، وكل الأمور تبدو على ما يُرام في الثانية صباحًا. لم يبدُ أن هناك مَن تجسَّس عليها عبر الفتحات، ولذا غَطَّتِ الضوءَ مرةً أخرى واستلقَت على السرير مُجددًا، وهي تتنهَّد بينما تُفكر كيف سيبدو زيُّها اللطيف مُجعَّدًا في الصباح. وهي الآن مصرَّة على ألا تنام، إذا كانت عزيمتها ستُبقيها مُستيقظة. وبعد لحظةٍ أفزعَها صوتُ شخصٍ ما يضرب حاجز الكابينة بفأس. فقفزت، ومرةً أخرى سحبها الوشاح للخلف، وفكَّته من حول معصمها ولاحظت أن ضوء النهار يغمر الكابينة، وقد أذهلها هذا. فكيف يُمكن أن يسطع ضوء النهار بهذه السرعة؟ هل غَطَّت في النوم مرةً أخرى، وهل الضرب المُتخيَّل عند الباب بفأسٍ مجرد خاتمة لحُلْمٍ سبَّبَته طرقات المشرف؟ بعد توقفٍ لاهث سمعت طَرقةً رقيقة على بابها، وصوت المشرف وهو يقول:
«الإفطار في لوجا يا سيدتي، خلال ثلاثة أرباع الساعة.»
فأجابت بالإنجليزية وصوتها يرتجف من الخوف: «حسنًا.» ثم فكَّت الوشاح من الباب ببطءٍ ووضعته في حقيبة يدِها. وارتبكت على الرغم من جهودها لضبط النفس؛ إذ عرَفَت أنها غَطَّت في النوم طوال الليل حتى وقتٍ طويل من الصباح. ووسط انفعالها فكَّت أزرار سُترتها لتتحسَّس الرسالة في جيبها الداخلي. أجل؛ كانت الرسالة هناك، حيث وضعتها بالضبط. إنها لا تجرؤ على إخراجها وفحصها؛ خوفًا من أن تكون مُراقَبة من مكانٍ ما غير مرئي، لكن «الحمد لله»، هكذا قالت لنفسها بحرارة، «لقد مضَت هذه الليلة الرهيبة. وبمجرد عبور الحدود سأكون في مأمن.» وحاولت مدَّ ملابسها ونفْضَ الغبار عنها قدْر الإمكان، وانتعشت كثيرًا عند اغتسالها بالماء البارد، وهو أحد عناصر الرفاهية في عربة النوم.