جيني تتعرَّض لأكبر مفاجأةٍ في حياتها
في الساعة التاسعة، توقَّف القطار الطويل في لوجا، متأخرًا سبع عشرة دقيقة، وكان في ذلك مُتَّسَعٌ من الوقت لكي يتناول الرُّكَّاب إفطارهم بتأنٍّ في بوفيه المحطة. وقد اكتظ المطعم بالعديد من الرُّكَّاب، ويبدو أن معظمهم لم يكونوا في كامل يقظتهم بعد، في حين كان العديد منهم غير مُهندَم وأشعث، كما لو كانوا لم يحصلوا على قسطٍ وافٍ من النوم ليلًا.
وجدَت جيني طاولةً صغيرة فجلست إليها وطلبت قهوتها وبعضَ المخبوزات من النادل الذي جاء ليخدمها. وبينما كانت تتطلَّع في ملامح المُرافقين داخل المطعم القادمين من كل الأرجاء وتستمع إليهم وهم يتحدثون العديد من اللغات التي أضفى مزيجها مُحيطًا صاخبًا على أجواء المطعم، أخذت جيني تُفكر في التجارِب الغريبة التي مرَّت بها منذ مغادرتها لندن. وبدا لها أنها كانت تُشارك في كابوس مُروِّع، وارتجفت عندما فكَّرت في مسألة الخروج على القانون ومُخالفته، تحت مظلة القانون، في هذه الإمبراطورية الكبيرة والاستبدادية، حيث يقع حتى الحاكِم تحت مراقبة مرءوسيه، وليس بإمكانه إرسال رسالة خارج دولته في أمان، إذا أراد ذلك. وخلال حلم اليقظة الذي راوَدَ جيني، أدركت، وهي نصف واعية، أنَّ هناك رجلًا يقف أمام طاولتها؛ ثم صدر صوتٌ جعل قلبها يكاد يتوقَّف:
«الأميرة المفقودة!»
وضعَت يدَها فجأة على حلقها، حيث بدا أن أنفاسها تخنقها، ثم نظرت إلى الأعلى ورأت اللورد دونال ستيرلنج مُرتديًا اللباسَ اليوميَّ العادي لرجلٍ إنجليزي، مهندمًا كما لو كان خارجًا من منزله وليس قطارًا. مع ابتسامةٍ لطيفة مُرتسمة على شفتَيه وبريقٍ في عينَيه، لكن وجهه كان شاحبًا شحوبًا مُروعًا.
صاحت وهي تنظُر إليه بعيونٍ يملؤها التعجُّب والخوف: «لورد دونال! ماذا حدث لك؟»
أجاب الشابُّ محاولًا كتم ضحكته: «لا شيء، لا شيء، أهمُّ ما يَعنيني الآن هو أنني وجدتُكِ أيَّتها الأميرة. لقد قضيتُ ليلةً مُرهقة، هذا كل شيء، وأُعاني من تبعاتها هذا الصباح. هل أستطيع الجلوس؟»
ثم جلس مُتثاقلًا على كُرسي في الجانب الآخر من الطاولة، مثل رجل مُنهَك تمامًا لم يعُد بمقدوره مواصلة الوقوف، وأكمل حواره:
«مثل كل الرجال المُرهَقين، سوف أُفطر على المُنبِّهات. أيُّها النادل، أحضر لي كوبًا كبيرًا من أفضل مشروب براندي لديك.»
تدخَّلَت جيني وقالت بالفرنسية: «أيُّها النادل، وأحضر معك وجبتَي إفطار؛ أتصوَّر أنك بحاجة إلى تناول الإفطار الآن يا لورد دونال؟»
قال: «لقد طلبتُ إفطاري، ومع ذلك، فأنا بحاجةٍ إلى تناول مشروب البراندي، وللأسف لم أُحضِر معي بعضًا منه، ولذا يجب أن أشرب الأشياء الحقيرة التي يُسمُّونها أفضلَ ما لديهم هنا.»
أصرَّت قائلة: «عليكَ أن تأكُل أيضًا.» كما لو كان مسئولًا منها ولها كلُّ الحق في فعل ذلك.
«سأفعل كلَّ شيء تطلُبينه؛ فأنا سعيدٌ للغاية لرؤيتكِ جالسة أمامي، لكن لا تتفاجَئي إذا كانت شهيتي ضعيفة للغاية.»
سألته بجدية: «ما الأمر؟ أنت تبدو مريضًا للغاية.»
أجاب وهو يخفض صوته: «لقد خُدِّرتُ وسُرِقْتُ، لقد شارفتُ على الموت بالفعل. قضيتُ ليلةً في عالَم الموتى، وهذا الصباح أتحرك بصعوبةٍ تامة؛ لكن رؤيتكِ أيَّتها الأميرة تُشعِرني حقًّا بأنني لا زلتُ أنتمي إلى أرض الأحياء!»
قالت الفتاة وهي تنأى بنظرها لأسفل نحوَ مفرش المائدة: «أرجوك لا تدعوني بالأميرة.»
«إذن بماذا أدعوكِ أيَّتها الأميرة؟»
قالت بصوتٍ مُنخفض: «اسمي جيني باكستر.»
سألها بلهفة: «آنسة جيني باكستر؟» مع التركيز على كلمة آنسة.
أجابت وهي ما زالت لا تنظُر إليه: «أجل؛ آنسة جيني باكستر.»
تراجع للخلف على كُرسيِّه وقال:
«حسنًا، إنَّ الحياة ليست قاسيةً رغم كلِّ ما عانيتُه، مَنْ كان يُصدِّق أنني قد أقابلكِ هنا في روسيا! هل زُرتِ سانت بطرسبرج إذن؟»
أوضحَت جيني على عجل: «أجل؛ فأنا أعمل صحفية، وعندما قابلتَني من قبلُ في الحفل، كنتُ مُتخفِّية، وكان ذلك تحديدًا بهدف كتابة تقرير عن الحفل لصحيفتي، ولا زلتُ عاجزةً عن شكرك على لُطفك معي في تلك الأمسية لورد دونال.»
قال الشاب في محاولةٍ واضحة للمرَح: «شكرُكِ جاء متأخرًا، كان يجب أن تُراسليني وتشكريني على لُطفي معك، لقد عرَفْتِ عنواني، وكانت الأصول تقتضي أن تُراسليني وتشكريني.»
قالت جيني، محاولةً إخفاء فرحتها: «كنتُ مُتردِّدة بشأن مُراسلتك، خوفًا من أن تكون رسالتي بمثابة دليل، ولم يكن لديَّ أيُّ رغبةٍ في التدخُّل في المهمة التي أسندْتَها إلى السيد كادبوري تايلور.»
صاح الشاب: «يا إلهي! كيف علمتِ بذلك؟ لا بدَّ أن الأميرة فون شتاينهايمر أخبرتكِ بذلك. لقد راسلَتني تتَّهمني بكل أنواع الخُبث لمحاولتي العثورَ عليكِ.»
«لا يا لورد دونال، لم أعلَم منها. في الواقع، لو أنك قد فتحتَ باب الغرفة الداخلية في مكتب السيد كادبوري تايلور على نحوٍ أسرع قليلًا، لوجدتَني أمامك؛ لأنني كنتُ المساعدةَ التي حاولَتْ إقناعه بأنك قابلتَ الأميرة فون شتاينهايمر بالفعل.»
فضحك اللورد دونال، للمرة الأولى، من صميم قلبه.
«حسنًا، إنه لأمرٌ مُدهش! وأعتقد أن كادبوري تايلور لم يكن لديه أدنى شكٍّ في أنكِ الشخص الذي كان يبحث عنه؟»
«ولا ذرَّة من الشك.»
قال اللورد دونال: «في رأيي! هذه أفضل نكتة سمعتُها منذ عشر سنوات.» وهنا، أحضر النادل الإفطار، فأخذت جيني تُصدِر تعليماتها إلى دونال قائلة:
«يجب أن تشرب جزءًا صغيرًا من ذلك البراندي وَضَعِ الباقي في قهوتك، ويجب أن تتناول فطورًا جيدًا، فهذا سيُساعدك على نسيان متاعبك، إذا كانت لديك أي متاعب حقيقية.»
قال الشاب: «متاعبي حقيقية بما فيه الكفاية؛ فعندما التقيتُ بكِ من قبل، أيَّتها الأميرة، كنتُ ناجحًا إلى حدٍّ معقول. لقد تحدَّثنا حتى عن أمورٍ تخصُّ السفراء، أليس كذلك؟ على الرغم من حقيقة أن السفراء كانوا يتطفَّلون بلا داعٍ في تلك الليلة. والآن أنتِ ترَين أمامك رجلًا مُحطَّمًا. أجل، أنا لا أمزح؛ إنها الحقيقة، لقد كُلِّفتُ بمهمة، أو على وجه الدقة، رغم علمي بخطورتها، توسَّلتُ كي يُكلِّفوني بها. كانت المهمة هي مجرد نقل رسالة من سانت بطرسبرج إلى لندن، وقد فشلتُ فيها، وهذا كلُّ ما في الأمر، وها أنتِ ترَين النتيجة أمامك.»
صاحت الفتاة وقد احمرَّ وجهها لشعورها بالذنب؛ لأنها أدركَت أن هذا هو الرجل الذي أُرسِلَت لسرقته: «لكن بالتأكيد لا يُتوقَّع منكَ مواجهة محاولة القتل غيرِ القانونية التي كنتَ ضحيةً لها؟»
«هذا هو بالضبط ما كنتُ أتوقَّعه، وما افترضتُ أنه يُمكنني مواجهتُه. في مهنتي، التي تُشبه في مُجملها مِهنتَكِ لدرجةٍ كبيرة، باستثناء أنني أعتقد أنه يتعيَّن علينا الكذِبُ أكثر في مهنتنا؛ إذ لا يُوجَد في قاموس مِهنتنا مكانٌ لكلمة فشل. ربما تسمع أفضل الأعذار بالتسامُحِ وهزِّ الكتفَين، لكن الفشل، مهما كان السبب، هو الهلاك. لقد فشلت. لن أُقدِّم أيَّ أعذار. سأذهب إلى لندن وأقول: «لقد سرَقَتني الشرطة الروسية.» فحسب. وأنا أعرف جيدًا مَنْ خدعني، وكيف فعل ذلك. ثم سأُرسل استقالتي. سيقبلون ذلك بكلمات أسفٍ مُهذَّبة، وسيقول بعضهم لبعض: «يا له من مسكين، كان أمامه مُستقبل مِهني رائع، لكنه مُغيَّب أو شيء من هذا القبيل، وسقط في الفَخ.» حسنًا، لن نتحدَّث عن ذلك بعد الآن.»
«إذن أنت لا تحتقر مهنة الصحافة يا لورد دونال؟»
«أحتقِرها! قطعًا لا؛ أنا أُقدِّرها. فأنا أنتمي إلى مهنة أدنى مرتبةً بكثيرٍ بمقياس الأخلاق، كما قلتُ. لكن أيَّتها الأميرة، هل تستقيلين من صحيفتكِ إذا استقلتُ من العمل الدبلوماسي؟»
هزَّت الفتاة رأسَها ببطءٍ وهي تنظُر لأسفل نحو مفرش المائدة أمامها.
قال بتهوُّر: «سأُرسل استقالتي في برقية، إذا أرسلتِ استقالتكِ في برقية إلى صحيفتكِ.»
«أنت مريضٌ وقَلِق هذا الصباح يا لورد دونال، ولذا تنظر إلى الحياة نظرةً متشائمة. يجب ألا تستقيل.»
«حسنًا، لكن يجب أن أفعل هذا، فقد فشلتُ، وهذا يكفي.»
«هذا لا يكفي. يجب ألا تفعل شيئًا حتى تصِل إلى لندن.»
قال الشاب بجُرأة: «تُعجبني كلمتك «يجب» يا جيني، أتعرفين؛ إنها تُوحي بشيء.»
سألته وهي تنظر إليه: «بماذا تُوحي يا لورد دونال؟»
«تُوحي بأنكِ ستتوقَّفين عن مُناداتي بلقب «لورد».»
أجابت جيني: «لن يكون ذلك صعبًا للغاية.»
صاح سيادته: «يُسعدني أن أسمعكِ تقولين ذلك، والآن، لكي أعرف كيف يبدو الأمر من شفتَيكِ العزيزتَين، ناديني باسمي من غير لقب؛ فقط دون.»
«لا؛ لو أنني وافقتُ على حذف اللقب، فسأُناديك دونال؛ إذ يعجبني الاسم بكامله.»
مدَّ يدَه عبر الطاولة، وهو يقول: «هل أنتِ على استعدادٍ إذن لقَبول رجُلٍ تخلَّى عنه الحظ؟ أعلم أنني لو كنتُ من القالب الذي يُصنَع منه الأبطال، لتردَّدتُ في أن أهدي لكِ حياةً رديئة. لكني أحببتُكِ في اللحظة التي رأيتُكِ فيها، وتذكَّري بحثي غيرَ المُجدي عنكِ، لا يُمكنني المخاطرة بفقدانكِ مرةً أخرى؛ ليست لديَّ الشجاعة.»
وضعَتْ يدَها في يدِه ونظرتْ في عينَيه مباشرةً لأول مرة.
وقالت: «هل أنت مُتأكد يا دونال؛ فأنا لستُ مجرَّد دُمية تُعلَّق عليها الملابس البالية لعاطفةٍ قديمة؟ لقد كنتَ تعتقد أنني الأميرة في البداية.»
احتجَّ قائلًا: «لا، لستِ كذلك؛ فبمجرد أن سمعتُك تتحدَّثين، عرَفتُ أنكِ قدَري المُنتظَر.»
«احذَر يا دونال، إذ يقولون إنَّ تخلِّيَ العُشاق عن وعودهم يجلب الحظ السيئ. لا أعتقد أنك متأكد تمامًا رغم كل ذلك، لكنني أيضًا أفتقد الشجاعة، ولا أجرُؤ على رفضك.»
نظر اللورد دونال حوله فوجد المكان لا يَزال مُزدحمًا. ويبدو أن قطار برلين السريع قد منحهم وقتًا طويلًا لتناول الإفطار، ولم يكن في عجَلةٍ من أمره لاستكمال رحلته غربًا. ومن ثَمَّ عاود نظرتَه إليها وتنهَّد.
وهمسَ قائلًا: «يا له من مكانٍ غير مقدس، وغيرِ مناسب للتقدُّم بطلَب زواج! ومع ذلك فإنهم يُسمُّون روسيا الأرضَ المنعزلة الكبرى. حقًّا، لقد حصلنا على جزءٍ من هذه العزلة لأنفسنا بالكامل!»
جلسَت الفتاة هناك، وقد ارتسمت على شفتَيها الجميلتَين ابتسامةٌ اعتقدَ اللورد دونال أنها مُحيِّرة للغاية. ثم أعلن موظف السكك الحديدية بصوتٍ عالٍ أن القطار على وشك استئناف رحلته. فتعالَى صوت الأقدام بينما يتحرك الرُّكَّاب لأخذ أماكنهم.
قال اللورد دونال مُستغلًّا الارتباكَ والجلَبة: «إنَّ الإخوة والأخوات يُقبِّلون بعضهم بعضًا، كما تعلمين، قبل القيام برحلةٍ عبر السكك الحديدية.»
ولم تُبدِ جيني باكستر اعتراضها.
ثم همسَ قائلًا: «هناك مُتَّسَع من الوقت، وأنا أعرفُ طبيعة القطارات الروسية؛ فمواعيدها غير دقيقة؛ ولذا فأنا ذاهبٌ الآن إلى مكتب التلغراف، لأُرسِل استقالتي، وأريدكِ أن تأتي معي وتُرسِلي استقالتكِ.»
قالت الفتاة: «لا يا لورد دونال.»
سألها وهو مندهش: «ألن تستقيلي؟»
«بلى، ولكن في الوقت المناسب، أمَّا أنت فلن تستقيل.»
فصاح مُداعبًا: «أوه، يا لها من صيغة أمرٍ صريحة! سأُخبركِ بكل شيءٍ عن ذلك عندما نستقلُّ القطار.»
فقالت: «نعم، إني آمُرُك ألا تُرسِل استقالتك. أجل يا دونال، ولستَ بحاجةٍ إلى أن تنظُر إليَّ بهذا الاندهاش، وربما عليك أيضًا أن تعتاد الرضوخ لأوامري في الحال. لقد أحببتَني بمحض إرادتك، كما تعلم. ولا يُمكنك القول إنني شجَّعتُك. والدليل أنني راوَغْتُ كادبوري تايلور اليقِظَ بقدْر ما استطعت. والآن، إذا كان هناك وقت، فاذهب إلى مكتب التلغراف وأرسِل رسالةً إلى الأميرة الحقيقية، في قصر شتاينهايمر بفيينا. وأخبرها أنك قد تقدَّمت لخِطبة جيني باكستر وزواجها، واطلُب منها أن تُرسِل لك تهنئتها في برقيةٍ على برلين.»
أجاب الشاب بحماسة يعتليها السرور: «سأفعل ذلك.»
عندما خرج اللورد دونال من مكتب التلغراف، قالت له جيني: «انتظر لحظةً بينما أدخل عربة النوم كي أُحضِر سُترتي وحقيبة يَدي.»
صاح بتهوُّر: «سأذهب وأُحضرهما أنا.»
قالت: «لا، وسأُخبرك بالسبب فيما بعد. إنَّ مشرف عربة النوم شخصٌ وضيع وهو مُتواطئ مع الشرطة.»
قال اللورد دونال: «حقًّا، أنا أعلم ذلك، يا له من شيطانٍ ذليل، لا يستطيع أن يرفض؛ ويجب أن يفعل ما تأمره به الشرطة أثناء وجوده في روسيا.»
«سأُحضِر أشيائي وأذهب إلى عربةٍ عادية من الدرجة الأولى. عندما أعبر من هذا الباب، يجب أن تأخذ أشياءك وتلحق بي. لا يزال هناك مُتسَع من الوقت، ولا أُريد أن يرانا المشرف معًا.»
ردَّ الشاب مُمتثلًا لكلامها: «حسنًا.»